وقال (عليه السلام): قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِير مَمْلُول مِنْهُ .                
وقال (عليه السلام): ما أَنْقَضَ النَّوْمَ لِعَزَائِمِ الْيَوْمِ.                
وقال (عليه السلام): مَنْ كَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ هَانَتْ عَلَيْهِ شَهْوَتُهُ.                
وقال (عليه السلام): الْقَنَاعَةُ مَالٌ لاَيَنْفَدُ.                
وقال (عليه السلام): أَشَدُّ الذُّنُوبِ مَا اسْتَخَفَّ بِهِ صَاحِبُهُ.                
وقال (عليه السلام): لاَ خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ، كَمَا أنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ.                
وقال (عليه السلام): مَا أَخَذَ اللهُ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُعَلِّمُوا.                

Search form

إرسال الی صدیق
أثر نهج البلاغة في شعر ناصر خسرو(دراسة في مستويات التعبير الأدبي)

المدرس الدكتور علي مجيد البديري

جامعة البصرة – كلية الآداب

مقدمة :

تحاول هذه الدراسة التوقفَ عند تجليات التأثر بنصوص نهج البلاغة لدى الشاعر الإيراني ناصر خسرو(١٠٠٤ ـ ١٠٨٨) ، في موضوع الحكمة والأخلاق الذي اشتـُهِر به  وعُرف لديه ، بوصفه غرضاً أثيراً  قلَّ أنْ تخلوقصائدُه منه .

وقد اقتضتْ معالجة هذا الموضوع التعريفَ بالشاعر ، وبالسياق الثقافي الذي عاش فيه وتأثر بمكوناته بشكلٍ موجزٍ وسريع، فهوشخصية شديدةُ الصلة بمحيطها ؛ وقد جعل منه هذا الالتصاق بالواقع شاعراً تتجاوز فاعلية ُحضورِهِ مكانَه وعصرَه .

لينتقل البحثُ بعد ذلك إلى معاينة التحولات الأسلوبية التي طرأتْ على (جملة) الحكمة ، وهي ترتحلُ من سياق النثر الفني ( في نصوص النهج الشريف) إلى سياق الشعر ، حيث تكتسب سماتٍ نوعيةً جديدة ، ذاتَ طبيعةٍ خاصةٍ.

على أنَّ هذا التحول الأسلوبي للجملة لم يتم بشكل انتقالةٍ مقطوعةِ الصلة عن سياقها الأول في نصوص النهج ، لما لِلـُغةِ هذه الأخيرة من مزايا شعرية عالية جعلتها أكثر قرباً من جماليات الشعر .

 ولأجل تحقيق ذلك كان على الدراسة أنْ تتخذ منهجاً مقارناً يفيد ـ بطريقةٍ توليفيةٍ ـ من معطيات المدرستين الفرنسية والأمريكية في الأدب المقارن .  فجاءت عناية الدراسة موزعةً ـ بشكلٍ متوازنٍ نوعاً ما ـ  بين معاينة البعد الخارجي (التاريخي) لعلاقة التأثير والتأثر هذه ، وبين تأمل تجليات العلاقة في  داخل النصوص ضمن البعد الداخلي (الفني) . 

ناصر خسرو: شيء عن عصره وثقافته

هوشاعر وكاتب ورحالة ، ولد في قباديان عام ٣٩٤هـ/ ١٠٠٣م ، ونشأ فيها ، وسط أسرة متوسطة الحال ، متثقفاً ثقافة واسعة ، إذ تلقى في مطلع عمره العلوم الشائعة في زمانه ، وقد اتسمت الفترة التي عاش فيها بالاضطرابات السياسية العنيفة والنزاعات الاقتصادية والعرقية والجدل الديني . [١]

إن شخصية خسرووشاعريته واهتمامه بمحيطه، أكسبه أهمية عالمية تجاوزت حياته وعصره . على أن هناك من قلل من الأهمية الجمالية لشعره ، وفي الوقت ذاته عدّه البعض واحداً من أعظم شعراء الأدب الفارسي الكلاسيكي ، أوشاعراً فيلسوفاً , نظيراً لأبي العلاء المعري . وقد مارس خسرودوراً رائداً في تطوير النثر الفارسي وأساليبه مضافاً إلى إساهاماته في مجال الفلسفة واللاهوت الإسماعيلي .

إن أحدى الموضوعات المهيمنة في شعر ناصر خسروهووضع الإنسان ومكانته في الكون . كما أن شعره الذي يرتكز إلى رؤيته اللاهوتية والفلسفية كان مفعماً بتأمل الطبيعة الإنسانية وقدراتها الخلاقة .

فهويعد الإنسان ذروة الخلق والعتبة إلى العالم الآخر، على إن هذه الامتيازات ـ في رأيه ـ لم تعفُ الإنسان من الهدف الأخلاقي لوجوده والمسؤولية عن أفعاله أمام الله ، وأمام جميع المخلوقات أيضاً.

ويرى ناصر خسروأن الفضيلة والفكر اللذين جعلا الإنسان سيداً على الحمير هي ذاتها الخصال التي جعلت منه عبداً لله القدير. [٢]

وعندما بلغ الثالثة والأربعين من عمره ، سافر إلى مكة المكرمة.

وخلال رحلته الطويلة إليها مرّ بعدة مدن ، مكث في بعضها طويلاً ، وأدى في مكة فريضة الحج. ومن هناك استمر في رحلته، مدوّناً مشاهداته عن تلك البلدان . وكانت أطول إقامة له في القاهرة ، حيث أقام قرابة ثلاث سنوات، وفي عام٤٤١هـ غادر مصر ليزور مكة ، وبعد أدائه الحج ، غادرها عائداً إلى وطنه إيران سنة ٤٤٣ هـ بعد أن مرّ بعدة مدن منها البصرة إذ مكث فيها شهرين ، ليغادرها منهياً رحلته أخيراً في بلخ وذلك سنة ٤٤٤هـ. [٣]    

 وفي خلال هذه الرحلة التي استغرقت زهاء سبع سنوات، واجه ناصر خسروالكثير من الأحداث والصعاب . إلا أن ما كان له الأثر البالغ في حياته هوتأثره الكبير بشخصية الخليفة الفاطميّ في مصر، حيث اعتنق المذهب الإسماعيلي .

وعند عودته إلى بلخ بدأ يدعوإلى المذهب الإسماعيلي بشكل علني، ويناقش ويناظر فيه العلماء والفقهاء في عصره.

وقد واجه ناصر خسروتضييقاً واضطهاداً من قبل السلجوقيين اضطره إلى أن يتخفى في قلعة يمغان بالقرب من مدينة بدخشان ، ويعتزل الناس، حتى وفاته سنة٤٨١هـ.

وفي خلال فترة عزلته هذه انهمك ناصر خسرو في نظم الشعر، والتأليف، والتصنيف . [٤]

أثر نهج البلاغة في شعر خسرو

لقد وفّر إتقان اللغة العربية ، والإحاطة بجماليات الكتابة بها ، للشاعر ناصر خسرو، فرصة فائقة لتذوق نصوص نهج البلاغة ، والإفادة من خصائصها ومزاياها الفنية الكبيرة فاللغة الفنية التي استخدمها الإمام علي (ع) كانت تمتاز بمستوى عالٍ من التكثيف ، بشكل جعل منه [٥] الغة جمالية محضة ، تحتشد فيها الصور التشبيهية والتمثيلية والاستعارية والرمزية والاستدلالية ، ولا تكاد تجد من بين آلاف المفردات والتراكيب فيها مفردة أو تركيباً خالياً من إيقاع ملحوظ ، فضلاً عما هومدهش ومثير في الجانب البنائي لنصوص النهج في مختلف مستوياته . 

وتجلت آثار هذه القراءة المتذوقة لنصوص النهج في شعر ناصر خسرو، الذي عُرِف بهيمنة الطابع الأخلاقي والوعظي عليه ، الأمر الذي عدَّه البعض ـ كما مرَّ بنا ـ خللاً كبيراً في شعر خسرو وشاعريته .

وإذا ما أردنا أن نلقي نظرة سريعة على واقع هذا اللون من الشعر في الأدب الفارسي، فإننا سنجده قد شهد ازدهاراً كبيراً منذ فترة مبكرة .

وقد يدخل هذا الموضوع الشعري ـ في رأي أحد الباحثين ـ مع مجمل المؤثرات العربية التي تجلَّت ملامحُها في الأدب الفارسي . [٦]

وبعيداً عن الخوض في هذا الجدل الدائر حول مدى شعرية بعض المواضيع ، ومقدار صلاحيتها للشعر، فإننا سننطلق من معاينة النصوص الشعرية لخسروالتي نرى فيها تأثراً واضحاً بنصوص نهج البلاغة ، وفحص التحولات الطارئة على مستويات التعبير الأدبي في نصوص النهج وهي ترتحل إلى فضاء جديد هوفضاء الشعر ، ونحاول أن نكشف عن التماثل أوالتغاير الحاصل في هذه المستويات عبر مقارنة النصين (المؤثر والمتأثر) ببعضهما ، حيث يحمل المستوى الشعري سمات منها الإضمار للتعبير وفيه ((لا يؤدي التعبير الذي يضمر معنى ما أووظيفة الاختصار ، أوالإشارة إلى الغائب عن الظهور في السياق بما يدل على حضوره ، وإنما يقوم في المستوى الشعري بتمثيله وتجسيد حركته وفعله بأسلوب مغاير لما يناسبه في المستوى الإبلاغي على سبيل المثال )) [٧] ويتحقق عبر توافر عنصرين هما : الإخفاء حيث يستتر المعنى خلف ظاهر الكلمات في التعبير .

والإلماح : من خلال الإشارات التي تظهر على التعبير كاشفة عن جانب من المعنى المراد نقله وإيصاله إلى المتلقي. [٨]

نقرأ للشاعر مقاطع من قصائد مختلفة يجمعها التأثر بنص مؤثر مشترك :

(( وإن رُحب بك في هذا المنزل لا تبقى في هذا الزائل سيخرجك الرب منها وإن لم ترغب في الخروج منها بسهولة )) [٩]

وقوله :

((هذا العالم مركز الألم والغم والظلمات النور والبهجة ليست في هذا العالم )) [١٠]  .

وكذلك قوله :

(( أحوال هذا العالم المتغير ، متغيرة برد بعد الحر ، وسراء بعد الضراء )) [١١]  .

وقوله :

(( لما أصبحت سيداً في الدين والعلم صارت الدنيا بالنسبة لك ممراً اضطرارياً ))  [١٢]

  هذه النصوص من قصائد مختلفة في الديوان ، تجتمع حول وصف الدنيا وتقلب أحوالها ، وتحذر بطريقة غير مباشرة من الركون إليها والاطمئنان لمظاهرها الخادعة، ويأتي التعبير عن ذلك في هذه النصوص وفق مستوى إبلاغي مباشر تارة ، وغير مباشر تارة أخرى .

فعلى وفق الحالة الأولى تأتي النصوص الثلاثة الأولى لتخبر بطريقة مختزلة عن حتمية الارتحال عن هذه الدنيا ، سواء أحب الإنسان ذلك أم كرهه .

على أن الوعي بحقيقة الدنيا كفيل بأن يجعل الإنسان كارهاً للبقاء فيها ، غير مكترث بها ، فهي موئل الآلام والظلمات ، تتقلب أحوالها وتتبدل وجوهها من حال إلى آخر يناقضه ، أما السعادة والنور ففي الآخرة دار البقاء.

ويعمد الشاعر في النص الأخير إلى اعتماد مستوى إبلاغي غير مباشر ، من خلال بيان حال المخاطب الذي يبدو متحولاً من وضع سابق ، مسكوت عنه في النص ، ولكنه يلمح إليه ، إلى حال جديدة من التدين والمعرفة وامتلاك البصيرة النافذة ، حيث تصير الدنيا ممراً ـ لا مقراً ـ إلى حياة الآخرة .

نجد هنا ( في النص الأخير) أن الشاعر لجأ إلى إضمار معنىً لم يبُح به في التعبير الأدبي ، ولكنه لم يهمله تماماً ، إذ حث المتلقي على استحضار الحال السابقة/ المضمرة للمخاطب عبر تقابل تمثيلي صنع شعرية النص ، وأبعده عن المباشرة في الإبلاغ .

ويبدوواضحاً حضور نصوص النهج الكثيرة ـ في ذم الدنيا وتصوير أحوالها ـ في أبيات خسروهذه ، من ذلك قول الإمام علي (ع) : (( عباد الله ، أوصيكم بالرفض لهذه الدنيا التاركة لكم وإن لم تحبوا تركها، ... فإنما مثلُكم ومثلها كسَفْرٍ سلكوا سبيلاً فكأنهم قد قطعوه ، وأمُّوا علماً فكأنهم قد بلغوه . وكم عسى المجري إلى الغاية أن يجري إليها حتى يبلغها )) [١٣]  .

على أن خصوصية الإبلاغ في هذا المقطع من الخطبة (مقارناً مع أبيات خسرو) يعتمد التقابل التمثيلي من غير إضمار ، وهذا أمر عائد إلى شعور منشئ النص بضرورة البيان والإيضاح وعدم الإخفاء في الكشف عن حقيقة الدنيا ، فيؤكد الإمام على عنصر الزمن في الصورة التي يمثل بها لحال الدنيا ، ويكون مثل الناس فيها كمسافرين بلغوا نهاية الطريق ، ولم يبق لديهم وقت ينفق ، أوغاية يقصدونها .

وقد جسد التساؤل (المجازي) في نهاية هذا الجزء معنى قصر الدنيا ونفادها بشعرية عالية ، وتكثيف كبير .

ويمكن أن نقرأ في أبيات خسروأيضاً أصداء هذه النصوص من النهج الشريف :    

 (( فكونوا أبناء الآخرة ، ولا تكونوا أبناء الدنيا ، فإن كل ولد سيلحق بأمه يوم القيامة)) [١٤] ، وقوله (ع) واصفاً الدنيا : (( فهي تحفز بالفناء سكانها وتحدر بالموت جيرانها )) [١٥] ، وقوله في خطبة أخرى : (( انظروا إلى الدنيا نظر الزاهدين فيها ، الصادفين عنها. فإنها والله عما قليل تزيل الثاوي الساكن،..)) [١٦] .

وهكذا نجد أن هناك تماثلاً نسبياً في بعض المواضع من مستوى التعبير الأدبي مابين المؤثر(نصوص النهج) وما بين المتأثر (أبيات خسرو) وبشكل لا يمكن معه إلغاء خصوصية التعبيرين ، بل أن هناك بعداً آخر يتجلى في تأثير نصوص النهج في هذه الأبيات أزعم أنه يتمثل في استحضار منشئ النص المؤثر ، كضرورة لا مفر منها ، مهما حاول قارئ أبيات خسروالتغاضي عنها ، أوحصر عنايته في مجال التركيب الداخلي للنص، وهوما يرتبط بالمستوى الإنفعالي في التعبير ، أي ما يتعلق بـ (( موقف المتكلم تجاه ما يتحدث عنه))  [١٧] لا يمكن تجاهل حضور صورة الإمام علي (ع) وهويجعل من قرص الشعير اليابس والملح الجريش زاده اليومي ، وثوبه التي استحيا من راقعها كفايته من الدنيا التي طلقها ثلاثاً .

ولا شك في أهمية ما يمنحه هذا الحضور للنص من قيمة تعبيرية إضافية توسع من مساحة فاعلية القيم الأخرى وتضاعف من تأثيرها الجمالي في المتلقي .

وكذا الأمر مع أبيات خسروالتي تستدعي صورة حياته التي عاشها في زمن التحولات السياسية والتقلبات الكبيرة ، وانفق سنوات منها في الترحال ، ومعاينة أحول الناس وثقافاتها في البلدان المختلفة ، ويختمها بعزلة زاده فيها التأليف والكتابة .

وفي نص آخر ، يتجلى فيه أثر حِكَم نهج البلاغة في تأمل الدنيا ، يستمر الشاعر ناصر خسروفي حشد صور الزوال كلازمة للحياة الدنيا ، بطريقة تظهر فيها ذاته واضحة ، يقول : 

(( لا تغتر بالسلطان وإقبال الدنيا لأنها مقرونة بالزوال الدنيا معي كامرأة غير وفية لست مسروراً بالبقاء معها ولا أحزن لفراقها )) [١٨] .

يوظف الشاعر في هذا المقطع أساليب النهي والإخبار والتمثيل في تعبير تتماهى مستوياته الإبلاغية والانفعالية والشعرية ، فهو يعلل نهيه عن الوقوع في حبائل الإغترار بالدنيا لزوال سلطانها ومباهجها ، ويقوده هذا الإخبار عن الزوال إلى صناعة صورة له ، يعتمد فيها التقابل التمثيلي ، فيجعل حالة الزوال مجسدة في صورة (امرأة / زوجة) (غير وفية / خائنة) ، تهب نفسها للجميع وهي في الوقت ذاته حرة لا يملكها أحد . وهكذا تكون حركة الدنيا/ المرأة حركة سلبية في مقابل حركة الشاعرالإيجابية في النص ، فهويرفضها ويزهد بها ، وتغدوعديمة القيمة والتأثير لديه .

  ويبدوواضحاً تأثر خسروفي معاني أبياته هنا بنص من نهج البلاغة ، يعتمد في الإمام علي (ع) أسلوباً حجاجياً قائماً على التساؤل الإنكاري التعجبي ، الموجه لمريدي الدنيا والواقعين في حبائلها ، يقول الإمام :

(( ألستم في مساكن من كان قبلكم أطولَ أعماراً، وأبقى آثاراً وأبعد آمالاً ، وأعدَّ عديداً ، وأكثف جنوداً . تعبدوا للدنيا أي تعبد ، وآثروها أي إيثار. ثم ظعنوا عنها بغير زاد مبلِّغ ولا ظهر قاطع . فهل بلغكم أن الدنيا سخت لهم نفساً بفدية ، أوأعانتهم بمعونة أوأحسنت لهم صحبة))  [١٩] .

  يضع الإمامُ المخاطبَ هنا ، أمام جملة من الحقائق التي يتغافل عن الالتفات إليها ، بطريقة يتقصى فيها صفة الزوال والفناء ، ويكرس تجلية وجوهها في واقع المخاطب وفي مفردات حياته اليومية ، مستخدماً حجاجاً تقابلياً مقارناً ، تكون فيه الحقائق شواهد ملموسة تعمل على تجسيد فكرة الزوال .

ويمارس الشاهد على الزوال في النص حضوراً فاعلاً ؛ حيث (( لا تكمن الغاية منه فقط في تعويض المجرد بالملموس ..... وإنما تكمن أساساً في تقوية الفكرة وتأكيد حضورها في الذهن )) [٢٠] .

يجعل المقطع المجتزأ من الخطبة هنا من صورة تعاقب الأجيال الفانية ، وبعض نماذج القوة والسطوة والسلطة وزوالها ، مجسمة ، ومتحركة أمام المتلقي ، وفي ذلك ما يلبي حاجة المستوى الإبلاغي للتعبير في فن الخطبة ، على أنه ليس بخافٍ تماهي المستوى الانفعالي معه .

لقد أخضعت أبيات خسروعناصر التأثير في نص النهج هنا إلى عملية إعادة تشكيل تعبيرية ، حيث اعتمدت الحِجَاج بالتقابل التمثيلي بدلاً عن الحِجَاج بالشاهد الحي الذي اعتمده نص النهج .

وفي نمط آخر من توظيف نصوص نهج البلاغة يعمد الشاعر إلى استخدامٍ أسلوبي يقترب من الأصل ويكاد يطابقه ، فحين يتخذ نص النهج مستوى تعبيرياً إبلاغياً ، مبرِّزاً إياه بشكل أكبر من المستويات الأخرى ، يحرص الشاعر على توظيف المستوى ذاته في التعبير الشعري .

من ذلك نقرأ :

(( الطريق إلى الخالق مَنْ يعرفه ؟ النبي النبي أودع ذلك السر لدى حيدر )) [٢١] .

وقوله :

(( موضع أسرار النبي كان علي فاقصد موضع الأسرار )) [٢٢] .

 وكذلك قوله في قصيدة أخرى :

(( غيرعلي من كان بعد الرسول ذلك الذي جاءته الخلافة صاغرة )) [٢٣] .

يتجلى في هذه النصوص تأثرها الكبير بمقطع من خطبة للإمام (ع) يبين فيه منزلة أهل البيت (ع) السلام ، عامةً ، ومنزلته خاصة :

(( تالله لقد علمت تبليغ الرسالات ، وإتمام العِدات، وتمام الكلمات . وعندنا أهل البيت أبواب الحكم وضياء الأمر .))  [٢٤]  .

وقوله (ع): (( موضع سره ولَجَأُ أمره وعيبة علمه وموئل حِكَمه ، وكهوف كتبه..)) [٢٥]  .

على أن المستوى الشعري الذي يتماثل فيه طرفا المقارنة (المؤثر والمتأثر) يقوم على فِعلَي الإضمار والتلميح ، ففيهما بيان إبلاغي حول معرفة أهل البيت وعلمهم وخصوصية منزلتهم من رسول الله (ص) ، يكمن خلفه معنى مضمر يحمل دلالة أقوى وأكبر تأثيراً في تحقيق الفكرة التي تريد هذه النصوص تحقيقها، وهومعنى أحقيتهم في خلافة رسول الله (ص) ، وقد تكفلت المعاني الجزئية التي تضمنتها النصوص بالتلميح لهذا المعنى المضمر .

 وفي موضع آخر نقرأ لخسروقوله :

((مثل هذا الياسمين والورد في العالمين أين ينبت بغير أرض محمد؟)) [٢٦] .   

حيث نرى تأكيداً على المعنى ذاته ، وتكريساً له ، وهوما يجسد تأثراً بمقطع من خطبة للإمام (ع) يقول فيه : 

(( نحن شجرة النبوة ، ومحط الرسالة، ومختلف الملائكة ، ومعادن العلم ، وينابيع الحكم))  [٢٧] .

وكذلك قوله (ع) في موضع آخر :

(( احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة)) [٢٨] .

على أن المقطع هنا يجاهر بما جاء مضمراً في النصوص السابقة عبر لغة استعارية ، أريد منها أن تحيل على دلالة عقائدية ، تتعلق بما هوأكبر من موضوع خلافة النبي (ص) .

ونلاحظ توافر النصوص في طرفي المقارنة على لغة موجزة ومعان مكثفة ، وليس هذا الملمح الأسلوبي بطارئ على نصوص نهج البلاغة ، فـ (( الإيجاز واحد من المظاهر الشعرية التي تمثلت وتجسدت في نصوص النهج وعكست مظهراً شعرياً أسلوبياً من المظاهرالأسلوبية القارة في الكتاب)) [٢٩] .

 لقد حافظت النصوص على توازن لغتها ، على الرغم من أن طبيعة الموضوع والفكرة المراد تحقيقها وإيصالها إلى المتلقي تحمل قدرة كبيرة على استثارة ملامح المستوى الإنفعالي للتعبير، بشكل يكون فيه النص ـ فيما لوتحقق ذلك ـ متخماً بالتفاصيل ، ومعتمداً لغة يغلب عليها طابع الحجاج وآلياته . غير أن المستوى الإنفعالي في هذه النصوص ظل في حدود ما يحيل إليه في المدونة التاريخية ، وما فيها من تفاصيل وملامح بيئية شكلت حاضنة للنصوص .  

 ومن نماذج التأثر الأخرى نقرأ :

(( لا يعينك على هذا الشيطان سوى الطاعة والحب لآل ياسين اعطف قلبك على محبتهم حاصرهذا الشيطان وقيده في شريعة النبي الناصعة لا ملوك غير آله )) [٣٠] .

  يعمل هذا النص على سمتي الإضمار والإلماح في المستوى الشعري للتعبير؛ فما يضمره النص هوالنهي عن انتهاج الطرق المختلفة غير طريق آل النبي (ص) ، وهذا النهي يقف ظلاً للأمر الصريح بالتمسك بهم .

وفي النفي الأخير من النص (لا ملوك غير آله) تلميح يكاد يخرج عن حدوده . أما إذا توقفنا عند المستوى الانفعالي للتعبير في النص فإننا لا نستطيع فصله عن انتمائه لبيئة الجدل الكلامي حول المذاهب والعقائد التي عاش فيها خسرووكتب نصوصه تحت تأثيرها .

 وفي نص النهج الذي تأثرت به أبيات خسرونقرأ:

(( فأين يتاه بكم ، بل كيف تعمهون وبينكم عترة نبيكم وهم أزمَّةُ الحق وأعلامُ الدين وألسنة الصدق ، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن ورددهم ورِدوهم ورود الهيم العِطاش)) [٣١] .

وهنا لا نجد للإضمار حضوراً ، بل على العكس فإن لغة النص صريحة يبرز فيها المستوى الإنفعالي بكل وضوح عبر تساؤل إنكاري متعجب ، من طرق التيه البعيدة عن طريق العترة .

وواضح كيف أن النص الشعري في تمثله لمعاني نص النهج عمد إلى تفعيل المستوى الشعري معتمداً سماته ، لكي يرفع من شعرية التعبير ويعضد من قوة المعنى المراد إيصاله إلى المتلقي .

------------------------------------------------
[١] . ينظر: بركزيده قصايد ناصر خسرو: د. غلام محمد طاهري مباركه، سازمان مطالعه وتدوين كتب علوم إنساني دانشكاه (سمت) ـ تهران ، ١٣٨٢ ش، :١٣
[٢] . ينظر : المصدر السابق :١٥
[٣] . ينظر : سَفر نامه : ناصر خسرو علوي ، تر: د. يحيى الخشاب ، تصدير د. عبد الوهاب عزام ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة ، ١٩٩٣ (المقدمة): ٣٨
[٤] . ينظر : الأدب الفارسي في أهم أدواره و أشهر أعلامه : محمد محمدي ، منشورات طوس ـ طهران ، ط٢، ١٩٩٥  : ٣٤
[٥] . ينظر: أدب الشريعة الإسلامية : د. محمود البستاني ، مؤسسة السبطين (ع) العالمية ـ إيران ، ط١، ١٤٢٤هـ : ١٣٧ ـ ١٣٨
[٦] . ينظر:  في الأدب المقارن دراسات في نظرية الأدب والشعر القصصي: د. محمد عبد السلام كفافي ، دار النهضة العربية ـ بيروت ، ط١ ، ١٩٧١ : ٥١٥ 
[٧] . أنساق التداول التعبيري ، دراسة في نظم الاتصال الأدبي: د. فائز الشرع ، دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد ، ط١ ، ٢٠٠٩ : ٣٠٧
[٨] . ينظر : المصدر السابق : ٣٠٨
[٩] . ديوان أشعار حكيم ناصر خسرو قبادياني : تصحيح : مجتبى مينوي ، مهدي محقق، دانشكاه تهران ـ تهران ، مؤسسه انتشارات ، ١٣٧٨ : ٥٩
[١٠] . الديوان : ٣٦
[١١] . الديوان:٤
[١٢] . الديوان:١٩
[١٣] . نهج البلاغة : شرح الشيخ : محمد عبده ، مطبعة كرم ومكتبتها ـ دمشق، د.ت : ج١/ ١٩١
[١٤] . المصدر السابق :ج١/٩٣
[١٥] . المصدر السابق : ج١/١٠١
[١٦] . المصدر السابق : ج١/١٩٧
[١٧] . قضايا الشعرية : رومان جاكوبسون ، تر: محمد الولي ومبارك حنون ، دار توبقال للنشر ، د. ت. : ٢٨ 
[١٨] . الديوان: ١٨٠
[١٩] . نهج البلاغة : ج١/ ٢١٨ ـ ٢١٩
[٢٠] . عندما نتواصل نغير، مقاربة تداولية معرفية لآليات التواصل والحجاج : د. عبد السلام عشير ، أفريقيا الشرق ـ الدار البيضاء/ بيروت ، ٢٠٠٦ : ٩٦ 
[٢١] . الديوان: ٣٠٨
[٢٢] . الديوان :٢١٤
[٢٣] . الديوان: ٣٠٢
[٢٤] . نهج البلاغة :ج١/ ٢٣٣
[٢٥] . المصدر السابق: ج١/ ٢٩ ـ ٣٠
[٢٦] . الديوان : ١٢٩
[٢٧] . نهج البلاغة : ج١/٢١٥ ،
[٢٨] . المصدر السابق:ج١/١١٦
[٢٩] . المستويات الجمالية في نهج البلاغة، دراسة في شعرية النثر : نوفل أبو رغيف، دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد ، ط١ ، ٢٠٠٨: ١٥٨
[٣٠] . الديوان: ٥٠
[٣١] . نهج البلاغة :  ١٥٤

قائمة المصادر والمراجع

أولاً : الكتب العربية :

١ ـ  أدب الشريعة الإسلامية : د. محمود البستاني ، مؤسسة السبطين (ع) العالمية ـ إيران ، ط١، ١٤٢٤هـ  .

٢ـ الأدب الفارسي في أهم أدواره وأشهر أعلامه : محمد محمدي ، منشورات طوس ـ طهران ، ط٢، ١٩٩٥ .

٣ـ عندما نتواصل نغير، مقاربة تداولية معرفية لآليات التواصل والحجاج : د. عبد السلام عشير ، أفريقيا الشرق ـ الدار البيضاء/ بيروت ،  .٢٠٠٦

 ٤ـ في الأدب المقارن دراسات في نظرية الأدب والشعر القصصي: د. محمد عبد السلام كفافي ، دار النهضة العربية ـ بيروت ، ط١ ، ١٩٧١ .

٥ـ قضايا الشعرية : رومان جاكوبسون ، تر: محمد الولي ومبارك حنون ، دار توبقال للنشر ، د. ت.

٦ـ المستويات الجمالية في نهج البلاغة، دراسة في شعرية النثر : نوفل أبورغيف، دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد ، ط١ ، ٢٠٠٨ .

٧ ـ نهج البلاغة : شرح الشيخ : محمد عبده ، مطبعة كرم ومكتبتها ـ دمشق، د.ت .

ثانياً : الكتب الأجنبية :

١ـ بركزيده قصايد ناصر خسرو: د. غلام محمد طاهري مباركه، سازمان مطالعه وتدوين كتب علوم إنساني دانشكاه (سمت) ـ تهران ، ١٣٨٢ ش، :١٣. .

٢ـ ديوان أشعار حكيم ناصر خسرو قبادياني : تصحيح : مجتبى مينوي ، مهدي محقق، دانشكاه تهران ـ تهران ، مؤسسه انتشارات ، ١٣٧٨ .

٣ـ سَفر نامه : ناصر خسرو علوي ، تر: د. يحيى الخشاب ، تصدير د. عبد الوهاب عزام ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة ، ١٩٩٣ .

****************************