حيدر الجراح
أيها المتعب..
كل الدروب تقود خطاك إليه.. أو أن خطاك تقودك إلى دروبه.. لا فرق.. فالوصول حتى اعتابه ثمرة المسير والتطواف المتواصل..
أيها المتعب..
أينما تلفّت في كل عمرك.. في الماضي أو الحاضر.. أو المستقبل لا تطالع إلا وجهه، لفحته الشمس، وحفرت الأيام والأصحاب ندوبها فوقه..
وأينما تلفت تقرأ سيرته، وحياة لا تكتنفها السطور.. تمتد منذ أول حرف في ميثاق ربك، إذ أخذها من ظهورنا إلى آخر حرف من قيامته الموعودة..
أيها المتعب..
تتساءل، ومثلك الملايين عن روضات الفضائل والقيم، صبوت ونصبو إليها..
عن الشهامة، عزة النفس وسموها، حين كان يتعالى فوق الصغائر ويرفض المساومة في المبادئ الإنسانية التي التزم بها..
عن المروءة، كرم الأخلاق والتعالي فوق الانتقاص، والتعاطف مع الضعيف..
عن النزاهة، أمانة وصدقاً وعفة ضمير معاً..
عن الكرم، سخاءاً وجوداً في العطاء..
عن التهذيب، حرصاً على أدبيات الحياة الإسلامية في المجتمع أقوالاً وممارسات.
عن الشجاعة، بسالة وجرأة واقداماً وجسارة في مواجهة المخاطر..
عن الصدق، خلوص النية والتعبير عن حقيقة الذات بصراحة واستقامة..
عن الاستقلالية، اخذاً بمصيره بيده، وتحديد ما يرتبط به مع غيره وبمحيطه..
عن المسؤولية، تأكيداً على المشاركة في أخذ القرار في كل ما يعنيه بالنسبة لنفسه ولمحيطه، والالتزام بهذا القرارِ وتحمل اعباء هذا الالتزام..
عن الصبر، طول بال وهوادة وقدرة على التحمل والسيطرة على الذات..
عن التضحية، فداءاً وجوداً بالنفس..
عن الايثار، انفتاحاً انسانياً على الآخر المغاير من منطلق المساواة بالذات والنضال من اجل هذه المساواة كحق انساني مطلق..
عن الود، لطفاً ومودة في العلاقة مع الأخير من منطلق الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق..
عن الاعتدال، رفقاً وانصافاً..
عن الشفقة: تحنناً وتعاطفاً مع المعذبين والمتألمين.. عن الرحمة، رأفة وقدرة على العفو..
أيها المتعب..
وكان أن سكن وجهه وصوته في نبضك ونبضنا.. وامتدت يداك وأيدينا نحوه.. متلفعاً ببرديه الباليين، نلمح فيهما ثقوب الحاجة والعوز لأنه آثر غيره من اليتامى والأرامل والفقراء والمساكين على نفسه وأهل بيته.. واكتفى من هذه الدنيا، طلقها ثلاثاً وغرت غيره، بهذين الطمرين، وبرغيف خبزه المتكسر على ركبته وهو يجلس جلسة العبد تواضعاً وتذللاً للسيد الماجد القاهر الأوحد...
في هذه السطور، سنحاول أن نواكب الشعراء في مسيرتهم إلى الاعتاب العلوية، في ابتهالاتهم وصلواتهم وفي ما جاشت به صدورهم حباً وشغفاً لصاحب تلك الاعتاب..
وستكون هذه السطور مقتصرة على الشعراء المعاصرين أو الذين عاشوا قبلهم بفترة قصيرة.. ولن نعود إلى شعراء القرون السابقة، لأن الكثير من المقالات والبحوث والدراسات قد أحاطت بهم وبابتهالاتهم..
وأبدأ بأحدث نص بين يدي، وهو :
للشاعر اللبناني جودت فخر الدين
يحمل عنوان :(ثلاثة وجوه لعلي)
نقرأ الوجه الأول..
خانته الأرض، فلم تجلس هانئة بين يديه، ولم تسبح في سرّ خطاه، خانته الأرض، وكان يعاتبها كأب، يبدد فيها أشجار يديه، فتذهب عنه، خانته الأرض، فسار وحيداً في الأرض، وكان الناس يرون إلى وحدته، فيثوبون إلى شُحّ بصائرهم، كان عليٌ يجترح الخطو على ارض الناس، ليرفع أيام الناس، فيجحده الناس، وكان يضيء، فيطفئه الناسُ، سار عليٌّ في ارض جاحدة، هل كان له أن ييأس أو يترددْ؟
ما كان ليطفئه الناس، توهج فيهم، ومضى برقاً يتوقدْ ينأى محتجباً، لكن لا يلبث أن يتجددْ خانته الأرض، فسار وحيداً في الأرض، يقود سماء خرجت من ثوب محمدْ.. [١]
اختار الشاعر وجه الحاكم الإسلامي المثالي، فيما سبق، وكيف أن الجميع، ممن توحدت مصالحهم، قد اتحدوا ضده، وخانوا تعاليم ابن عمه(ص)..
وجه الحاكم المثالي، حين يعطي ويمنح لرعاياه وفقاً لمرضاة الرب ويقابله الآخرون بالخيانة والجحود والنكران..
ولكنه لا ييأس ولا يتردد.. لأنه لا يعرف غير عدالة الحكم، مطلق العدالة التي تعلمها من الرسول الأكرم(ص)..
في الوجه الثاني، نطالع بصيرته النافذة للغيب، مستشرفاً أفاق المستقبل، يحدث المحيطين بما تنفذ إليه بصيرته، هذا الوجه هو وجه الرائي والباصر، كاشفاً مدلهمات الفتن التي يحذّر منها، ولكن لا حياة لمن تنادي..
يسكن في كلمات تسكنه يحيا في لغة بكر تحتضن الأشياء كأم، تسمو بالاشياء، فترفعها نحو سماء دانيةٍ..
كان عليٌّ يحيا في أسرار اللغة البكر انفاسُ عليٍّ كلماتٌ، كان عليٌّ يحيا متقداً بالكلمات، يجتذبُ الموت بها، ويلاطفه يجعل للقول مضاء السيف ويجعله ينضح بالاسرار، ويخفق بالحسرات..
كان علي يحيا متقداً بالكلماتْ يجتذب الموت، يلاطفه بالكلماتْ وبما يرسم للناس دروباً يطلق فيهم آياتٍ وعلامات وجه الأيام متاهاتْ وكلام عليٍّ أبوابٌ وحقولٌ، وجهاتْ [٢]..
الوجه الثالث، وجه الشهيد في محراب عبادته، يبث مرارات الأيام والأحزان لربه المعبود..
هو يستشعر دنو خطوات الموت منه في آخر فجر كوفي تبصره عيناه، لكنه لا يبالي، فالرحيل عن هذه الدنيا، سجن المؤمن، هو ما يبحث عنه ويسرع بالوصول إليه.. ليلقي برأسه المتعب فوق صدر ابن عمه كي يستريح..
يبكي قتلاه، ويمشي في ليل الكوفة، جفناه نخيل محترقٌ، ويداه نهران حبيسان، وحيداً يمشي في ليل الكوفة، والأرض خوارج أو أمويون، علي في ليل الكوفة وهج مراراتٍ علي يبكي قتلاه ويمشي غابة آمال مكسورة غابة آمال مهجورة
كان عليٌّ يبكي قتلاه، وحين هوى في المحراب، تعالت أشجار يديه، وغابت في أفق لا يظهر للناس، ولكن ظلالاً منها سارت في الأرض، لتخرج آفاقاً تسنح للملأ المفتونْ يتلقفها الملهوفون، التوابون، المنتظرونْ [٣]..
في قصيدة (سيد الكلمات والملاحم) للشاعر محمد شمس الدين
نرى الشاعر قد وظف سيرة الإمام علي(ع) في سبعة مقاطع وكان المقطع الثامن صوت الشاعر المعبر عن لسان حال الجميع لظهور المنتظر(ع) من أبناء علي(ع)...
لتكون مملكة الوجود، ليكون صوتٌ ما، يسبّح باسمه وإلى الأبدْ..
ليكون من اخشاب هذا الفُلكِ والطوفان نوحُ ليكون دون محمدٍ باب وشرفته حجاب ليكون آدمُ أول الاسماء مبتدأً وجملته الكتاب خلق الالهْ سراً واغلقه طويلاً [٤]..
في هذا المقطع استفاد الشاعر من المأثور الإسلامي حول بداية الخلق، وكيف أن الله اودع نور محمد وعلي سراً رافق آدم في أول خلقه، ونوحاً في فلكه في قصة الطوفان الشهيرة،. وكان السر مغلقاً حتى شاء الله وأظهره..
قالوا بأن سحابةً هطلت على أرض الجزيرة في ليلةٍ ذُعِرتْ ملائكها قليلاً قالوا بأن دماً ثقيلاً من جرح مكة ايقظ الأوثان فارتجفتْ وارّقها المُقام..
ولد الإمامُ [٥]..
وذكر الملائكة اشارة لانشقاق جدار الكعبة حين دخلت فاطمة بنت اسد لتلد الإمام علياً(ع) داخلها..
قالوا إن (احمد) هجّرتْهُ يدُ الفتنْ من (عبد شمسٍ) فاستبدّ به المقامْ وطوى صحيفته ونامْ ولكن من نام العشية في فراش محمدٍ لبس الكفنْ لينام اجمل ما ينام فتى على جفن الردى لبس الكفنْ.. [٦]
أشار الشاعر إلى هجرة الرسول الكريم(ص) في ليلة اتفق المشركون على قتله وأخبره ربه، رب العزة بذلك، فنام الفتى علي(ع) على فراشه مفتدياً رسول المحبة والسلام بروحه، مستعداً لطقوس الموت، تهجم عليه في ساعة ما من تلك الليلة.. ولكن الله نصر رسوله وفتاه..
في المقطع الرابع نطالع لوحة الوصول إلى يثرب، المدينة التي تنورت بوجه محمد(ص)، وبعدها بأيام يتبعه الإمام علياً(ع) مع قافلة الفاطميات، نساء البيت الهاشمي ...
قمرين في فلك الجزيرةيطلعان من الوداعْ وسجدتُ ما سجد الرعاة الخاشعون وما دعا لله داعْ [٧] .
المقطع الخامس يشير إلى حروب الإمام علي(ع) في صفين والنهروان، دفاعاً عن راية الإسلام التي ما انفك حاملاً إياها، ودفاعاً عن الإنسان الذي أراد دعاة القتل والتدمير أن يكون وقوداً لحروبهم التي توقد نيرانها مصالحهم الدنيوية البائسة..
ليكون سيفك داخل الصلوات، خلّ السيف يلمع في ظلام نحورهم ويسيل منه دم الطغاة وسيفك يقطع الامواج: هذا حدّ من خرجوا وماتوا دون وجه الماء/ منْ خرجوا فكن لتكون ثأر الله منشوراً على ميراثهم وكن ليكون سيفك طائراً كالسهم من (كوفان) حتى اخر الازمانْ وكُن لتكون آخر قلعة الانسانْ [٨]..
في المقطع السابع، نرى الإمام عليا(ع) هو الملاذ الآمن، وهو الطمأنينة التي ينشدها الجميع، جميع المتعبين والمنهكين والمنكوبين، وهو من يتمتع الجميع بعدله، ومن تكون كلماته بلسماً لآلامهم وعذاباتهم وجراحات ارواحهم..
وجمال وجهك آيةٌ في الصمت واقفةٌ وفي الكلمات وجهك آية الكلماتْ يا كلمات كوني جنة الفقراء في بيداء من رحلوا ومن نزلوا على الرمضاء يا كلماتُ يا كلماتُ يا كلماتْ [٩] .
في المقطع السابع يوظف الشاعر حدث الشهادة في محراب مسجد الكوفة، ويتتبع خطى الإمام(ع) وهو يسير إلى ساعة حتفه الموعودة..
ورايت خطوتك الأخيرة وهي تدنو في الطريقِ وصوت نعلك وهو يفترع المدينة مسجدٌ في الصمت يطفو أو يغيبُ كأنه القمر الغريبُ كأنه قمر السفينة في الظلامِ وفي الظلامْ يا سيدي..
خُتِمَ الكلامْ فعليك من دمِكَ السلامْ وعليك من دمك السلامْ [١٠]..
في المقطع الثامن والذي حمل عنواناً جانبياً هو (صوت٢) نرى الشاعر يتكئ على الموروث الإسلامي الذي بشر بظهور المهدي المنتظر(عج)، وكيف سيدخل محراب الكوفة الذي استشهد فيه علي(ع)، وكيف سيعيد فجرهم الذي اغتالوه في حالكات الخيانة والغدر..
لعليٍّ جنةٌ أخرى ومحراب المدينةْ لم يزل ينتظر الآتي من الأرض إليها وعليُّ أجمل الموتى إذا ما ذكروا في غدٍ اسماءه واستذكروا سيد الناس وربان السفينةْ وعليٌّ مات مطعوناً على محرابه ومضى لكنهم لم يعلموا أنه يعبر في هذا السحابْ
وجهه: يصعد من هذي القبابْ صوتُه...
حتى إذا ما نظروا في مراياهم غداً وانتظروا ارجع الفجر مع الفجر عيونه [١١] ...
وللشاعر خليل فرحات
وهو شاعر لبناني مسيحي ينتمي إلى الطائفة المارونية، قصيدة حملت عنوان (في محراب علي) وقد نظم الشاعر هذه القصيدة بعد أن أصيب في رجله بداء استعصي شفاؤه فتوسل بالامام علي(ع) حتى شافاه الله تعالى ببركته..
يقول خليل فرحات..
دريت، وكلُّ الناس قبلك لـــم تدر***** فقد صُبّتْ الأعصارُ عندك في عصر
وكنت أمير الحدس تدرك غورها ***** وتسبُر اخفاهـا العصـيّ على السبـر
وتنشرُ مطواها وتفجر خيــرهـــا ***** كما يفجر الحفار نجنــاجـــة البئـــر
وحاشاه أن يعيا حصائك طـــافراً ***** على قمم المجهول أو مــارج الغمـر
ويقول في موضع آخر..
يزجي إليك الناس أغلى نذورهم ***** وما همّك المنذور بل صاحب النذر
ترفع من تابوا فتبـــت عــــليهـم ***** وتهلـــك إذ تشجـــي عمالقة الفُجـر
ويقول عن شجاعته:
وقالوك في الهيجاء اوزن فارس ***** تُداري الألى فرواً وتألف من فرِ
وعندك كان القتل خلوا من الأنـا ***** فسيفــك قوّامٌ على الخير والشر
ويقول واصفاً الإمام(ع) ونهجه:
سواك، سوى رب الدروب جميعها ***** عسيرٌ عليه السيرُ في الأدرب العُسر
تجليـــت نهاجـــاً تــؤجُ نهــــوجــه ***** كمـــا أجَّ فـــي الارياح مُشتعل الجمر
ويشير الشاعر إلى عودة الشمس للإمام(ع) ليؤدي صلاة العصر:
خذ الشمس إذ كفاك قالا بعــــودة: ***** فشمس غروب تلك عادت إلى العصر
وعن كون الإمام علي(ع) هو عدل القرآن، وهو باب مدينة العلم، وهو الإمام المبين الذي ذكره القرآن، يقول الشاعر:
ولمـــا كتــــاب الله اعجــز قومه ***** واغلق لم يفتـــح علـــى الجلة الكبر
فتحت عليه الباب فالضوء مبهر***** ولكن فتى الأضواء ما ضـــجّ للبهــر
كأنكما من قبل قــد كنتـمـا معـــاً ***** ومـــــر زمـــان بعـــــد آذن بالهجـــر
وعاد لقـــاء النيريـــن بــأحمــــد ***** وعزّ بك الإسلام كالشمس في الظهر
فمصحف رب الناس قوله وفعله ***** إمــأم ومـــــن لم يـــدر ذلك فليـــــدر
وعن علمه الذي أودعه الله في قلبه، وعن كونه يحاسب الخلق بعد النشر يوم القيامة، وأنه قسيم الجنة والنار، يقول الشاعر:
عيال على سلسال نبعك علمهــم ***** وليس يخف النبع من نقرة القمري
وإن قامت الاموات للبعث مثلما ***** يقال فقد جاءت مقامــــك تستقـــري
وتستغفر الاعمار عندك جهلهــا ***** وتبقى كمــا يا أنت في الحلم والغفر
وأخيراً يختتم الشاعر قصيدته محاولاً تفسير هذا الحب لعلي(ع):
حببت علياً، بل عبــدتُ صفاتــــه ***** بلى، تعبُد العطار قارورة العطر [١٢] ..
وشاعر نصراني آخر هو بولس سلامة
في رائعته الملحمة (عيد الغدير)...
تبرز هذه الملحمة، اعجاب الشاعر وافتتنانه بشخصية الإمام علي(ع) وانحيازه إلى جانب الخط العلوي وما يمثله، فاستحق لذلك أن يكون من شعراء الغدير..
والشاعر واحد من أبناء الرسالة العيسوية التي بشرت بالخير والمحبة والسلام.. فلا عجب أن نجده اميناً مندفعاً وراء الاشعاعات المتجسدة في كل رجل عظيم تعبق في روحه روحانية العقيدة السماوية وتتملكه عقلاً وروحاً وممارسة..
التزم الشاعر جانب المظلومية في ملحمته دفاعاً عن المظلوم ضد الظالم، وبهذا الالتزام لا تعد المظلومية نقيصة، فمثل هؤلاء الرجال يظلمون في كل زمان ومكان.. ولكن تبقى سير جهادهم منارات شامخة وشاهدة على المبادئ العظيمة التي ظلموا من اجلها، فيهواهم كل من نبذ العصبية وطيّب شعاع المحبة قلبه وعرف الألم..
وحب الشاعر لهذا التيار حر جريء، يقع في زمن تنهض فيه الجاهلية من جديد، وتجتاح العصبية النفوس، وتنهار القيم وتتراجع التعاليم السماوية، فكأنما وجد الشاعر في أهل البيت رموزاً مسيحية فضلاً على كونها رموزاً اسلامية..
لا يخفي الشاعر اعجابه بالامام علي(ع)، ويعلن ذلك في المقدمة (أما إذا كان التشيع حباً لعلي واهل البيت الطيبين الأكرمين، وثورة على الظلم وتوجعاً لما حل بالحسين وما نزل بأولاده من النكبات في مطاوي التاريخ فإنني شيعي) [١٣] وهو يحب علياً(ع) لأنه الرجل الرسالي الذي تعالى عن موبقات الدنيا والتزم هدفاً ساميا وأخلاقاً عليا:
هو فخر التاريخ لا فخر شعب ***** يدّعيـــه ويصــطفـــيـــه وليّــــا
لا تقـــل شيعــــة هـــواة علـي ***** إن في كل منصف شيعيا [١٤]
ولا شك في أن المرض الذي ألم بالشاعر واقعده طريح الفراش والألم الممض الذي عاناه، زاد دفعه الى التأسي بكل العظماء المعذبين:
كدت أقضي لو لا النُهى والتأسي ***** ونعيـــــم أصـــوغـــه وهمــيــــا
أتـــأسى بابـــن البتـــول فيوليني ***** عــــزاء وبلسمــــاً معنـــــويــــا
أتأسى بــــالأكـــرميـــن خصـــالاً ***** لم يسيغوا في العمر شُرباً مريـاً
جلجل الحــق في المسيحي حتى ***** عـــدّ مــــن فـــرط حبــــه علـويّا
أنا من يعشــق البطولـة والإلهام ***** والعدل والخلاق الرضيّـــا [١٥]
تقع ملحمة الغدير في سبعة واربعين نشيداً استأثر الإمام علي(ع) منها بأربعة وعشرين نشيداً وهي:
١) موقع علي(ع) في البعثة ومآثره البطولية الأناشيد من ٩ إلى ٢١.
٢) عيد الغدير، النشيدان ٢٢و٢٣.
٣) علي والخلافة، الأناشيد من ٢٤ إلى ٣٢.
وتشتمل الملحة إضافة إلى تلك الاناشيد على قصيدتين وجدانيتين تشكلان المطلع والخاتمة..
الأولى بعنوان (صلاة) يدعو فيها الشاعر، الله مده بالقوة والعزيمة والإلهام الشعري من أجل علي(ع) (زين العصور ـ رب الكلام ـ ليث الحجاز)..
والثانية هي الخاتمة، يكمل فيها الشكوى من الداء المرير فيتأسى بما حاق بعلي(ع) (فخر التاريخ) وبآل بيته من الظلم... ويتابع مدح علي وبنيه وهجاء بني أمية ويفتخر بحبه لعلي وبشاعريته ومزاياه وينسب هذه الشاعرية إلى عبير الامام..
يصف الشاعر بيعة الغدير التي اكمل الله فيها الدين:
كان وهج الشروق يوم حراء وجلال المغيب يوم الغدير [١٦]
وقبلها يسجل الشاعر حادثة الهجرة الشريفة، ومبيت علي(ع) في فراش النبي(ص) قائلاً:
رقد الليـــــل ناعمـــاً بـفـــراش ***** حشــوه الموت فالوساد مخاطر
بات فوق الخناجـر الزرق ليث ***** دون اظفــــاره رهيــف الخناجر
يستطيب الردى فداء ابــن عـم ***** فهو يسعى إلى المنيــــة حاسر
إن ينم في مضاجع الموت حباً ***** بالنبي العظيم فالله ساهر [١٧]
ويختتم الشاعر ملحمته قائلاً:
يا سماء اشهدي ويا ارض قري ***** واخشعــي، إنني ذكرت عليّا [١٨]
ولا يضيرنا أن نعود إلى العام ١٧٧٢، وإلى ألمانيا تحديداً، حيث نظم شاعرها
الشهير (يوهان جوته)
قصيدة المديح الشهيرة باسم (نشيد محمد)..
تقوم هذه القصيدة على فكرة مفادها أن العبقري الرباني يرى الآخرين اخوة له يأخذ بأيديهم ويشدهم معه، منطلقاً بهم كالسيل العارم الذي يجرف كل ما يصادفه في طريقه من جداول وانهار إلى البحر المحيط.. والقصيدة تفصح عن الولاء الذي كان الشاعر يكنه لشخصية النبي محمد(ص) حيث تصوره القصيدة بصفته هادياً للبشر، في صورة نهر يبدأ بالتدفق رفيقاً هادئاً، ثم لا يلبث أن يجيش بشكل مطرد ويتحول في عنفوانه إلى سيل عارم.. وهي تصور اتساع هذا النهر وتعاظم قوته الروحية في زحفها الظافر الرائع لتصب أخيراً في البحر المحيط، رمز الالوهية..
وسوف نستشهد هنا بالصيغة الأولى من قصيدة المديح هذه، اعني صيغتها التي جاءت على شكل حوار يدور بين فاطمة(ع) ابنة النبي الحبيبة وزوجها علي(ع) [١٩] ..
علي: انظروا إلى السيل العارم القوي، قد انحدر من الجبل الشامخ العلي، ابلج متألقاً كأنه الكوكب الدري..
فاطمة: لقد أرضعته من وراء السحاب ملائكة الخير في مهده بين الصخور والادغال.
علي: وانه لينهمر من السحاب، مندفعاً في عنفوان الشباب، ولا يزال في انحداره على جلاميد الصخر، يتنزى فائراً، متوثباً نحو السماء، مهللاً تهليل الفرح..
فاطمة: جارفاً في طريقه الحصى المجزع، والغثاء الأحوى..
علي: وكالقائد المقدام، الجرئ الجنان، الثابت الخطى، يجر في اثره جداول الربى والنجاد..
فاطمة: ويبلغ الوادي فتتفتح الأزهار تحت اقدامه، وتحيا المروج من انفاسه.
علي: لا شيء يستوقفه، لا الوادي الوارف الضليل، ولا الازهار تلتف حول قدميه وتطوق رجليه، وترمقه بلحاظها الوامقة.. بل هو مندفع عجلان صاعد إلى الوهاد..
فاطمة: وهذه انهار الوهاد تسعى إليه في سماح ومحبة، ومستسلمة له مندمجة فيه. وهذا هو يجري في الوهاد، فخوراً بعبابه السلسال الفضي..
علي: الوهاد والنجاد كلها فخورة به.
فاطمة: وانهار الوهاد، وجداول النجاد تهلل جميعاً من الفرح متصايحة:
علي: وفاطمة (في صوت واحد): خذنا معك.. خذنا معك..
فاطمة: خذنا معك إلى البحر المحيط الأزلي، الذي ينتظرنا باسطاً ذراعيه.. لقد طالما بسطهما ليضم ابناءه المشتاقين إليه.
علي: وما كان هذا الفيض كله ليبقى مقصوراً على الصحراء الجرداء.. ما كان هذا الفيض ليفيض في رمال الرمضاء، وتمتصه الشمس العالية في كبد السماء، ويصده الكثيب من الكثبان، فيلبث عنده غديراً راكداً من الغدران.. ايها السيل، خذ معك انهار الوهاد..
فاطمة: وجداول النجاد.
علي وفاطمة: (في صوت واحد): خذنا معك.. خذنا معك.
علي: هلمَّ جميعاً، هوذا العباب يطمّ ويزخر، ويزداد عظمة على عظمة. هو ذا شعب بأسره، وعلى راسه زعيمه الاكبر، مرتفعاً إلى اوج العلا، وهو في زحفه الظافر، يجوب الآفاق ويخلع أسماء على الاقطار، وتنشأ عند قدميه المدائن والأمصار..
فاطمة: ولكنه ماض قدماً لا يلوي على شيء، لا على المدائن الزاهرة، ولا على الابراج المشيدة، أو القباب المتوهجة الذرى، ولا على صروح المرمر، وكلها من آثار فضله.
علي: وعلى متن عبابه الجبار تجري منشآت السفن كالأعلام، شارعة اشرعتها الخافقة إلى السماء، شاهدة على قوته وعظمته.. وهكذا يمضي السيل العظيم إلى الأمام بأبنائه.
فاطمة: ويمضي إلى الأمام ببناته.
علي وفاطمة (في صوت واحد): إلى أبيهم، ذلك البحر العظيم، الذي ينتظرهم ليضمهم إلى صدره، وهو يهلل ويكبر زاخراً بالفرح العميم. [٢٠]
ونبقى في أوربا، وتحديداً في ألبانيا حيث عاش الشاعر الألباني الشيخ سليمان تيماني، وكان شيخ الطريقة الخلوتية في مدينة بيرات، من قصيدة له يمدح فيها الإمام علي(ع) ويشيد بشجاعته في القتال يقول:
حين يمتطي علي الدُلدل ***** تهلع قلوب الكفار من الرعب
أنت صاحب (ذو الفقار) ***** الذي يحتقر كل منكر
ويقطع رأس كل كافر [٢١]..
وإذا يمننا وجهنا إلى باكستان وجدنا
الشاعر محمد اقبال
لا ينفك يذكر علياً(ع) في الكثير من اشعاره، لأن علياً عند اقبال صورة الإنسان القرآني الكامل الذي يرنو إليه محاولاً اقتداءه والتأسي به..
والشاعر يغترف الكثير من المأثورات الصوفية في اشعاره..
يقول اقبال:
اجعل القلوب مركز الحب والاخلاص لتعرف الحرم الإلهي هذا الذي اعطيته رغيف الشعير اعطه أيضا قوة حيدر [٢٢]..
وحيدر من أسماء الإمام(ع)..
وله أيضا..
عليٌّ قلب يقظان القلب اليقظان مثل حجر الفلاسفة يحول هذا النحاس إلى إنسان ابدع لك قلباً يقظان، فما دام القلب غافيا
فستبقى ضربة عصاك دون جدوى وستبقى ضربة عصاي دون جدوى [٢٣] ..
وله أيضا..
هذا النزاع بين الدين والدولة أشد قسوة من نزاع خيبر هل فينا الآن مثل علي ذي الكرّات التي تتجدد كل حين؟ [٢٤]
وله من قصيدة في بيان أن سيدة النساء فاطمة الزهراء(ع) اسوة كاملة للنساء المسلمات يذكر فيها علياً(ع)
وهي زوج المرتضى ذا البطل ***** أســـد الله الحكيـــم الفيــصــل
ملكٌ في الكوفة زهداً قد أقــامْ ***** كلّ ما يملك درعٌ وحسام [٢٥]
ونعود إلى الشعراء الناطقين بالضاد، ونقرأ
للشاعرة العراقية آمال الزهاوي
من قصيدة لها حملت عنوان (جدران الزنبق)
في ديوانها الطارقون بحار الموت..
تقول الشاعرة..
لكن الأرض برائحة الاثم تفوح ***** تهتز على ظلامتها، فتنوح
حيدر.. حيدر.. حيدر
نحن الماشين على الاحزان صباحاً ***** نجتر نيوب الدنيا تتوهج مثل كرات الدمع
تبحث عن ألم الوقع عن رؤيا تهتز جراحاً ***** كي نبكي موت الصدف ونهيل الليل بأرض الشهداء
حيدر.. حيدر.. حيدر
في القصيدة اسقاط للرمز العلوي، وما يعنيه من دلالات حول الشهادة، وعلاقته بالإنسان المعاصر والواقع المعاش..
وللشاعر محمد علي حسن
من قصيدة حملت عنوان (الدم الفرقان)
واصفاً فيه واقعة الطف، يذكر علياً(ع) بقوله:
يخطّ الفداء الصرف فكرَ محمــــد ***** وسيفُ عليٍّ.. فالوغى السيف والفكر
لئن شابت الأيامُ، والزمن انحنى ***** فنزف عليّ المرتضى أبـداً بكــرُ [٢٦]
وللشاعرة الكويتية سعاد الصباح
من قصيدة تصف فيها أطفال الحجارة في فلسطين..
افرشوا السجاد.. والورد لأطفال الحجارة واغمروهم بالزهر إن اسرائيل بيت من زجاج وانكسر ولقد يظهر فيما بينهم
وجه علي...
قاومي أيتها الأيدي الجميلة قاومي أيتها الأيدي التي بللها ماء الطفولة[٢٧] ..
وللشاعر اللبناني الأمير (أمين آل ناصر الدين)
من قصيدة يذكر فيها الإمام علي(ع):
سالت نفوس زكت إذ سال منك دم ***** والكعبة انصدعت واسترجــع الــحـــرم
يا هذا (النجف) المحمي من بلــــد ***** فيـــه ضــريحــــك للــــزوار معــتصــــم
كأنما النور يبـدو مـــن جــوانبــــه ***** وحولـــه مكـــرمـــات العــرب تنتـظــــم
وما (البلاغة) إلا مــا سننــتَ بـــه ***** (نهجاً) عليه المعاني الغر تزدحم [٢٨]
وللشاعر السوري انور العطار
من قصيدة حملت عنوان (سلام على النجف الأطيب) يقول فيها:
(علي) ويــا سحـر هذا النـداء ***** واعجب بروعــــــــتـــه اعجـــــب
تحن إليك القلـــوب اللهـــــاف ***** حنيـــن الصغــــار لجنــــــح الأب
إذا اغطش الليل كنت الشعاع ***** وكنـت رجـــاء الغـــــد الأصعــــب
وكنت الحنان ورمـــز النـــدى ***** وكنـت المعيـــن علـــى المذهـــب
ولم لا وأنــت رفيـــق النبــــي ***** وأنت شــذا الطهـــر مـــن يثــرب
وأنت قريش العلى والبطـــاح ***** وأنت مدى السؤل والمأرب [٢٩]
وللشاعر البحريني قاسم حداد
من قصيدة طويلة حمل الديوان اسمها وهي (النهروان) يقول فيها..
...رأيته يتداعى وينداح في بريق نصل غير ملجوم
رايته يوزع اطفاله للسم والعطش، ولا ينحني لغيرالصلاة على الأرض يطوي وشيعته..
ورأيت الفجيعة تركض في بيت عليّ سمعت الفجيعة سجادةً للصلاة حكوا/ سوف يحكون عن نهروان يجر السقيفة في موكبٍ خارجٍ عن رماد مشى في تراث الخليفة /ويحكون فاصغوا ولكن اعدوا جواباً لمؤودة سوف تسأل [٣٠] ..
ونختم هذه المختارات
للشاعر العراقي مظفر النواب..
بقصيدة عنوانها (أنبيك عليّاً) يقول:
يا طير البرق القادم من جنات النخل بأحلامي يا حامل وحي الغسق الغامض في الشرق على ظلمة أيامي أحمل لبلادي حين ينام الناس سلامي للخط الكوفي يتم صلاة الصبح بأفريز جوامعها..
لشوارعها..
للصبر..
لعليٍّ يتوضأ بالسيف قبيل الفجر أنبيك علياً!
ما زلنا نتوضأ بالذلّ ونسمح بالخرقة حدّ السيفْ ما زلنا نتحجج بالبرد وحر الصيفْ ما زالت عورة عمرو بن العاص معاصرةً وتقبّح وجه التاريخ وما زال كتاب الله يُعلّق بالرمح العربية [٣١]...