الدكتور حمودي
بسم الله الرحمن الرحيم
ها نحن اولاء في أفياء دوحة العلياء ، نفيء إليها ولانسامتها ، وهل تسامت قاماتنا دوحة تضرب أطنابها في أعماق نهج البلاغة ، وتشارف أغصانها قرص الشمس ؟ وهل لنا أن ندرك شأو شريف الشعراء ، ورضي الادباء ؟ من جده ـ صلى الله عليه وآله ـ أفصح العرب ومنها قريش ، ومن جده الادنى أميرالمؤمنين عليه السلام ، صاحب السيف والنهج وكعبة عشاق الفصاحة ؟
ليس لنا ـ والله ـ إلا ثمالة من كأس ، وقطرة من بحر فرات لذة للشاربين ، ليس لنا ـ والله ـ إلا ذلك النزر اليسير ، لاننا ظلمنا الشريف الرضي حيا وميتا ، حتى رددت جنبات شعره صدى ألمه ، وها نحن اليوم ـ وبعد ألف عام ـ لانجد لاثاره من يتصدى لها بإخراج علمي رصين ، وتحديث يسيغه أهل هذا الزمان . لقد عرفنا من الشعراء من لا يصح أن يستفيء بشعره إلى ظلال تلك الدوحة الباذخة ، وأقمنا الحراس على آثار شعراء ليسوا أكثر من سفوح لهذه القمة التي سامتت الشمس وأطلت على التاريخ ، أين الشريف الرضي ؟ أين ديوان شعره ؟ أين تراثه العريق ؟ أين الكلية التي تحمل اسمه ؟ أين الجامعة التي تتعطر بذكره ، بشعره وبنثره ؟ .
إن هذه الثمالة التي نترشفها من سؤر كأس الشريف الرضي كثيرة علينا ، لا تتحملها نفوسنا التي بعدت عن عالم الكبرياء ، واخلدت إلى راحة الكسلاء الصغراء ، ولا تسيغها أطماعنا التي تتعجل الثمن الربيح ، ولا يرتضيها انهيارنا الثقافي الذي لايصبر على لأواء الاخلاص والجد ، فلانقوى ـ بعد ـ على خوض غمرات تراثنا الاثيل ، وفي الربيئة منه تراث هذا الشاعر البطل النبيل .
سلام على الرضي ، وعلى من يعنى بالرضي ، وعلى من يسعى سعيا علميا دؤوبا مخلصا ليقرب الاجيال للرضي ويكشف عن عظمته لها ، فتسيغه شملا لها في أخلاقها وأشعارها وكبرياء العظمة ، والسمو العريق . وهذه السطور التي أكتبها رجوت لها أن تكون محاولة جادة للكشف عن جوانب شعر الرضي ، وموضوع من موضوعاته المحببة اليه ، وهو « اهل البيت عليهم السلام في شعر الشريف الرضي » في محاولة إجابة إسئلة ماذا يمثل أهل البيت (ع) بالنسبة له ؟ وأي حيز يحتلون بشعره ؟ وكيف نظر إليهم عليهم السلام ؟ والله أسأل أن يوفق قادة هذه الامة في نهضتها الرشيدة الحديثة للعناية الجادة الصادقة برموز التراث وقممه العالية .
ومن الله التوفيق والسداد ، وله الكمال وحده .
وقفة مع النسب الشريف للشريف :
هو أبو الحسن محمد ابن أبي طاهر الطاهر ذي المنقبتين : الحسين بن موسى بن محمد ابن موسى بن إبراهيم بن « موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب » ، عليهم السلام .
وامه فاطمة بنت الحسين ـ بن أحمد ، على قول ـ بن الحسن الناصر الاصم صاحب الديلم ، وهو أبو محمد الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن « علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب » عليهم السلام ، وفي المذكور في النهج شيء من الخلاف .
حياة مسؤولة :
ولد رضوان الله عليه سنة ٣٥٩ هـ ، وتوفي سنة ٤٠٦ هـ ، أي أنه عاش عمرا لم يتجاوز ٤٧ سنة ، والعبقرية لاتعرف الاعمار ؛ نظم الشعر في بواكير عمره ،وكتب جملة كتب لم يتبق منها إلا ثلة قليلة لم تنل ـ بعد ـ الدراسة اللازمة والتحقيق المطلوب وقد عدوا له هذه الكتب :
١ ـ نهج البلاغة .
٢ ـ خصائص الائمة .
٣ ـ مجازات الاثار النبوية .
٤ ـ تلخيص البيان عن مجازات القرآن .
٥ ـ حقائق التأويل في متشابه التنزيل .
٦ ـ كتاب : سيرة والده الطاهر .
٧ ـ كتاب الرسائل .
٨ ـ كتاب مادار بينه وبين أبي إسحاق الصابي من الرسائل .
٩ ـ كتاب الزيادات في شعر أبي تمام .
١٠ ـ مختار شعر أبي إسحاق الصابي .
١١ ـ منتخب شعر ابن الحجاج « الحسن من شعر الحسين » .
١٢ ـ كتاب أخبار قضاة بغداد .
١٣ ـ كتاب تعليق خلاف الفقهاء .
١٤ ـ كتاب تعليقة على إيضاح أبي علي الفارسي .
١٥ ـ ديوان شعره .
سبعة وأربعون عاما مثقلة بالمسؤوليات والنكبات ، ومحملة بأربعة عشر كتابا ، مع ديوان ضخم من الشعر ، سبعة وأربعون عاماً تسمو عن أعوام الناس لان صاحبها كان الذي أمضى الشريف وهو يتحدى ذلك العصر الذي يتهاوى أكثر وأكثر في مواطن الذل والانهزام النفسي ! !
هذه الحساسية ، وعظمة الشعور بسمو النسب الشريف ، شكلت هاجسا يوميا نلمسه في كل مواضع شعر الشريف الرضي ، وكانت حلبة واسعة لفخره ، ذلك الفخر الذي يتمفصل على محورين :
المحور الاول : المحور الذاتي ؛ ويتمثل في الفخار بالخلق السامي ورفض الذل والتطلع الدائم إلى الافق الاعلى من آفاق الكرامة الانسانية التي تفرضها الذات المتسامية عن صغار الدنيا كقوله رضوان الله عليه :
مالي اذل ، وصارمي لم ينثلم ***** بطلى العدى ، وقناي لم يتقصد
حيث يستفهم استفهاما إنكاريا عن رضاه بالذل إن حاول بعضهم أن يسمه به ، فكيف سيرتضى ذلك ، وسيفه « صارمي » لم ينثلم من ضرب أعناق « طلى » أعدائه ورمحه لم يتكسر ، أي ان دون إذلاله حرب لابد أن تقع بالسيف الذي يضرب أعناق الاعداء حتى يتثلم ، وبالرمح الذي يطاعنهم به حتى يتكسر .
وتبلغ حساسية الكرامة مداها الاوفى بصرخته الخالدة عبر الزمن :
ما مقامي على الهوان وعندي ***** مِقْوَلٌ صَارِمٌ وَأنْفٌ حَمِيُّ
وإباءٌ محلّق بي عن الضيم ***** كما راغ طائر وحشيّ
فانه يتسأل منكرا ان يرتضى الاقامة على الهوان والذل ، ولديه المعول الصارم والانف الحمي ، وإلاباء الذي يحلق عن الضيم والظلم وكأنه الطائر الوحشي في نفوره وعلو طيرانه ، أو سمة رمزيه يطرز بها الشريف رفضه للذل والهوان ، المقول الصارم رمز إلى الجرأة في القول ، والحزم تجاه مناوئيه ومن يريد إذلاله وإلحاق الهوان به ، والانف الحمي : رمز إلى العزة والكبرياء ، والانف عند العرب ـ من الانفة والترفع ، يستشعر ما يتطلبه منه نسبه ، ووضعه الاجتماعي ، من طهر ذيل ، وسمو نفس ، وعفة قلب ، وسعة علم ، إضافة للوازع الديني والمذهبي الذي لم يتخل عنه الرضي الشريف في أية خطوة خطاها في عمره الطيب .
لقد أدرك الشريف الرضي أن النسب الطاهر لن ينفع شيئا إن لم تواكبه حياة طاهرة تكون أهلا لحمل شرف الانتساب إلى دوحة النبوة :
إنْ أشِرَ الخَطْبُ فَلا رَوْعَةٌ ***** أوْ عَظُمَ الأمرُ ، فَصَبرٌ جَميلْ
لِيُهْوِنِ المَرْءُ بِأيّامِهِ ***** إنّ مُقَامَ المَرْءِ فِيهَا قَلِيلْ
هَلْ نَافِعٌ نَفسَكَ أذْلَلْتَهَا ***** كرامةُ البيت وعزُّ القبيل
إنّا إلى اللَّهِ ، وَإنّا لَهُ ***** وحسبنا الله ونعم الوكيل
فمال الامر كله إلى الله سبحانه وتعالى ، وكرامة البيت ، وعز القبيلة ، لن يغنيا المرء شيئاً إن أذل نفسه .
هذه الرؤية الدقيقة للحياة وحقائقها تكشف لنا أنه (رض) كان ينظر إلى الكرامة والعزة باعتبارهما أمرين إلهيين لا محيد عنهما ، وإن الذلة طريق يناقض طريق الايمان ، فما دام المقام في هذه الدنيا قليل فليستصغر المرء مجريات الحياة من آلامها وخطوبها ، بل فليستصغر الايام ذاتها ، وحينذاك لن يبقى في وسع الذلة أن تتسرب إلى موقف الانسان مهما كان الخطب ، والامر كله لله .
لا حظ هذه الحساسية تجاه مواقف الذلة ، واعتبارها نقيض كرامة النسب وعزته ، ثم انظر تطبيقات هذه الحساسيه في حياة الشريف وشعره ، وتصوركم هو عمق الالم عن الصغار ! ؟ . والإباء المحلق عن الضيم ؛ رمز إلى استسهال الصعاب في سبيل الحفاظ على العزة والكرامه .
وهو لا يجدر عذرا للقبول بالذل ما دام معه السيف :
أيُّ عُذْرٍ لَهُ إلى المَجْدِ إنْ ذُ ***** لّ غُلامٌ في غِمدِهِ المَشْرَفيّ
ثم ينتقل إلى السبب الذي يحدوه لاعتبار مقامه حيث هو ذلا ، إذ يقول :
ألبس الذلّ في ديار الأعادي ***** وبمصر الخليفة العلويّ
مَنْ أبُوهُ أبي وَمَوْلاهُ مَوْلا ***** يَ إذا ضامني البعيد القصيّ
لفّ عرقي بعرقه سيد النا ***** سِ جَمِيعاً مُحَمّدٌ وَعَليّ
أرأيت ؟ ها هو ذا يبين لنا ان بذاخة نسبه سبب اعتباره ان مقامه حيث هو ذلا ، فهناك حاكم علوي يلتقي بالنسب الباذخ معه ، فالاجدر أن يلتحق به .
وهكذا ينقلنا الشريف إلى المحور الثاني الذي هو مدار فخره :
المحور الثاني : محور النسب ؛ وهو في قناعتنا الاساس الذي تتفرع منه مواقف الرضي في شعره وغير شعره ، فهو ينظر إلى نفسه نظرة تاريخية باعتباره حلقة من سلسلة طيبة هو ملزم ذاتياً وموضوعياً أن يسير في حياته على مقتضيات ذلك .
انا ابن السابقين الى المعالي ***** اذا الامد البعيد ثنى البطاءَ
اذا ركبوا تضايقت الفيافي ***** وعطل بعض جمعهم الفضاءَ
نماني من أبات الضيم نام ***** افاض علي تلك الكبرياءَ
شَأوْنَا النّاسَ أخلاقاً لِداناً ***** وايمانا رطابا واعتلاءَ
ونحن الخائضون بكل هول ***** اذا دب الجبان به الضراءَ
ونحن اللابسون لكل مجد ***** اذا شئنا ادراعا وارتداءَ
أقَمنَا بالتّجارِبِ كُلَّ أمْرٍ ***** أبَى إلاّ اعوِجَاجاً والتِواءَ
فبماذا يفتخر ؟ ما مادة فخره ؟
إن ما يميز الشريف عن كثير من الشعراء ان افتخاره باله ، وهو منهم ، متأت من المعاني الاخلاقية الاسلامية :
السبق إلى المعالي ,كثرتهم في الحرب ,إباء الضيم ,الكبرياء ,الاخلاق الكريمة ,الايمان العميق ,العلو ,الشجاعة ,الجد في طلب المجد ,الجد في طلب الاصلاح
البيت الأول.
البيت الثاني.
البيت الثالث.
البيت الثالث.
البيت الرابع.
البيت الرابع.
البيت الرابع.
البيت الخامس.
البيت السادس.
البيت السابع.
وتنفصل هذه المعاني في سائر قصائد الشريف ، فيفككها إلى مكوناتها الاساسية ويوضح جزئيات أوصافهم ، ومثابة فخره بهم .
فَمَا وَلَدَ الأجَارِبُ مِنْ تَمِيمٍ ***** نظيرهم ولا الشعر الرقابا
وَإنّ المَجْدَ قَدْ عَلِمَتْ مَعَدٌّ ***** وَدارَ العِزّ وَالنّسَبَ القُرَابَا
لأطوَلِهِمْ ، إذا رَكِبُوا ، رِمَاحاً ***** واعلاهم اذا نزلوا قبابا
وَأغزَرِهِمْ ، إذا سُئِلوا ، عَطاءً ***** وَأوْحاهُمْ ، إذا غَضِبُوا ، ضِرَابا
حيث ذكر بعضا من لوازم الشجاعة « طول الرماح » ، وعلو الذكر « القباب العالية » وكثرة العطاء « وأغزرهم . . . » ، والقوة في الحرب « أوحاهم ضرابا » .
وكيف لايكونون كذلك وهم :
بنو عم النبي واقربوه ***** وألصقهم به عرقا لبابا
حيث يبين الشريف صفاتهم الكريمة لانهم من نسل النبي (ص) والمحافظين على القيم التي نادى بها ، ودعا الناس اليها .
ويصل من ذلك إلى أن المديح يجب أن يقتصر على الرسول (ص) وأهل بيته (ع) :
وَمَا المَدْحُ إلاّ في النّبيّ وَآلِهِ ***** يرام وبعض القول ما يتجنب
وَأوْلى بِمَدْحي مَنْ أعِزُّ بفَخْرِهِ ***** وَلا يَشْكُرُ النّعمَاءَ إلاّ المُهَذَّبُ
ارى الشعر فيهم باقياً وكانما ***** تُحَلِّقُ بالأشْعارِ عَنقَاءُ مُغرِبُ
اعد لفخري في المقام محمدا ***** وَأدْعُو عَلِيّاً للعُلَى حينَ أرْكَبُ
فالشريف لايرى له وجوداً مستقلاً عن هذا الوجود التاريخي لال البيت (ع) ، ومن هنا تجذر حبهم في قلبه ، وخالط دمه ولحمه :
المَجدُ يَعلَمُ أنّ المَجدَ مِنْ أرَبي ***** وَلَوْ تَمادَيتُ في غَيٍ ّ وَفي لَعِبِ
إنّي لَمِنْ مُعشَرٍ إنْ جُمّعُوا لعُلًى ***** تفرقوا عن نبي أو وصي نبي
ويخاطب أباه فيقول :
وَغَيرُكَ لا أُطْرِيهِ إلاّ تَكَلّفاً ***** وَغَيرُ حَنيني عِندَ غَيرِكَ مُصْحِبُ
ابعد النبي والوصي تروقني ***** مَناسِبُ مَنْ يُعزَى لمَجدٍ وَيُنسَبُ
يقر بفضلي كل باد وحاضر ***** وَيَحسُدُني هَذا العَظِيمُ المُحَجَّبُ
أُحِبّكُمُ مَا دُمْتُ أُعْزَى إلَيكُمُ ***** وَمَا دامَ لي فيكُمْ مُرَادٌ وَمَطلَبُ
فهذا الوعي الحاد بالانتساب إلى أهل البيت (ع) أصبح جزءاً من حياة الشريف إن لم نقل انه غلف حياة الشريف كلها ، وتغلغل في شتى نواحيها ، فحق له أن يقول :
فمَنْ ذا أُسَامي ، وَجَدّي النبيُّ ***** أمْ مَنْ أُطاوِلُ أمْ مَنْ أُلاحي
انا ابن الائمة والنازلين ***** كُلَّ مَنيعِ الرُّبَى وَالبَرَاحِ
وايد تصافح ايدي الكرام ***** وَإنْ نَفَرَتْ مِنْ أكَفْ الشِّحاحِ
اذا استصرخوا عصفوا بالصباح ***** بين الظبي والوجوه الصباح
وبذاك ، وبسبب من ذاك أصبح واحدا من سادة يهيمنون على حركة الناس :
إنّا نَعِيبُ ، وَلا نُعَابُ ***** ونصيب منك ولا نصاب
خلقت لهم سمر القنا ***** والبيض والخيل العراب
قَوْمٌ ، إذا غَمَزَ الزّمَا ***** ن قنيهم كرموا وطابوا
فهؤلاء هم سادة الناس ومرشدوهم ، آل النبي (ص) الشجعان الذين لهم خلقت الرماح والسيوف والافراس ، هؤلاء القوم لايزدادون إلا كرماً وطيبة كلما اشتد الزمان عليهم ، فكان الصعاب محك على ضريبته يفوح عطر شمائلهم .
ومن هنا صار الشريف ذلك القمر الدائر في كون أهل البيت (ع) الرحيب ، وصار اعداؤه زمرة من الكلاب النابحة العاوية ، التي لم تجد فيه عيباً ، فحاولت أن تخلع عليه من عيوبها ، جرياً على « رمتني بدائها وانسلت » ، قال :
وإن مقام مثلي في الأعادي ***** مُقَامُ البَدْرِ تَنْبَحُهُ الكِلابُ
رَمَوْني بِالعُيُوبِ مُلَفَّقَاتٍ ***** و قد علموا بأني لا أعاب
وأني لا تدنسني المخازي ***** و أني لا يروعني السباب
وَلَمّا لَمْ يُلاقُوا فيّ عَيْباً ***** كسوني من عيوبهم وعابوا
أعد نظرك في الشعر الذي مرتجد الكرامة والكبرياء والعزة ، ولو لم يقل (رض) إلا « وإني لا يروّعني السباب » لكفاه دلالة على عظيم اعتداده بنسبه وثقته بنفسه ، والثقة بالنفس لاتتأتى لكل الناس ، فإن منهم من يزلزله النقد ، ويفقده السباب صوابه ، لانه لا ثقة له بنفسه ، فكأنه النبتة الهشة التي ليس لها جذر مكين يمسكها أن تميل وأن تنقصف ، اما الشريف فكالسنديانة الشامخة ، عميقة الجذور ، متمكنة من الارض ، قوية لا تتلاعب بها الرباح .
ولنا أن نقرر ان هذا الشعور بالانتماء إلى العترة الطاهرة (ع) هو المحرك لكل مشاعر الاباء والعزة والكرامة في نفسه .
ولكن . . .
من هم اولئك الذين ينتمي اليهم الشريف الموسوي ؟ هل ذكرهم في شعره ؟
وكيف كان ذكره لهم ؟ وهل هو مقتنع بهم جميعا أم متوقف ؟
والذي يحدونا لهذه الاسئلة ما حدث هو به ـ رضوان الله عليه ـ في مفتتح رسالته « خصائص الائمة » إذ قال : « إن بعض الرؤساء ، ممن غرضه القدح في صفاتي والغمز لقناني والتغطية على مناقبي والدلالة على مثلبة إن كانت لي ، لقيني وأنا متوجه ليلة عرفة من سنة ثلاث وثمانين وثلثمائة هجرية إلى مشهد مولانا موسى بن جعفر ومحمد بن علي بن موسى (موسى الكاظم ومحمد الجواد (ع) في الكاظمية في العراق) للتعريف هناك ، فسألني عن متوجهي فذكرت له إلى اني قصدت ، فقال لي : متى كان ذلك ؟ يعني أن جمهور الموسويين جارون على منهاج واحد في القول بالوقف والبراءة ممن قال بالقطع ، وهو عارف بإن الامانة مذهبي ، وعليها عقدي ومعتقدي وإنما أراد التنكيل لي ، والطعن على تديني فأجبته في الحال بما اقتضاه كلامه . . » ، ثم جعل الشريف ذلك علة تجدد نشاطه لاكمال كتاب خصائص الائمة (ع) ، غير ان جمعه لنهج البلاغة ، ومعاجلة المنية له ، قد حالا دون اكمال خصائص الائمة ، فظل الكتاب محتويا على فضائل أميرالمؤمنين (ع) فقط .
وإذا كان الكتاب ـ ونعني به خصائص الائمة ـ لم يستطع أن يستوفي ذكرهم جميعا سلام الله عليهم ، فإن شعر الرضي قد استوفى ذلك فحفل بذكرهم وتعطر بالاشادة بمناقبهم وصفاتهم ومواضع مراقدهم الطاهرة .
ولنفتح قلوبنا لبائيته العذبة :
سقى الله المدينة من محل ***** لُبَابَ المَاءِ وَالنُّطَفِ العِذابِ
فهو يدعو للمدينة بالسقيا ، وليس بمطلق السقيا ، إذ كانت تسقى بديم المطر العزيز مع الصواعق والرعود وما يروع أهلها الامنين ، بل هي السقيا بلباب الماء ، أي بجوهره وصافيه ونقيه من غير أوشاب ولا أكدار ، ثم هي السقيا بالقطر العذب السائغ .
ولا عجب أن يدعو للمدينة المنورة بذلك ، لان فيها قبر جده الاعلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيها أيضاً شيء آخر عزيز على قلبه :
وَجَادَ عَلى البَقيعِ وَسَاكِنيهِ ***** رَخِيُّ الذّيْلِ مَلآنُ الوِطَابِ
ففي البقيع إضمامة من زهر لا يكفيها الطل ، بلا بد من الوابل ، لابد من أن يرخي السحاب عليها ذيله ، وأن يفتق وطابه الملان ، فأولئك الائمة الاطهار ظلموا أحياء وظلموا أمواتاً ، والى اليوم تقوم شواهد الظلم الواقع عليهم ، فافترق حال محالهم عن قبر الرسول الاكرم (ص) ، وعن أزقة المدينة المنورة وساكنيها ، فهنا يكفي « الباب الماء والنطف العذاب » ، وهناك لا يكفي هذا بل يجب أن يكون منسجماً مع حال مراقدهم المقدسة من وفير السقي ، وغزير المطر . وينتقل الشريف من البقيع اقرب مشهد من مشاهد أجداده الطاهرين فما ان ينتهي ركب الحجيج إلى أرض العراق حتى يتقرى المرقد الطاهر لأميرالمؤمنين (ع) في النجف الاشرف ، أو الغري :
واعلام الغري وما استباحت ***** معالمها من الحسب اللباب
وأي حسب لباب إن لم يكن حسب علي بن ابي طالب (ع) ؟ فتشمله دعوة السقي بوابل نمير المطر .
ثم يرحل إلى كربلاء وهي المنزلة الثانية بعد النجف في طريق الحج العائد إلى العراق:
وَقَبْراً بالطُّفُوفِ يَضُمّ شِلْواً ***** قضى ظمأ الى برد الشراب
انظر إلى هذا الحس المرهف ، وكيف قابل بين الدعاء بالسقيا و « ظمأ » أبي عبدالله عليه السلام في موقعة كربلاء ، فأي مطر ، وأي غيث ، وأي وابل ، وأي طل يكون في وسعه إرواء تلك المراقد المشرفة وقد « قضى » اصحابها ظماً ، والماء على مرمى حجر منهم ؟
ويستمر الشريف في سفرته التي تطوي الارض طيا بين سامراء ـ حيث الهادي والعسكري (ع) وموضع الغيبة الشريف ـ ، وبغداد ـ حيث الكاظم والجواد (ع) ـ ، وطوس ـ حيث علي بن موسى الرضا (ع) ـ ، فليسق المطر النمير تلك المشاهد المشرفة :
وَسَامَراً ، وَبَغداداً ، وَطُوساً ***** هَطُولَ الوَدْقِ مُنخَرِقَ العُبابِ
هذي مراقدهم ـ عليهم السلام ـ وها هو الشريف الرضي يقف عليها بلوعة ويقول :
قُبُورٌ تَنطُفُ العَبَرَاتُ فِيها ***** كما نطف الصبير على الروابي
إن دموع الرضي تمنعه من وصفها ، لكن ذكاءه وعظيم إحساسه بانتمائه إلى الراقدين فيها ، يدفعه إلى أن يشبه الدموع التي يجريها محبو الائمة عليها بالسحاب الذي يسقي الروابي ويفيض عليها .
إن فكرة السقيا لم تفارقه ، فكرة أن يستشهد الحسين (ع) وهو عطشان ويمنع من قطرة ماء ، فتتسع القطرة إلى السحاب ، والى المطر الغزير ينهمر لا على قبر عطاشى كربلاء فحسب ، بل تتسع لتشمل كل أضرحة أجداده الائمة الاطائب (ع) .
هذه الفكرة تجدها قوية السيطرة عليه ، حتى لتكون العمود الفقري للقصيدة كلها ، بين رفعة القبور المشبهة بالروابي ، وبين السقي الذي ينهمر عليها من السحاب ومن دموع العيون ، فإن لم يستجب السحاب لملتمس الشاعر فإن السراب سيستحيل ماء يتقطع على تلك القبور :
فَلَوْ بَخِلَ السّحَابُ عَلى ثَرَاهَا ***** لَذابَتْ فَوْقَها قِطَعُ السّرَابِ
يجب أن ننتبه هنا إلى المقابلة الذكية بين السحاب والسراب ، لامن حيث استحالة السراب إلى سحاب تولها بأهل البيت (ع) فحسب ، وإنما ايضاً من حيث أن المسافر ـ آنذاك ـ بين هذه المشاهد المشرفة يطالع السراب أمامه وهو يطوي الفيافي والقفار فيأخذه الإحساس الرهيف ـ إن كان من أهله ـ إلى امنية مستحيلة ، أن يتحول السراب المشعر بالعطش والموحي به إلى سحاب يبل الثرى ويسقي القبور المطهرة .
وتبقى فكره السقيا والظمأ تجول في جنبات مشاعر الشاعر :
سقاك فكم ظمئت اليك شوقاً ***** على عدواء داري واقترابي
فالسحاب يسقي ، والسراب يتقطع سحاباً ومطراً عليها ؛ والشاعر ظمئ إليها شوقاً في حالي قربه وبعده ، وانظر إلى لفظة « عدواء » وما فيها من اللاواء إشارة إلى ألم البعد والظمأ لزيادتها ، والغلواء في حبها والتبرك بها .
ثم انظر إلى اللفتة الذكية بين بعد الدار واقتراب الشاعر ، فهو لم يقل انه بعيد عن تلك القبور ، فهو دائماً قريب منها ، وداره هي التي تبعد عنها .
واما قربه فيتمثل في زيارته لها ، وفي حمله معه دائماً شيئاً من ترابها :
تجافي يا جنوب الريح عني ***** وَصُوني فَضْلَ بُرْدِكِ عن جَنابي
وَلا تَسري إليّ مَعَ اللّيَالي ***** وما استحقبت من ذاك التراب
وذاك التراب أيضاً ظمان ، فالظمأ حس في كل ما يحيط بالشاعر ، ويبلغ الظمأ بالتراب المقدس حد أن يقاد له الماء والسحاب :
قَليلٌ أنْ تُقَادَ لَهُ الغَوَادي ***** وتنحر فيه اعناق السحاب
ويرتبط الظمأ عند الشاعر بالالام التي عاناها أهل البيت (ع) حيث انتقلوا في دنياهم من مصاب إلى مصاب ، فكان وفرة المصائب التي جابهتهم في حياتهم قابلها هذا الظمأ الذي يجلل أضرحتهم وتربتهم الطاهرة :
اما شرق التراب بساكنيه ***** فيلفظهم الى النعم الرغاب
فكَمْ غدتِ الضّغائنُ وَهيَ سكرَى ***** تُديرُ عَلَيهِمُ كَأسَ المُصَابِ
وبهذا البيت ندرك السبب الذي حدا الشاعر أن يستسقي المدينة لباب الماء ، وأن يستسقي قبور الائمة (ع) المطر الغزير ، لان هذه الغزارة من الخير « والماء والسقيا رمزان له » قد ناسبت كؤوس المصائب التي نالتهم في حياتهم ، ولكن الشاعر يدرك أن الماء والسقيا غير كافيين أمام عظمة أهل البيت (ع) ، فينتقل منها إلى تقرير حقيقة تناسب منزلة أهل بيت النبوة عليهم السلام :
صَلاةُ اللَّهِ تَخفُقُ كُلّ يَوْمٍ ***** عَلى تِلْكَ المَعالِمِ وَالقِبَابِ
ولانجد فرقاً بين سحاب تنصل شابيبه ، وسراب يستحيل قطع سحاب وخفقان الصلوات ، فكأن الصلاة عليهم طيور خافقة بأجنحتها ، والصلة وثيقة بين الماء والطيور فلا تحوم الطيور إلا حول موارد الماء المشرعة الامنة ، فكأن الشريف بهذا البيت ينقلنا إلى جو استجابة دعائه بالسقيا ، بل إلى ما هو أبعد من ذلك ، إلى أن هذه القبور الطاهرة هي مشارع الماء الامنة التي تخفق حولها الطيور ، وليست تلك الطيور طيوراً حقيقية بل هي صلاة الله سبحانه وتعالى ، وأين تخفق الصلاة إلا على أهلها وموطنها ومستقرها ؟
وبعد أن يصل الشاعر إلى هذه الحقيقه يتحول إلى ذاته يستنبط منها حبها ، وينقع غليلها ، ويروى أوامها بزيارته لهم :
وَإنّي لا أزَالُ أكُرّ عَزْمي ***** وَإنْ قَلّتْ مُسَاعَدَةُ الصّحَابِ
وَأخْتَرِقُ الرّيَاحَ إلى نَسِيمٍ ***** تَطَلّعَ مِنْ تُرَابِ أبي تُرَابِ
بودي ان تطاوعني الليالي ***** وينشب في المنى ظفري ونابي
فأرْمي العِيسَ نَحوَكُمُ سِهَاماً ***** تَغَلْغَلُ بَينَ أحْشَاءِ الرّوَابي
لَعَلّي أنْ أبُلّ بِكُمْ غَليلاً ***** تغلغل بين قلبي والحجاب
فما لقياكم الا دليل ***** على كنز الغنيمة والثواب
ثم يلتفت إلى الامامين اللذين كان خروجه لزيارتهما سببا لنشاطه في كتابه « خصائص الائمة » (ع) الامام الكاظم والامام الجواد (ع) ويصفهما بالملاذ فيقول :
وَلي قَبْرَانِ بالزّوْرَاءِ أشْفي ***** بقربهما نزاعي واكتئابي
أقُودُ إلَيهِمَا نَفْسِي وَأُهْدِي ***** سَلاماً لا يَحِيدُ عَنِ الجَوَابِ
لِقَاؤهُمَا يُطَهّرُ مِنْ جَناني ***** ويدرأ عن ردائي كل عاب
وبالطهر يختم ذكرهم كما بدأ بالماء والسقيا ، والدعاء لمشاهدهم المشرفة لينتقل ـ بعد هذا كله ـ إلى الافتخار بفضائل أميرالمؤمنين (ع) وهي فضائل جده :
قَسِيمُ النّارِ جَدّي يَوْمَ يُلْقَى ***** بهِ بَابُ النّجَاةِ مِنَ العَذابِ
وساقي الخلق والمهجات حرى ***** وَفاتِحَةُ الصّرَاطِ إلى الحِسَابِ
لاحظ السقي ، والظمأ ، وهذه المفارقة بين عطش الدنيا وآلامها ، وبين أن يكون ذلك العطشان والظمان ساقي الخلق على الكوثر ، والاخرى بين ري الدنيا وزخرف نعيمها ، وبين المهج الحرى يوم القيامة ، وهو الساقي من كرم نفس ، وكرم طبع ، شهر بهما في الدنيا فكانا له نصيبين في الاخرة :
وَمَنْ سَمَحَتْ بخَاتَمِهِ يَمِينٌ ***** تَضَنُّ بكُلّ عَالِيَةِ الكِعَابِ
مفارقة اخرى بين الكرم بالمال ، والبخل بعالية الكعاب كناية عن الشجاعة والبطولة لان من اولى صفاتهما الحفاظ على السيوف والرماح في اليد الصلبة القوية تواجه الاعداء فتقتلع حصونهم :
اما في باب خيبر معجزات ***** تُصَدَّقُ ، أوْ مُنَاجَاةُ الحِبَابِ
أرَادَتْ كَيْدَهُ ، وَاللَّهُ يَأبَى ***** فَجَاءَ النّصْرُ مِنْ قِبَلِ الغُرَابِ
أهَذا البَدْرُ يُكْسَفُ بالدياجي ***** وهذي الشمس تطمس بالضباب
وكان اذا استطال عليه جان ***** يَرَى تَرْكَ العِقَابِ منَ العِقَابِ
ارى شعبان يذكرني اشتياقي ***** فَمَنْ لي أنْ يُذَكّرَكُمْ ثَوَابي
ثم يلتفت إلى نفسه فيأخذها بالسير على نهج أجداده الطيبين ، ويجهر بحبه لهم متقبلا فيهم كل سباب الاعداء ، لانهم نسبه وعماده ومبرر كيانه :
بكم في الشعر فخري لا بشعري***** وَعَنكُمْ طَالَ بَاعي في الخِطابِ
أُجَلّ عَنِ القَبَائِحِ غَيرَ أنّي ***** لَكُمْ أرْمي وَأُرْمَى بالسِّبَابِ
فاجهر بالولاء ولا اوري ***** وَأنْطِقُ بالبَرَاءِ ، وَلا أُحابي
ومَنْ أوْلَى بِكُمْ مِنّي وَلِيّاً ***** وفي ايديكم طرف انتسابي
مُحِبُّكُمُ وَلَوْ بُغِضَتْ حياتي ***** وزائركم ولو عقرت ركابي
تباعد بيننا غيرُ الليالي ***** وَمَرْجِعُنَا إلى النّسَبِ القَرَابِ
إنها صرخات السجن الذي يعمقه الولاء حتى أدق خفاياه وحناياه ، والذي يظهر سطورا من الهيام في صفحات القلب الذائب في حب آل البيت (ع) :
وَمَا المَدْحُ إلاّ في النّبيّ وَآلِهِ ***** يرام وبعض القول ما يتجنب
ارى الشعر فيهم باقياً وكانما ***** تُحَلِّقُ بالأشْعارِ عَنقَاءُ مُغرِبُ
اعد لفخري في المقام محمدا ***** وَأدْعُو عَلِيّاً للعُلَى حينَ أرْكَبُ
وتصفح شعر هذا الشريف الرضي (رضي الله عنه) فلن تجد إلا الكبرياء تستقي من حب أهل البيت (ع) ، والإنتماء الكامل لهم ، تعطراً بذكرهم ، وفخراً بالانتساب إليهم ودموعاً حرى تستحيل دماً وهي تطالع صفحات الوضح الاسلامي في كربلاء ـ .
ولهذا موضوع آخر ، إن شاء الله .
منقول من مجلة تراثنا السنة الاولى ١٤٠٦ هـ (العدد الخاص)