وقال (عليه السلام): مَنْهُومَانِ لاَ يَشْبَعَانِ: طَالِبُ عِلْم، وَطَالِبُ دُنْيَا.                
وقال (عليه السلام): يَهْلِكُ فِيَّ رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ مُفْرِطٌ، وَبَاهِتٌ مُفْتَر.                
وقال (عليه السلام): قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِير مَمْلُول مِنْهُ.                
وقال (عليه السلام): زُهْدُكَ فِي رَاغِب فِيكَ نُقْصَانُ حَظّ، وَرَغْبَتُكَ فِي زَاهِد فِيكَ ذُلُّ نَفْس.                
وقال (عليه السلام): الدُّنْيَا خُلِقَتْ لِغَيْرِهَا، ولَمْ تُخْلَقْ لِنَفْسِهَا.                
وقال (عليه السلام) : هَلَكَ فِي رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ غَال ، وَمُبْغِضٌ قَال .                
وقال (عليه السلام) : مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا .                

Search form

إرسال الی صدیق
الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) والعرفان

من بين جميع الرجال الذين احاطوا برسول الله(ص) لم يؤثرعن أي منهم الولوج إلى عالم الألهيات والعرفان إلّا علي (ع) .

وكان يقول عن العلم والعلماء قولته الشهيرة (١): «هلك خُزان الأموال وهم عن العلم احياء والعلماء باقون ما بقي الدهر اعيانهم مفقودة وامثالهم في القلوب موجودة، ها إن هاهنا لعلماً جمّا (وأشارإلى صدره)»، وعرف عنه دوماً تكرار مقولته:«سلوني قبل أن تفقدوني» او قوله: «فتح لي رسول الله(ص) من العلم الف باب».

هذا التقديس لشان العلم (وما ورد على لسان الإمام (ع) حول التوحيد وما يرتبط به تحديداٌ) آثار حول الإمام (ع) شكوكاً من قبل الباحثين المعاصرين بان ما ورد في نهج البلاغة من أقوال سبقت زمن علم الكلام المعروف، وهو ابرزعلوم الحضارة الإسلامية، بدءاً من منتصف القرن الثاني الهجري، زمن الإمام الصادق (ع) .

والمرجّح أنّ الحرب المعلنة على الإمام وتراثه من خلال النظام القائم بعيد اغتياله(ع) عام٤٠هـ امتد زمناً مديداً حتى القرن الرابع الهجري زمن جمع صحيح الكافي للكليني ٣٢٩هـ ، أو نهج البلاغة من قبل الشريف (محمد بن الحسين الموسوي) ٤٠٦هـ، وتلك قرون تؤدي برأيهم إلى ضياع التراث أو تشوش النصوص وتداخلها مع الموضوع من قبل آخرين ، كيف لا وهي متلازمة مع تلك الحرب التي أدت فيما أدت إليه ألى إخفاء قبره (ع) قرناً من الزمن حتى كشف عنه الصادق(ع) عام ١٤٠هـ .

ولكن نظرة منصفة إلى واقع أهل بيت النبي بعد رحيل الإمام ، وما ابرزته النصوص التاريخية المعتمدة من قبل الجميع تثبت أن الأئمة حافظوا على تراث أبيهم ، فلم تنقطع سلسلة التوارث حتى اختفاء الإمام المهدي (ع) في منتصف القرن الرابع الهجري وآخر سفرائه علي بن محمد السمري الذي توفي عام ٣٢٩ للهجرة كما يذكرابن الأثير(٢) حول وفاة الكليني .

ولعل من الدلائل البارزة على حفظ الأئمة لتراث جدهم ما أورده ابن سعد في  كتاب طبقات الصحابة (٣) في معرض النقد للإمام الصادق «...سُئل مرة سمعت هذه الأحاديث من أبيك ؟ فقال نعم ، وسُئل مرة فقال إنما وجدتها في كتبه» . وما يهم الباحث في نص كهذا هو الجملة الأخيرة ، فقد حُفظت تلك الكتب لدى الإمام الصادق (ع) وهو السادس في الترتيب وتوفي ١٤٨هـ .

انتقاد الإمام بسبب أخذه العلم النبوي من الكتب يثير جدليه التدوين برمتها في الحضارة الإسلام ، ذلك إن الإمام علي(ع) تحدى أوامر الخلافة بمنع تدوين الحديث النبوي ، وقام هو وفاطمة الزهراء(ع) بتدوين الكثير مما سمعوه من النبي (ص) حتى أنّه كان يعلق إحدى المدوّنات في قراب سيفه(إعلاناً للتحدي) وسميت صحيفة الديات (٤) . نقل منها البخاري كما ذكرفي صحيحه .

أمّا صحيفة فاطمة فمشهورة وسميت«مصحف فاطمة » (٥) وهي عبارة عن مجموعة من أحاديث رسول الله (ص)، أكد الإمام الصادق وجودها لديه في حديثه مع جابر الأنصاري حولها (٦) .

وبما أنه ليست من مهمة هذا البحث الدفاع عن وثاقة ما أوردته الوثائق التاريخية حول ما صل إلينا من أقوال الإمام (ع) ، فإن ما يجدر بنا تأكيده أت التعامل مع تلك النصوص يجب أن يوضع في نفس السويّة التي يتم التعامل بها مع أمهات كتب التاريخ الإسلامي المعتمدة ، بما في ذلك تلك الكتب الشهيرة للحديث النبوي التي اتفق المسلمون على وثاقتها مع استمرارية إعمال العقل (حتى اليوم) ببعض ما ورد فيها منسوباً إلى رسول الله (ص) ، وفي سياق ذلك ، يوضع نهج البلاغة ، والكافي للتعامل معها سواء بسواء كغيرها من الوثائق التي عالجت التراث الإسلامي والسنة النبوية ، فليس من الإنصاف للحقيقية أن يقتصر الاتهام بالتحيّز وتحريف النصوص على أتباع مدرسة أهل البيت (ع) كما درج بعض الباحثين على التصرّف ، فليس من نص مهما كان قدمه أو وثاقة صاحبه فوق النقد والعقل ، ويجب أن يوضع الجميع على ذات الأرضية بما في ذلك تحميل أولئك الذين منعوا التدريس في صدر الإسلام ، المسؤولية الكاملة على ما لحق بتلك المرحلة التاريخية من تشويش حتى بدء التدوين للحديث النبوي عام ٩٩هـ بأوامر من الخليفة عمربن عبدالعزيز رحمه الله ، أم  تدوين مختلف العلوم عام ١٤٣هـ كما يقول الذهبي (٧) .

نهج البلاغة وهو ما يمكن اعتباره الأعمال شبه الكاملة للإمام علي بن أبي طالب (ع) ثم ما ورد مرفوعاً إليه في صحيح الكافي ترقى إلى مرتبة الوثاقة ، ليس استناداً إلى مقاييس البحث التاريخي المعتمدة في أمهات الكتب المشهورة وحسب بل لأن للإمام (ع) أسلوباً في صياغه كلانه أجمع المؤرخون على تفرده فيه ، ووصّفوه بالبلاغة : لهذا يسهل توثيق مرجعية ما نسب إليه أنها صادرة منه بمقاييس حديثة في المدرسة النبوية في الأدب ودراسة مجتمع النص .

فإذا كانت أحاديث رسول الله (ص) المعتمدة في الصحاح يخضع كثير منها لصياغة جديدة من الرواي ( أي رواية الحديث بمعناه وليس بنصه الأصلي تبعاً لقوة ذاكرة الرواي) فإن كلام الإمام (ع) لا يمكن أن يؤخذ إلا بالنص الذي صدّرمن قائله مباشرة، فلا يتساوى الرواي والإمام (ع) في البلاغة مهما كانت مقدرة الأول في اللغة العربية .

إن روحية نصوص (النهج) والأحاديث تؤشر بالمطلق إلى المصدر، وإلا لأمكن للباحثين حديثاً اكتشاف الاختلاف في بنية النص ، تماماً كما يقال عن صحة نسبة أي نص أدبي إلى كاتبه ، والدراسات في هذا الموضوع متعددة ولها باحثوها ومدارسها المتخصصة .

وعلى هذه القاعدة تبنى جدلية ما نسب إلى الإمام علي (ع) من أحاديث في الإلهيات، والتي اُعتبرت المصدر الوحيد لعلم الكلام الإسلامي برمته ، أما لماذا هو وحده وبإجماع ؟ ، فتلك مسألة تتعلق باتفاق الجميع على أنه المرجع الوحيدن والمعلم وحامل علم رسول الله (ص) بالمطلق ، فلم يناقشه أحد من الصجابة في هذه المرجعية ، أما الأخرون الذين أصبحوا مرجعيات في الحديث أو تفسير القرآن أو اللغة العربية ، كان ابن عباس ، وأبو الأسود الدولي (علم النحو) وغيرهما فهم تلاميذه وبالإجماع التاريخي .

تروي مدرسة الاعتزال الحديث التالي للإمام علي (ع) تدليلاً على ريادته في علم الكلام و...الأصول الإسلامية ، في مسألة شائكة كالقضاء والقدر(٨)، وهذا النص موجود أصلاً في نهج البلاغة ، الحكمة ٧٥ : (سأله جندي من الشام : اكان سيرنا إلى الشام بقضاء من الله وقدر؟ فأجاب :« ويحك لعلك ظننت قضاء لازماً وقدراً حاتماً ، ولو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب وسقط الوعد والوعيد ، إن الله سبحانه أمرعبادة تخييراً ، ونهاهم تحذيراً ، وكلف يسيراً ولم يكلف عسيراً ، وأعطى على القليل كثيراً ، ولم يًعص مغلوباً ولم يُكع مكرهاً ، ولم يرسل الأنبياء لعباً ولم ينزل الكتب للعباد عبثاً ، ولا خلق السماوات والأرض ، وما بينهما باطلاً ، ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار» .

الإمام علي (ع) يقدم إجابة كهذه ، أثارت البحث العلمي في الإلهيات وأسست مدرسة شهيرة (الاعتزال باعتراف أساطينها) في ثقة بالنفس والعلم لم يجرؤ عليها أحد في زمانه ، ومثل ذلك كان المؤسس المدرسة الزهد والتصوف والعرفان والنحو العربي ، والحكمة وربما الطب والكيمياء بسبب ظهور مرجعيتها لأحد أحفاده (الإمام الصادق باعتراف مؤسس الكيمياء العربية جابر بن حيان ) (٩) .

كان الإمام (ع) رائد الإجابات الصعبة والذي عرف عنه التحرش بمريديه والمسلمين طالباً إليهم سؤاله قبل أن يفقدوه .

التوحيد :

قدم الإمام (ع) نظرية في التوحيد من خلال ما طالعنا به نهج البلاغة وصحيح الكافي مستنداً إلى مفهومه عن العقل وكيفية تقديرالإسلام له ، ولعل الحديث الأبرز هوما جاء على لسان رسول الله (ص) متطابقاً مع نص للإمام علي والصادق (ع) وغيرهم من أقطاب أهل بيت النبي الإثني عشر(ع) في تمجيد العقل ، ولعل بدء الكافي في بحديث للإمام الصادق أبرز مدخل لموضوعنا :« لما خلق الله العقل استنطقه ثم قال له : أقبل فأقبل ثم قال له : أدبر فأدبر ثم قال : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هوأحب إليَّ منك ولا اكملتك إلا فيمن أحب أما إني وإياك أنهي وإياك أعاقب واياك أثيب » (١٠) .

هذا الحديث مرفوع لرسول الله (ص) لدى الشيخين بصيغة مشابهة ، أما حديث الإمام علي (ع) في ذات الموصوع فهو : «هبط جبريل على آدم فقال : يا آدم إني أمرت أن أخيرك واحدة من ثلاث فاخترها ودع اثنتين ، فقال آدم يا جبريل وما الثلاث ؟ فقال : العقل والحياء والدين ، فقال آدم ، إني قد اخترت العقل ، فقال جبريل إنا أمرنا أن نكون مع العقل حيث كان ، قال : فشأنكما وعرج » .

هذه الرمزية التمثيلية قصد منها الإمام الأهمية المطلقة للعقل ، ذلك أن كل مفهوم التوحيد ، وهو أول الأصول الإسلامية ، يستند على العقل ومكوناته، وعليه تأسست نظرية التوحيد الإسلامي التي اتسمت بالإطلاقية بما يخالف كل الأديان السماوية والوضعية الأخرى .

الإجابة عن الأسئلة المتصلة بالذات الإلهية والمصيرالإنساني والزمن كانت موضوعات هذا العلم ، وارتقت إلى سدة الأهمية مما جعلها تحمل مفهوم الأصول، بينما حملت كل الموضوعات الإسلامية الأخرى مفهوم الفروع ، ويستند الفرع على الأصل ويتبع منه ، لهذا كان علم الكلام الإسلامي ، إطار الفلسفة الإسلامية ، من أهم العلوم التي أحاطت بما اعتبرأنه الفروع : وأعني به علم الحديث ، والتفسير، واللغة المتصلة بتفسيرالقرآن أو تأويله ، والفقه بأنواعه إنى آخرما هناك من علوم تتصل بالدين وتكوين ما سمّي بالمؤسسة الدينية الإسلامية أو رجال الدين .

لقد أثار علم التوحيد جدلاً كبيراً عند نشؤئه إلى درجة مطالبة بعض الفرق الإسلامية في عصره المبكر برفض الخوض فيه أو قبول الأسئلة الأنسانية المطروحة في سياقه ، وكانت حجتهم أن مكونات هذا العلم لم تكن مطروحة في زمن الرسول أو الخلفاء الراشدين هؤلاء هم الذين وقفوا في وجه تدوين الحديث النبوي ، أو أي تطور حضاري  إسلامي لاحق ، ولكن حركية الظروف فرضت نفسها أخيراً باتجاه النضج .

في معركته نحو تحقيق مضمون السنة النبوية تحدث الإمام (ع) كثيراًعن فضل العلم والعلماء والتدوين ، وحتى أننا نلمس في بعضها صيغ التحدي المستمر للظرف المحيط وهوما اشتمل عليه حديث كهذا على سبيل المثال : « عالم يُنتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد» (١١) .

ومثله هذا الحديث المرفوع إلى رسول الله (ص):« من سلك طريقاً يطلب به علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة ، وأن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً به وإنه يستغفر لطالب العلم من في السماء ومن في الأرض حتى الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمرعلى سائر النجوم في ليلة البدر، وإن العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورثوا العلم ، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر...» (١٢).

أما طبيعة الفضل في العلم على العابد فقد حددها الإمام (ع) والرسول (ص) كلاهما بعلم الدين وأصوله وفروعه ، ولعّل فهم جوهر التوحيد هوالأصل في العلم كما تدل عليه كل الأحاديث حول هذا الموضوع، فالقرآن الكريم كتاب يحتل فيه التوحيد الشطرالأبرز، لأنه مدخل المؤمنين إلى فهم المطلق (الله) سبحانه وإثبات وجود والاقتراب منه (فلا راحة لمؤمن إلا بلقاء ربه) كما قال الرسول (ص) والإمام (ع) ، وهذا (اللقاء) هو كنه عملية فلسفة التوحيد برمتها .

يُعرف الشهرستاني (١٣) التوحيد بأنه معرفة الله تعالى بوحدانيته وصفاته ، ومعرفة الرسل وبيناتهم أوبالجملة أنه كل مسافة يتعين الحق فيها بين المتخاصمين فمن تكلم في الطاعة والشريعة كان فروعياً ، فالأصول موضوع علم الكلام والفروع موضوع علم الفقه ، فكل معقول يتوصل إليه بالنظروالاستدلال فهو من الأصول ، وكل ما هو مظنون يتوصل إليه بالاجتهاد فهو من الفروع .

هذا التعريف يحيط بالموضوع بدقة رابطاً التوحيد بالعقل لأنه جوهر الأصول ، ولكن الأهم في نصه أن يؤكد أن الاختلافات في هذه المسألة حدثت أمام الصحابة وأن الإمام الحسن (ع) تحدث في القضاء والقدر

( وهو علم ورثه عن أبيه بكل تأكيد) وأن المعتزلة (أكبر مدرسة أهل البيت (ع)، رغم اختلافهما فيما بعد في بعض جوانب علم الكلام ، خاصة في سلوكهم التحالفي مع الخليفة المأمون .

لم يكن علم التوحيد سهلاً على الإفهام ، هو علم النخبة والقلّة ، كما هو شأن العلوم كلها ، وكان الإمام علي (ع) سيّد الموحدين كما نلمس في نهجه ، وفي النص الأول من هذا النهج ، بل أنه منبع كل مدارس العرفان (التصوف) في التاريخ الإسلامي ومرجعها الأوحد (١٤) .

ولأن التوحيد علم النخبة الإسلامية فقد دارت كل الأحاديث النبوية والأئمة على تمجيد هذه النخبة ، ورفعها إلى مصاف النبوة بالوراثه وتفضيلها على مجرد ممارسة طقوس العبادة ، إنها فهم الله الخالق أو التقرّب إلى فهمه .

وكم هي دروب هذا الفهم شاقة ومضنية للمريد الساعي الى العلم .

نص للتحليل والمقارنة : في الخطبة الأولى وفي الخطبة التي تحمل الرقم ٢٨ نقتبس فقرات معينة للتحليل لأنها تحتوي جذور الاختلاف في الإسلام حول مفهوم التوحيد تلك الفقرات التي أثارت من الجدل ما ميّزعلى أسسه علم الكلام في الإسلام والذي يحتل التوحيد فيه قطب الرحى ، والذي مثل قمة ازدهار الحضارة الأسلامية بلا جدال .

يقول الإمام : « الحمدلله الذي لا يبلغ مدحته القائلون ولا يحصي نعماءه العادّون ولايؤدي حقه المجتهدون (...) أول الدين معرفته وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده وكمال توحيده الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كصفة أنها غيرالموصوف ، وشهادة كموصوف أنه غير الصفة .

فمن وصف الله فقد قرنه ومن قرنه فقد ثناه ومن ثناه فقد جزأه ومن جزأه فقد جهله ، ومن أشار إليه فقد حدّه ومن حدّه فقد عدّة ، ومن قال فيه ؟ فقد ضمنّه ومن قال على من ؟ فقد أخلى منه ، كائن لا عن حدوث ، موجود لا عن عدم ، مع كل شيء لا بالمقارنة ، وغير كل شيء لا بمزايلة فاعل لا بمعنى الحركات والآلة ، بصير إذاً لا منظورإليه من من خلقه ، متوحد إذاً لا سكن يستأنس ولا يستوحش افقده...».

ويقول عليه السلام عن الذات الإلهية : « يقول ولا يلفظ ويحفظ ولا يحتفظ ويريد ولا يضمر ويريد ولا يضمر يحب ويرضي من غير رقة ويبغض من غير مشقة ، يقول لما أراده كن فيكون ، لا بصوت يقرع ولا بنداء يسمع إنما كلامه سسبحانه ، فعل منه أنشأه ومثّله لم يكن من قبل كائناً ولو كان قديماُ لكن إلهاً ثانية » .خ ٢٨ ص ٢٧٧ .

هنا لابد من الإشارة إلى أن الجملة الأخير دفعت بعض المؤرخين إلى التشكيك في نسبة نهج البلاغة للإمام (ع) بسبب وضوحها الكامل في حسم مسألة كلام الله فإنّ يحدث (فعلي منه أنشأه) وليس بالقديم ، وهي مسألة خلق القرآن التي شطرت مرحلة نهاية القرن الثاني وبداية القرن الثالث الهجريين في صراع بين المعتزلة ومدرسة أهل البيت (ع) من جهة وجمهور السّنة والجماعة في خضم بلورة المذاهب الفقهية الإسلامية وظهور ما سمي بالأشاعرة . ومن أجل التوضيح نورد خلاصة مكثفة لعلم الكلام الإسلامي بالمقارنة مع نظرية الإمام عليّ (ع) حتى اليوم.

وبالاعتماد على جهود الفخرالرازي (١٥) في هذا الموضوع كمرجع أشد وثاقة وموضوعية ، يمكن الاكتفاء بالآراء المتضمنة مع التبسيط غير المخل ، مع متابعة الجزم بأن لا فائدة على الإطلاق من التشكيك بالنسبة للمرجع وهو الإمام (ع) حول كلامه مادام رموز مدرسة أهل البيت (ع) قديماً أجمعوا على صحة النسبة ومصداقيتها ، وتابعها في ذلك المعاصرون .

وهذا الإجماع لا يفيد في زعزعته أي تشكيك قُصد منه مجرد حجة إبطال الرأی الآخر، مادام العقل الإنساني هوالمقياس الأخير وفيه الكفاية ، ولا يجدي على الإطلاق التشكيك في أهلية هذا المقياس الذي بُنيت عليه أصلاً جوانب علم التوحيد في علم الكلام لدى جميع الأطراف ، فكيف يجوز أصلاً أن يتم التشكيك بمقدرة العقل على الوصول إلى نتائج منطقية بواسطة وسائل مستنبطة من هذا العقل ذاته ، كما فعلت مدرسة الأشاعرة بأساليب تتسم بالسذاجة الغريبة ، ما دام علم الكلام باتفاق الجميع هو.... الأصول الإسلامية .

معرفة الله واجبة لانها أول الدين وجوهرهذا الدين ، ومن هنا اشتق اسم العرفان الذي يشتمل على العلوم جميعاً ، معرفة الله هي معرفة مخلوقاته ويتصل بها العلم والنظر في هذا الكون كما أمر الله سبحانه بكافة وسائل

النظر والتجريب المتاحة ، ويقدم الإمام (ع) (التصديق بالله) تاليه ثم التوحيد ثالثاً ثم الإخلاص رابعاً ، وأخيراً نفي الشبهات عنه ، ومن هذا كان مدخل جدلية الذات والصفات الأكثر شهرة في علم الكلام .

هذا العرفان لله قاد الإمام (ع) إلى طرح نظرية الزهد بالدنيا ونبذها ، ولم يكن يعني بذلك مفارقتها ، بل استغلال برهة الممر الذي تمثله في الزمن السرمدي لاكتساب المعرفة وعبادة الخالق المطلق اللامتزمن ، لهذا وجدنا للبعادة بأنواعها وطقوسها مكانها البارز في أحاديث الإمام (ع) ، فكيف نظر المتكلمون إلى مسألة المعرفة ؟ أجاب الإمام الغزالي عن سؤال هل من ضرورة لمعرفة الله .

وهو العرفاني الأبرز- بلا ضرورة لذلك، والحقيقة أنه كان يتوجه إلى العامة والغالبية بنظريته هذه أما الأشاعرة والمعتزلة فأجابوا بضرورة هذه المعرفة ، ولكن تتم معرفة وجوده لأنه عين ذاته ، فلا بد أن نعلم ذاته ما دمنا نقرِ بوجوده وإلا لكان الشيء الواحد بالاعتبارمعلوماً ومجهولاً ، فأما أن نعلمه بالسلب كقولنا ليس بجسم وليس بغرض إلى آخر ما هنالك من صفات سلبية للذات الإلهية ، أو نعلمه بالإضافة ( صفات الإيجابية) العالم ، القادر الغني...إلخ .

وهؤلاء يضيفون أن العلم بماهية الصفة لايستلزم العلم بماهية الموصوف .

من جهة أخرى يتساءلون هل الله سبحانه خاذع للتصور. ويجيبون بلا، ذلك أن التصور يقع تحت سيطرة الحواس ، ولا يمكن أن نتصور شيئاً لا تدركه حواسنا أو نجده في نفوسنا أو تركبه عقولنا حتى يأخذ شكل صورة مجسمة تساهم فيها الحواس والعقل بمعطيات تلك الحواس ، ولأن الذات الإلهية خارج معطيات الحواس تحديداً فهو ليس معلوماً كماهية .

يقول ابن سينا متطابقاً مع ما سلف : إن ماهية الله عين وجوده والوجود مسمى مشترك بين كل الموجودات، وامتاز عن الممكنات بقيد سلبي هو أنّ وجود غير عارض لشيء من الماهيات، وسائر الموجودات عارضة .

وصف ابن سينا بالسيد الرئيس واشتهركطبيب ولكن العرفان في زمن ازدهارعلم الكلام تطابق مع العلم الدنيوي، وكان لابد أن يكون العالم عرفانياً وهو ما لمسناه لدى الغالبية العظمى من النخب العلمية لعصر التنوير الإسلامي .

وبالعودة لنظرية الأشاعرة حول ذات الموضوع فهم يقولون : « أن مخالفته لغيره لو كانت بصفة ما لحصلت المساواة بالذات ، ولو كان كذلك ، لكان اختصاص ذاته بما به يخالف غيرها ، وإن لم يكن الأمر كان غنياً عن السبب وهو محال» .

وهذا يعني أنه يخالف غيره حتى بالصفات الإيجابية كالعلم والقدرة ، فهي عنده سبحانه ليست كما عند غيره ، وتحديداً كمخلوقاته كالإنسان العاقل على سبيل المثال .

لأن علم هؤلاء وقدرتهم لو ( تشابهت) مع صفات الله لحصلت مساواتهم معه بجوهره.

والحقيقة أن هذا التنزيه المطلق بين الإنسان والذات الإلهية فيه الكثير من التعسف والسذاجة ، وجاء بهدف دحض نظريات العرفانيين (المتصوفة) في وحدة الوجود ، أو التوحد بالذات الإلهية كما رأيناها عندهم وأبرز تجلياتها كلمة الحلاج (ليس في الجبة غير الله) .

في الإنسان تبعاً للقرآن الكريم شيء من ذات الله( ثُمَّ نَفَخَ فِيِهِ مِن رُّوحِهِ) عن النبي عيسى (ع) أو كما قال الإمام (ع) فيما قدمنا عن خلق آدم  بعد جبل طينته (ثم نفخ فيها من روحه) أي من ذاته .

هذا الجزء الإلهي في البشر متفق عليه لدى كل العقائد ، وأكدته أيضاً الفلسفة اليونانية بتحدث أرسطو عن خلود الذاكرة التي هي الروح أوالعقل ، والتي سوف تخضع للحساب يوم الدينونة كما أقرالإسلام.

ومع ذك فأين تقع الذرة المتناهية في الصغر الموجودة في الإنسان من ذات الله قياساً للمطلق الهائل اللطيف الخبيرالذي هو الخالق ؟؟ برغم التباين فهنالك حالة من التناظر وليس المساواة بين الخالق والمخلوق، ففي هذا الكائن تتموضع الحياة والروح وهي أكثر الأشياء لدى العلم والبحث العلمي ولم يشأ سبحانه أن يعرفها إلا عليى الشكل التالي:( وَ يَسْئَلُونَکَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ ما أُوتيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَليلاً) .

وقال رسول الله (ص) في حديث يركز عليه شيخ العرفانيين محي الدين ابن عربي « لايزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت عينه التي ينظربها ، ورجله التي يمشي بها ويده التي يبطش بها..» هذا الحديث صحيح ويرويه الشيخان البخاري ومسلم وجاء لدى الكافي على لسان الأئمة بأشكال أخرى.

إذن هنالك اتفاق بين المسلمين على إمكانية توحد الإنسان بالله وصولاً إلى امتلاك قدرته بإذنه ، فأين تقع المباينة بينهما إذن ؟ .

يقول الإمام علي (ع) عندما سُئل بَم عرفت ربك؟ قال : « بما عرّفني نفسه ، قيل : وكيف عرفك نفسه،قال : لا يشهبه صورة ولا يحس بالحواس ، ولا يقاس بالناس ، قريب في بعده بعيد في قريه ، فوق كل شيء ولا يقال شيء فوقه ، أمام كل شيء ، ولا يقال له أمام داخل في الأشياء ولا كشيء داخل في شيء، وخارج في الأشياء ولا كشيء داخل في شيء ، وخارج من لأشياء لا كشيء ، خارج من شيء سبحان من هوهكذا ولا هكذا غيره ولكل مبتدأ» . من الكافي ، ص ٨٦ .

ملاحظ في كلام الإمام (ع) تلك الدقة العجيبة في رسم حدود المبانية في إطار معرفة الله .

أهمها المباينة في مادة الخلق ، وهو خالقها ، فلا يمكن أن يُدرك بالحواس ، ولكنه يُدرك بأشياء أخرى كما سنرى في قضية (الرؤية) ولا يمكن أن يعبد الله دون إدراكه بوسيلة ما ، ذلك إن الإيمان بوجوده لا يكفي كما أجمع المتكلمون .

والإمام في أحاديثه يؤكد أن معرفة الصفة تؤدي إلى معرفة الموصوف لاتحاد الذات والصفات في التوحيد .

وفي علم التوحيد يورد الأشاعرة  تفاصيل أخرى : أن الله غيرمتحيز، ولا يتحد بغيره، ولا يحل في شيء ، وليس في جهة ولايجوز قيام الحوادث بذاته ، وهذه الصفة الأخيرة تناقض مفهوم الزمن ، وكلام الإمام (ع) معاً (داخل في الأشياء لاكشيء، وخارج من الأشياء لاكشيء) ، فلأن الله خالق الزمن رغم أنه خارجه يأتي إبداع الارتباط بين المتزمن واللامتزمن بل لعل الزمن هو أروع إبداعات الخالق وأكثرها بعداً عن الإحاطة بالعقل الإنساني ، لهذا ظهرت الخلافات بين المتكلمين ، ذلك أن العقل في تركيبه تكوينات معطيات الحواس التي يؤكد الإمام (ع) بعد الله سبحانه عن أن نحيط به ، فلم يقدروا (غفرالله لهم) على تعليل مسألة قيام الحوادث بذاته أو خارجها أو( أنه لا يحل في شيء بينما يؤكد الإمام أنه داخل فيها ولا كشيء) .

هذا الشيئية المربكة للتعريف المادي ، جعلت التفسير لحلول الله في الأشياء مشوشاً عند كثير من نخبهم وخاصة الأشاعرة ، فكيف حلت روح الله في الإنسان وهو مجرد شيء؟ وكيف لاتقوم الحوادث بذاته وهوالمطلق (قريب في بعده بعيد في قربه) كما يعبرالإمام (ع) .

هذا القريب جداً (أقرب إليكم من حبل الوريد) كما يقول الله ، هل يفسر لمجرد قربه بأدواته (الملائكة) أم  بذاته المطلقة التي هي في كل مكان، وأين يمكن أن تكون الحوادث ومنها الإنسان بذاته واقعة إلا في ذات الله ، مع المباينة في الماهية ؟؟

لقد أرادت بعض فصائل المتكلمين في التوحيد أن تقونن من لا يخضع للقوانين وهو الله ، وبذلك ابتعد كثيرمنهم عن الصوابيه والمنطقية والعقلانية أخيراً (سبحان من هو هكذا ولاهكذا غيره) كما قال الإمام (ع) .

يقول الله سبحانه ( وَسِعَ كُرْسِيُّةُ ألسَّمَوَات وَالأَرضَ) ، وإذا أردنا تفسيرالكرسي بالعلم كما أجمعت مدرسة أهل البيت (ع) فهل ينفصل العلم عن العالم .

تلك أسئلة مؤرقة سمى ويسمى السائرون إلى معرفة الله الإجابة عليها حتى اليوم ، وقد أجاب الإمام (ع) بما يكفي لمن أراد معرفة حقيقية .

يقول الإمام (ع) في خطبته عن ذات الله « كائن لا عن حدث موجود لاعن عدم ، مع كل شيء لابمقارنة وغيركل شيء لا بمزايلة ، فاعل لا بمعنى الحركات ، بعيد إذ لا منظورإليه من خلقه » .

لقد أراد الإمام (ع) أن يقدم الذات الإلهية ببساطة على ريب أنها مخالفة في وصفها لدلالات اللغة الحسية ، الحس الذي بُنيت عليه اللغات الإنسانية يقود الباحث عن العرفان إلى مأزق التجسيم ، وقد وقع كثيرون فيه ، وشكل بالنسبة لعلماء الكلام حالة تبادلوا فيها التهم التي وصلت إلى مرتبة التكفير والملاحقة ، تماماً كما جرى مع أحد تلاميذ الصادق (ع) وهو هشام بن الحكم ، بينما انزلقت مدرسة الأشاعرة إلى هذا التجسين ورفض التعليل ، والتوقف عند المشكلات الكبرى التي تحتاج إلى بيان (١٦) .

علماً أن هشاماً لم يكن تجسيمياً  ودافع عنه الإمام الكاظم (ع) ودعا له الإمام الصادق (ع) قائلاً : « لازلت مؤيداً بروح القدس ما دمت تنافح عنا أهل البيت (ع) ».

الإمام (ع) هنا ينفي إمكانية ارتباط كنه الذات الإلهية بالمشاعرالإنسانية ، وكذلك في نفيه للتوافق الألهي مع السلوك الإنسان نفسياً وحركياً ، كل ذلك من أجل إطلاقية تنزيه سبحانه وتوحيده الأكمل (كما توحيده الإخلاص له وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه) ولا تنفى الصفات عنه – ونحن كبشر مقصورون على وصفه - إلا عبر إقرارنا بعجز اللغة وإضافة حتمية وحدة الذات والصفات ولاشيء آخر لأن الإقراربانفصال الصفات يعني الإقرار بآلهة أخرى كما جزم الإمام (ع)،واضعاٌ قواعد التوحيد في خطوط عريضة أمام نظر كل من أراد التوسع في التفاصيل ، وهو ما قام به المتكلمون وما اختلفوا فيه حوله .

حول رؤية الله :

يقول الإمام (ع) « الله بصير إذ لا منظورإليه من خلقه ، ويقول تبعاً لما جاء في الكافي ج  ، ص ٩٨ للخبرالذي سأله : يا أميرالمؤمنين هل رأيت ربك جين عبدته ، قال :«ويلك ما كنت أعبد رباُ لم أره»، قال : وكيف أيته ، قال : « ويلك لا تدركه العيون في مشاهد الإبصارولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان».

النظر في الرؤية متبادل بين الناظر والمنظورإليه ، إلا مع الخالق سبحانه ، ولكنها في إطارالتبادل بكيفية مختلفة.

وفي مجال فسيح من التأويل بين ظاهر آیات القرآن الکریم وقیقتها استمرالجدل حتى يومنا .

يقول سبحانه : (وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعلَى) النجم (وُجُوهٌ يَؤمئِذٍ نَّاضِرّةٌ (٣٣) إلَى رَبَهَا نَاظِرَةُ) القيامة (إنَّهُم عَن رَّبَهِم يَؤمَئذٍ لمَحجُوبُونَ) المطففون ،ولعل الآية الأخيرة أكثروضوحاً من أن تؤول لشيء آخر غير رؤية إو إدراك من نوع مختلف عن البصر.

لقد نسب إلى رسول الله (ص) حديث يقول :« ترون ربكم يوم القيامة كما تشاهدون البدر لا تضامون».

وربما فسر ظاهرهذا الحديث بالرؤية البصرية ، وقد أصرعلى ذلك الأشاعرة كثيراً مما يقود إلى التجسيم والحيّز والمكانية بلا جدال ، وهي صفات اتفق على نفيها عن الله سبحانه بالصفات السلبية ، أما إذا عدنا إلى التوفيقية التي نشاهدها عند بعض المحدثين ، كأحمد أمين (١٧) ، بأن من المحتم رؤية الله ، أو أن العدالة تقتضي أن يكافأ المؤمن برؤية خالقه بناء على وعدالله لعبادة المخلصين ، بما في ذلك عقوبة الكافرين بعكس ذلك ، وأن تتم الرؤية بكيفية ما ، ليس البصرالعادي منها ،فإن الموافقة على تلك النظرية يلغي الجدل الدائرأصلاً حولها ، وتتفق مع وجهة نظرالإمام (ع) بالرؤية القلبية أو(حقائق الإيمان) وهو ما يتصل بالتوحيد في جوهره عن معرفة لاحدود لها بالذات اإلهية عند الرجوع إليها في نهاية مطاف النفس الإنسانية ، أو الروح التي منحت هذا الإنسان حياته ، وقد عادت إلى بارئها لأنها نفحة منه ، أو جزء من ذاته ، ذرة ضئيلة عاقلة التحمت بالمطلق .

أما في النظرية الإسلامية حول البعث بالأجساد الإنسانية المعروفة في جنان الخلد أو الجحيم على حِدِ سواء فإن النظرالإنساني يستحيل عليه أن يشاهد خالقه المطلق لاستحالة الاحتواء أو التجزؤ لهذا المطلق، بل ينبغي الاتصال متعلقاً (بحقائق الإيمان) التي لم يستطيع العقل الإنساني يستحيل الإحاطة بها وبتفاصيلها حتى اليوم.

وهو ما يعزز قول الإمام (ع) ومدرسة الأئمة (ع) ويمنحها المصداقية المطلقة .

يقول سبحانه : (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ )الأعراف ١٤٣.

هذه الآیة الكريمة تحسم مسألة النظر بالعين المجردة باتجاه الاستحالة ، وتصم أولئك الذين جادلوا في الرؤية وإمكانيتها بالعين المجردة التي يفترض أن تلازم الجسد المبعوث يوم القيامة بما هي عليه ، بالبعد عن العقل أوما أطلق عليهم من توصيف (الحشوية) .

الكلام :

من أهم صفات الله سبحانه ، وقد تحدث عنها الإمام باستفاضة حول كلام الله : « بأنه فعل منه أنشأه ومثّله ولم  يكن من قبل كائنا ، ويقول كن فيكون لابصوت يقرع وبنداء يسمع ...» هو ببساطة صلة ما بالمخلوقات تحمل معنى الفعل أكثرمنها ألفاظاً تتكون من حروف أبجدية أو لغة محكية إنسانية ، وذلك ما يلائم كلام العليّ القدير في التوصيف .

عندما بدأ الجدل حول الكلام قالت الأشاعره ومعهم جميع مذاهب السنة والجماعة أن هذا الجانب الإلهي أو الصفة الألهية قديمة قدم الخالق ، أي أنها بعيدة عن الحدوث في الزمن ، ومثل ذلك القرآن الكريم بصفته كلام الله ، فهو في الذات الإلهية منذ القدم ولا يمكن أن يكون مخلوقاً أو حادثاً أو متصلاً بالزمن .

والحقيقة أن الزمن في الله موضوع من أعقد موضوعات علم الكلام ، ولا يمكن أن توصف ماهية الكلام دون ربطه بماهية الزمن والحدوث ، ولهذا شهد هذا العلم آلاف الصفحات والصراعات والشهداء أيضاً حول الكلام في ذات الله أهو مخلوق حادث أم قديم، عقلانية الإمام (ع) حسمت هذا الموضوع باتجاه الحدوث وربطته بالزمن ، وإلا لأصبح الكلام كصفة ثبوتية من صفات الله (إلهاً ثانياً) كما عبرالإمام (ع) مادام قد انفصل عن الموصوف وهوالله ، ونتعامل معه (أي الكلام في القرآن) بالحواس فما دام أصبح هو كذلك شكلاً ومضموناً فهو مخلوق حكماً .

يقول الأشاعرة في هذا الموضوع :« إن كلام الله قديم لأن الكلام لوكان محدثاً لكان إما أن يحدث في ذات الله تعال فتكون الذات محلاً للحوادث وهومحال أو إن الكلام لا يحدث فيه وهو محال أيضاً » .

ماهو الحل إذاً ، يضيف الأشعري : « الكلام صفه وصفة الشيء يستحيل إلا تكون حاصلة فيه وإلا لجاز أن يكون الجسم متحركاً بحركة قائمة بالغير وذلك محلل فلابد أن يكون الكلام قديماً حتى تنتفي عن الله صفة الحركة » .

والواقع أن الأشعري رحمه الله ، وقد عجزعن حل جدلية الحدوث في ذات الله، وارتباط ذلك بالحركة والزمن ، وحتى ينفي عن الله سبحانه وتعالى الحركة ليبتعد عن التجسيم التحيز، وضع الكلام في مرتبة الصفات الواقعة في ذات الله ، أي ببساطة أنه أقرّ بأن الذات هي عين الصفات ، وإن الصفات ليست أحوالاً كما وصفها في مقدماته .

ولست أدري لِم يقبل أولئك الذين نهجوا تلك المدرسة إطلاقية الذات الإلهية ودفعوا باتجاه تحييزها دون أي يقصدو ذلك ، أو بقصد ، غفرالله لهم . فما دام لق الإنسان والكون أمر حادث له بداية ونهاية وحركة ، وكل ذلك مرتبط بالزمن ، فلماذا رفضوا اعتبار طريقة مخاطبة الله لخلقه مادامت إرادته تمت بأن يتعامل معهم بهذه الطريقة ، خاصة مع النبي موسى (ع) مباشرة أو مع رسول الله (ص) عبر واسطة الملائكة من خلال كتاب وصفه هو بأنه كلامه ، اعتبروها صفة قديمة كذاته .

هذا الجدلية التي تأسست على كلام الإمام (ع) والتي أثارت عندما وضعت على محك العقل كل تلك المشكلات إلى درجة الفتنة ، قدم لها أقطاب مدرسة أهل البيت (ع) حلولاً دقيقة ومنطقية ، اخترنا منها رأي الإمام السيد الخوئي (رض) (١٨) « كلام الله حادث لأن الكلام من الصفاات الفعلية التي يمكن أن يتصف بها الله في حال وبعدمها في حال أخرى ، ومنها الرزق والخلق ، فيقال أن الله خلق كذا ولم يخلق كذا وكلم فلاناً ولم یكلم آخرإلى آخر ما هنالك .

الكلام من الصفات الثبوتية فعلاً ولكنه لا يدرج في الصفات الذاتية التي يستحيل أن يتصف بنقيضها كالعلم والقدرة والحياة ، وبما أن الأشاعرة عللوا المسألة بالكلام النفسي - الذي يصح وصفه بالقديم .

 فإن الرد أنه ليس هنالك كلام نفسي يختلف عن الكلام اللفظي ، فكلاهما قيام الفعل بالفاعل ، وهنا لا يصح إطلاق المتحرك على موجد الحركة ، بالتالي لا يستلزم عدم صحة إطلاق المتكلم على موجد الكلام » .

الإمام الخوئي يستند على حديث للإمام الصادق (ع) في الكافي ينص على ما يلي : « لم يزل الله عزَّوجلَّ ربنا ، والعلم ذاته ولا معلوم ، والسمع ذاته ولا مسموع ، والبصر ذاته ولا مبصر والقدرة على المقدور.

قال : قلت : فلم يزل الله متحركاً ، قال : فقال : تعالى الله عن ذلك ، إن الحركة صفة محدثة بالفعل ، قال : قلت فلم يزل لله متكلماً ؟ قال : فقلت : إن الكلام صفة محدثة ليست بأزلية ، كان الله عزّوجلّ ولا متكلم».

وعلى هذه القاعدة يمكن أن نؤكد أن الإمام علي بن أبي طالب (ع) أجاب هو وأبناءه (ع) على أصعب وأدق الأسئلة المتعلقة بالذات الإلهية ، وما حدث الإمام الصادق (ع) الذي هو بالتبعية حديث علي كما يقول الإمام (ع) : « حديثي حديث أبي حديث جدّي حديث أميرالمؤمنين حديث رسول الله » مستنداً على النقل والعقل معاً ، والذي استند عليه السيد الخوئي ويعدّ أروع ما قاربت به مدرسة أهل البيت (ع) حلّ مشكلة الزمن والخلق بما في ذلك جدلية صفة الكلام في الذات الإلهية .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) نهج البلاغة الحكمة ٧٢ ، تحقيق مؤسسة نهج البلاغة الإيرانية .

(٢) ابن الأثير، الكامل ج ٨ ، ص ١٢٨ في حوادث سنة ٣٢١ هـ .

(٣) زهيرغزاوي الإمام جعفربن محمد الصادق (ع) بين الحقيقة والنفي ، دمشق ١٩٩٨ ، ص ٢٢ .

(٤) صحيح البخاري : الجامع الصحيح ، ج ١ ، ص ٤٠ .

(٥) محمد بن حريرالطبري ، دلائل الإمامة .

(٦) محمد بن يعقوب الكليني ، الكافي ج ١ ، دارالكتب الإسلامية ، طهران ، ص ٥٢٧ .

(٧) راجع كتابنا الإمام جعفرالصادق ، مرجع سابق ، ص ١٥ .

(٨) القاضي عبد الجبار الهمذاني ، طبقات المعتزلة ، تحقيق علي سامي النشار، دارالمطبوعات الجامعية، القاهرة ١٩٧٧ ، ص ٧ .

(٩) محمد يحيى الهاشمي ، الإمام الصادق ملهم الكيمياء ، دارالأصول ، بيرون ١٩٨٤ .

(١٠) الكافي باب العقل والجهل ، ص ١٠ .

(١١) الكافي ج ١ باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء .

(١٢) الكافي في جزء ١ ، ص ٣٤ .

(١٣) الشهرستاني محمد بن عبد الكريم ٤٧٩ – ٥٤٨ ، الملل والنحل ، تحقيق محمد سعيد الكيلاني ، دارالمعرفة بيروت .

(١٤) حسين مروّة ، النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية ج ١ ، دارالفارابي ، بيروت ١٩٧٩ .

(١٥) فخرالدين الرازي ، محصل أفكارالمتقدمين والمتأخرين من العلماء والمتكلمين ، مراجعة طه سعد ، دارالكتاب العربي ، بيروت ١٩٨١ .

(١٦) راجع علي سامي النضار، نشاة الفكرالفلسفي في الإسلام ، دارالمعارف ، ط ٧ ، فصل هشام بن الحكم.

(١٧) أحمد أمين ، ضحى الإسلام ، ج ٣ ، بحث المعتزلة .

(١٨) أبو القاسم الخوئي الموسوي ، البيان في تفسيرالقرآن ، مطبعة الآداب النجف ٩٦١، ص ٢٧٧ –

****************************