وقال (عليه السلام): لَيْسَ بَلَدٌ بأَحَقَّ بِكَ مِنْ بَلَد، خَيْرُ الْبِلاَدِ مَا حَمَلَكَ.                
وقال (عليه السلام): أَشَدُّ الذُّنُوبِ مَا اسْتَخَفَّ بِهِ صَاحِبُهُ.                
وقال (عليه السلام): الدُّنْيَا خُلِقَتْ لِغَيْرِهَا، ولَمْ تُخْلَقْ لِنَفْسِهَا.                
وقال (عليه السلام): مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا.                
وقال (عليه السلام): مَنْهُومَانِ لاَ يَشْبَعَانِ: طَالِبُ عِلْم، وَطَالِبُ دُنْيَا.                
وقال (عليه السلام): الْحِلْمُ وَالاَْنَاةُ تَوْأَمَانِ يُنْتِجُهُمَا عُلُوُّ الْهِمَّةِ.                
وقال (عليه السلام) : مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا .                

Search form

إرسال الی صدیق
الأمثال في نهج البلاغة – باب الميم

باب الميم

الميم مَعَ الألف

٤٠ ـ مَا عَدا مِمَّا بَدا[١].

جاء المثل في آخر كلام له (عليه السّلام) لما أنفذ عبد الله بن عبّاس إلى الزبير قبل وقوع الحرب يوم الجمل ليستفيئه إلى طاعته:

(لا تَلْقَيَنَّ طَلْحَةَ فَإِنَّكَ إِنْ تَلْقَهُ تَجِدْهُ كَالثَّوْرِ عَاقِصاً قَرْنَهُ، يَرْكَبُ الصَّعْبَ، ويَقُولُ هُو الذَّلُولُ. ولَكِنِ الْقَ الزُّبَيْرَ فَإِنَّهُ أَلْيَنُ عَرِيكَةً، فَقُلْ لَهُ: يَقُولُ لَكَ ابْنُ خَالِكَ عَرَفْتَنِي بِالْحِجَازِ وأَنْكَرْتَنِي بِالْعِرَاقِ «فَمَا عَدَا مِمَّا بَدَا»).

قال الرضي (رحمه الله):

«وهو (عليه السّلام) أوّل من سمعت منه هذه الكلمة أعني: (فَمَا عَدَا مِمَّا بَدَا)».

كتبها كلّ من الميداني[٢] والمفضل[٣] وغيرهما ناسبين لها إلى أمير المؤمنين (عليه السّلام)، وهي صالحة للمثل، بل هي هو.

قال القطب الراوندي:

«قوله: (فَمَا عَدَا مِمَّا بَدَا) له معنيان:

أحدهما: ما الذي منعك مما كان قد بدا منك من البيعة قبل هذه الحالة.

الثاني: ما الذي عاقك، ويكون المفعول الثاني لـ (عدا) محذوفاً يدل عليه الكلام، أي ما عداك. يريد: ما شغلك وما منعك ممّا كان بدا لك من نصرتي»[٤].

وقيل:

«المعنى: ما الذي صدّك عن طاعتي بعد إظهارك لها. وحذفُ الضمير المفعول المنصوب كثيرٌ جدّاً، كقوله تعالى: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا)[٥]: أي أرسلناه»[٦].

يمكن كونه مثلاً سائراً تمثّل الإمام به، أو من باب توارد الخواطر، أو من كلمات قصار صالحة للمثل كما تقدم. قيل: أجاب زبير بعد إبلاغه:

(أبلغه سلامي وقل له: عهد خليفة، ودَم خليفة، وإجماع ثلاثة، وانفراد واحد وأمّ مبرورة، ومشاورة العشيرة...)[٧].

الميم مَعَ التّاء

٤١ ـ والْمُتَعَلِّقُ بِهَا كَالْوَاغِلِ الْمُدَفَّعِ والنَّوْطِ الْمُذَبْذَبِ[٨].

من كتاب له (عليه السّلام) إلى زياد بن أبيه وقد بلغه أنّ معاوية كتب إليه يريد خديعته باستخلافه:

(وقَدْ كَانَ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَلْتَةٌ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ، ونَزْغَةٌ مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ،لا يَثْبُتُ بِهَا نَسَبٌ ولا يُسْتَحَقُّ بِهَا إِرْثٌ و«الْمُتَعَلِّقُ بِهَا كَالْوَاغِلِ الْمُدَفَّعِ والنَّوْطِ الْمُذَبْذَبِ»).

قال الرّضي (رحمه الله):

(قوله (عليه السّلام): (الْوَاغِل) هو الذي يهجم على الشرب ليشرب معهم وليس منهم فلا يزال مدّفعاً محاجزاً، و(النَّوْط الْمُذَبْذَبِ): هو ما يناط برحل الراكب من قعب أو قدح أو ما أشبه ذلك، فهو أبداً يتقلقل إذا حثّ ظهره واستعجل سيره.

وقيل:

(الواغل: غير المدعوّ إلى وليمة، المعبّر عنه بـ: الطفيل. لا يزال يدفع بإخراجه عن ذلك)[٩].

قوله (عليه السّلام) (فَلْتَةٌ): (الفلتة: وقوع الأمر من غير تدّبر ولا روّية، وكلّ شيء يفعله الإنسان فجأة من غير تدبّر ولا روّية، ومنه قول عمر: كانت بيعة‌ أبي بكر فلتة وقى الله شرّها[١٠].

ومراده (عليه السّلام) من فلتة أبي سفيان قَولته في تبنّي زياد وأنه ولده. لا يثبت بهذا القول بنّوةٌ في ظاهر الشرع، يتوارث عليها. فشبّهه (عليه السلام) المتعلّق بها كمن يهجم على ورد ماء ليس من أصحابه، فيدفع عنه ويمنع عن ورود الورد أشّد المنع، أو كمن علّق على دابته قعباً أو قدحاً متقلقلاً أبداً، وكِلا التمثيلين لمدّعى بنوّة من لا يكون له، كأبي سفيان بدعوة بنوّة زياد ولزياد نفسه.

الميم مَعَ الثّاء

٤٢ ـ مَثَلُ آلِ مُحمَّدٍ كمَثَلِ نُجومِ السَّماءِ[١١].

في آخر خطبة له (عليه السّلام) (... أَلا إِنَّ مَثَلَ آلِ مُحَمَّدٍ كَمَثَلِ نُجُومِ السَّمَاءِ «إِذَا خَوَى نَجْمٌ طَلَعَ نَجْمٌ»).

تمثيلهم (عليهم السّلام) بالنجوم تكرّر في أحاديثهم، كما جاء عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ما يطابق ذلك.

روى الشيخ الصدوق بسنده إلى ابن عبّاس في حديث قال:

(قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (... ومثلكم مثل النجوم كلمّا غاب نجم طلع نجم إلى يوم القيامة)[١٢].

إذا جهل السالكون الطريق في الليل المظلم اهتدوا بنجوم السماء كما قال تعالى: (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)[١٣] بإضاءتها وانتظام الساكنة والسائرة منها، حيث يستدلّ بوضعها على قطاع الأرض المنقسمة إلى أقاليمها السبعة، وعلى أبعاض الليل وساعاته. والناس إذا جهلوا، والجهل أصلهم حيث أخرجوا من بطون أمّهاتهم لا يعلمون شيئاً كما في الآية[١٤]، افتقروا إلى الإضاءة في السلوك إلى الله تعالى إلى هداة يهدونهم سبل السلام؛ من هنا جاء تمثيلهم (عليهم السّلام) بالنجوم ووقع في محلّه!

والمشابهة‌ بين أهل البيت (عليهم السّلام) والنجوم من وجوه: هي الإضاءة، وامتدادها بقيام إمام عند موت إمام كطلوع نجم إذا خوى نجم، والرفعة المختصة بهم (عليهم السّلام) التّي اختارها الله تعالى لهم لا يشاركهم غيرهم فيها، وسرور الناظر إلى نجوم الولاية كما يسُرّه إذا نظر إلى نجوم السماء، وغيرها من وجوه لا تحصل بتمثيل الشمس والقمر وإن جاء في دعاء الندبة: (أين الشموس الطالعة، والأقمار المنيرة)[١٥] وغير الدعاء، لاختلاف وجهة الأهداف من التمثيل. وإن شئت الوصول إلى واقع التمثيل، فابحثْ عن لزوم الحجّة في الأرض واستحالة خلّوها عند العقول والفطرة السليمة التّي تؤيّدها صحاح الأخبار أنّه لو خلت عن الحجّة لساخت بأهلها[١٦].

٤٣ ـ مَثَلُ الدُّنيَا كَمَثلِ الْحَيَّةِ[١٧].

قال (عليه السّلام): ("مَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ الْحَيَّةِ" لَيِّنٌ مَسُّهَا والسَّمُّ النَّاقِعُ فِي جَوْفِهَا يَهْوِي إِلَيْهَا الْغِرُّ الْجَاهِلُ ويَحْذَرُهَا ذُو اللُّبِّ الْعَاقِلُ).

يشابه المثل المثلَ الآخر منه (عليه السّلام) في كتاب له كتبه إلى سلمان الفارسي (رحمه الله) قبل أيّام خلافته: (أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّمَا مَثَلُ الدُّنْيَا مَثَلُ الْحَيَّةِ: لَيِّنٌ مَسُّهَا، قَاتِلٌ سَمُّهَا. فَأَعْرِضْ عَمَّا يُعْجِبُكَ فِيهَا لِقِلَّةِ مَا يَصْحَبُكَ مِنْهَا، وضَعْ عَنْكَ هُمُومَهَا...)[١٨].

لا يفتقر المثلان إلى توضيح بعد القدر المشترك بين الحيّة والدّنيا في إهلاك مزاولهما وأنّهما عدّو الإنسان والعاقل يكون على حذر دائماً منهما.

يقول أبو العتاهية:

إِنَّما الدَهرُ أَرقَمٌ لَيِّنُ المَس

 

وَفي نابِهِ السَقامُ العَقامُ[١٩]

وتجد الإمام (عليه السّلام) يمثّل الدنيا بما يحذّر الناس من اعتناقها إلاّ بقدر الحاجة، والقرآن الكريم والسنّة النبويّة وتمام روايات أهل البيت (عليهم السّلام) تحذّرهم عنها غاية التحذير، وقد جاء في الحديث: (حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة)[٢٠].

وجاءت في الكتاب والسنّة تمثيلاتٌ للدّنيا ببيت العنكبوت، والعجوز، والبحر العميق، وفصول السنة، والماء النازل من السماء، والخضرة.... وكلّ ذلك يشهد له الواقع، وكان عمل الإمام (عليه السّلام) وزهده في الدنيا، بل وعمل أهل البيت (عليهم السّلام) وزهدهم فيها يجسّد التحذير عنها أكثر منه من القول؛ لأنّ العمل يترك في النفوس من الأثر غير الوصف.

٤٤ ـ مَثَلُ مَنْ خَبَرَ الدُّنْيا كمَثَلِ قَوْمٍ سَفْرٍ[٢١].

في وصيّته لابنه الحسن (عليهما السّلام) مثلان ضربهما لمن خبر الدنيا ولمن اعتّر بها.

قال (عليه السّلام):

(إِنَّمَا "مَثَلُ مَنْ خَبَرَ الدُّنْيَا كَمَثَلِ قَوْمٍ سَفْرٍ" نَبَا بِهِمْ مَنْزِلٌ جَدِيبٌ فَأَمُّوا مَنْزِلاً خَصِيباً وجَنَاباً مَرِيعاً، فَاحْتَمَلُوا وَعْثَاءَ الطَّرِيقِ وفِرَاقَ الصَّدِيقِ وخُشُونَةَ السَّفَرِ وجُشُوبَةَ المَطْعَمِ لِيَأْتُوا سَعَةَ دَارِهِمْ ومَنْزِلَ قَرَارِهِمْ، فَلَيْسَ يَجِدُونَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَلَماً، ولا يَرَوْنَ نَفَقَةً فِيهِ مَغْرَماً، ولا شَيْءَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِمَّا قَرَّبَهُمْ مِنْ مَنْزِلِهِمْ وأَدْنَاهُمْ مِنْ مَحَلَّتِهِمْ. ومَثَلُ مَنِ اغْتَرَّ بِهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ كَانُوا بِمَنْزِلٍ خَصِيبٍ فَنَبَا بِهِمْ إِلَى مَنْزِلٍ جَدِيبٍ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِمْ، ولا أَفْظَعَ عِنْدَهُمْ، مِنْ مُفَارَقَةِ مَا كَانُوا فِيهِ إِلَى مَا يَهْجُمُونَ عَلَيْهِ ويَصِيرُونَ إِلَيْهِ).

في المثلين شرح كافٍ، وقد كثر ضرب الأمثال للدنيا وأهلها في الكتاب والسنّة؛ تحذيراً عن سوء المغّبة‌ وترغيباً إلى رفضها والإقبال على الله (عَزَّ وجَلَّ). وفي ضرب المثل في التحذير أو الترغيب بما يجسّد المحذَّر منه أو المرغَّب فيه ما لا يحصل بغيره، وهكذا سائر الدّواعي والأغراض.

قوله (عليه السّلام): ( (نَبَا): يقال: نبا عنه بصره ينبو: أي تجافى ولم ينظر إليه. وبنا به منزله، إذا لم يوافقه)[٢٢].

 (يقول: مثل من عرف الدنيا وعمل فيها للآخرة كمن سافر من منزل

جدب إلى منزل خصيب فلقى في طريقه مشقّة، فإنّه لا يكترث بذلك في جنب ما يطلب. وبالعكس من عَمَل للدنيا وأهمل أمر الآخرة، فإنّه كمن سافر إلى منزل ضنك ويهجر منزلاً رحيباً طيّباً)[٢٣].

الميم مَعَ الرّاء

٤٥ ـ المَرأْةُ رَيحَانةٌ وَلَيْسَتْ بِقَهْرَمَانَةٍ[٢٤].

جاء المثل في وصيّته لابنه الحسن (عليهما السّلام):

(ولا تُمَلِّكِ الْمَرْأَةَ مِنْ أَمْرِهَا مَا جَاوَزَ نَفْسَهَا فَإِنَّ «الْمَرْأَةَ رَيْحَانَةٌ ولَيْسَتْ بِقَهْرَمَانَةٍ» ولا تَعْدُ بِكَرَامَتِهَا نَفْسَهَا ولا تُطْمِعْهَا فِي أَنْ تَشْفَعَ لِغَيْرِهَا).

في الوصيّة عدّة أمور ترتبط بالمرأة:

منها: المنع من إدخالها في الشئون المعاشيّة التي يقوم بها الرجل؛ تبنى على الأغلب على صعوبة وخشونة لا تلائم نعومة المرأة وضعفها الذّاتيّ؛ ولأجلها قال (عليه السّلام): (فَإِنَّ الْمَرْأَةَ رَيْحَانَةٌ ولَيْسَتْ بِقَهْرَمَانَةٍ).

ومنها: المنع عمّا يمسّ كرامتها من ذهابها إلى اجتماعات رجاليّة أو نسائيّة، فإنّ المرأة تسعى غالباً فيما فيه زينتها وتسويل نفسها.

ومنها: المنع عن الشفاعة لغيرها؛ إذ لا تكون فكرتها ترجع إلى دين المشفوعة.

ومنها: ترك مشاركتها في المشورة، والأمر بشّدة‌ حجابها.

وإلى الأخيرَيْن أشار (عليه السّلام) في الوصيّة بقوله: (وإِيَّاكَ ومُشَاوَرَةَ النِّسَاءِ؛ فَإِنَّ رَأْيَهُنَّ إِلَى أَفْنٍ، وعَزْمَهُنَّ إِلَى وَهْنٍ. واكْفُفْ عَلَيْهِنَّ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ بِحِجَابِكَ إِيَّاهُنَّ؛ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحِجَابِ أَبْقَى عَلَيْهِنَّ. ولَيْسَ خُرُوجُهُنَّ بِأَشَدَّ مِنْ إِدْخَالِكَ مَنْ لا يُوثَقُ بِهِ عَلَيْهِنَّ. وإِنِ اسْتَطَعْتَ أَلا يَعْرِفْنَ غَيْرَكَ فَافْعَلْ)[٢٥].

ثم التمثيل بالريحانة يقصد منه اللّذة والتّمتع وسكون الرجل إليها، وضمان حياته الثانية بالولد الذي يبقى الوالد به وإن كان ميّتاً. فلأمرٍ أهمّ خُلقت: من تربية أولاد، وإدارة شئون داخليّة هي وسائل الثقة، وفراغ البال لعبادة الله تعالى، الغاية من الخلق كما قال (عزّ وجلّ): (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[٢٦] ؛ ومن هنا وجبت النفقة على الرجل حتّى لا تهتمّ بشيء سوى ما تقدّم.

٤٦ـ الْمَرأةُ عَقْرَبٌ حُلوَةُ اللَّسِبَةِ[٢٧].

من تمثيلاته (عليه السّلام).

اللّسبة: اللسعة. لَسَبَتْه العقربُ (بالفتح): لَسَعَتْهُ. ولَسِبْتُ العسلَ، أي لَعِقْتَه)[٢٨].

جاءت عدّة تمثيلات في مدح المرأة ‌وقدحها:

من الأوّل: (المرأة ريحانة وليست بقهرمانة)[٢٩]، (المرأة لعبة)[٣٠]، (النساء شقائق الرجال)[٣١].

ومن الثاني: (المرأة مثل الضلع المعوّج إن تركته انتفعت به)[٣٢].

هي الضلعُ العَوْجاءُ لستَ تُقِيْمَها

 

ألا إنّ تقويمَ الضلوعِ انكسارُها

أيجمعنَ ضَعفاً واقْتِداراً على الفتى

 

أليس عجيباً ضعفُها واقتدارُها ؟!

 (المرأة شرّ كلّها، وشرّ ما فيها أنّه لابدّ منها)[٣٣].

إنّ النساءَ كأشجارٍ نبتنٍ معاً

 

هُنَّ المرارُ وبعضُ المرِّ مأكولُ

إنّ النساءَ متى يُنْهَيْنَ عن خُلِقٍ

 

فإنّه واجبٌ لابدّ مفعولُ[٣٤]

قيل: إنّ كيد النساء أعظم من كيد الشيطان لأنّ الله تعالى ذكر الشيطان فقال: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا)[٣٥]، وذكر النساء فقال: (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ)[٣٦].

والجواب: أنّ ضعف كيد الشيطان إنّما هو في جنب الله تعالى، وعظم كيد النساء بالقياس إلى الرجال.

وبعد ذلك كلّه، أنّه لولا النساء لما كان الرجال وإنْ افترقن عنهم بفروق.

الميم مَعَ السّين

٤٧ ـ مُسْتَقْبِلين رِيَاحَ الصَّيفِ تَضْرِبُهُم

 

بحَاصِبٍ بَيْنَ أَغوارٍ وَجَلمُود[٣٧] ت

مثلّ (عليه السّلام) بهذا البيت في كتابه إلى معاوية جواباً عن كتابه:

(أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّا كُنَّا نَحْنُ وأَنْتُمْ عَلَى مَا ذَكَرْتَ مِنَ الأُلْفَةِ والْجَمَاعَةِ، فَفَرَّقَ بَيْنَنَا وبَيْنَكُمْ أَمْسِ أَنَّا آمَنَّا وكَفَرْتُمْ... وذَكَرْتَ أَنَّكَ زَائِرِي فِي الْمُهَاجِرِينَ والأنْصَارِ، وقَدِ انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ يَوْمَ أُسِرَ أَخُوكَ فَإِنْ كَانَ فِيهِ عَجَلٌ فَاسْتَرْفِهْ، فَإِنِّي إِنْ أَزُرْكَ فَذَلِكَ جَدِيرٌ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ إِنَّمَا بَعَثَنِي إِلَيْكَ لِلنِّقْمَةِ مِنْكَ، وإِنْ تَزُرْنِي فَكَمَا قَالَ أَخُو بَنِي أَسَدٍ:

مُسْتَقْبِلِينَ رِيَاحَ الصَّيْفِ تَضْرِبُهُمْ

 

بِحَاصِبٍ بَيْنَ أَغْوَارٍ وجُلْمُودِ

 (الحاصب لقوم لوط، وهي ريح عاصف فيها حصباء، والحصباء: صغار الحصى. والأغوار: جمع غور، والغور: ما بين ذات عرق إلى البحر غور تهامة، فتهامة أوّلها ذات عرق من قبل نجد إلى مرحلتين من وراء مكّة وما وراء ذلك فهو الغور. وجلمود أو جلمد كجعفر وعصفور: الصخر، ميمه زائدة)[٣٨] وقيل: الغور الغبار.

وحصيلة كلام الإمام (عليه السّلام) تكذيب معاوية أن يكون معه مهاجر أو ناصر بانقطاع الهجرة بأسر أخيه يزيد بن أبي سفيان في باب الخندمة، بل الذين معه هم أبناء الطلقاء، فإن زرتك فأنا نقمة الله عليك وإن زرتني فأنت كأرياح الصيف لا فائدة فيها سوى ضرب الوجوه بصغار الحصى والغبار، أو بين الصخور من أراضي تهامة، أي زيارتك شرّ كلّها.

قال المعتزلي:

(كنت أسمع قديماً أنّ هذا البيت من شعر بشر بن أبي حازم الأسدي والآن قد تصفحت شعره فلم أجده ولا وقفت على قائله)[٣٩].

وكيف كان فالمثل منطبق على كلّ من فيه صفة معاوية مهما كان نوعه فزيارة المنافقين كلّها شرّ لا خير فيها، إذ لم يرد بها وجه الله (عَزَّ وجَلَّ)، وليست هي من رَوْح الله كزيارة المؤمنين.

الميم مَعَ النّون

٤٨ ـ مَنْ سَلَكَ الطَّريقَ الواضِحَ وَرَدَ المَاءَ[٤٠].

من كلام له (عليه السّلام) يجري مجرى الأمثال:

(... أَيُّهَا النَّاسُ، «مَنْ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوَاضِحَ وَرَدَ الْمَاءَ»، ومَنْ خَالَفَ وَقَعَ فِي التِّيهِ).

والتيه: المفازة لا يهتدي سالكها.

ونظير المثل المثل: ( (مَنْ سَلَكَ الجَدَدَ أمِنَ العِثَار) الجدد الأرض المستوية. ويروى: (مَنْ تَجَنَّبَ الخَبَار..)، وهي أرض رخوة تتعتع فيها الدّوابّ، يضرب لطالب العافية)[٤١].

إرشاد منه (عليه السّلام) يلمسه كلّ أحد يرشد به أصحابه ويحذّرهم عن سلوك ما يعطبون به. وأمره (عليه السّلام) أوضح من كلّ واضح، إن تمسّك متمسّك به نجا ومن خالفه هلك، وقد جاء الحديث النبويّ: (مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق)[٤٢].

والمراد بالتمثيل ليس هو مجرّد الولاء لأهل البيت (عليهم السّلام) فقط، بل لابدّ من العمل بما يقولون ويحبّون والاتباع المورث لحبّ الله تعالى كما قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ)[٤٣]. وعليه فالمثل واقع موقعه؛ إذ إنّ السالك الطريق الواضح يصل إلى ما يقصده من سلوكه، والمنحرف عنه يفوته وليس له إلاّ التعب أو العطب.

وقد أتمّ الله الحجّة على النّاس وبلّغها أنبياؤه وبلغ إيّاها الرّسول وأوصياؤه المعصومون (سلام الله علیهم)، وبعد ذلك كلّه إمّا أن يشكروا أو يكفروا كما قال تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)، هما طريق الشّر والخير.

وقال تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)[٤٤]، (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ)[٤٥]. الأنبياء والأوصياء والشّرائع السماويّة هي الحجج الظاهرة، والعقول الموهبة للنّاس وما فطروا عليه من المعرفة به تعالى ودينه الحجج الباطنة، فقد تمّت رسل الله من خارج وداخل (لئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)[٤٦].

٤٩ ـ مَنْ لاَنَ عُودُه كَثُفَتْ أَغْصانُهُ[٤٧].

ذكروا: (أنّ من حَسُنَ خلقُه ولاَنتْ كلمته كَثُر محبّوه وأعوانه وأتباعه، ونحوه: (مَنْ لاَنتْ كلِمَتْهُ وَجَبَتْ مَحَبَّتُهُ)؛ وقال تعالى: (وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)[٤٨].

وأصل هذه الكلمة مطابق للقواعد الحكميّة ـ أعني الشجرة ذات الأغصان ـ حقيقة، وذلك لأنّ النبات كالحيوان في القوى النفسانيّة، أعني الغاذّية والمنميّة، وما يخدم الغاذّية من القوى الأربع، وهي: الجاذبة والماسكة والدافعة والهاضمة، فإذا كان اليَبْس غالباً على شجرة، كانت أغصانها أخفّ وكان عودها أدّق. وإذا كانت الرطوبة غالبة، كانت أغصانها أكثر وعودها أغلظ، وذلك لاقتضاء اليبس الذبول، واقتضاء الرّطوبة الغلظ والعبالة والضخامة، ‌ألا ترى أنّ الإنسان الذي غلب اليبس على مزاجه لا يزال مهلوساً نحيفاً، والذي غلبت الرطوبة عليه لا يزال ضخماً عبلاً)[٤٩].

في الصادقيّ: (يا شيعة‌ آل محمّد، اعلموا أنّه ليس منّا من لم يملك نفسه عند غضبه، ومن لم يحسن صُحبةَ من صحبه، ومخالقة من خالقه، ومرافقة من رافقه، ومجاورة من جاوره، وممالحة من مالحه. يا شيعة آل محمّد، اتقوا الله ما استطعتم ولا قوّة إلاّ بالله).

وعنه (عليه السّلام) في قول الله (عَزَّ وجَلَّ): (إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ)[٥٠]، قال: (كان يوسِّع المجلس، ويستقرض للمحتاج، ويعين الضعيف)[٥١].

والقرآن الكريم يأمر بحسن القول ويرّغب إلى فضائل ومكارم الأخلاق، قال تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)[٥٢]، (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[٥٣]، (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)[٥٤]. وكلام الإمام (عليه السّلام) ترغيب إلى ذلك مع بيان الوجه فيه كما تقدّم بتفصيل لسرّ التمثيل.

٥٠ ـ مَنْ مَلَكَ اسْتَأْثَرَ[٥٥].

من الأمثال السائرة، جاء به الإمام (عليه السّلام) لإرشاد ذوي المناصب أو من تصدّى أمراً من الأمور المخوّلة إليه.

قال الميداني:( (مَنْ مَلَكَ اسْتَأثَرَ) يضرب لمن يلي أمراً فيُفْضِل على نفسه وأهله فيُعَابُ عليه فعله)‌[٥٦].

قال الشارح:

(المعنى: أنّ الأغلب في كلّ مَلِكٍ يستأثر على الرّعية بالمال والعزّ والجاه. ونحو هذا المعنى قولهم: (مَنْ غَلَبَ سَلَبَ)، و(مَنْ عَزَّ بَزَّ)[٥٧]. ونحوه قول أبي الطيّب:

الظُلمُ مِن شِيَمِ النُفوسِ فَإِن تَجِد

 

ذا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظلِمُ[٥٨]

ومن ثَمَّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) عندما ولى الخلافة ونصب ولاته على الأقطار والأمصار كانت كتبه ورسائله تترى عليهم في حين، وحين يحذّرهم عن الاستيثار أشدّ التحذير ويحاسبهم على الذّرة والدّرة. وإذا بلغه عنهم أمر يخالف ما أراد وما أمرهم به، عزل المخالف من ساعته وعاقبه عقاب الله (عَزَّ وجَلَّ) وأجرى عليه حدوده ولا تأخذه في الله لومة لائم. ومن طالع سيرته (عليه السّلام) مع الولاة المنصوبين من قبله علم صدق ذلك كلّه، ويكفيك قضيّة واليه ابن عبّاس وما بلغه من تصرّفه من بيت المال: (وواللَّهِ لَو أَنَّ الْحَسَنَ والْحُسَيْنَ فَعَلا مِثْلَ الَّذِي فَعَلْتَ، مَا كَانَتْ لَهُمَا عِنْدِي هَوَادَةٌ ولا ظَفِرَا مِنِّي بِإِرَادَةٍ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُمَا وأُزِيحَ الْبَاطِلَ عَنْ مَظْلَمَتِهِمَا)[٥٩].

ولينظر الناظر إلى مالك الأشتر حين ولاّه على مصر وما شرح له من وظائف الولاة وطبقات الرّعية[٦٠].

٥١ـ مَنهُومانِ لا يَشْبَعانِ: طالِبُ عِلمٍ، وَطالِبُ دُنْياً[٦١].

يطابق الكلمة ما روي عن النّبي (صلّى الله عليه وآله) وتمامه: (فمن اقتصر من الدنيا على ما حلّ الله له سلم، ومن تناولها من غير حلّها هلك إلاّ أن يتوب أو يراجع. ومن أخذ العلم من أهله وعمل بعلمه نجا، ومن أراد به الدّنيا فهي حظّه)[٦٢].

«النَّهْمة: بلوغ الهِمَّة في الشيء، ومنه (النَّهَمُ من الجُوع)»[٦٣] (والنَّهم (بالفتح): إفراط الشهوة في الطعام)[٦٤].

والكلمة جارية. من الأحاديث المَثَليّة، يلهج بها المسلمون عند رؤية طالب علم أو دنيا واستمرار طلبهما، يجدّان طيلة الحياة كأنّهما جائعان لا يشبعان. هذا ليس له همّ إلاّ دنيا يصيبها وتصيبه، لم يأتلف إلاّ مع من يعتلف منها، ولا عشيق له غيرها، قد أشرب قلبه من حبّها فاغترّ بغرورها حتّى مات وصار إلى جهنّم وبئس المصير.

أمّا طالب العلم، فهو ممّن أُلقى في روعه داعية الخير وطلبه، قد قصر همّه وهمته على معرفة الحقائق والحقوق، وأحقّها من بين ذلك كلّه معرفة الباري (عَزَّ وجَلَّ) وصفاته وأفعاله وأسمائه الجلاليّة والجماليّة، ومعرفة أنبيائه وأوصيائهم، وشرائهم النازلة من السماء الّتي تضمن بيان دنيا الإنسان ودينه.

ولو أحبّ أحد أن يعرف جوع طالبي الدنيا والعلم على امتداد حياتهما، نظر إلى العلماء وما نقل عنهم من سهر الليالي في مطالعة الكتب. وكان أحدهم ربّما ذهب الليل كلّه وهو مكبّ على الكتاب لم يحسّ بذهابه. وإنّي لأعرف من كان يقوم من ثلثي الليل في كلّ ليله يقضيه بين مطالعة وكتابة وتهجّد والقوم نائمون، ومن أهل الدنيا من اشتدّ طلبه لها، لم ينم كلّ الليل بين كتابة ومحاسبة من أخذ منه أو أعطى أو على ظهر السفر في برّ أو بحر، وقد أُمر الناس بإجمال طلب الرزق لا التفاني فيه.

٥٢ـ مَنْ وَثَقَ بِالماءِ لَمْ يَظْمأْ[٦٥].

هذا المثل من خطبة نصّها:

(بِنَا اهْتَدَيْتُمْ فِي الظَّلْمَاءِ وتَسَنَّمْتُمْ ذُرْوَةَ الْعَلْيَاءِ، وبِنَا أَفْجَرْتُمْ عَنِ السِّرَارِ. وُقِرَ سَمْعٌ لَمْ يَفْقَهِ الْوَاعِيَةَ. وكَيْفَ يُرَاعِي النَّبْأَةَ مَنْ أَصَمَّتْهُ الصَّيْحَةُ ؟! رُبَّ جَنَانٌ لَمْ يُفَارِقْهُ الْخَفَقَانُ. مَا زِلْتُ أَنْتَظِرُ بِكُمْ عَوَاقِبَ الْغَدْرِ وأَتَوَسَّمُكُمْ بِحِلْيَةِ الْمُغْتَرِّينَ... الْيَوْمَ أُنْطِقُ لَكُمُ الْعَجْمَاءَ ذَاتَ الْبَيَانِ. عَزَبَ رَأْيُ امْرِئٍ تَخَلَّفَ عَنِّي. مَا شَكَكْتُ فِي الْحَقِّ مُذْ أُرِيتُهُ. لَمْ يُوجِسْ مُوسَى ( عليه السلام) خِيفَةً عَلَى نَفْسِهِ، بَلْ أَشْفَقَ مِنْ غَلَبَةِ الْجُهَّالِ ودُوَلِ الضَّلالِ. الْيَوْمَ تَوَاقَفْنَا عَلَى سَبِيلِ الْحَقِّ والْبَاطِلِ. "مَنْ وَثِقَ بِمَاءٍ لَمْ يَظْمَأْ"... ).

اشتملت الخطبة الشريفة على عدّة أمثال لا تخفى على الأريب.

قيل:

«إنّ هذه الأمثال ملتقطة من خطبة طويلة منسوبة‌ إليه (عليه السّلام)».

ـ قوله (عليه السّلام) (وبِنَا أَفْجَرْتُمْ عَنِ السِّرَارِ) إسرار: الليلة والليلتان يستتر فيهما القمر في آخر الشهر فلا يظهر.

ـ (وُقِرَ سَمْعٌ لَمْ يَفْقَهِ الْوَاعِيَةَ) دعاء على السمع الذي لا يسمع الصرخة، أي العبر والمواعظ.

ـ (كَيْفَ يُرَاعِي النَّبْأَةَ مَنْ أَصَمَّتْهُ الصَّيْحَةُ ؟!) مثل آخر. النبأة: الصوت الضعيف، أي من لم ينتفع بالمواعظ الجلية كيف ينتفع بالخفيّة منها.

ـ (رُبَّ جَنَانٌ لَمْ يُفَارِقْهُ الْخَفَقَانُ) مثل آخر، وهو دعاء لقلب لم يفارقه الخفقان من خشية الله تعالى.

ـ (الْيَوْمَ أُنْطِقُ لَكُمُ الْعَجْمَاءَ ذَاتَ الْبَيَانِ) مثل آخر، يريد (عليه السّلام) تمثيل الرموز الخفيّة الغامضة في كلامه ـ وهي مع غموضها جليّة لذوي النهي ـ بالبهم الصامتة الناطقة بدلائل الصنع ووجود بارئها (جلّ جلاله).

نظير المثل:

رسل الأرض، من شق أنهارك وأخرج ثمارك ؟، فإن لم تجبك حواراً أجابتك اعتباراً.

ـ قوله (عليه السّلام): (لَمْ يُوجِسْ مُوسَى خِيفَةً عَلَى نَفْسِهِ) تمثّل بقوله تعالى: (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى)[٦٦].

يقول (عليه السّلام): كما خاف موسى (عليه السّلام) على ضلال قومه كذلك أنا خائف على تغلّب الجهالة على قومي وإحاطة الضلالة بهم. وهذا مثل قرآني.

ـ (الْيَوْمَ تَوَاقَفْنَا عَلَى سَبِيلِ الْحَقِّ والْبَاطِلِ) بقراءة تقديم القاف على الفاء، أي اتّضح الحق والباطل ووقفنا عليهما نحن وأنتم وعرفناهما حقّ المعرفة. ـ

قوله (عليه السّلام): (مَنْ وَثِقَ بِمَاءٍ لَمْ يَظْمَأْ) لم يرد (عليه السّلام) نفي الظمأ إطلاقاً؛ لأنّ الواثق بالماء قد يظمأ كالعطشان الواجد للماء، وقد تمثّل لهذا المعنى بقول أبي الطيب:

وَما صَبابَةُ مُشتاقٍ عَلى أَمَلٍ

 

مِنَ اللِقاءِ كَمُشتاقٍ بِلا أَمَلِ

والصائم في شهر الله يصبح جائعاً تنازعه نفسه إلى الطعام، وفي أيام فطره لا يجد تلك المنازعة في نفسه؛ ذلك بأنّ النفس حريصة على ما منعت منه.

وهذا المثل من الأمثال الرفيعة السائرة، يريد (عليه السّلام) بالماء: الموثوق به نفسه الشريفة المقدّسة. إنّه الماء المعين الزلال للواثقين به (عليه السّلام) السالكين مسلكه، والمعوّل في كلّ المعضلات، حتى قال قائل عندما دهمته معضلة: (إنّها معضلة لها أبو الحسن)، أو (ليس لها إلاّ أبا الحسن عليّ (عليه السّلام)).

وإنّه الهداية لا ضلال بعدها، والنصير الذي لا يخذل مستنصِره. والبحر الزاخر. عن أبي هريرة قال: كنت عند النّبي (صلّى الله عليه وآله) إذ أقبل عليّ بن أبي طالب، فقال النّبي: (هذا البحر

الزاخر، هذا الشمس الطالعة. أسخى من الفرات كفاً، وأوسع من الدنيا قلباً، ومن أبغضه فعليه لعنة الله)[٦٧].

إنه الوسيلة إلى الله تعالى في نجح الطلبات والفوز بالمهمّات، والثقة الكاملة في جميع أمور الدين والدنيا حيّاً وميّتاً على ما ذهبت إليه الشيعة الإماميّة. وكذا بقيّة الأئمّة الأحد عشر من نسله الطاهر والصديقة الطاهرة، الحجج المعصومين (صلوات الله عليهم وسلّم)، والنهر العظيم رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

ويعجبني الحديث الآتي:

روى الشيخ الكليني (طاب ثراه) عن محمد بن يحيى، عن أحمد، عن علي بن النعمان رفعه، عن أبي جعفر (عليه السّلام)، قال: قال أبو جعفر (عليه السّلام): (يمصّون الثماد ويدعون النهر العظيم). قيل له: و ما النهر العظيم ؟ قال: (رسول الله والعلم الذي أعطاه الله. إنّ الله (عزّ وجلّ) جمع لمحمد سُنن النبيّين من آدم وهلّم جرّاً إلى محمد). قيل له: وما تلك السنن ؟ قال: (علم النبيين بأسره وأنّ رسول الله صيّر ذلك كلّه عند أمير المؤمنين). فقال له رجل: يا ابن رسول الله، فأمير المؤمنين أعلم أم بعض النبيّين ؟ فقال أبو جعفر: (اسمعوا ما يقول ؟! إنّ الله يفتح مسامع من يشاء !! إنّي حدّثته أنّ الله جمع لمحمد علم النبيّين وأنّه جمع ذلك كلّه عند أمير المؤمنين، وهو يسألني أهو أعلم أم بعض النبيّين!!)[٦٨].

٥٣ ـ المِنَيَّةُ وَلاَ الدَّنْيَّةُ[٦٩].

قال (عليه السّلام):

(المنّية ولا الدنيّة، والتقلقل ولا التوسّل) قال الشاعر:

أقسم بالله لمصّ النوى

 

وشرب ماء القُلُبِ المالحة

أحسن بالإنسان من ذلّه

 

ومن سؤال الأوجه الكالحة

فاستغن بالله تكن ذا غنى

 

مغتبطاً بالصّفقة الرابحة

فالزهد عزّ والتقى سؤدد

 

وذلّة النفس لها فاضحة

كم سالم صِيح به بغتةٍ

 

وقائلٍ عهدي به البارحة

أمسى وأمستْ عنده قنية

 

وأصبحت تندبه ناحية

طوبى لمن كانت موازينه

 

يوم يلاقي ربّه راجحة

وقال أيضاً:

لمصّ الثماد وخرط القتاد

 

وشرب الأُجاج أوآنَ الظّما

على المرء أهون من أن يرى

 

ذليلاً لخلق إذا أعدما

وخير لعينيك من منظر

 

إلى ما بأيدي اللئام العمى[٧٠]

ذكر المثل جمع، منهم الميداني، قال: (المنيّة ولا الدنيّة) أي أختارُ المنيّة على العار. ويجوز الرفع، أي: المنيّة أحبّ إليّ ولا الدنيّة، أي: وليستُ ممّا أحبّ واختارُ. قيل المثل: لأوس بن حارثة[٧١].

وممّن أصدقها قولاً وفعلاً الحسين بن علي كأبيه (عليهما السّلام)، قال (عليه السّلام) يوم كربلاء:‌

(ألا وإنّ الدّعي ابن الدّعي قد ركز بين اثنتين: بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذّلة، يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حميّة ونفوس أبيّة أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام)[٧٢].

وقال (عليه السّلام) أيضاً:

(لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برما)[٧٣].

وإنّ ذلك من شيم أصحابهم فضلاً عنهم (عليهم السّلام)، ولم تكن الدنيّة توجد إلاّ عند أهلها أهل الأطماع محتملي الضيم. وأمّا من لا يحتمل ضيماً، ففيه قال القائل:

ويركب حدّ السيف من لا يضيمه

 

إذا لم يكن عن شفرة السيف مرحل[٧٤]

يتبع.........

------------------------------------------
[١] . النهج ٢ : ١٦٢ ، ٣١/كلام.
[٢] . المجمع ٢: ٢٩٦ حرف الميم.
[٣] . الفاخر ١ ـ ٣.
[٤] . شرح النهج ٢: ١٦٤.
[٥] . سورة الزخرف: الآية ٤٥.
[٦] . شرح النهج ٢: ١٦٤.
[٧] . الفاخر ٣٠١ (بتصرف طفيف).
[٨] . النهج ١٦: ١٧٧، ٤٤/ك.
[٩] . هامش بعض نسخ النهج.
[١٠] . مجمع البحرين في (فلت) [بتصرُّف].
[١١] . النهج ٧: ٨٤، ٩٩/ط.
[١٢] . الأمالي ٢٣٨.
[١٣] . سورة النحل الآية ١٦.
[١٤] . سورة النحل الآية ٧٨.
[١٥] . مفاتيح الجنان، الشيخ عباس القمي.
[١٦] . أصول الكافي ١: ١٧٨.
[١٧] . النهج ١٨: ٢٨٤، ١١٥/ح.
[١٨] . النهج ١٨: ٣٤، ٦٨/ك.
[١٩] . شرح النهج ١٨: ٢٨٤.
[٢٠] . الوسائل ١١: ٣٠٨.
[٢١] . النهج ١٦: ٨٢، ٣١/الوصية.
[٢٢] . نهاية ابن الأثير في (نبا).
[٢٣] . شرح النهج ١٦: ٨٣.
[٢٤] . النهج ١٦: ١٢٢، ٣١/الوصية.
[٢٥] . المصدر.
[٢٦] . سورة والذاريات: الآية ٥٦.
[٢٧] . النهج ١٨: ١٩٨، ٥٩/ح.
[٢٨] . المصدر.
[٢٩] . عيون ابن قتيبة ٤: ٧٩.
[٣٠] . الوسائل ١٤: ١١٩.
[٣١] . نهاية ابن الأثير في (شفق).
[٣٢] . الوسائل ١٤: ١٢٣.
[٣٣] . النهج ١٩: ٦٩، ٢٣٥/ح.
[٣٤] . النهج ١٨: ٢٠٠.
[٣٥] . سورة النساء الآية ٧٦.
[٣٦] . سورة يوسف الآية ٢٨.
[٣٧] . النهج ١٧: ٢٥٠، ٦٤/ ك.
[٣٨] . مجمع البحرين: في (حصب، وغور، وجلمد) [ملخَّصاً].
[٣٩] . رسالة الإسلام ١٢٧ (عدد ٧ ـ ٨).
[٤٠] . النهج ١٠: ٢٦١، ١٩٤/كلام.
[٤١] . المستقصي ٢: ٣٥٦.
[٤٢] . حرف الميم من الأمثال النبويّة.
[٤٣] . سورة البلد الآية ١٠.
[٤٤] . سورة الإنسان الآية ٣.
[٤٥] . سورة الأنعام الآية ١٤٩.
[٤٦] . سورة النساء الآية ١٦٥.
[٤٧] . النهج ١٩: ٣٥، ٢١٠/ح.
[٤٨] . سورة آل عمران الآية ١٥٩.
[٤٩] . شرح النهج ١٩: ٣٥.
[٥٠] . سورة يوسف الآية ٣٦.
[٥١] . أصول الكافي ٢: ٦٣٧.
[٥٢] . سورة البقرة الآية ٨٣.
[٥٣] . سورة القلم الآية ٤.
[٥٤] . سورة الأحزاب الآية ٢١.
[٥٥] . النهج ١٨: ٣٨١، ١٦٢/ح.
[٥٦] . مجمع الأمثال ٢: ٣٢ حرف الميم.
[٥٧] . المستقصي ٢: ٣٥٧.
[٥٨] . شرح النهج ١٨: ٣٨١.
[٥٩] . النهج ١٦: ١٦٨.
[٦٠] . النهج ١٧: ٣٠ ـ ١١٧، ٥٣/ك.
[٦١] . النهج ٢٠: ١٧٤، ٤٦٦/ح.
[٦٢] . أصول الكافي ١: ٤٦.
[٦٣] . نهاية ابن الأثير.
[٦٤] . شرح النهج ٢٠: ١٧٤.
[٦٥] . النهج ١: ٢٠٧، ٤/ط.
[٦٦] . سورة طه الآية ٦٧.
[٦٧] . السفينة ٢: ٧١٢ في هرر.
[٦٨] . الكافي ٢: ٢٢٢ ـ ٢٢٣.
[٦٩] . النهج ١٩: ٣٦٢، ٤٠٤/ح.
[٧٠] . شرح النهج ١٩: ٣٦٢.
[٧١] . مجمع الأمثال ٢: ٣٠٣ حرف الميم.
[٧٢] . اللهوف ٣٨.
[٧٣] . اللهوف ٣٠.
[٧٤] . الجمهرة على مجمع الأمثال ٢: ٢١٠.
****************************