وقال (عليه السلام): أَشَدُّ الذُّنُوبِ مَا اسْتَخَفَّ بِهِ صَاحِبُهُ.                
وقال (عليه السلام): قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِير مَمْلُول مِنْهُ.                
وقال (عليه السلام): مَا لاِبْنِ آدَمَ وَالْفَخْرِ: أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ، وَآخِرُهُ جِيفَةٌ، و َلاَ يَرْزُقُ نَفْسَهُ، وَلاَ يَدفَعُ حَتْفَهُ.                
وقال (عليه السلام): مَا أَخَذَ اللهُ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُعَلِّمُوا.                
وقال (عليه السلام): ما أَنْقَضَ النَّوْمَ لِعَزَائِمِ الْيَوْمِ.                
وقال (عليه السلام): لاَ خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ، كَمَا أنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ.                
وقال (عليه السلام): إِذَا أَقْبَلَتِ الدُّنْيَا عَلَى أحَد أَعَارَتْهُ مَحَاسِنَ غَيْرِهِ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ عَنْهُ سَلَبَتْهُ مَحَاسِنَ نَفْسِهِ .                

Search form

إرسال الی صدیق
الإمام عليّ(عليه السلام) بأقلام المعاصرين

ماجد محمّد علي

لم تختلف أمّة في دنيا الناس على عظيم من عظمائها كما اختلفت الأمّة الإسلامية حول شخصية الإمام علي (عليه السلام) ولعلّ سرّهذا الاختلاف هوحكمة وجود الاختلاف نفسه بين بني البشر، وذلك لتجلية فلسفة التدافع والابتلاء، وإتمام رحلة التكامل والارتقاء التي يقضي الإنسان عمره كلّه كادحاً لقطعها نحو خالقه سبحانه(يا أيّها الإنسان إنّك كادحٌ إلى ربّك كدحاً فملاقيه) .

وكلّما اشتدّ الاختلاف، تعمّق الوعي ما في ذلك من ألم ومرارة ومعاناة لابدّ من دفع ضريبتها لمن يريد الوصول إلى الحقيقة ، فيتكامل من يتكامل ويتسافل من يتسافل، وفي رحلة كدح ومكابدة سيكون شعارها يوم الحساب) أقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً) .

لم نكن في هذا العرض الموجز راغبين في تقديم قراءة واحدة لشخصية الإمام علي(عليه السلام) بأقلام الكتّاب الشيعة القدماء والمعاصرين، وإنّما صارالخيار أن نقدّم هذه القراءة بأقلام أخرى حُسب بعضها على التشيّع وبعضها لم يُحسب...فكان منها مثلاً(سلطة الحقّ) للمفكَّر الشيوعي المعروف عزيزالسيّد جاسم، وأخرى  للكاتب المصري الأستاذ صالح الورداني ، ومثلها للكاتب المغربي أدريس الحسيني وعلى شاكلتها قراءة الشيخ معتصم سيد أحمد من السودان ، وقراءة للكاتب المصري عبد الكريم الخطيب في كتابه «علي بن أبي طالب – بقيّة النبوة وخاتم الخلافة » لنعيش ساعة أو ساعتين مع ما كتبه هؤلاء من مشارب مختلفة وأقطارمختلفة في العالم الإسلامي ، وحول شخصية عظيمة ألّهها أُناس وعبدوها ، فيما شتمها آخرون بعد رحيلها ، ثمانين عاماً كاملة ، لُتمنح الدهر كلّه بعد ذلك خلوداً وعزّاً ومجداً .

فإلى  بعض القطرات التي ابتلّت بها أصابع هؤلاء الكتّاب من بحر هذه الشخصية الفريدة، وإلى بعض السطور ممّا اقتطفناه نحن من إنصافهم وموضوعيّتهم وشرف كلماتهم وبحثهم عن الحقيقة والحقّ .

السيف والسياسة، صالح الورداني:

هذا هو عنوان كتاب معروف للكاتب والصحفي المصري الاستاذ صالح الورداني، وقد وسمه بعنوان آخر مرادف هو«صراع بين الإسلام النبوي والإسلام الأموي» مؤكّداً  أنّ السياسة بدأت تلعب لعبتها بعد وفاة الرسول مباشرة حيث انشطر الإسلام شطرين وتوزّع على خطّين (خط الإسلام القبلي) و( خط الإسلام النبوي) – حسب تعبيره – وراح الأخير مشتبكاً في ساحة المواجهة يُصارع السيف تارةً والسياسة تارةُ أُخرى ويصارعهما معاً تارةً ثالثة.

يؤكّد الكاتب في معرض كتابه أنّ رائد الإسلام النبوي في هذه المعركة هو الإمام علي (عليه السلام) ويصفه بالقول: « هذه الشخصية الربّانية تربّت على يد الرسول(صلى الله عليه وآله) وارتوت من معينه ، وهذا أمر له دلالته وانعكاساته على شخصية الإمام، فتربية الرسول لم  ثمّ مصاهرته إنّما يعني الاصطفاء ، فكما أنّ الرسول تمّ اصطفاؤه فإنّ عليّاً أيضاً تمّ اصطفاؤه» (١) .

ويروح الاستاذ الورداني يستدلّ على الاصطفاء هذا من أقوال النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه التی منها : « أنت  منّي بمنزلة هارون من موسى » (٢)، و«من كنتُ مولاه فعلّي مولاه » (٤).

«لايحبّه إلّا مؤمن ولا يبغضه إلّا منافق» (٥)..ويضيف الكاتب قائلاً : «ويكفي في حقّ شموله بقوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِب عَنكمُ الرِّجْس أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطهِّرَكمْ تَطهِيراً) معلقاً: وهذا النصّ دليل ساطع وبرهان قاطع على ربانيّته )) (٦) .

كما يؤيد بأنّ علي بن أبي طالب هو الأفقه من بين جميع صحابة النبي، فيقول : ((وقد تفوّق الإمام علي بفقهه على جميع الصحابة ولم يضاهِه في ذلك أحد حتّى إنّ عمر بن الخطّاب الذي يشهدون له بالفقه والعلم شهد لصالح عليّ وأقرّ بتفوّقه عليه )) (٧) ، ويضيف : ((وهناك شهادات للإمام علي على لسان كثيرا من الصحابة وعلى رأسهم عمر نفسه الذي كان يستعين بعلّي في ليس فيها (أولها) أبوالحسن)) (٨) .

وفي دليل آخر، أو أدلّةٍ أخرى على اصطفاء علي (عليه السلام) واختياره من قبل النبي في إعدادٍ خاصّ وتربيةٍ خاصّة ، يشير الورداني في كتابه هذا إلى هذه الحقيقة قائلاً: (( يروي ابن عبّاس : دفع رسول الله صلى الله عليه وآله الراية إلى عليّ وهو ابن عشرين سنة)) (٩) .

((وقال الرسول صلى الله عليه وآله يوم خيبر: لأعطينّ الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه يحبّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله ، فلما كان الغد دعا عليّاً فدفعها إليه )) (١٠) .

(( وكان الصحابة – والكلام كلّه هنا للاستاذ صالح الورداني - يردّدون: لاسيف إلّا ذو الفقارولا فتى إلّا علي.

وقد قتل أشهر فرسان العرب يوم الخندق وأصاب المشركين بنكسة معنوية كبيرة )) (١١) .

ويستدلّ الكاتب على الدور الذي أُنيط بعليّ وعلى المهمّة التي أخترُن لها في مسلسل الرسالة السماوية بقوله : (( وشهادة الرسول صلى الله عليه وآله لعليّ في حجّة الوداع أمام أكبر حشد من الصحابة والمسلمين في تاريخ الدعوة إنّما تؤكد هذه الخاصّية وهذا الدورالذي وكلّ إليه ، وهي تؤكَّد من جانب آخر شرعیة هذا الدور وارتباط خطوات الإمام ومواقفه المستقبلية بحدود الشرع وبالإسلام النبوي)) (١٢) مضيفاً: (( يروى أنّ عليّاً نشد الناس قائلاً : من سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول يوم غديرخم إلّا قام، فقام اثنا عشر بدرياً فشهدوا أنّهم سمعوا رسول الله رسول الله( صلى الله عليه وآله) يقول لعلّي يوم غدير خم : أليس أولى بالمؤمنين ؟ قالوا : بلى ، قال : اللهمّ من كنتُ مولاه فعلّي مولاه ، اللهم وال من والاه وعادِ من عاداه )) (١٣) .

ويبدو من دراسة السيّد الورداني لهذا الاصطفاء وتحليله له أنّه أراد التمييز بين الإسلامين المذكورين لئلّا يُذرّ الرماد في عيون المسلمين ولكي لا تلتبس عليهم خطوط الإسلام النبوي على الآخر الأموي ، فيقول مندّداً بمن يحاول تستطيح الفكرة أوعدم التمييزبينهما: (( إنّ محاولة رفع بني أميّة ، أو التقليل من شأن الإمام علي، أو مساواته بمعاوية كما هي عقيدة (البعض) ليس فقط تؤدّي إلى التمويه على حقيقة الصراع الذي دار بين الإمام وخصومه كما هو الهدف الظاهرمنها، وإنّما سوف تؤدّي إلى التمويه على حقيقة الإسلام النبوي الذي يمثَّله الإمام نيابةً عن الرسول رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبالتالي سوف تكون النتيجة ارتفاع الإسلام القبلي ، إسلام بني أمية وعلوّ مكانته على حساب الإسلام النبوي)) (١٤) .

وهذا ما هو حاصل فعلاً – كما يرى الكاتب – وما تبرّم منه ويتبرّم متألّماً متوجّعاً حيث يقول: (( وتلك هي النتيجة التي استقرت عليها الأمّة بعد وقعة صفّين وبعد اختفاء الإسلام النبوي وسيادة الإسلام القبلي على يد بني أمية ، ذلك الإسلام الذي تُعبّر عنه عقيدة أهل السنّة ، والذي تحوّل إلى دين الأغلبية بدعم الحكومات المتعاقبة من عصر بني أمية وحتّى اليوم )) (١٥) وهو الإسلام المزيّف الذي روّج لمفاهيم عجيبة غريبة وصفها إنّها ((لا تخرج عن كونها أطروحات فرضتها السياسة وباركها الفقهاء)) (١٦)

مشيراً إلى بعض هذه المفاهيم بقوله : (( لماذا يحاول الفقهاء إجبار الأمّة على الاعتقاد بضرورة الصلاة وراء كلّ برًّ وفاجر؟ ولماذا تحيّز فقهاء السلف لرأس يناقض القرآن والعقل ؟)) (١٧) .

وعلى طريقته في التنديد والتحليل والإثارة وإلفات نظر جمهورالمسلمين إلى المسألة الجوهرية في سرّ تمزّق وحدة المسلمين ، وسرّ عدم موفقيتهم في الوصول إلى الهدف المنشود ، يقول الورداني ويتساءل: (( كنتُ على الدوام أطرح على نفسي السؤال التالي : هل ما بين أيدينا تراث أم دين؟)) (١٨) ويضيف : ((ليس هناك ما يُسّمى بشيعة أو سنّة أو شافعية أو مالكية أو أحناف أو حنابلة...فكلّ هذه تسميات تأريخية من أختراع السياسة..والحقّ أنّ هناك إسلام حقّ وإسلام باطل وإسلام ربّاني وإسلام حكومي ..ولكن الذي ساد على مرّ التاريخ هو الإسلام الحكومي ، والذي احتفى هو الإسلام الرباني..)) (١٩) .

وللخروج من هذا المأزق ولتأكيد حقّانية الإمام علي(عليه السلام) في اصطفائه وريادته أو ضرورة ريادته (أي ريادة منهجه) للإسلام النبوي يوصي الورداني بأنّ الباحث عن الحقّ يجب أن يتّبع النصّ وليس أقوال الرجال ، لأنّ الثاني يجعل بين الباحث والنص وسائط وهؤلاء يجعلون (الباحث رهين الرجال لا رهين النص) حسب تعبيره – وحتّى في مسألة هؤلاء الوسائط يشير الكاتب إلى أنّ النصّ الشيعي ، أو التراث الشعي يعتمد على آل البیت ، فيما يعتمد الآخرعلى الصجابة ، وفيما يرفض التراث الشيعي التعايش مع الحكام يؤكّد تراث الآخرعلى التعايش معهم ، وقاعدة الشيعة ترتكزعلى متن الرواية فيما يعتمد الآخرعلى سندها وهكذا (٢٠) .

ومن هنا جاء نص رواية مالك أوتمّ الاحتفاظ بها ، والقائلة(( إنّي تركتُ فيكم الثقلين كتاب الله وسنّتي)) وحُجبت ، أو أختفى نص رواية مسلم التي تقول (( كتاب الله وعترتي)) (٢١) .

أمّا فكرة (عدالة الصحابة) التي فنذدها الاستاذ أحمد حسين يعقوب في كتابه الشهير( نظرية عدالة الصحابة) وضعّف عدالة الكثير منهم بالأرقام والوثائق التاريخية المعتبرة، والتي غمطت حقّ عليّ (عليه السلام) باعتباره واحداً من (الصحابة) فقد دون أي امتياز، فإنّ الورداني فنّد الآخرهذه الفكرة مفنداً معها فكرة الإجماع التي افرزتها السياسة قائلاً: ((إنّ الهدف من فكرة الإجماع هو نفس الهدف من فكرة العدالة ، كلاهما يدفع الأمّة الى الاستسلام للخط السائد وإضفاء المشروعية عليه .

وكما أنّ فكرة العدالة من اختراع السياسة ، فإنّ فكرة الإجماع أيضاً من اختراع السياسة)) (٢٢) .

إنّ مواجهة الهدف هو الذي قاد المؤسسة الدينية الشيعية لأن تقف في حالة صدام مع الواقع الظالم أو الحكّام لظلمة رافضةً مبدأ الطاعة المذكورة ، فيما جاءت المؤسسة الدينية للآخرعكس هذا الاتجاه ، فهي كما يقول الورداني: (( مؤسسة مرتبطة بالحكّام وواقعة في دائرة نفوذهم ويتقاضي الفقهاء منهم أجورهم من الحكّام ، ومن ثمّ فإنّ ولاءهم يتّجه على الدوام نحو الحاكم وليس نحو الجماهير، وفتاواهم تصدُرلحساب الحاكم لا لحساب الجماهير..)(٢٣) .

ومن هنا تأتي ضرورة الاصطفاف مع الجماهير قبال الحكام ، والعمل على إقناع الحكّام بتحقيق مطالب الأمّة ، وليس إلزام الأمّة بتحقيق مصالح الحكّام، وانطلاقاً من وصية الإمام عليه (عليه السلام) لواليه على مصر مالك الأشتر والتي جاء فيها :(( وليكن أحبّ الأمور إليك أوسطها في الحقّ وأعمّها في العدل، وأجمعها لرضا الرعية ، فإنّ سخط العامّة يجحف برضا الخاصّة ، وإن سخط الخاصّة يفتقرمع رضا العامّة ))(٢٤) .

إدريس الحسيني – نموذج آخر:

فی کتابة (الخلافة المغتصبة) فقد عبّرعن تقديره وإجلاله لشخصية الإمام علي (عليه السلام) – موضوع بحثنا – ودورهذا الإمام العظيم في ترسيخ كيان الإسلام ولو على حساب حقّه الشخصي وسكوته عن أولئك الذين اغتصبوا الخلافة – حسب تعبيره – فيقول: ((أدرك الإمام علي(عليه السلام) بعد كلّ ما وقع أنّه قد وقع في مأزق وداخل شراك خطير، فالعرب تظاهرت عليه واستعفته وتيّارالاغتصاب لم يركب الخلافة فحسب ، وإنّما طوّق بيت الإمام (عليه السلام) وحاصره بعد أن مدّ جسورالتعاون مع المنافقين...)).

هذا التعاون غير المقدّس : فهو إمّا أن يثور ويجهزعلى هذا التيّارالمتحالف ضدّه مع ما في ذلك من مجازفة قد تأتي على الإسلام كلّه ورجاله المخلصين ، وإمّا أن يصبر حتّى يعيد الأمور إلى نصابها .

يقول إدريس الحسيني في هذا السياق : ((..إمّا الخيار الأوّل فهو يسيرعلى علي (عليه السلام) وهو مَنْ أرعبَ بسيفه العرب واهتزّ لشجاعته الأبطال ، وتيّار الاغتصاب كان مدركاً لكلّ ذلك ، غير أنّهم أدركوا أنّ أبا الحسن لايُقاتل في أمر لا مصلحة للشرع فيه، أدركوا ذلك على مدى سنوات من الجهاد الذي كان يتزعمه .

ولذلك تجاسروا عليه وأبدوا بطولاتهم المزيّفة...)) أمّا الخيارالثاني ، والقول للكاتب طبعاً، ((والإمام علي وهو ينتظر، لم يقف مكتوف اليدين ، لم يكن انتظاره سلبياً كما يبدو للكثير..

كان نشطاً يعمل حسب ما تسمح به الظروف متحرّكاً خلف الحصارالمفروض عليه (٢٥)..(كان مقدّراً سلام الله عليه ) أنّ الذين التفّوا حوله لم يكونوا على نفس الدرجة من الإخلاص (وربّما الوعي)..

ویذكر اليعقوبي أنّه اجتمع جماعة إلى عليّ بن أبي طالب يدعونه إلى البيعة فقال لهم : ((اغدوا عليّ محلّقين الرؤوس فلم يعدْ إلّا ثلاثة نفر)) ( ٢٦) .

وهنا يقول الإمام علي (عليه السلام) : (( لو وجدتُ أربعين ذوي عزم لناهضتهم)) ثمّ قال قولته المشهورة:

((فرأيت الصبرعلى هاتا أحجي فصبرتُ وفي العين قذى وفي الحلق شجى )) (٢٧) .

وحين أشتدّ الحصار، وكثر الابتعاد عن الدين وتحوّل الخلاف إلى صراع حقيقي بين ما كان يفعله عثمان وما يريده الإمام ، راح الإمام يعلن اعتراضه على عثمان بشكل واضح وصريح .

يقول السّداد إدريس الحسيني في هذا الإطار: (( لقد كان ثمّة صراع حقيقي بين عليّ وعثمان ، وبلغ بالإمام أنّه بدأ يُبدي اعتراضه الصريح على عثمان ولا يأبه بأيّ  تهديد منه ، كيف يسكت علي وهو لم يسكت قبلها ، إذْ سكت إلّا مراعاةً لحرمة الإسلام وحواريي الرسول( صلى الله عليه وآله) .

أما وقد بدأ عثمان يختلف في الدين ويستهزئ بشريعته ، وينزّل من مقام حواري الرسول ويرفع من شأن الطلقاء)) (٢٨) ، (( فلم يكن السكوت أحجا وليكن ما يكون)) (٢٩) .

ولعلّ أكثر مواقف الصراع بين الرجلين هو ما يذكره التاريخ عن نفي عثمان لأبي ذر ووقوف الإمام مع الثاني في تشييعه له  وتوديعه، وما ينقله الكاتب إدريس الحسيني عن كتب التاريخ المعتبرة ، إذ يقول : (( إنّه عندما أومع عثمان على تسيير أبي ذر الغفاري رضى الله عنه إلى الربذة ومنع الناس أن يسيروا معه ، فلمّا طلع عن المدينة ومروان يسير عنها طلع عليه علي بن أبي طالب ومعه ابناه وعقيل أخوه وعبدالله بن جعفر وعمّاربن ياسر، فاعترض مروان فقال : يا علي أنّ أميرالمؤمنين (عثمان) قد نهى الناس على أن يصبحوا أباذر في مسيره ويشيّعوه.

فإذا كنت لم تدربذلك فقد أعلمتُك ، فحمل عليه علي بن أبي طالب بالسوط وضرب بين أُذني راحلته .

وقال : تنحّ نحّاك الله إلى النار. ومضى مع أبي ذرفشيّعه ثمّ ودّعه وانصرف.

فلمّا أراد الانصراف بكى أبوذر، وقال : رحمكم الله أهل البيت إذا رأيتك يا أبا الحسن وولدك ذكرتُ بكم رسول الله صلى الله عليه وآله.

فشكا مروان إلى عثمان ما فعل علي بن أبي طالب ، فقال عثمان : يا معشرالمسلمين من يعذرني من علي ؟ ردّ رسولي عمّا وجّهته له ، وفعل كذا ، والله لنعطينه حقّه . فلمّا رجع عليّ استقبله الناس ، فقالوا له : إنّ أميرالمؤمنين عليك غضبان لتشييعك أباذر، فقال : غضب الخيل على اللجم)) (٣٠) .

وفي محاولة جادّة من قبل الاستاذ إدريس الحسيني لإعادة كتابة التاريخ ، والانعتاق من الموروث المؤدلج

والمصبوغ بأصباغ الحكومات ومعجون السياسة ، أي محاولة إعادة الحقّ إلى نصابه بعد تغييب متعمّد أوغيرمتعمّد دام قروناً عديدة ، وخاصّة فيما يتعلّق بمنهج الإمام علي(عليه السلام) مقارنة بمناهج غيره ، يقول الكاتب : (( لقد كان وما يزال أغلب المؤرَّخين والناقدين للتراث ، يسبحون في بحر التكرار، ويبنون إبداعاتهم النقدية على عناصر وهمية ،  ومعطيات جاءت بها رغبة الخلفاء وطمه المؤرّخين .

وإذا ما انتبهنا إلى الماضي ومجريات أحداثه سوف يتبيّن لنا الأمرعلى درجة كاملة من الوضوح ، فالسياق التاريخي الذي ظهر فيه التدوين والتأريخ هو نهاية العصر الأموي والعصر العبّاسي ، وهو سياق شهد نموّاً ومنظّماً لتيّارات مختلفة الاتجاه، وشهد – أيضاً – صراعاً سياسياً حادّاً تفتّق عن صراعات ايديولوجية.

ولمّا كانت السلطة طرفاً في هذا الصراع، كان من الطبيعي أن تستثمر إمكانياتها وموقعها كسلطة صاحبة القرارفي سبيل تدمير الأطراف الاُخرى ، وتشكيل ايديولوجية الدولة . وكان الدين دائماً هوالضحية الأساس.

لأنّ تشكيل الايديولوجية هذه لا يستقيم إلّا بإجراء سلسلة من التحريفات ليكتمل التناغم والانسجام بين الاثنين...)) (٣١) .

خلاصة الذي أراد ويريد الكاتب إدريس الحسيني قوله في كتبه الثلاثة؛ (الانتقال الصعب) ،(الخلافة المغتصبة) وآخرها (لقد شيّعي الحسيني) أنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) استشهد مهضوم الحقّ مظلوماً ، لم يعرف التاريخ حقّه والمؤرّخون بعد ، ولئن كانت حُلّت أزمة التاريخ بعد توفّر الدراسات العلمية الدقيقة فأنّ أزمة المؤرَّخين لم تحلّ بعد ، وهذا ما يقتضي استنهاض هؤلاء لإنصاف دينهم ورسالتهم ودعوتهم لدراسة التاريخ بعيداً عن الايديولوجية الجاهزة ، ومحاولة التعرّف على الرجال من خلال الحقّ وليس العكس .

علي بن أبي طالب - سلطة الحقّ :عزيزالسيّد جاسم

جاء هذا العنوان أو هذا الكتاب بقلم عزيز السيّد جاسم عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي في الستينات ومسؤول صحيفة(الثورة) العراقية في الخمسينيات، فراح يلقي أضواء جديدة على إمام المتّقين ومدينة العلم وبابها – حسب تعبيره – ويوضّح لماذا وكيف اصطفاه الرسول(صلى الله عليه وآله) لیصبح وریث علمه والمحافظ على سلالته ؟

 ويستعرض الكاتب في كتابه هذا حياة الإمام علي (عليه السلام) واقفاً على أهمّ أحداثها بالتحليل والدراسة ابتداءاً من جهاده مع الرسول (صلى الله عليه وآله) مروراٌ بمحنتي الجمل وصفّين وحتى استشهاده موضّحاً أهمّ الأخلاقية والفكرية والنفسية، وكذلك سياساته الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية ومنهج حكمه الذي يُعتبرأو يتمحور العدل فيه درّة لم يتخلّ عنها حتّى مع قاتله(٣٢) ، وينتهي الكاتب مع الإمام في اسلوب الإمام الخطابي وبلاغته الفذّة التي عُبّر عنها أو عَبّرعنها البلغاء والفصحاء أنّها تحت كلام الخالق وفوق كلام المخلوق ، ثمّ أفصح الكتاب عن شخصية الإمام كقدوة تحتذى ، محركاً سيرته وملامح شخصيته من بطون كتب التراث إلى حيث نبض الحياة وعراكها – حسب تعبيرالكاتب أيضً – ليتحقّق الهدف الأكبرمن دراسة هذه الشخصيات

الخالدة وهو التواصل بين التراث وهمومنا المعاصرة ، أي كي لا يبقى هؤلاء العظماء مجرّد قمم شامخة في سماء الناس معلّقين في الهواء للإعجاب والانبهار والتجارة بالِسير والكلمات والمواقف .

يقول الكاتب في مقدّمة كتابه هذا : (( ثّمة قادة عسكريون كبار، ومفكَّرون ، وفقهاء عظماء ، وبلغاء وزهّاد وعباقرة ، وعلماء وأُدباء .

وفي التاريخ هناك الاسكندر العظيم يعشق الفلسفة ، فيأخذ معه (ارسطو) استاذه ، وهناك (افلاطون) الفيلسوف واستاذه سقراط، وهناك بوذا وكونفوشيوس، وقادة الثورات والمصلحون ، كلُّ متخصّص في ميدانه ، أمّا علي بن أبي طالب، فهو الحاوي على جميع سمات العبقريات المتعدّدة ، فهو الخليفة القائد ، وهو المحارب العظيم ، وهو الفيسلوف ،وهو الاستاذ في العدل والمؤسس لعلم النحو، وهو الفقيه، القاضي، العالم بالحساب والفلك ،وهو أمير البلاغة والشاعر، والحكيم والحافظ لتراث محمد رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهو الأخلاقي الرفيع ، وإلا نموذج في كلّ شيء)) (٣٣) .

ويضيف: (( يستطيع المرء أن يتعلّم أشياء كثيرة من على أو يعلم عنه لكّنه لا يستطيع أن يكون مثله.. فكان في زمنه وحيداً إلّا من قلّة مخلصة إخلاصاً نادراً ، ومن أنصار ومؤيدين يجتمعون ويتفرّقون لأمر أو أمور كان علي أعلم بها من غيره .

وحين خذلته المحنة في زمنه ، أنصفه التاريخ ، إذ أصبح أفواج المحبّين من رجال الفكر والكفاح الإنساني ، والعدل والمعرفة ، يتّصلون به بحسب الفكر والإيمان ونسبهما ، وأصبح حبّ علي بن أبي طالب حقيقة موضوعية يقرّبها المحبّ والمبغض )) (٣٤) .

أمّا لماذا ناوأه المناوئون وناجزه المناجزون ، واعترض عليه المعترضون ، فقد اختصر ذلك عزيز السيد جاسم بأروع اختصار وأوجزه  بأجمل إيجاز قائلاً : (( كان الرجل وحيداً في عبقرياته ، عجيباً في مسلكه ، لذلك لم يكن جميع أعدائه من طينة واحدة ، فبعض الذين حاربوه كانوا يرون فيه عدوّهم الأكبر، أي عدوّ باطلهم ، أو كفرهم أو شركهم أو ظلمهم ، وبعض الذين حاربوه رأوا فيه المقياس الذي يكشف عن بُعدهم من الحقّ والعدل ، رأوا – من خلاله – هُزالهم في حين كانوا يحسبون أنفسهم مهمّين . فإذا بهم في الضآلة ، بالمقارنة مع شخصية عليّ .

وكانوا يهيئون أنفسهم لدوركبيربين اتباعهم، فيأمل نجمهم أمام شمس عليّ النيّرة، فحاربوه لافتضاحهم بالمقارنة ولعجزهم عن الارتفاع إلى مستوى الحقّ والصدق...)) مضيفاً : (( أمّا الذين تركوا معسكره – وهم كثرة – فإنّهم إنّما فعلوا ذلك لأنّهم لم يطيقوا عدله ، وحقّه وصدقه)) مستشهداً بمقولة الاستاذ عبّاس محمود العقّاد الذي يُفسّرهذه الظاهرقائلاً : ((وهكذا فُرضت على الرجل العظيم صريبة العظمة الغريبة في ديارها وبين آلها ، وأنصارها ، فالعلاقة بينه وبين كبار الصحابة كانت علاقة الزمالة التي ينوب فيها الواجب مناب الإلفة .

والعلاقة بينه وبين الخصوم كانت علاقة حسد غير مكفوف وبغضٍ غيرمكتوم ، والعلاقة بينه وبين سواد العامّة كانت علاقة غربتء يجهلونه ولا ينفذون إلى لبابه . أُناس نافرين. تلك أيضاً آية الشهيد))..

ثمّ يعلّق السيّد عزيز السيّد جاسم على هذا ويروح يتساءل : (( هل كان ممكناً نجاح شخصية علي بن أبي طالب – في عصرها – نجاحاً سياسياً على ما هو عليه من (الحقّانية) التامّة والعدل التامّ ؟)) ويضيف : (( لقد أحبّه – في زمنه – أُناس حبّاً خارقتً وبالغ بعضهم في الحبّ فألّهوه وكفروا ، فأمر بالقذف بهم في النار، وهم غير نادمين . وهذا أمرعجيب نادر. يفرض نفسه في طلب التحليل لظاهرته الغريبة المثيرة )) (٣٥) .

هذه التساؤلات وغيرها وهذا التدافع في تحليل شخصية الإمام ، وهذا الاستغراق في دراسة مواقفه ومواقف الناس منه وموقفه من الناس ترك للتاريخ والناس لكي يغترف كلّ غارفٍ غَرفة ، ويقول كلّ محلّل قولة، وهذا هو العمق وحيازة التاريخ والخلود...

يقول عزيز السيّد جاسم في هذا السياق : (( لقد حسم اغتيال الإمام علي المناقشة.. وقطع الطريق أمام محاولته التصدّي للهجمة المضادّة ، ووجد في الموت فوزه الأكبر وهو يرقب مغادرة روحه : (( فزت وربّ الكعبة)) واستمرّ الناس فيما همّ عليه من صراعات سياسية ودنيوية ودينية ومصلحية)) (٣٦) .

ويصف الكاتب عجزه عن دراسة هذه الشخصية العظيمة بالحبّ العظيم له وكيف أنّه(سلام الله عليه) جدير بالحبّ والاحترام والإكرام من قبل كلّ إنسان حرّ ذي ضمير نجيب – حسب تعبيره - ... وكيف أنّ كلّ شيء يمكن أن يختم إلّا الكتابة عن علي فإنّها لا تختتم ولا يجد الكاتب مناصاً للتعويض عن عجزه هذا إلّا الاستشهاد ببعض كلمات وصية الإمام (عليه السلام) لولده الحسن حيث يجد فيها ناموساً فكرياً وأخلاقياً ، ودليلاً  للضمير، ودستوراً للناس ـ وخاصة حين يسمعه يقول في هذه الوصية الخالدة : (( يا بني اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك ، فاحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك ، واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تُحب أن تُظلّم ، واحسن كما تحبّ أن يُحسن إليك واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك...)).

ويروح الكاتب في معظم فصول الكتاب يضع عناوين شاخصة معبَّرة يستظهرمن خلالها دلالات واضحة على عظمة الإمام وعدم تكرار نموذجه في دنيا الناس ، فيضع عنوان الفصل الأوّل مثلاً : « مشيئة الرب» مؤكّداً أنّ للإمام علي مواقف وصفات وسمات لم يشاركه أحد فيها من دنيا الناس على الإطلاق.

ويأتي عنوان الفصل الثالث« شجاعة علي، البدء المتطابق » وما يحمله هذا العنوان من دلالة التطابق بين علي الإنسان وعلي النموذج الفريد .

وكيف أنّ جميع الذين أسلموا لم يكونوا بطبيعة الحال مؤمنين ، ولم يحافظ  جميع الذين أسلموا على جوهر الإسلام  ، فمنهم من ارتدّ مكشوفاً ، ومنهم من كانت ردّته خفية أو حتى لا شعورية...

مع أنّ الإسلام في زمن الابتداء كان ذروة التربية وثورة التربية)) (٣٧) إلّا علي الذي تطابق إسلامه مع إيمانه ولم يحدْ لحظة أو قيراطاً .

ويأتي عنوان الفصل الخامس والسادس على التوالي : ((السياسة العسكرية لعلي بن أبي طالب ، وتاريخ لأوليات سياسية )) ويقول العنوان الثاني : (( من المؤكّد مع أنّ اللوحة الاجتماعية العامة للكثيرمن الصراعات في زمن الجاهلية كانت تشير إلى صراعات اقتتالية بين أبناء العمومة في العشيرة الواحدة ، بأن أشهر الحروب وأخطرها كانت حروباً من النوع المذكور، فحرب (البسوس) التي استمرّت ما يقارب الأربعين عاماً كانت حرباً بين (بكر) و( تغلب) ابني وائل بسبب ناقة كانت تملكها امرأة عجوز من بكر تدعى البسوس ، وكذلك كانت حرب( داحس والغبراء) وهي حروب فیس بن عبس وذبیان ابنی بغیض بن وریث بن غطفان ، واستمرّت أيضاً أربعين عاماً..)) ليؤكّد أنّ جذور هذه الأوّليات هي تلك حتّى شاءت تلك المقدّمة (الدراماتيكية) – حسب تعبيره – أن توفّر بين بني عبد شمس وبني عبد مناف (٣٨) .

وحين يصل الكاتب إلى الفصل السابع من كتابه يضع عنوانه المفصح المعبَّر: (( سلطة الحٌق رفض السلطة))

ليكون عنوان الكتاب نفسه ، وفيه ، أي في هذا الفصل يضع الكاتب ديباجته من كلامٍ واضح للإمام (عليه السلام) يقول فيه : « أما والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ، لولا حضورالحاضروقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم ، لألقيتُ حبلها على غاربها...» ويشيرعزيز السيّد جاسم أنّ السلطة ليست مهمّة بجدّ ذاتها وإنّها ليست هدفاً للعظماء بجدّ ذاته وإنّما هي مهمّة بمقدار النتائج التي يحقّقها صاحب السلطة للناس وللأجيال والتاريخ ، فيقول: « ولا يهمّ البشرية أن يقال هذا حاكم قويّ ، وذاك حاكم ضعيف ، فقج حفل التاريخ الإسلامي مثلاً بآلاف الأمثلة في ذلك دون فائدة تُذكر»

 ويضيف: « إنّ البشرية بحاجة إلى الحاكم النبراس الذي يقدَّم للمجتمعات ثماراً أبدية في العدل وفي الفكر، وفي الممارسة.

أي أنّ المقياس في تقويمات كهذه ، هو مقياس موضوعي يخصّ الفوائد الوطيدة للبشر، وليس مقياساً فردياً ، كما يجتمع عادة بعض الكتّاب والمؤرَّخين إلى تفصيل الخصائص الشخصية والعائلية للحاكم...» (٣٩) .

ولايتصل هذا الخلط على الكتّاب والمؤرَّخين والنخب السياسية والاجتماعية ، بل أنّه يمتدّ ويكون خطره أفظع حين يعمّ كلّ مساحة الناس ممّن سماّهم الإمام (عليه السلام) « الهمج الرعاع : أتباع كلّ ناعق (الذين) يميلون مع كلّ ريح ، ولم يستضيئوا بنورالعلم ، ولم يلجأوا إلى ركنٍ وثيق » .

وهنا يدعو السيّد جاسم إلى تحريرالنفس البشرية من هذه الرعوية والهمجية والغوغائية ، والتي هي كما يسمّيها طبيعة حيوانية غير مهذّبة فيقول:« وشخّص عليّ تشخيصاً فذّاً تلك المجاميع من الجماهير، التي هي من طراز الهمج الرعاع ، وهي مجاميع لا تشكّل جوهرالمجتمع ، وليست هي الجماهير بتمامها بل هي شرائح اجتماعية رهينة شروطها الفكرية الذاتية وبنت التخلّف الطويل القيم... وأولئك الهمج الرعاع أعداء كلّ تقدّم ، وتطوّر، واستقرار، وهم يعاكسون إرادة الحقّ ، ومسارالعلم ، واتجاه العدل ، ويعطون الشرعية التهريجية للظالمين ، فهم خدمهم الذين يُنفّذون إرادتهم الطغيانية ، وهم لا مانع لديهم من استبدال سلطان بآخر، فهم مع الأقوى والمنتصِر.

وكان عليّ في رؤيته متنبئاً بما سيحمله (الشرق) من كوارث سياسية ، سببها الصراعات الدامية حول السلطة ، ودور الهمج الرعاع في تأجيجها وفي دفعها إلى الثورة...» (٤٠) .

هؤلاء الهمج الرعاع الذين ينعقون مع كلّ ناعق ويميلون مع كلّ ريح والذين لا ينصرون حقّاً ولا يخذلون باطلاً ويحدّدون مواقفهم ( مع مَنْ غلب) كما يقول التاريخ هم الذين ملأوا قلب الإمام علي قيحاً وشحنوا صدره غيضاً... والأسوأ منهم هم أعوان الظلمة وحواشيهم وبطانتهم عن الذين تنقل الروايات أنّ منادي يوم القيامة يعلوصوته منادياً : « أين أعوان الظلمة قبل الظلمة» باعتبارهم أذرع السلطان وأدواته التنفيذية الذين مكّنوا الظالم وحكّموه وتحكّموا به ...

هذا التشخيص الواعي للإمام علي ابن أبي طالب (سلام الله عليه) هو الذي جرّعه ألوان الغصص ، فلا هو قادرٌ على مجاراة الهمج الرعاعأ ومسايرتهم في أهوائهم وأطماعهم ، ولا هو قادرعن التخلّي عنهم وهو المسؤول عن تربيتهم وتأديبهم...فلا هم أطاعوه ليرتاح من زجرهم وتقريعهم ولا فهموه لكي يستقرّ على قرار... فبقي حياته كلّها مقارعاً مستغيثاً نادباً حظّه وحظّهم أذْ أبتُلي بهم وابتلوا به كما يقول (عليه السلام) وحيث أرادهم لدينه وأرادوه لدنياهم ، وشتّان بين الإرادتين...

علي بن أبي طالب بقيّة النبوّة وخاتم الخلافة، عبد الكريم الخطيب:

هذا هو العنوان الذي اختاره عبد الكريم الخطيب لكتابه وذيّله بحديث شريف للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) يقول فيه : « يا عليّ لا يُحبّک إلّا مؤمن ،  ولا يبغضك إلّا منافق » ثمّ راح يدوّن في تقديمه لكتابه هذا قائلاً : « إنّ تاريخ العظماء ليس مجرّد حياة وموت ، وأحداث وقعت فيما بين الحياة والموت فضبطتها صحف التاريخ ، وختم عليها الزمن بخاتمه ،وإنّما تاريخ حياتهم ميراث كريم تتوارثه الإنسانية كلّها ، وتفتدي بما فيه من عظمات وعبر، وتقطف من مجانيه ، ما تطول يدها وتبلغ همّتها من قدوة صالحة ومثّلٍ كريم »(٤١) .

وحين يصل إلى الإمام علي (عليه السلام) بعد زفراتٍ طرحها على ما حلّ بالمسلمين من اختلاط مرويّاتهم عن صحابة رسول الله وكيف ( اختلط فيها الحقّ بالباطل والصدق بالكذب، والواقع بالخيال) – حسب تعبيره – راح يقول :«... وعلي – كرّم الله وجهه – هو بقيّة النبوّة ، وخاتم خلافة النبوّة ، وحياته كلّها معركة متّصلة في سبيل الله ، وإيثار سخيّ لإعزاز دين الله ، وإعلاء راية الإسلام التي حملها رسول الله ، والتفّ حولها المهاجرون والأنصار، فكانوا جند الله وكتيبة الإسلام ...

واحتملوا تبعات الجهاد في سبيل الله ، صابرين مصابرين ... أمّا عليّ ، فقد كان صدره درعاً واقياً لدعوة الإسلام ، من أوّل يوم الإسلام إلى أن تداعت حصون الشرك ، وذهبت معالمه ..»

وأضاف : « وكان سيفه شهاباً راصداً ، يرمي أعداء الإسلام بالمهلكات ، ويشيع في جموعهم الخزي والخذلان ، ويُلبس أبطالهم وصناديهم المذلّة والهوان ، حتّى ليكون سيفه علماً يسمّى (ذوالفقار) وحتّى ليكون صاحب السيف مثلاً يحدَّث الناس به في مواقف البطولات الخارقة فيقال ( فتىً ولا كعليّ) » (٤٢) .

وحين يأتي إلى موضوع الخلافة – ككاتب يرى رأياً آخر- لا یجد مناصاً من التصريح بالحقيقة رغم مرارتها فيقول : « فقد كان الخلافة أقرب إليه بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) من أيّ صحابي آخر» ولكنّه يضيف : « فلمّا تمّت البيعة لأبي بكر، توقّف قليلاً وأمسك يده عن البيعة له بالخلافة ، حتّى إذا رأى القبائل تتنادى بالردّة والخروج عن طاعة الخليفة الجديد ، بادّرفسدّ هذذه الثغرة ، وأعطى الخليفة كلّ ولائه ونُصحه »(٤٣).

ويأتي عبد الكريم الخطيب إلى فتنة الخليفة الثالث عثمان بن عفّان وابن عمّه مروان ويفتح ملفّها ولا يستطيع غلقه فيقول : «أسلم الحكم (والد مروان) عام الفتح إسلام الطلقاء، وكان طريد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولعينه...وقد قال فيه البلاذري: إنّ الحكم بن العاص كان جاراً لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فی الجاهلیة وكان أشدّ جيرانه له أذّى في الإسلام ...

وكان قدومه إلى المدينة بعد فتح مكّة، وكان مغموضاً عليه في دينه (أي مطعوناً عليه ومتَهماً في دينه» (٤٤).

وبعد رحيل النبي (صلى الله عليه وآله) كلّم عثمان أبا بكر في ردّ الحكم وولده فكان جوابه «ما كنتُ لآوي طرداء رسول الله » ولمّا استُخلف عمر، قال قول أبي بكر، ولما استُخلف عثمان أدخلهم المدينة فأنكرعليه المسلمون إدخالهم المدينة ، ثمّ ولّي الحكم صدقات قضاعة (حيّ في اليمن) – والكلام للخطيب طبعاً – فبلغت ثلاثمائة ألف درهم ، فوهبها له حين أتاه...

ومات الحكم (طريد رسول الله) في خلافة عثمان فصلّى عليه عثمان وضرب على قبره فسطاطاً» (٤٥).

وعن مروان بن الحكم ينقل الخطيب ما ذكره ابن سعد في طبقاته حين قال :« فلم يزل مروان مع ابن عمّه عثمان ابن عفّان ، وكان كاتباً له ، وأمرله عثمان بأموال ، وكان عثمان يتأوّل في ذلك صلة قرابة ، وكان الناس ينقمون على عثمان تقريبه مروان» وطاعته له ، ويرون كثيراً ممّا ينسب إلى عثمان لم يأمر به، وأنّ ذلك عن رأي مروان ، دون عثمان ، فكأنّ الناس شنعّوا بعثمان ، لما كان يصنع بمروان ويقرّبه » (٤٦) .

ومن هنا جاء تعليق الإمام علي (عليه السلام) على الفتنة التي أودت بحياة عثمان مخاطباً الثوّار: «جزعتم فأسأتم الجزع، واستأثرفأساء الأثرة »، « والحقّ أنّ عليّاً كان أوفرالناس حظّاً ، وأطولهم صحبةً لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فمنذُ  وُلد عليّ ، وهو بين يدي محمد ، قبل النبوّة وبعدها .

لم يفترق عنه في سلم أو حرب ، وفي حلًّ أو سفر، بل كان بين يدي النبي ، وتحت سمعه وبصره إلى أن لحق الرسول بالرفيق الأعلى ، وهو على صدر عليّ ، حيث سكب آخر أنفاسه في الحياة » (٤٧) ويضيف : « فقد كان علي بطل الإٍسلام دون منازع٠٠٠

وكان فقيه الإسلام ، وعالم الإسلام ، وحكيم الإسلام ، غير مدفوع عن هذا أومنازَع فيه...» إلى أن يقول :

« ولو أنّ إنساناً غير علي بن أبي طالب ، امتُحن بما امتحن به من شدائد وأهوال، لتبلّدت مشاعره ، وعطّلت ملكاته ، ولما وجد العقل الذي يفكَّر ويقدّر ولا  اللسان الذي ينطق ويبين ! ولكنّها النفس الكبيرة العميقة ، تمرّ بها الأحداث المزلزلة ، والكوارث المكربة ، كما تمرّ الأعاصير بالجبال الشامخة فتتطاحن عندها وتتخاشع بين يديها ، وتتكسّرمتداعية تحت قدميها...»(٤٨) .

وفي مقاربة معبّرة بين زواج الخليفة عثمان من بنتي رسول الله (صلى الله عليه وآله) رقية وأم كلثوم ومنحه لقب(ذي النورين) ، وبين زواج الإمام علي من فاطمة (عليها السلام) يقول عبدالكريم الخطيب أو يكتب قائلاً:

« فإنّ في زواج عليّ من فاطمة شيئاً أكثرمن هذا الذي ظفر به عثمان ! فأوّلاً ، فاطمة(رض) اختُصت من بين أخواتها بهذه الدرجة الرفيعة التي رفعها الله إليها فجعلها في مقام مريم ابنة عمران ، حيث وصفها الرسول (صلى الله عليه وآله) بأنّهما خير نساء العالمين ، وثانياً: أنّ فاطمة – وحدها من دون أبناء النبي وبناته – هي التي كان منها سبطا رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحسن والحسين ومنهما كلّ نسل رسول الله .

وإذْ ننظرإلى هذا الأمر- والكلام للخطيب – مع ضميمة ما سبق من مواقف في هذا المقام ، نجد أنّ ذلك الموقف متسق مع ما سبقه ، جار على الغاية المُنجحة له ، والبالغة بابن أبي طالب ، ما أراد الله له من كرامة وتكريم! فهذا رسول الله(صلى الله عليه وآله) يكون له بنين وبنات ثمّ يختارهم الله جميعاً إلى جواره في حياة الرسول ، عدا فاطمة (رص)، ثمّ لا يقف الأمرعند هذا ، بل يكون من حكمة الله ألا يعقب أحد من أبناء الرسول وبناته ولداً ، ومن كان له ولد من بناته مات هذا الولد صغيراً.. وهكذا يصبح الرسول – صلوات الله وسلامه عليه – لا يرى له ولداً غير فاطمة ، ولا نسلاً متّصلاً إلّا ما كان من فاطمة وعلي » (٤٩) .

ويأتي الخطيب إلى قضية حسّاسة يحاول أن يتجاوزها بفذلكة وذكاء وذلك عند تمييزه بين شخص الرسول ورسالته ، فيقطع الطريق على الرأي الآخر القائل بأنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) إنّما هو امتداد لرسالة الرسول وإنْ كان لشخصه فيه النصيب الأوفى ، فيقول في هذا الإطار معترفاً ممرّراً : « فإذا قيل : إنّ عليّاً أخو النبي وزوج ابنته فاطمة ، سيّدة نساء العالمين ، وأبوالسبطين ، ريحانتي شباب الجنّة ، الحسن والحسين ...

ثمّ إذا قيل : إنّ عليّاً هو الشخص القائم الرسول في كلّ موقف يُلتمس فيه شخص الرسول ، لا رسالة الرسول ، إذا قيل ذلك في (علي) فإنّه لا يعطي أكثرمن دلالة واحدة ، هي أنّ عليّاً أقرب الناس إلى الرسول ، وألصقهم به وأولادهم ، فيما يمسّ ذاته ،  ويتّصل بشخصه !» (٥٠) .

وعن عدل (علي) وترفّعه عن حطام الدنيا واندكاكه بمبادئ الدين وعدم اهتمامه بما تقوله السياسة ورجالها فيه ، يقول عبدالكريم الخطيب : « روي أنّه حين تفرّق أصحاب علي بعد مقتل الخوارج ودخل مسجد الكوفة فخطبهم ، وكشف لهم عن الحال التي صاروا إليها ، وما ينتظرهم من ذلّ على أيدي أهل الشام بعدها ، قام إليه بعض أصحابه فقال : « يا أميرالمؤمنين... أعطِ هؤلاء هذه الأموال ، وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي ، ممّن يتخوّف خلافه على الناس وفراقه ، إنّ هذا هوالذي كان يصنعه معاوية بمن أتاه وإنّما عامّة الناس همّهم الدنيا ، ولها يسقون ، وفيها يكدحون ، فاعط هؤلاء الأشراف ، فإذا استقام ذلك ما تريد عُدت إلى أحسن ما كنتَ عليه من القسْم» (٥١) .

ويواصل الخطيب رؤيته هذه معلّقاً : « هذه هي السياسة التي كان يمكن أن يغلب بها الإمام ، وأن يستكثر بها من الأنصار والأتباع ! ولكنّه يأبى بأن يستجيب لهذا الرأي ، ويردّ على أصحابه قائلاً : « أتأمروني أن أطلب النصر بالجور.. فوالله لا أفعل ذلك ما لاح في السماء نجم ، والله لو كان المال مالي لسوبتُ بينهم ! فكيف وهي أموالهم » .

هذا هو حكم الدين – والتعليق هنا للخطيب طبعاً – ودعوة الحقّ والعدل! ولكن أين الناس من الدين ، ومن الحقّ والعدل؟! لقد تعثّرت أقدامهم على هذا الطريق وثقل خطوهم عليه ، وتقطّعت بهم الأسباب دونه... أتريدون شاهداً؟ وهل شاهد بعد أن نرى عليّاً وحده في الميدان ، لا يقوم تحت رايته غيرخمسين رجلاً» (٥٢).

لكن المؤلم المؤسف أنّ الخطيب نفسه وفي طول الكتاب وعرضه استمرّ مدارياً متهيباً يقترب من قول الحقيقة الساطعة وينسلّ منها ، وتسطع شمسه فتضلَلها غيمة الموروث وغمامة الحكم الجاهز وكأنّي به يريد أن يقول شيئاً ولكن الضريبة باهضة والموقف صعب والحق مرّ ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلي العظيم .

الحقيقة الضائعة : الشيخ معتصم سيد أحمد:

رغم أنّ (الحقيقة) لا تضيع ولن تضيع ، وإنْ كانت ضُيعت أوغُيّبت لهذه الفترة أو تلك ، إلّا أنّ (الحقيقة) عند الاستاذ والكاتب السوداني الشيخ معتصم سيد أحمد قد ذاعت ، أي ضاعت عليه هو نفسه فراح يبحث عنها في كتابه هذا بجدّية وصدق وإخلاص حتّى عثر عليها موفقاً مسدّداً إن شاءالله .

ولعلّ أوّل ما يبدأ به الكاتب في بحثه عن الحقيقة هو تنقيبه الدقيق وفحصه الأكثر دقّة لمتون وأسانيد الحديث الشريف: « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وسنّتي ، أو عترتي أهل بيتي » وصراع بين هذين الاثنين ( سنّتي أم عترتي) وارتياحه في اكتشاف الخيط الدقيق بين سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعترته أهل بيته وعلى رأسهم أو في مقدّمتهم الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) .

وبعد فراغه من هذا البحث الذي قال : إنّه كلّفه « مجهوداً فكرياً ونفسياً ، وجعلني أعيش صراعات مع ضميري وأخرى مع زملائي وأساتذتي في الجامعة » (٥٣) وانتهائه إلى أنّ الآية القرآنية الكريمة ( إنّما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يُقيمون لصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) إنّما نزلت في علي (عليه السلام) وإنّ لها دلالة خاصّة – حسب رؤية الكاتب – راح غائصاً في تقصّيها والبحث في مغزاها وأسباب نزولها .

بعدها راح الكاتب يبحث في مغزى الآیة القرآنية الكريمة الاُخرى: ( يا أيّها الرسول بلَّغ ما أُنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس) وكيف أنّ هذا الأمر الإلهي الواجب تبيلغه صاريوازي تبليغ الرسالة فإذا لم يبلَّغه فكأنّما لم يبلَّغ الرسالة» (٥٤) ويضيف : (وإنّ هذا الأمر، هو مردّ خلاف عظيم بين الناس ، بل إنّ الرسول خاف على نفسه من الناس ولذا طمأنه الله تعالى بقوله عزّ من قائل : (والله يعصمك من الناس) (٥٥) .

ومن استجلاء معاني هذه الآيات البيّنات وغيرها يروح الاستاذ معتصم يلقي باللائمة على المؤرَّخين الذين يكتمون الحقائق ولا ينقلونها إلى الناس ، وهذا ما يقصده بضياع الحقيقة إذْ يقول : « وما تعانيه الأمّة الإسلامية اليوم من فرقة وشتات وتمزّق في الصفوف ما هو إلّا نتاج طبيعي للانحرافات التي حدثت في التاريخ من تدليس المؤرَّخين وكتمهم للحقائق.. من أجل مصالح سياسة ( ودنيوية) .. وهو مخطّط استهدف مدرسة أهل البيت على كافّة الأصعدة والمستويات ليشكًّل تيّاراً آخر ذا مظهر إسلامي في قبال الإسلام الحقيقي الأصلي» (٥٦) .

ولم تكن المسألة مسألة مصالح سياسة فقط وإنّما مسألة رعب ورهبة وخوف لمن يجرأ ويكشف الحقيقة إذْ

« كان مجرّد التظاهر بالحبّ لعلي بن أبي طالب وأهل بينه كفيل بهدم الدار وقطع الرزق ، حتّى تتبّع معاوية شيعة علي قائلاً : اقتلوهم على الشبهة والظنّة ، وحتّى بات ذكر فضائلهم جريمة لا تُغتفر..» (٥٧) .

وأكثرما يجرح قلب الكاتب ويمزّق فؤاده في مواقف هؤلاء المؤرّخين هو جناية التكتّم على مظلومية الإمام علي (عليه السلام) وحذفهم لرسائل عديدة مهمّة كان (عليه السلام) بعثها إلى معاوية وحذف أخرى بين هذا الأخير ومحمد بن أبي بكر، وراح الكاتب يندَّد بموقف الطبري كمثال قائلاً : « أخفى المؤرَّخون وأوّلهم الطبري الرسائل التي جرت بين محمد بن أبي بكر ومعاوية بن أبي سفيان..

فاعتذر الطبري بعد ما ذكر إسناد الرسالتين ، بأنّ فيهما ما لا يتحمّل العامة سماعه ، ثمّ جاء من بعده ابن الأثير وفعل ما فعله الطبري ، ثمّ سارعلى نهجهم ابن كثير فأشار إلى رسالة محمد ابن أبي بكر، وحذف الرسالة وقال ( فيها غلظة) » إلى أن يقول ( أي الكاتب) : « وما فعله المؤرَّخون الثلاثة هو من أبشع أنواع كتْم الحقائق، وهو يكشف بكلّ وضوح عدم أمانتهم العلمية»(٥٨).

ولم يتردّد الكاتب في ذكر بعض فقرات هذه الرسالة التي (فيها غلظة) وينقلها عن مروج الذهب للمسعودي ، وجاء فيها : « من محمد بن أبي بكر إلى الغاوي معاوية بن صخر، وبعد الثناء على النبي وكيف أنّ الله أرسله رحمة وبعثه رسولاً ومبشَّراً ونذيراً، فكان أوّل من أجاب وأناب وآمن وصدّق وأسلم وسلم أخوه وابن عمّه علي بن أبي طالب: صدقة بالغيب المكتوم وآثره على كلّ حميم ، ووقاه بنفسه كلّ هول وحارب حربه وسالم سلمه... لا نظيرله...

أتّبعه ولا مقارب له في فعله ، وقد رأيتُك تُساميه وأنت أنت ، وهو هو، أصدق الناس نيّة ، وأفضل الناس ذريّة ، وخير الناس زوجةً ... وأنت اللعين ابن اللعين لم تزل أنت وأبوك تبغيان لرسول الله(صلى الله عليه وآله) الغواية وتجهدان في إطفاء نور الله ، تجمعان على ذلك الجموع وتبذلان فيه المال ، وتؤلّبان عليه القبائل ، وعلى ذلك مات أبوك وعليه خلفته ...» إلى أن يقول : « فكيف يا لك الويل ! تُعدل أوتقرن نفسك بعلي وهو وارث رسول الله( صلى الله عليه وآله) ووصیّة وأبو ولده، وأبو ولده أوّل الناس اتباعاً وأقربهم به عهداً ، يخبر بسرّه ، ويطلعه على أمره ، وأنت عدوّه وابن عدوّه ، فتمتّع في دنياك ما استطعت بباطلك وليمددك ابن العاص في غوايتك ، فكأن أجلك قد انقضى وكيدك قد وهم ثمّ يتبيّن لمن تكون العاقبة العليا...» (٥٩) .

أمّا رسالة معاوية في الرّد على محمد بن أبي بكر، فقد جاء فيها ، ما تهيّب عن ذكره المؤرَّخون الثلاثة المذكورون سابقاً ، ولكن الشيخ معتصم أورد بعضاً من «نصوصها كما جاء في مروج الذهب أيضاً .

نذكرمنها خدمةً للقارئ الكريم وبدون تعليق : « من معاوية بن صخر، إلى الزاري على أبيه محمد بن أبي بكر... ذكرتَ ابن أبي طالب ، وقديم سوابقه وقرابته إلى رسول الله( صلى الله عليه وآله) ومواساته إيّاه في كلّ هول وخوف فكان احتجاجك عليَّ وعيبك لي بفضل غيرك لا بفضلك ، فاحمد ربّاً صرف هذا الفضل عنك وجعله لغيرك، فقد كنّا وأبوك فينا نعرف فضل أبن أبي طالب وحقّه لازماً لنا مبروراً علينا ، فلما اختارلله لنبيّه عليه الصلاة والسلام ما عنده ، وأتمّ له ما وعده ، وأظهر دعوته وأبلج حجّته ، وقبضه الله إليه صلوات الله عليه ، فكان أبوك وفاروقه أوّل من ابتزّه حقّه وخالفه على أمره ، على ذلك اتّفاقاً واتساقاً ، ثمّ إنّها دعوه إلى بيعتها فأبطأ عنهما وتلكأ عليهما ، فهمّا به الهموم وأرادا به العظيم .

ثمّ إنّه بايعهما وسلّم لها وأقاما لا يشركانه في أمرهما ولا يطلعانه على سرّهما حتّى قبضهما الله ...» إلى أن يقول : «أبوك مهّد مهاده وبنى لملكه وساجه، فإن يك ما نحن فيه صواباً فأبوك استبدّ به ونحن شركاؤه ، ولولا ما فعل أبوك قبل ما خالفنا ابن أبي طالب وسلّمنا إليه ، ولكن رأينا أباك فعل ذلك به قبلنا فأخذنا بمثله ، فعِبْ أباك بما بدا لك أو دع ذلك . والسلام على من أناب » (٦٠) .

وهنا لا يملك الشيخ معتصم نفسه فيروح مذيعاً ما استفزّ سريرته واستصرخ وجدانه فيقول : «وقد عرفتُ بذلك السرّالذي منع الطبري وابن الأثير وابن كثير من نقل هذه الرسالة ؛ لأنّها تكشف واقع الصراع والخلاف الذي حدث بين المسلمين في أمرالخلافة ، التي هي حقّ لعلي – كما يرى طبعاً -» ويضيف: « فهذا معاوية يعترف بذلك ولكنّه يعتذر بأنّ خلافته هي امتداد لخلافة أبي بكر وشنّع بذلك على ابنه ... ولكن لا عليك يا معاوية – والكلام للكاتب - فإنْ لم يسكت محمد بن أبي بكر ولم يسترأمرك فقد سكت عنه الطبري وابن الأثير وابن كثير...» (٦١) .

وهكذا هو التاريخ والمؤرَّخون على امتداد العصور والأزمان ، يُظهرون نصف الحقيقة ، ويسدلون الستارعلى نصفها الآخر فيتركون الناس في طرائق شتّى لا يهتدي فيها الضال ولا يستيقن المهتدي ، وكلّ ذلك من أجل مصالح خاصة أو مواقف سياسية مدفوعة الثمن تروح ضحيتها الحقيقة أو المؤرَّخ ، وما أعم المؤرَّخ الذي يروح ضحيةً للحقيقة ! وما أعظم الحقيقة التي لا يعتّمها مؤرَّخ ولو غيّبها الزمن والسلاطين وسنين طويلة من عمر الدهر الخؤون!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) السيف والسياسة – صالح الورداني ، الطبعة الأولى ١٤١٧ هـ : ١٠٦ .

(٢) نظرالبخاري ومسلم – كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل علي ... وانظرالترمذي .

(٣) اُنظرصحيح البخاري .

(٤) اُنظرمسند أحمد ج ١ .

(٥) اُنظرمسلم كتاب الإيمان .

(٦) السيف والسياسة : ١٠٧ عن مسلم : كتاب فضائل الصحابة – مناقب علي وآل البيت .

(٧) نفس المصدرالسابق : ١٠٧ عن : طبقات ابن سعد ج ٢ ، ومسند أبوداوود الطيالسي .

(٨) نفس المصدرالسابق: ١٠٨، عن: طبقات ابن سعد، ومستدرك الحاكم، والإصابة في تمييزالصحابة لابن حجر، وسير أعلام النبلاء للذهبي .

(٩) نفس المصدر: ١١٠ عن الطبراني .

(١٠) نفس المصدر: ١١٠ عن البخاري مسلم ، باب فضائل علي ، ومسند أحمد ج ٢ .

(١١) نفس المصدر: ١١٠ .

(١٢) نفس المصدر: ١١١ .

(١٣) نفس المصدرالسابق : ١١١ عن مسند أحمد ج ١ .

(١٤) نفس المصدرالسابق : ١١٢ .

(١٥) نفس المصدرالسابق : ١١٢ .

(١٦) الخدعة ، صالح الورداني ، طبعة ١٩٩٥ : ٣٠ .

(١٧) نفس المصدرالسابق : ٢٩ حتّى وصل الأمرحسب قول الورداني أيضاً إلى « أن تسمع وتطيع للأميروإنْ ضرب ظهرك وأخذ مالك » عن كتاب « الامارة وطاعة الأمير» صحيح مسلم .

(١٨) الخدعة ، المصدرالسابق : ٣٩ .

(١٩) نفس المصدرالسابق : ٤٥ .

(٢٠) نفس المصدرالسابق : ٤٥ – ٥٠ .

(٢١) نفس المصدرالسابق : ٦٦ .

(٢٢) نفس المصدرالسابق :١٠٢ .

(٢٣) نفس المصدرالسابق : ١٥٣ .

(٢٤) نهج البلاغة ج ٣ .

(٢٥) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٦ ، وهم – كما هومعروف – أبوذروالمقداد وسلمان .

(٢٦) المصدرالسابق نفسه .

(٢٧) شرح نهج البلاغة ١ : ١٥١ .

(٢٨) الخلافة المغتصبة : ١٠٣ .

(٢٩) مروج الذهب ٢ : ٣٥٢ .

(٣٠) الخلافة المغتصبة ، مصدرسابق : ١٠٤ ، عن مروج الذهب ٢ : ٣٥١ .

(٣١) نفس المصدرالسابق : ٢٣٦ .

(٣٢) من تقريض الناشرللكتاب في ظهرالطبعة الثانية .

(٣٣) علي بن أبي طالب ، سلطة الحقّ : عزيزالسيّد جاسم – مقدّمة الطبعة الثانية : ١٠ .

(٣٤) نفس المصدرالسابق : ١١ .

(٣٥) نفس المصدرالسابق : ١١ .

(٣٦) نفس المصدرالسابق : ١١ .

(٣٧) نفس المصدرالسابق : ٤١ .

(٣٨) نفس المصدرالسابق : ١٢٢ .

(٣٩) نفس المصدرالسابق : ١٦٦ .

(٤٠) نفس المصدرالسابق : ١٦٨ .

(٤١) علي بن أبي طالب ، بقية النبوّة ، وخاتم الخلافة ، عبدالكريم الخطيب ، الطبعة الثانية سنة ١٩٧٨ : ٨.

(٤٢) نفس المصدرالسابق : ٢١ .

(٤٣) نفس المصدرالسابق : ٢٢ .

(٤٤) نفس المصدرالسابق : ٤٥ .

(٤٥) نفس المصدرالسابق : ٤٦ عن أنساب الأشراف للبلاذري ٥ : ٢٧ .

(٤٦) نفس المصدرالسابق : ٤٦ .

(٤٧) نفس المصادرالسابق : ٥٨ .

(٤٨) نفس المصدرالسابق : ٨٨ .

(٤٩) نفس المصدرالسابق : ١٢٦ .

(٥٠) نفس المصدرالسابق : ١٢٨ .

(٥١) نفس المصدرالسابق : ٥٦٦ عن : الإمامة والسياسة : ١ – ١٦٠ .

(٥٢) نفس المصدرالسابق : ٥٦٧ .

(٥٣) الحقيقة الضائعة : الشيخ معتصم سيد أحمد ، الطبعة الاُولى ١٤١٧هـ : ١٠٩ .

(٥٤) نفس المصدرالسابق : ١٦٥ .

(٥٥) نفس المصدرالسابق : ١٦٥ .

(٥٦) نفس المصدرالسابق : ١٧٢ .

(٥٧) نفس المصدرالسابق : ١٧٣ .

(٥٨) نفس المصدرالسابق : ١٧٩ .

(٥٩)نفس المصدرالسابق:١٧٩-١٨٠عن مروج الذهب للمسعودي٣: ٢٠تحقيق محمد محي الدين.

 (٦٠) نفس المصدرالسابق : ١٨١ عن مروج الذهب ٣ : ٢١ .

(٦١) نفس المصدرالسابق : ١٨١ .

****************************