الاعتراض الأول : طول النصوص وتعذر حفظها
ويتضح هذا الاعتراض جليا عند دراسة الباب الأول من الكتاب والذي ضم كثيرا من الخطب الطويلة التي يعجز الرواة عن حفظها ونقلها شفهيا ، فذاكرة الإنسان لا تسعفه لحفظ نص من ثلاث جمل فكيف حفظ الرواة نصوصا يبلغ طولها عدة صفحات ؟ وقد أجاب المدافعون عن صحة نصوص الكتاب على هذا الاعتراض بجوابين :
١ – أن ذاكرة الرواة كانت قوية بشكل كاف لحفظ نصوص الخطب
٢ – وأن كثيرا من الرواة كانوا يكتبون نصوص الخطب عند سماعها فلم يكونوا محتاجين لحفظها في أذهانهم .
والجواب الأول غير صحيح على الإطلاق فقد وردت روايات متعددة تثبت عجز الرواة عن نقل الأحاديث القصيرة اعتمادا على الذاكرة واستئذانهم الأئمة في رواية الأخبار بالمعنى ، فقد قال الصادق (ع) : (إذا أصبت الحديث فأعرب عنه بما شئت) .
وقال لما سئل عن نقل الحديث بالمعنى : (إن أصبت فيه فلا بأس ، إنما هو بمنزلة تعال وهلم واقعد واجلس) ، وعن محمد بن مسلم قال قلت لأبي عبدالله (ع) : أسمع الحديث منك فأزيد وأنقص ؟ قال : (إن كنت تريد معانيه فلا بأس) . وقال رسول الله (ص) : (لا بأس في الحديث قدمت فيه أو أخرت إذا أصبت معناه) ، وعنه (ص) : (لا بأس إن زدت أو نقصت إذا لم تحل حراما أو تحرم حلالا وأصبت المعنى) . وعن داود بن فرقد قال : قلت لأبي عبد الله (ع) : إني أسمع منك الكلام فأريد أن أرويه كما سمعته منك فلا يجئ ؟ قال : (فتعمد ذلك) ؟ قلت : لا . فقال : (تريد المعاني) ؟ قلت : نعم . قال : (فلا بأس) .
فهذا كله يثبت عجز الرواة عن حفظ أحاديث الأئمة القصيرة فضلا عن الخطب الطويلة ، ومما يزيد جوابهم هذا ضعفا أن إحدى خطب النهج محتوية على آية قرآنية منقولة بشكل خاطئ فيرد فيها على لسان الإمام أن القرآن الكريم يقول : (فيه تبيان كل شئ) مع أن الآية الصحيحة هي (تبيانا لكل شئ) ولو كانت ذاكرة الرواة كافية لحفظ الخطبة كما جاءت لكان حفظ الآية القرآنية أسهل عليهم . ومن أخطأ في حفظ آية تتكرر مرارا وتكرارا فسيخطئ حتما في حفظ ما هو أطول منها مما لم يسمعه إلا مرة واحدة .
وأما الجواب الثاني فأضعف من الأول لأن كثيرا من الخطب ألقيت في ساحة الحرب أو في مواقف مفاجئة مما لا يتسع المجال فيه لإحضار الأدوات اللازمة للكتابة ، ولأنه ثبت في نصوص كثيرة اعتماد الرواة على الحفظ دون الكتابة في التحديث بأحاديث الأئمة ، وقد مر ذكر بعض هذه الأدلة في التعليق على الجواب الأول وهنا مزيد من الأدلة :
فقد روى الكليني في روضة الكافي عن علي بن أبي أسباط عن محمد بن الحسين قال : سمعت الرضا عليه السلام بخراسان وهو يقول : (إنا أهل بيت ورثنا العفو من آل يعقوب وورثنا الشكر من آل داود) . قال علي بن أسباط : وزعم محمد بن الحسين أنه كان فيها كلمة أخرى ونسيها ، فقلت له (أي قال علي بن أسباط لمحمد بن الحسين) : لعله قال "وورثنا الصبر من آل آيوب" ؟ فقال محمد : ينبغي ! فلو كان يقرأ من كتابه لما وقع في الوهم .
وروى ابن قولويه في كامل الزيارات عن صالح بن عقبة عن أبي عبد الله (ع) قال : (من أنشد في الحسين بيتا فبكى فله الجنة) . قال صالح : وأظنه قال (أو تباكى) .
وفي محاسن البرقي عن داود الرقي قال : سمعت أبا عبدالله (ع) يقول : إفطارك في منزل أخيك المسلم أفضل من صيامك سبعين ضعفا ، أو قال : تسعين ضعفا .
وفي المحاسن عن أبي عبد الله (ع) قال قال رسول الله (ص) : كلوا الكراث فإن مثله في البقول كمثل الخبز في سائر الطعام . أو قال : الإدام . الشك مني .
ولم يقتصر الرواة على الشك والوهم في متن الروايات فحسب بل تعدى إلى الوهم في تذكر الرواة الذين نقلوا الرواية ، ومن الأمثلة على ذلك في الكافي : عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن بعض أصحابه أظنه محمد بن عبد الله بن هلال أو علي بن الحكم عن العلاء بن رزين . وفي الكافي أيضا : عن محمد بن موسى عن علي بن الحسن الهمداني عن محمد عن محمد بن عمرو بن إبراهيم عن أبي جعفر أو أبي الحسن عليهما السلام . الوهم من محمد بن موسى .
فهذه الروايات تثبت أن الرواة كانوا يعتمدون على الحفظ لا الكتابة في رواية الأحاديث وهي طريقة ضعيفة جدا في توثيق النصوص خصوصا مع إذن الأئمة لهم بنقل الأخبار بالمعنى مما لا يبقي قيمة لغوية للنص المنقول .
الاعتراض الثاني : وجود تصحيفات متعددة في نسخ الكتب التي نقل منها الشريف الرضي النصوص
وهذا اعتراض يواجه معظم نصوص البابين الأول والثاني لأن مؤلفي الكتب كانوا يتصرفون في نقل النصوص من الكتب المتقدمة عليهم ولا ينقلونها بشكل حرفي بسبب سوء النسخ وتشوهها عبر الزمن ، وعلى سبيل المثال فقد جمع أحد رواة الشيعة وهو صفوان بن يحيى البجلي (توفي عام ٢١٠هـ) عددا من الأحاديث عن الإمام جعفر الصادق (ع) ومن بين هذه الأحاديث وصية الإمام علي بن أبي طالب في أملاكه بعد موته ، فنقل الشريف الرضي هذه الوصية في النهج (النص رقم ٢٤ من الباب الثاني) ونقلها الكليني في كتابه الكافي والشيخ الطوسي في كتابه التهذيب كلهم عن صفوان بنصوص مختلفة بزيادات ونقص وتصحيفات متعددة مع أنهم ينقلون من نفس الكتاب ، وأيضا فقد رويت الوصية في مصنف عبد الرزاق الصنعاني بصيغة أخرى تختلف عن صيغها في النهج والكافي والتهذيب مما يتعذر معه تحديد النص الأصلي الذي قاله الإمام .
ومن الملاحظات المنهجية على الشريف الرضي أنه يعمد إلى هذه النصوص التي وقع فيها التصحيف أو التي نقلت بصورة مشوهة مختلفة عن النص الأصلي فيقوم بتحريفها إلى صورة جديدة ويدعي أنها تحتوي على بلاغة لفظية رفيعة ، وقد تكرر منه هذا التصرف في عدة مواطن منها ما ورد في الوصية المذكورة في الفقرة السابقة حيث أوصى الإمام ابنه الحسن بالحفاظ على نخيله في بعض القرى (وأن لا يبيع من أولاد نخيل هذه القرى ودية حتى "يسد أرضها غراسها") . فصحفها الشريف الرضي إلى (وأن لا يبيع من أولاد نخيل هذه القرى ودية حتى "تشكل أرضها غراسا") ثم قال الشريف الرضي : (وقوله عليه السلام "حتى تشكل أرضها غراسا" هو من أفصح الكلام ، والمراد به أن الأرض يكثر فيها غراس النخل حتى يراها الناظر على غير تلك الصفة التي عرفها بها فيشكل عليه أمرها ويحسبها غيرها) .فالبلاغة لم تصدر من النص وإنما من التصحيف الذي وقع فيه الشريف الرضي .
ونقل الآجري في كتاب الشريعة أن علي بن أبي طالب لما عزم على حرب الخوارج وقيل له "إنهم قد عبروا جسر النهروان" فقال : (مصارعهم دون النهر) . فنقلها الشريف الرضي في الخطبة رقم ٥٩ من الباب الأول مع تصحيفها إلى (مصارعهم دون النطفة) ثم قال الشريف : (يعني بالنطفة ماء النهر وهو أفصح كناية عن الماء وإن كان كثيرا) .
وروى الآمدي في غرر الحكم عن الإمام علي (ألا وإن الدنيا دار لا يُسلم منها إلا بالزهد فيها) فنقلها الشريف الرضي (ألا وإن الدنيا دار لا يسلم منها إلا فيها) وأسهب ابن أبي الحديد في شرح هذه العبارة وتفسيرها مع أنها مصحفة عن نصها الأصلي .
وهذه التصحيفات المتكررة تورث الشك في أصالة صدور أي نص منقول في النهج لأن احتمال التصحيف قائم ، والنص الذي ينجو من التصحيف قد لا ينجو من التغيير والوهم بسبب اتكال الرواة على الذاكرة في نقل النصوص .
الاعتراض الثالث : ثبوت بعض هذه النصوص عن قائلين آخرين
وهذا الاعتراض يبدو واضحا في نصوص القسم الثالث من الكتب (قصار الحكم) ، فكثير منها منسوب في مصادر أصلية متقدمة على النهج إلى أشخاص آخرين غير الإمام علي دون أن يوجد مصدر آخر ينسب هذه النصوص إلى الإمام علي قبل ظهور النهج ، ومن هذه النصوص :
١ – (كن في الفتنة كابن اللبون لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب) . وهذا حديث مروي عن الرسول الأعظم (ص) رواه الإمام الحاكم في مستدركه (انتهى من تأليفه المستدرك قبل عام ٣٧٣هـ) .
وقد زعم مؤلف (مصادر نهج البلاغة) أن أبا حيان التوحيدي نسب هذه العبارة إلى علي بن أبي طالب في كتاب الإمتاع والمؤانسة وهذا كلام لا يمت للحقيقة بصلة ، فقد نسبها أبو حيان في كتابه المذكور إلى حذيفة ، وهو الراوي الذي نقلها عنه الحاكم في مستدركه .
٢ - ( اعجبوا لهذا الإنسان ينظر بشحم ويتكلم بلحم ويسمع بعظم ويتكلم من خرم) وهذه العبارة – على ركاكتها وأخطائها - منقولة عن ابن سماك كما في البصائر والذخائر لأبي حيان التوحيدي (توفي قرابة ٣٨٨هـ).
٣ – (خالطوا الناس مخالطة إن متم معها بكوا عليكم وإن عشتم حنوا عليكم) وهذه العبارة مروية عن الأصمعي أن جده أوصاهم بها عند موته ونقلها عنه ابن أبي الدنيا (توفي عام ٢٨١هـ) ، ونسبها الشيخ الصدوق في الفقيه إلى الإمام علي بن أبي طالب في وصيته لابنه محمد بن الحنفية ولكن الوصية جاءت بصيغة الجمع وابن الحنفية فرد واحد مما يقوي نسبتها إلى جد الأصمعي .
٤ – (إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر)
٥ – (ما أضمر أحد شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه) . أوردهما المعافى بن زكريا (توفي عام ٣٩٠هـ) في خطبة لأبي جعفر المنصور بعد قتل أبي مسلم الخراساني بلفظ : (لا تنفروا أطراف النعمة بقلة الشكر) و (إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه وطوالع نظره) .
٦ – (من جرى في عنان أمله عثر بأجله) . رواها الراغب الأصفهاني (ولد عام ٣٤٣هـ واختلف في سنة وفاته) عن الرسول الأعظم في محاضرات الأدباء بلفظ (من جرى في عنان أمله فعاثر لا شك بأجله) .
٧ - (من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) وهذا حديث مشهور عن الرسول الأعظم (ص) ومذكور في مصادر كثيرة جدا ، وقد تعصب مؤلف (مصادر نهج البلاغة) في الدفاع عن الشريف الرضي وأكّد بأن الشريف الرضي وقف على مصدر آخر ينسب العبارة إلى الإمام علي فقال : (ونحن لا نشك – علم الله – أن الرضي روى ما رأى وأورد ما وجد) وهذا دفاع متحيز جدا لأن الشريف الرضي أورد نفس هذه العبارة بعينها ونسبها إلى الرسول (ص) في كتابه المجازات النبوية ، ولاحظ مجازفة صاحب المصادر أنه يُشهد الله على أن الشريف الرضي اطلع على هذا المصدر المفقود مع أن تصرف الشريف الرضي لا يعدو أن يكون وهما في أحسن أحواله .
٨ - (إذا رأيت ربك سبحانه يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره) وهذه الرواية مشهورة عن الإمام سلمة بن دينار واعظ أهل المدينة وقد أثبتها عنه ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر والسامري في كتاب فضيلة الشكر بإسنادين صحيحين .
٩ – (أفضل الزهد إخفاء الزهد) أثبتها أبو بكر الدينوري (توفي عام ٣٣٠هـ) من كلام وهيب بن الورد في كتاب المجالسة .
١٠ – (الحذر الحذر فوالله لقد ستر حتى كأنه غفر) أثبتها الراغب الأصفهاني – على ركاكة ألفاظها - في محاضرات الأدباء من كلام ابن السماك بلفظ (ولقد ستر حتى كأنه غفر) .
١١ – (من أسرع إلى الناس بما يكرهون قالوا فيه بما لا يعلمون) . نقلها أبو بكر الدينوري عن بعض أهل المدينة في كتابه المجالسة .
١٢ – (من أطال الأمل أساء العمل) نقلها ابن أبي الدنيا عن الحسن البصري في كتاب قصر الأمل .
١٣ – (لسان العاقل وراء قلبه وقلب الأحمق وراء لسانه) أثبتها أبو بكر الدينوري في كتاب المجالسة من أقوال الحسن البصري .
فهذه ثلاثة عشر نصا ثبت نسبتها إلى أشخاص غير الإمام علي مع عدم وجود مصادر تثبتها من قول الإمام قبل ظهور النهج ، وقد عثرت عليها ضمن أول أربعين نصا من نصوص الباب الثالث ونستنتج بذلك أن قرابة ثلث النصوص المفحوصة في الباب الثالث في النهج ثابتة النسبة إلى قائلين آخرين غير الإمام علي . وحتى لو لم تتم نسبة بعض من هذه النصوص إلى قائلين آخرين فإن الجزم بنسبة أي نص من هذه النصوص إلى قائل معين أمر متعذر ، وترتيب النتائج عليه بوصف القائل بالحكمة أو البلاغة قصور معرفي شديد . نعم بالإمكان وصف العبارات بالجمال والحكمة ولكن لا يمكن وصف قائل ما بمحتوى العبارة المنسوبة إليه بسبب جهالة ناقلي النص عنه .
الاعتراض الرابع : وجود أخطاء لغوية في كثير من نصوص نهج البلاغة
والسبب في وجود معظم هذه الأخطاء أن تركيز واهتمام مؤلف النص كان منصبا على المحسنات اللفظية مما تسبب في كثير من الأخطاء اللغوية المتعلقة بالمعنى أو تركيب الجمل ، والأمثلة كثيرة جدا على ذلك ومنها :
١ – في خطبة وصفها ابن أبي الحديد بأنها فاقت البلغاء وأخرست الفصحاء (!!) يقول : (أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي ضرب لكم الأمثال ووقّت لكم الآجال وألبسكم الرياض وأرفغ لكم المعاش وأحاط بكم الإحصاء وأرصد لكم الجزاء) ، وجملة "أحاط بكم الإحصاء" خاطئة والصواب إما "أحاط بكم" أو "أحصاكم" .
٢ – في نفس الخطبة السابقة يقول : (وآثركم بالنعم السوابغ والرفد الروافغ وأنذركم بالحجج البوالغ ، فأحصاكم عددا ووظف لكم مددا ، في قرار خبرة ودار عبرة ، أنتم مختبرون فيها ومحاسبون عليها) والضمائر في "مختبرون فيها ومحاسبون عليها" تعود إلى أكثر من مذكور فالضمير في "فيها" يعود إلى الدنيا وفي "عليها" يعود إلى النعم ، وهذا خطأ في استخدام الضمائر .
٣ – في نفس الخطبة أيضا في التخويف من الدنيا وخداعها للناس : (حتى إذا أنس ناكرها واطمأن نافرها قمصت بأرجلها وقنعت بأحبلها) فذكر الأرجل بالجمع وإنما يقمص الفرس برجليه الخلفيتين فقط .
وقد وقعت هذه الأخطاء الثلاثة في خطبة واحدة ، وقد تعسف ابن أبي الحديد لتبريرها وأتى بتأويلات بعيدة عن الصواب من أجل الدفاع عن هذه الخطبة التي فاقت البلغاء وأخرست الفصحاء على حد قوله !
٤ – يقول في الخطبة رقم (٢٢) : (والله ما أنكروا علي منكرا ، ولا جعلوا بيني وبينهم نِصْفا) والنصف كما ذكر الشراح (الميرجهاني والمجلسي والراوندي وابن الأثير والطريحي وغيرهم) بكسر النون وتسكين الصاد هو الاسم من الإنصاف والمعنى لا يحتمله كما ذكر ذلك ابن أبي الحديد لأنه لا يصح أن يقول : "لم يجعلوا بيني وبينهم إنصافا" .
٥ – يقول في الخطبة رقم (٢٨) : (ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق ، والسبقة الجنة ، والغاية النار) قال الشريف الرضي : (ومن أعجبِه قوله عليه السلام "ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق ، والسبقة الجنة والغاية النار" فإن فيه مع فخامة اللفظ وعظم قدر المعنى وصادق التمثيل وواقع التشبيه سرا عجيبا ومعنى لطيفا ) ولكن فات على الشريف الرضي ملاحظة الخطأ البياني الواضح في استخدام المقابلة بين الجملتين الأخيرتين (مقابلة الجملة للجملة تعني استخدام الكلمات المضادة في نفس الموضع من كل جملة) ، ويكمن الخطأ في أن القائل وضع الجنة مقابل النار وهذه مقابلة سليمة ووضع السَّبَقة مقابل الغاية وهذا استخدام خاطئ لأن السبقة نوع من أنواع الغايات وليست مضادة لها ، فالركاكة في هذا التعبير لا تختلف عن الركاكة في قول (الباب الأيمن مخصص للرجال بينما الباب الأيسر مخصص للكبار) ، وبسبب هذه الركاكة الظاهرة فقد أطنب ابن أبي الحديد جدا في تبرير هذا الخطأ ولكنه لم يأت بما يزيل الإشكال أو يرفعه بل زاد الطين بلة وأكد في نهاية الأمر عدم صحة وقوع المقابلة إلا بين الأضداد أو بين الكلمات المتغايرة وكلاهما غير متحقق في هذا السياق .
٦ – في الخطبة رقم (٣٢) وهي خطبة وصفها الشريف الرضي بأنها (كالذهب وكالماء العذب) . تقول الخطبة : (فالناس على أربعة أصناف :
(١) منهم من لا يمنعه الفساد إلا مهانة نفسه وكلالة حدة ونضيض وفره ،
(٢) ومنهم المصلت لسيفه والمعلن بشره والمجلب بخيله ورجله ...
(٣) ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا ، قد طامن من شخصه وقارب من خطوه وشمر عن ثوبه وزخرف من نفسه للأمانة ، واتخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية ،
(٤) ومنهم من أقعده عن طلب الملك ضؤولة نفسه وانقطاع سببه ، فقصرته الحال عن حاله فتحلى باسم القناعة وتزين بلباس أهل الزهادة) ، وهذا التقسيم لا يُتصور صدوره من أديب مبتدئ فضلا أن يكون من كلام بليغ متصف بالحكمة لأن الأقسام المذكورة تتقاطع وتتداخل ولا تتباين وتتمايز ، فالقسم الأول داخل بكامله في القسم الرابع كما أن القسم الثالث والرابع مشتركان في التظاهر بالزهد . كما أن هذه الأقسام الأربعة لا تشمل جميع أصناف الناس فليس كل من ترك طلب الرئاسة يكون ضئيل النفس منقطع السبب بل إن أكثر الناس لا يطلبون الرئاسة رغبة عنها دون أن يتظاهروا بالزهد أو التقوى وهذا يدل على أن أكثر الناس غير مشمولين في هذا التقسيم المذكور .
٧ - الخطبة ٨٠ في صفة الدنيا : (ومن أبصر بها بصرته ، ومن أبصر إليها أعمته) قال الشريف الرضي : (أقول وإذا تأمل المتأمل قوله عليه السلام "من أبصر بها بصرته" وجد تحته من المعنى العجيب والغرض البعيد ما لا تبلغ غايته ولا يدرك غوره ولا سيما إذا قرن إليه قوله "ومن أبصر إليها أعمته" . فإنه يجد الفرق بين أبصر بها وأبصر إليها واضحا نيرا وعجيبا باهرا) . ولا ينقضي العجب من مبالغات الشريف الرضي في وصف بعض نصوص النهج بالرغم من أخطائها الظاهرة ، فإن جملة "من أبصر إليها أعمته" غير صحيحة لأن العرب تقول "أبصر الشئ" ولا يقولون "أبصر إلى الشئ" فكان من المفترض أن يكون لفظ النهج "ومن أبصر بها بصرته ومن أبصرها أعمته" ولكن المؤلف كان منصرف الذهن إلى حشو الخطبة بفنون البديع مما أوقعه في الاستعمال الخاطئ لحروف الجر .
٨ – في نفس الخطبة السابقة : (قد أُمهلوا في طلب المخرج وهُدوا سبيل المنهج ، وعُمروا مهل المستعتب وكُشفت عنهم سدف الريب) فاستخدم السدف للدلالة على الظلام وهذا خطأ لأن السدف هو الضوء وليس الظلمة .
٩ – في نفس الخطبة : (جعل لكم أسماعا لتعي ما عناها وأبصارا لتجلو عن عشاها) والصحيح "لتجلو عشاها" بدون استخدام حرف الجر "عن" .
١٠ – في نفس الخطبة : (بأبدان قائمة بأرفاقها وقلوب رائدة لأرزاقها) وهذا خطأ فالأبدان هي التي تطلب الرزق وليست القلوب .
١١ – في نفس الخطبة : (فاتقوا الله تقية ذي لب شغل التفكر قلبه وأنصب الخوف بدنه وأسهر التهجد غرار نومه) ، وهذا خطأ بيّن فالتهجد يسهر الإنسان نفسه وليس نوم الإنسان . وقد وردت هذه الأخطاء المتلاحقة في الخطبة ٨٠ من الباب الأول وهي الخطبة التي وصفها الشريف الرضي بالخطبة العجيبة وسماها الخطبة الغراء !
فهذه عينات لبعض نصوص الكتاب وما احتوته من أخطاء لغوية ومعنوية متكررة ، وقد تم التركيز أكثر على الخطب التي بالغ الشريف الرضي في مدحها وتفخيمها وذلك من أجل إثبات تحيزه وبعده الشديد عن الإنصاف ، وهذا التحيز لا يستغرب من مثل الشريف الرضي لأن علي بن أبي طالب هو جده العاشر من جهة الأب وجده التاسع من جهة الأم ، وقد افتخر بهذا النسب في مقدمة النهج ووضح أنه جمع نصوص نهج البلاغة كي يفتخر بكون قائلها أحد أجداده ، فقال : (وأردت أن يسوغ لي التمثل في الافتخار به عليه السلام بقول الفرزدق "أولئك آبائي فجئني بمثلهم ** إذا جمعتنا يا جرير المجامع) . وبما أن الغرض الأساسي للشريف الرضي من تأليف كتابه هو الافتخار بجده فلا عجب أن يكون ظاهر الانحياز بعيدا عن الإنصاف .
فائدة متعلقة بالاعتراض الأخير
حيث ثبت في الاعتراض السابق أن وصف الشريف الرضي للإمام علي بالبلاغة لم يكن رأيا محايدا وإنما صدر عن هوى وعصبية كما ثبت أنه بالغ في الثناء على بعض النصوص التي تقترب من العي أكثر من اقترابها من الفصاحة والبلاغة لنفس السبب ، وهذا مثال إضافي يحتوي على مبالغة كبيرة منه :
في الخطبة (٢١) يقول النص : (إن الغاية أمامكم وإن وراءكم الساعة تحدوكم . تخففوا تلحقوا فإنما ينتظر بأولكم آخركم) . قال الشريف الرضي بعدها : (إن هذا الكلام لو وزن بعد كلام الله سبحانه وبعد كلام رسول الله صلى الله عليه وآله بكل كلام لمال به راجحا وبرز عليه سابقا ... فما سُمع كلام أقل منه مسموعا ولا أكثر محصولا ، وما أبعد غورها من كلمة وأنقع نطفتها من حكمة) ، وهذه مبالغة سامجة من الشريف الرضي لأن الغموض يكتف العبارة بسبب الجملتين الأخيرتين ويجعل المعنى لا يستقيم بأي وجه من الوجوه التي يذكرها الشراح .
ولتوضيح ذلك فالنص في بدايته صف الناس بأنهم في طريق سفر له غاية ينتهي إليها وهناك دافع يدفع الناس للمضي نحو هذه الغاية ، ثم ينصح الناس أن يتخففوا كي يلحقوا لأن من يصل أولا إلى الغاية سينتظر حتى يصل آخر شخص من القافلة ! ولمحاولة شرح هذا النص فقد ذكر الشراح أن الغاية هي (الجنة والنار) وأن الساعة هي (القيامة أو الموت) ، ولكن يقع الاضطراب كثيرا عند محاولة تفسير الجملتين الثالثة والرابعة فقد ذكر الشراح أن معنى "تخففوا تلحقوا" أن يتخفف الإنسان من الذنوب حتى يخف حمله وهذا تفسير غير مناسب لأن الإنسان يحمل حسناته وسيئاته معا ، ومن الواجب على الإنسان أن يستكثر من الحسنات مما يؤدي إلى زيادة متاعه وموازينه من الأعمال الصالحة مما يبطئ من سيره إن تم تشبيهه بالمسافر وتكون النصيحة بالتخفف مخالفة للتوجيهات الشرعية ، وذكر آخرون أن التخفف يكون من ملذات الحياة الدنيا المباحة وليس من المعاصي وهذا المعنى لا يستقيم أيضا لأنه يأمر أهل الدنيا بترك دنياهم حتى يصلوا بوقت أسرع إلى النار ! فهم أصلا لا يريدون الوصول فكيف يحثهم على الإسراع ؟ ثم إن الجملة الأخيرة تهدم المعنى بكامله فما فائدة الإسراع والتخفف إذا كانت القافلة ستنتظر وصول البقية المتأخرين ؟ إن هذه الأخطاء تثبت أن وصف النص المنقول بالفصاحة والإعجاز وصف تعسفي بعيد عن الحياد والإنصاف ، ولو كان النص فصيحا لما احتار الشراح في تفسيره كما يحتارون في تفسير الطلاسم والألغاز المبهمة .
يتبع ......