الباء مع العين
٨ ـ بعدَ اللُتَّيّا والَّتي[١].
قال (عليه السّلام) في خطبة له: (فَإِنْ أَقُلْ يَقُولُوا حَرَصَ عَلَى الْمُلْكِ! وإِنْ أَسْكُتْ يَقُولُوا جَزِعَ مِنَ الْمَوْتِ! هَيْهَاتَ! «بَعْدَ اللَّتَيَّا والَّتِي» واللَّهِ لَابْنُ أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالْمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّه ِ...).
اللُّتيا تصغير الّتي، كما أنّ اللُّذيا تصغير الّذي، وفي القاموس: بفتح اللام المشدّدة وضمّها.
و((هَيْهَاتَ): لظنّهم فيه الجزع. أي: أَبَعْدَ اللّتيا والّتي أجزعُ ؟! أبَعْدَ أن قاسيتُ الأهوال، الكبار والصغار، ومُنيت بكلّ داهية عظيمة وصغيرة ؟! فاللّتيا للصغيرة، والّتي للكبيرة)[٢].
(بعد اللّتيا والّتي): (هما الداهية الكبيرة والصغيرة، وكنّى عن الكبيرة بلفظ التصغير تشبيهاً بالحيّة فإنّها إذا كثر سمّها صغرت؛ لأنّ السمّ يأكل جسدها. وقيل: الأصل فيه أنّ رجلاً من حديس تزوّج امرأة قصيرة، فقاسى منها الشدائد وكان يعبّر عنها بالتصغير، فتزوّج امرأة طويلة فقاسى منها ضعف ما قاسى من الصغيرة، فطلّقها وقال: بعَدْ اللُّتيا والّتي لا أتزوّج أبداً،فجرى ذلك على الداهية. وقيل: إنّ العرب تصغّر الشيء العظيم كالدهيم واللهيم وذلك منهم رمز)[٣].
وهو مثل سائر يضرب لأمرين داهيتين إحداها أدهى من الأخرى.
يريد (عليه السّلام) بالقول مطالبة الخلافة من الشيخين. إذا طالبهما بها، قال الناس حرص على الملك الدنيوي! أترى حين تقمّصاها لمَ لا يقولوا لهما حرصتما على الملك ويقولون ذلك لأمير المؤمنين (عليه السّلام) ؟! وهو على حدّ أن يقولوه لرسول الله (صلّى الله عليه وآله): إنّ النبوّة والخلافة كلتيهما أمر سماوي.
باب التاء
التّاء مع القاف
٩ـ تَقْصِرُ دُونَها الأَنْوَقُ؛ وَيُحاذى العَيُّوقُ[٤].
من كتابه (عليه السّلام) إلى معاوية:
(... وقَدْ أَتَانِي كِتَابٌ مِنْكَ ذُو أَفَانِينَ مِنَ الْقَوْلِ، ضَعُفَتْ قُوَاهَا عَنِ السِّلْمِ، وأَسَاطِيرَ لَمْ يَحُكْهَا مِنْكَ عِلْمٌ ولَا حِلْمٌ، أَصْبَحْتَ مِنْهَا كَالْخَائِضِ فِي الدَّهَاسِ والْخَابِطِ فِي الدِّيمَاسِ، وتَرَقَّيْتَ إِلَى مَرْقَبَةٍ بَعِيدَةِ الْمَرَامِ نَازِحَةِ الْأَعْلَامِ «تَقْصُرُ دُونَهَا الْأَنُوقُ ويُحَاذَى بِهَا الْعَيُّوقُ»).
في كلامه (عليه السّلام) أكثر من تمثيل يظهر بعد شرح مفرداته:
أفانين القول: أساليبه المتنوّعة.
وضعف قوى الأفانين عن السّلم: أي الإسلام، أي عدم صدورها عن مسلم، حيث طَلَبَ تولّيه العهد وإبقائه بالشام رئيساً.
والأساطير، جمع أسطورة: الأباطيل.
حوكها: نظها.
والدِّهاس (بالكسر): جمع دهس و(بالفتح) مفرد، وهو المكان السهل، ليس هو بتراب ولا طين.
والدِّيماس (بالكسر): السر المظلم تحت الأرض.
والمرقبة: الموضع العالي يراقب عليه.
والأعلام، جمع علم: ما يهتدى به في الطرقات.
والأنوق (بالفتح): (طائر، وهو الرخمة، وفي المثل: أعزّ من بيض الأنوق[٥]؛ لأنّها تُحرزِه فلا يظفر به أحد).
أي: أنت بكتابك المشتمل على دعاوٍ باطلة لا تصدر عن مسلم، ولا يحكي عن علم وحلم كاتبه، لستَ إلاّ كالخائض في أرض رخوة تقوم وتقع، والخابط في نفق مظلم لا يهتدي الطريق، سَمَتْ همتَّك إلى الخلافة وهي منك بموضع مرتفع عال لا سبيل إليه، ولا أعلام تَهتدي بها، وهي كالرخمة الّتي لا يُظفر ببيضها؛ والكوكبِ الذي فوق الكواكب كلّها.. فكيف ترومها ؟![٦]
ضربت هذه الأمثال لبُعد معاوية عن الخلافة الّتي يريدها، ويضرب المثل المذكور لقصور طالب الشيء. وفي معنى المثْلَين قولهم: (دونه بيض الأنوق) و(دونه العيّوق)[٧].
باب الحاء
الحاء مَعَ الدّال
١٠ـ حَدْوَ الزّاجِرِ بِشَوْلِه[٨].
قال (عليه السّلام): (... عِبَادَ اللَّهِ إِنَّ الدَّهْرَ يَجْرِي بِالْبَاقِينَ كَجَرْيِهِ بِالْمَاضِينَ: لا يَعُودُ مَا قَدْ وَلَّى مِنْهُ، ولا يَبْقَى سَرْمَداً مَا فِيهِ. آخِرُ فَعَالِهِ كَأَوَّلِهِ. مُتَشَابِهَةٌ أُمُورُهُ، مُتَظَاهِرَةٌ أَعْلامُهُ، فَكَأَنَّكُمْ بِالسَّاعَةِ تَحْدُوكُمْ «حَدْو الزَّاجِرِ بِشَوْلِهِ»).
قال ابن الأثير: (وهي الناقَةُ التي شالَ لبَنُها: أي ارْتَفع. وتُسمَّى الشَّوْلَ: أي ذات شَوْلٍ؛ لأنه لم يَبْقَ في ضَرْعها إلاّ شَولٌ من لبنٍ: أي بَقيَّة. ويكون ذلك بَعد سَبعة أشهُر من حَمْلها، ومنه حديث عليّ (فَكَأَنَّكُمْ بِالسَّاعَةِ تَحْدُوكُمْ حَدْو الزَّاجِرِ بِشَوْلِهِ) أي الذي يزجُرُ إبلَه لتَسِير)[٩].
والتاء في (شولة) تأنيث أو مصدر، أي ذات شول.
والشائلة: واحدة الشوائل.
(وشُوَّل كرُكَّع: جمع شائل، وهي الناقة الّتي تشول بذنبها للّقاح، ولا لبن لها أصلاً، وأتى عليها من نتاجها سبعة أشهر أو ثمانية. وشوّلت الناقة...: أي صارت شائلة. وشوّال أحد فصول السّنة... سمّى بذلك لشَوَلان الإبل بأذنابها في ذلك الوقت لشدّة شهوة الضّراب؛ ولذلك كرهت العرب التّزويج فيه، وعن النّبي (صلّى الله عليه وآله): (سمّي شوّالاً لأنّ فيه شالت ذنوب المؤمنين) أي ارتفعت وذهبت)[١٠].
والحَدْو: سوق الإبل.
والحادي: السائق لها.
والحدّي: التغنّي لجدّ السير.
وإنّما شبّه (عليه السّلام) اندفاع النّاس بالسّاعة ـ أي القيامة ـ بسائق الناقة، القليلة اللّبن أو عديمته، في سرعة سيرها؛ لخفّتها ولزجرها، أي أنّ السّاعة تقهركم على الموقف لمحاسبتكم على أعمالكم: إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرّ. وكرّر منه (عليه السّلام) التّعبير بالحَدْو، ومنه: (وَرَاءَكُمُ السَّاعَةَ تَحْدُوكُمْ)[١١] (وإِنَّ السَّاعَةَ تَحْدُوكُمْ)؛ بل (بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ)[١٢] من الزجر والقتل والأسر وأفظع من كلّ فظيع وأدهى من الدّواهي كلّها.
الحاء مع السّين
١١ـ الحَسَدُ يأكلُ الإيمان كَما يأكُل النّارُ الحَطَب[١٣].
من التمثيلات صادرة عن الإمام (عليه السّلام) في إحدى خطبه، قال فيها: (وتَحَاسَدُوا فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الإيمَانَ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ).
من الإيمان أن يعقد المؤمن قلبه على أنّه تعالى يؤتي الملك من يشاء وينزعه عمّن يشاء، ويؤتي الفضل من رزق وغيره، كما قال تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)[١٤]. فإذا تمنّى زوال ذلك وانفجر من وجوده فقد عارض إلهه في قضائه وعطائه، وهو مناف للإيمان بها، فكيف يبقى الإيمان ؟! بلى يفنى كما تفني النّارُ الحطب.
ثم الحسد جاء الأمر بالتعوّذ من شرّه كما قال تعالى: (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ)[١٥]، وفي النبويّ: (... وكاد الحسد أن يغلب القدر)، والصادقيّ: (آفة الدّين الحسد والعجب والفخر)، والنبويّ: (قال الله (عَزَّ وجَلَّ) لموسى بن عمران: يا ابن عمران، لا تحسدنّ النّاس على ما آتيهم من فضلي، ولا تمدّن عينيك إلى ذلك ولا تتبعه نفسك، فإنّ الحاسد ساخط لنعمي، صادّ لقسمي الذي قسّمت بين عبادي، ومن يك كذلك فلست منه وليس منّي)[١٦]. وهو من داعية الذنوب، قال أمير المؤمنين (عليه السّلام): (... الحرص والكبر والحسد دواعٍ إلى التقحّم في الذنوب)[١٧]. وكما لا يسلم له إيمان لم تبق صحّة البدن معه، قال (عليه السّلام): (العجبُ لغفلة الحسّاد عن سلامة الأجساد)[١٨].
وقال (عليه السّلام): (صحّة الجسد من قلّة الحسد)[١٩]. والحسد غلّ في عنق صاحبه وقد نفاه
(عليه السّلام) عن الملائكة عند وصفهم: (ولا تَوَلاهُمْ غِلُّ التَّحَاسُدِ)[٢٠] وأيّ فرق بين من على عنقه غلّ ظاهريّ ومن شغل قلبه وملك عقله الحسد ؟! والجامع بينهما سلب الاستطاعة والراحة.
وكرّر هذا التمثيل المذكور في كلامه (عليه السّلام) في أكل الحسد الإيمان بأكل النّار الحطب في الأحاديث ومنها النبويّ[٢١].
الحاء مَعَ الكاف
١٢ـ الحكمةُ ضالةُ المؤُمنِ[٢٢].
قال (عليه السّلام):
(خُذِ الْحِكْمَةَ أَنَّى كَانَتْ، فَإِنَّ الْحِكْمَةَ تَكُونُ فِي صَدْرِ الْمُنَافِقِ فَتَلَجْلَجُ فِي صَدْرِهِ حَتَّى تَخْرُجَ فَتَسْكُنَ إِلَى صَاحِبِهَا فِي صَدْرِ الْمُؤْمِنِ). قال الرضي (رحمه الله): وقد قال عليّ (عليه السّلام) في مثل ذلك: (الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ فَخُذِ الْحِكْمَةَ ولَومِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ).
قال الميداني: (يعني أنّ المؤمن يحرص على جمع الحكم من أين يجدها يأخذها)[٢٣].
يمكن أن لا يعلم أنّه لأمير المؤمنين (عليه السّلام)، أو كونه مثلاً نبويّاً، ولكن بعيد من مثله، ونحن عددناه من الأمثال النبويّة والعلويّة ولا تنافي ذلك. قيل: (خطب الحجّاج فقال: إنّ الله أمرنا بطلب الآخرة وكفانا مئونة الدنيا، فليتنا كفينا مئونة الآخرة وأمرنا بطلب الدنيا. فسمعها الحسن [ البصري ] فقال: هذه ضالّة المؤمن خرجت من قلب المنافق)[٢٤].
[ تعريف الحكمة: ]
عرفت الحكمة بتعاريف، فقيل: هي فهم المعاني، وطاعة الله ومعرفة الإمام، وإتقان الأمور. وأجمع تعريف: هي العلم بشرائع السماء والعمل بها. وقيل: العلم بمصالح الدارين ومفاسدهما. وقيل: النبوّة. وقيل غير ذلك.. ذكرنا نبذة من الأقوال في حرف الحاء من الأمثال النبويّة جاء في الحديث: (من أخلص لله أربعين صباحاً جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه)[٢٥].
[ عوامل حصول الحكمة: ]
من عوامل حصول الحكمة قلّة الكلام، ونوم القيلولة، وقلّة الأكل، ومجالسة الأتقياء، وصلاة الليل، وقراءة القرآن الكريم، وإخلاص العمل لله (عَزَّ وجَلَّ)، ومعرفة الله والنبيّ والأئمّة (صلّى الله عليهم أجمعين)، والطاعة له تعالى. وليست الحكمة المرضيّة هي المصطلحة عند قوم.
الحاء مع النّون
١٣ـ حَنَّ قِدْحٌ لَيْس مِنْها[٢٦].
من أمثال سائرة تمثّل به أمير المؤمنين (عليه السّلام) في جواب كتاب معاوية (... وما لِلطُّلَقَاءِ وأَبْناءِ الطُّلَقاءِ! وَالتَّمْيِيزَ بَيْنَ الْمُهاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ، وتَرْتِيبَ دَرَجاتِهِمْ، وتَعْرِيفَ طَبَقاتِهِمْ ؟! هَيْهاتَ! لَقَدْ حَنَّ قِدْحٌ لَيْسَ مِنْها، وطَفِقَ يَحْكُمُ فِيها مَنْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ لَها).
(حنّ) من الحنين، وهو نوع صوت.
و( قِدْح: أصله من القداح، من عود واحد يجعل فيها قدح من غير ذلك الخشب فيصوّت إذا أرادها المفيض، فذلك الصوت هو حنينه. هذا مثل يضرب لمن يدخل نفسه بين قوم ليس له أن يدخل بينهم)[٢٧]، أو لمن يفتخر بقوم ليس منهم؛ أو يمتدح بما لا يوجد فيه.
قيل: المثل لعمر أجاب به عقبة بن أبي معيط حينما قال له: (أأقتل من بين قريش ؟!).
قال الزمخشري: وقيل: بني الحنان، وهم بطن من بلحارث، أنّ جدّهم ألقى قِدْحاً في قداح قوم يضربون بالميسر وكان يضرب لهم رجل أعمى، فلما وقع قِدْحه في يده قال: (حنّ قِدْح ليس منها) فلقب الحنان لذلك.
ومنه يظهر: أنّ المثل ليس لعمر، ويؤيّد ذلك قول الميداني إنّ عمر تمثّل به[٢٨].
والقِدْح السهم من أقداح الميسر، وعند إجالتها خالف صوت القِدح الذي ليس من مادّة بقية القداح صوتها، فيعرف أنّه ليس من جملتها.
قيل: إنّ كلام الإمام (عليه السّلام) تصديق للشيخين لأنّهما من المهاجرين ذوي الرتب والدرجات التي لم يكن لمعاوية صلوح التمييز لها، بل لابدّ من مثل الإمام (عليه السّلام) يميّزها لأنهما في درجته في الفضل.
والجواب: أنّ الكلام جاء كمقياس كليّ لا ينطق إلاّ على موارده الحقيقية بدون تعيين.