(صباه , وطهارته)
قال عليه السلام تعريفا لنفسه: (ولقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليد [ولد - خ ل]، يضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده، ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشئ ثم يلقمنيه، وما وجدلى كذبة في قول، ولاخطلة في فعل، ولقد قرن الله به صلى الله عليه واله وسلم من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره، ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل إثر امه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وخديجة، وأنا ثالثهما، أرى نور الوحى والرسالة، وأشم ريح النبوة، ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه واله وسلم، فقلت: يا رسول الله ! ما هذه الرنة ؟ فقال: هذا الشيطان قد أيس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلا أنك لست بنبي ولكنك لوزير، وإنك لعلى خير [١].
قال ابن أبي الحديد: (وروي عن جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قال: كان علي عليه السلام يرى مع رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قبل الرسالة الضوء، ويسمع الصوت، وقال صلى الله عليه واله وسلم له: لولا أني خاتم الأنبياء لكنت شريكا في النبوة، فإن لا تكن نبيا فإنك وصي نبي ووارثه، بل أنت سيد الأوصياء وإمام الأتقياء [٢].
قال العلامة الحلي رحمه الله: (وأما حال ولادته فإنه عليه السلام ولد يوم الجمعة الثالث عشر من شهر رجب بعد عام الفيل بثلاثين سنة في الكعبة، ولم يولد فيها أحد سواه لا قبله ولا بعده، وكان عمر النبي صلى الله عليه واله وسلم ثلاثين سنة، فأحبه ورباه، وكان يطهره في وقت غسله، ويجرعه اللبن عند شربه، ويحرك مهده عند نومه... ويقول: هذا أخي ووليي وذخري وناصري وصفيي وكهفي وصهري ووصيي وزوج كريمتي وأميني وخليفتي، وكان يحمله دائما ويطوف به جبال مكة وشعابها وأوديتها [٣] .
وقال برهان الحلبي: (فلم يزل علي عليه السلام مع رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، وفي خصائص العشرة للزمخشري: أن النبي صلى الله عليه واله وسلم تولى تسميته بعلي، وتغذيته أياما من ريقه المبارك، يمصه لسانه، فعن فاطمة بنت أسد ام علي - رضي الله تعالى عنها - قالت: لما ولدته سماه عليا، وبصق في فيه، ثم إنه ألقمه لسانه، فما زال يمصه حتى نام، فلما كان من الغد طلبنا له مرضعة فلم يقبل ثدي أحد، فدعونا له محمدا صلى الله عليه واله وسلم فألقمه لسانه فنام، فكان كذلك ما شاء الله [٤] .
ذكر أبو القاسم في أخبار أبي رافع من ثلاثة طرق أن النبي صلى الله عليه واله وسلم حين تزوج خديجة قال لعمه أبي طالب: إنى احب أن تدفع إلي بعض ولدك يعينني على أمري ويكفيني، وأشكر لك بلاءك عندي، فقال أبو طالب: خذ أيهم شئت، فأخذ عليا عليه السلام، فمن استقى عروقه من منبع النبوة، ورضعت شجرته ثدي الرسالة، وتهدلت أغصانه عن نبعة إلامامة، ونشأ في دار الوحي، وربي في بيت التنزيل، ولم يفارق النبي صلى الله عليه واله وسلم في حال حياته إلى حال وفاته لا يقاس بسائر الناس، وإذا كان عليه السلام في أكرم أرومة، وأطيب مغرس، والعرق الصالح ينمي، والشهاب الثاقب يسري، وتعليم الرسول ناجع، ولم يكن الرسول صلى الله عليه واله وسلم ليتولى تأديبه، ويتضمن حضانته وحسن تربيته إلا على ضربين: إما على التفرس فيه، أو بالوحي من الله تعالى، فإن كان بالتفرس فلا تخطأ فراسته، ولا يخيب ظنه، وإن كان بالوحي فلا منزلة أعلى ولا حال أدل على الفضيلة والأمامة منه [٥] .
(حلمه وصفحه)
عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم في خبر طويل: (لو كان الحلم رجلا لكان عليا) [٦].
عن جابر، قال: (سمع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام جلا يشتم قنبرا وقد رام قنبر أن يرد عليه، فناداه أمير المؤمنين علي : مهلا يا قنبر، دع شاتمك مهانا ترض الرحمن، وتسخط الشيطان، وتعاقب عدوك، فو الذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أارضى المؤمن ربه بمثل الحلم،ولا أسخط الشيطان بمثل الصمت،ولاعوقب الأحمق بمثل السكوت عنه [٧] .
قال ابن أبي الحديد: (وأما الحلم والصفح، فكان أحلم الناس عن مذنب، وأصفحهم عن مسئ، وقد ظهرت صحة ما قلناه يوم الجمل حيث ظفر بمروان بن الحكم - وكان أعدى الناس له وأشدهم بغضا - فصفح عنه، وكان عبد الله بن الزبير يشتمه على رؤوس الأشهاد، وخطب يوم البصرة فقال: قد أتاكم الوغد اللئيم علي بن أبي طالب، وكان علي عليه السلام يقول: ما زال الزبير رجلا منا أهل البيت حتى شب عبد الله، فظفر به يوم الجمل فأخذه أسيرا، فصفح عنه، وقال: (اذهب ولا أرينك) لم يزده على ذلك، وظفر بسعيدبن العاص بعد وقعة الجمل بمكة - وكان له عدوا - فأعرض عنه ولم يقل شيئا... [٨] .
قال قنبر: دخلت مع أمير المؤمنين عليه السلام على عثمان فأحب الخلوة فأومأ إلي بالتنحي، فتنحيت غير بعيد، فجعل عثمان يعاتبه وهو مطرق رأسه، وأقبل إليه عثمان، فقال: ما لك لا تقول ؟ فقال عليه السلام: ليس جوابك إلا ما تكره، وليس لك عندي إلا [٩] ما تحب، ثم خرج قائلا:
ولو أنني جاوبته لأمضه ***** نوافذ قولي واحتضار جوابي
ولكنني اغضي على مضض الحشا ***** ولو شئت إقداما لأنشب نابي [١٠]
أقول: أمضه الأمر: شق عليه، والجرح: أوجعه، والمضض: الوجع، وأغضى على الأمر: سكت وصبر وأنشبه في كذا: علقه وأعلقه، والناب: السن خلف الرباعية.
(دعا عليه السلام غلاما له مرارا فلم يجبه، فخرج فوجده على باب البيت، فقال: ما حملك على ترك إجابتي ؟ قال: كسلت عن إجابتك وآمنت عقوبتك، فقال: الحمدلله الذي جعلني ممن يأمنه خلقه، امض فأنت حر لوجه الله) [١١] .
(إن أمير المؤمنين عليه السلام مر بأصحاب التمر فإذا هو بجارية تبكي، فقال: يا جارية ! ما يبكيك ؟ فقالت: بعثني مولاي بدرهم فابتعت من هذا تمرا فأتيتهم به فلم يرضوه، فلما أتيته به أبى أن يقبله، قال: يا عبد الله إنها خادم وليس لها أمر فاردد إليها درهمها وخذ التمر، فقام إليه الرجل فلكزه [١٢] ، فقال الناس: هذا أمير المؤمنين فربا الرجل [١٣] واصفر، وأخذ التمر ورد إليها درهمها، ثم قال: يا أمير المؤمنين ارض عني، فقال: ما أرضاني عنك إن أصلحت أمرك، وفي فضائل أحمد: إذا وفيت الناس حقوقهم).
(مرت امرأة جميلة فرمقها القوم بأبصارهم، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: إن أبصار هذه الفحول طوامع [١٤] ، وإن ذلك سبب هناتها، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلمس أهله فإنما امرأة كامرأة، فقال رجل من الخوارج: قاتله الله كافرا ما أفقهه ! فوثب القوم ليقتلوه فقال عليه السلام: رويدا إنما هو سب بسب أو عفو عن ذنب) . [١٥]
(جاءه أبو هريرة - وكان تكلم فيه وأسمعه في اليوم الماضي - وسأله حوائجه فقضاها، فعاتبه أصحابه على ذلك فقال: إنى لأستحيي أن يغلب جهله علمي، وذنبه عفوي، ومسألته جودي) [١٦] .
قال ابن الأثير: (ومنه حديث عائشة قالت لعلي يوم الجمل حين ظهر: (ملكت فأسجح) أي قدرت فسهل وأحسن العفو، وهو مثل سائر) [١٧].
(زهده في الدنيا)
قال عليه السلام: (فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حثالة القرظ، وقراضة الجلم) [١٨].
أقول: الحثالة - بالضم -: الردي من كل شئ، وما لاخير فيه، القرظ - بالتحريك -: ورق السلم، أو شجر له شوك كثير، والجلم - بالتحريك -: مقراض يجز به الصوف، والقراضة: ما يسقط منه عند الجز والقرض.
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: (دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام بذى قار، وهو يخصف نعله فقال لي: ما قيمة هذا النعل ؟ فقلت: لاقيمة لها، فقال عليه السلام: والله، لهي أحب إلي من إمرتكم إلا أن اقيم حقا أو أدفع باطلا [١٩].
وقال عليه السلام: (والله، لدنيا كم هذه أهون في عيني من عراق خنزير في يد مجذوم [٢٠].
قال ابن المنظور: (والعظام إذا لم يكن عليها شيء من اللحم سميت عراقا [٢١].
قال الشيخ محمد جواد مغنية: (وقيل هو الكرش، ومن الذي يأكل كرش الخنزير، أو عظمه من يد مشوهة بالجذام، وهل في الكون كله أبشع وأشنع من هذا الطعام واليد التي تحمله، هذه هي الدنيا في نظر علي قولا وفعلا وعاطفة وعقلا، وهذا هو واقعها وإن تحلت بالذهب، ورفلت بالديباج، وتعطرت بالعنبر، وإذا خدعت بها أنا، وغيري من طلابها وكلابها، فهل يخدع بها العقل السليم...) [٢٢] .
وقال عليه السلام: (... ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عطفة عنز) [٢٣].
قال ابن المنظور: (في حديث علي: (لكانت دنياكم هذه أهون علي من عفطة عنز)، والمعفطة: الأست، والعرب تقول: ما لفلان عافطة ولانافطة، العافطة: النعجة) [٢٤] .
وقال عليه السلام: (وإن دنيا كم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها [٢٥] ، ما لعلي ولنعيم يفنى، ولذة لا تبقى، نعوذ بالله من سبات العقل [٢٦] ، وقبح الزلل، وبه نستعين) [٢٧].
وقال عليه السلام: (فو الله، ما كنزت من دنياكم تبرا، ولا ادخرت من غنائمها وفرا، ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا، ولاحزت من أرضها شبرا، ولا أخذت منه إلا كقوت أتان دبرة، ولهي في عيني أوهى وأهون من عفصة مقرة [٢٨] .
أقول: الكنز: المال المدفون، وكل شيء يرغب ويتنافس فيه، والتبر - بكسر الأول وسكون الثاني -: الذهب والفضة قبل أن يصاغ، الوفر: المال، والطمر - بالكسر -: الثوب الخلق، والأتان: مقام المستسقي على فم البئر وهو صخرة، و- أيضا - الحمارة، وعلى هذا يقرأ بإضافة أتان إلى دبرة وسكون الباء في دبرة، والدبرة - بسكون الباء -: البقعة من الأرض تزرع، وبفتح الباء: قرحة الدابة والبعير، والعفصة: شجرة البلوط وهو دواء قابض، والمقرة: المر.
ممقر مر على أعدائه ***** وعلى الأدنين حلو كالعسل
قال ابن أبي الحديد: (أقسم (علي عليه السلام) أنه ما كنز ذهبا، ولا ادخر مالا، ولا أعد ثوبا بالياً سملاً لبالي ثوبيه فضلاً عن أن يعد ثوباً قشيبا كما يفعله الناس في إعداد ثوب جديد ليلبسوه عوض الأسمال التي ينزعونها، ولا حاز من أرضها شبرا - والضمير في أرضها يرجع إلى دنياكم - ولا أخذ منها إلا كقوت أتان دبرة وهي التي عقر ظهرها فقل أكلها) [٢٩] .
أقول: يحتمل أن يكون المعني: وما أخذت منه إلا كقوت مستسقي البقعة المزروعة في خلف الدار، يعني كما أن المتصدي لسقي البقعة يأخذ منها شيئا يسيرا، كذلك أنا ما أخذت من قوت الدنيا إلا قليلا، وهذا المعنى أنسب لكلام علي عليه السلام، وكأنه مثل سائر للشئ القليل.
(عصمته، وطهارته)
١ - قال عليه السلام: (عزب رأي امرء تخلف عني، ما شككت في الحق مذ اريته) [٣٠] .
قال قطب الدين الراوندي رحمه الله (المتوفى ٥ ٣) في شرحه: (ثم نبه عليه السلام على كونه معصوما بأن قال: أنا منذ حصلت المعارف الواجبة ما دخلني شك قط. بعد ذلك، فأنا على يقين، ومن ضل عني فهو شاك كافر) [٣١].
وقال ابن ميثم البحراني رحمه الله: (وما أفاضه (الله تعالى) على نفسه القدسية من الكمال مستلزم للأخبار بكمال قوته على استثبات الحق الذي رآه وشدة جلائه له بحيث لا يعرض له شبهة فيه، والأمامية تستدل بذلك على وجوب عصمته وطهارته عن الأرجاس [٣٢] .
٢ - وقال عليه السلام: (وإن معي لبصيرتي، ما لبست على نفسي، ولالبس علي) [٣٣].
قال ابن أبي الحديد: (قوله: (ما لبست) تقسيم جيد لأن كل ضال عن الهداية، فإما أن يضل من تلقاء نفسه، أو بإضلال غيره له) [٣٤] .
وقال: (قال أبو مخنف: وقام رجل إلى علي عليه السلام، فقال: يا أمير المؤمنين ! أي فتنة أعظم من هذه (يعني حرب الجمل) ؟ إن البدرية ليمشي بعضها إلى بعض بالسيف ! فقال علي عليه السلام: ويحك، أتكون فتنة أنا أميرها وقائدها ؟ والذي بعث محمدا بالحق وكرم وجهه، ما كذبت ولاكذبت، ولاضللت ولاضل بي، ولازللت ولازل بي، وإني لعلى بينه من ربي بينها الله لرسوله، وبينها رسوله لي، وسادعي يوم القيامة ولا ذنب لي... ) [٣٥].
٣ - وقال عليه السلام: (والله، ما كتمت وشمة (أي كلمة)، ولاكذبت كذبة، ولقد نبئت بهذا وهذا اليوم (أي يوم بيعته)) [٣٦] .
٤ - وقال عليه السلام: (وإني لعلى بينة من ربي، ومنهاج من نبيي، وإني لعلى الطريق الواضح ألقطه لقطا، انظروا أهل بيت نبيكم، فالزموا سمتهم، واتبعوا أثرهم، فلن يخرجوكم من هدى، ولن يعيدوكم في ردي، فإن لبدوا فالبدوا، وإن نهضوا فانهضوا، ولا تسبقوهم فتضلوا، ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا) [٣٧].
أقول: اللقط: أخذ الشئ من الأرض، وإنما سمى اتباعه لمنهاج الحق لقطا لأن الحق واحد، والباطل ألوان مختلفة، فهو يلتقط الحق من بين ضروب الباطل، والسمت - بالفتح -: الطريق، ولبد: أقام.
٥ - وقال عليه السلام: (وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليد [خ ل أنا ولد]، يضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده، ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشي ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولاخطلة في فعل) [٣٨].
قال ابن أبي الحديد: (روى الفضل بن عباس، قال: سألت أبي عن ولد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم الذكور أيهم كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم له أشد حبا ؟ فقال: علي بن أبي طالب عليه السلام، فقلت له: سألتك عن بنيه، فقال: إنه كان أحب عليه من بنيه جميعا وأرأف، ما رأيناه زايله يوما من الدهر منذ كان طفلا... وما رأينا أبا أبر بابن منه لعلي، ولا ابنا أطوع لأب من علي له [٣٩] .
أقول: وإن من كان هذا شأنه لا يكون إلا من عصمه الله من الزلل، وآمنه من الفتن، وطهره من الدنس، وأذهب عنه الرجس، وطهره تطهيرا.
٦ - قال العلامة المجلسي رحمه الله: عن بريدة الأسلمي - في حديثه - أنه قال النبي صلى الله عليه واله وسلم: (قال لي جبرئيل: يا محمد ! إن حفظة علي بن أبي طالب تفتخر على الملائكة أنها لم تكتب على علي خطيئة منذ صحبته) [٤٠] .
(عفوه ومنّه)
قال عليه السلام لما ضربه ابن ملجم المرادي - لعنه الله -: (وصيتي لكم أن لا تشركوا بالله شيئا، ومحمد صلى الله عليه واله وسلم فلا تضيعوا سنته، أقيموا هذين العمودين، وأوقدوا هذين المصباحين، وخلاكم ذم، أنا بالأمس صاحبكم، واليوم عبرة لكم، وغدا مفارقكم، إن أبق فأنا ولي دمي، وإن أفن فالفناء ميعادي، وإن أعف فالعفو لي قربة وهو لكم حسنة، فاعفوا الا تحبون أن يغفر الله لكم ؟ والله، ما فجأني من الموت وارد كرهته، ولا طالع أنكرته، وما كنت إلا كقارب ورد، وطالب وجد، وما عند الله خير للأبرار [٤١].
أقول: (خلاكم ذم) أي عداكم الذم وجاوزكم اللوم بعد قيامكم بالوصية، ولفظ العمود مستعارلهما لشبههما بعمودي البيت لكونهما سببين لقيام الأسلام، والقارب: الذي يسير إلى الماء وقد بقي بينه وبينه ليلة واحدة.
وقال عليه السلام: (يا بني عبد المطلب ! لا الفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضا تقولون: قتل أمير المؤمنين، ألا لا تقتلن بي إلا قاتلي، انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة،ولا يمثل بالرجل، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور) [٤٢] .
قال جورج جرداق: (كل ما في الطبيعة كان يعصف بالثورة، إلا وجه ابن أبي طالب فقد انبسط لا يحدث بانتقام، ولا يشير إلى اشتباك، فإن العواد وقفوا بباب الأمام وكلهم جازع متألم باك يدعو إلى الله أن يرحم أمير المؤمنين فيشفيه ويشفي به آلام الناس، وكانوا قد شدوا على ابن ملجم فأخذوه، فلما أدخلوه عليه قال: أطيبوا طعامه وألينوا فراشه) [٤٣].
قال الشيخ المفيد رحمه الله، (عن هاشم بن مساحق القرشي قال: حدثنا أبي أنه لما انهزم الناس يوم الجمل اجتمع معه طائفة من قريش فيهم مروان بن الحكم، فقال بعضهم لبعض: والله، ظلمنا هذا الرجل - يعنون أمير المؤمنين عليه السلام - ونكثنا بيعته من غير حدث والله، لقد ظهر علينا فما رأينا قط أكرم سيرة منه ولا أحسن عفوا بعد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، تعالوا حتى ندخل عليه ونعتذر إليه فيما صنعناه.
قال: فصرنا إلى بابه فاستأذناه فأذن لنا، فلما مثلنا بين يديه جعل متكلمنا يتكلم، فقال عليه السلام: أنصتوا أكفكم، إنما أنا بشر مثلكم، فإن قلت حقا فصدقوني، وإن قلت باطلا فردوا علي، أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قبض وأنا أولى الناس به وبالناس من بعده ؟ قلنا: اللهم نعم، قال: فعدلتم عني وبايعتم أبا بكر، فأمسكت ولم احب أن أشق عصا المسلمين وافرق بين جماعاتهم، ثم إن أبا بكر جعلها لعمر من بعده، فكففت ولم اهج الناس وقد علمت أني كنت أولى الناس بالله وبرسوله وبمقامه، فصبرت حتى قتل وجعلني سادس ستة، فكففت ولم أحب أن افرق بين المسلمين، ثم بايعتم عثمان، فطغيتم عليه وقتلتموه وأنا جالس في بيتي وأتيتموني وبايعتموني كما بايعتم أبا بكر وعمر، وفيتم لهما ولم تفوا لي، وما الذي منعكم من نكث بيعتهما ودعاكم إلى نكث بيعتي ؟ فقلنا له: كن يا أمير المؤمنين، كالعبد الصالح يوسف إذ قال: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) [٤٤] ، فقال عليه السلام لا تثريب عليكم اليوم، وإن فيكم رجلا لو بايعني بيده لنكث بإسته - يعنى مروان ابن الحكم - ) [٤٥].
وعنه قال: (عن حبة العرني، قال: والله، إني لأنظرن إلى الرجل الذي ضرب الجمل ضربة على عجزه فسقط لجنبه، فكأني أسمع عجيج الجمل ما سمعت قط عجيجا أشد منه، قال: لما عقر الجمل، وانقطع بطان الهودج، فزال عن ظهر الجمل، وانفض أهل البصرة منهزمين، وجعل عمار بن ياسر ومحمد ابن أبي بكر يقطعان الحقب والأنساع، واحتملاه - أي الهودج - ووضعاه على الأرض، فأقبل علي بن أبي طالب حتى وقف عليها وهي في هودجها، فقرع الهودج بالرمح، وقال: يا حميراء ! رسول الله أمرك بهذا المسير ؟ ونادى عمار ابن ياسر يومئذ: لا تجهزوا على جريح، ولا تتبعوا مدبرا موليا، ورأيت يومئذ سعيد وأبان ابنا [٤٦] عثمان فجئ بهما إلى علي بن أبي طالب عليه السلام، فلما وقفا بين يديه قال بعض من حضر: اقتلهما يا أمير المؤمنين، فقال: بئس ما قلتم، آمنت الناس كلهم وأقتل هذين ؟ ثم أقبل عليهما، وقال لهما: ارجعا عن غيكما، وانزعا وانطلقا حيث شئتما وأحببتما، فأقيما عندي حتى أصل أرحامكما، فقالا: يا أمير المؤمنين ! نحن نبايع، فبايعا وانصرفا) [٤٧] .
قال صاحب الجواهر رحمه الله: (لما هزم الناس يوم الجمل قال أمير المؤمنين عليه السلام:
لا تتبعوا موليا، ولا تجهزوا على جريح، ومن أغلق بابه فهو آمن، فلما كان يوم صفين قتل المقبل والمدبر، وأجاز على الجريح، فقال أبان بن تغلب لعبدالله بن شريك: هاتان سيرتان مختلفتان ! فقال: إن أهل الجمل قتل طلحة والزبير، وإن معاوية كان قائما بعينه وكان قائدهم).
وفي الدعائم (عن أبي جعفر عليه السلام أنه: سار علي عليه السلام بالمن والعفو في عدوه من أجل شيعته، لأنه كان يعلم انه سيظهر عليهم عدوهم من بعده فأحب أن يقتدي من جاء بعده به فيسير في شيعته بسيرته، ولا يجاوز فعله - إلى أن قال: - قد تظافرت (النصوص) في أنه عليه السلام سار في أهل الجمل بالمن والعفو) [٤٨] .
وقال - أيضا: (عن أبي جعفر عليه السلام: لولا أن عليا عليه السلام سار في أهل حربه بالكف عن السبي والغنيمة للقيت شيعته من الناس بلاء عظيما، ثم قال: والله، لسيرته كانت خيرا لكم مما طلعت عليه الشمس) [٤٩].
وقال - أيضا - في ضمن كلامه: (على أنه عليه السلام مع منه عليهم بما من وكانت سيرته معلومة لديهم، قد فعلوا في كربلا ما فعلوا) [٥٠] .
وقال - أيضا: (فإنه عليه السلام أمر برد أموالهم، فأخذت حتى القدور... وأن عليا عليه السلام نادى: من وجد ماله فليأخذه، فمر بنا رجل فعرف قدرا نطبخ فيها فسألناه أن يصبر حتى ينضح فلم يفعل فرمى برجله فأخذه - إلى أن قال: - ولعل الجمع بين النصوص أنه عليه السلام قد أذن لهم بأخذ المال الذي عند العسكر، ثم بعد أن وضعت الحرب أوزارها غرمه من بيت المال لأهله حتى أنه عليه السلام كان يكتفي من المدعي باليمين) [٥١].
وقال - أيضا: (ويخطر في البال أن عليا عليه السلام كان يجوز له قتل الجميع إلا خواص شيعته، لأن الناس جميعا قد ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يوم السقيفة إلا أربعة: سلمان وأبا ذر والمقداد وعمار، ثم رجع بعد ذلك أشخاص، والباقون استمروا على كفرهم حتى مضت مدة أبي بكر وعمر وعثمان، فاستولى الكفر عليهم أجمع حتى آل الأمر إليه عليه السلام ولم يكن له طريق إلى إقامة الحق فيهم إلا بضرب بعضهم بعضا، وأيهم قتل كان في محله إلا خواص الشيعة الذين لم يتمكن من إقامة الحق بهم خاصة. والله العالم) [٥٢].
قال ابن أبي الحديد: (وحاربه أهل البصرة وضربوا وجهه ووجوه أولاده بالسيوف، وسبوه ولعنوه، فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم، ونادى مناديه في أقطار العسكر: ألا لايتبع مول، ولا يجهز على جريح، ولا يقتل مستأسر، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن تحيز إلى عسكر الأمام فهو آمن، ولم يأخذ أثقالهم، ولا ذراريهم، ولاغنم شيئا من أموالهم، ولو شاء أن يفعل كل ذلك لفعل ولكنه أبى إلا الصفح والعفو وتقبل سنة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يوم فتح مكة فإنه عفا والأحقاد لم تبرد، ولا إساءة لم تنس) [٥٣] .
وقال - أيضا: (إن الغالب على ذوي الشجاعة، وقتل الأنفس، وإراقة الدماء أن يكونوا قليلي الصفح بعيدي العفو، لأن أكبادهم واغرة، وقلوبهم ملتهبة، والقوة الغضبية عندهم شديدة، وقد علمت حال أمير المؤمنين عليه السلام في كثرة إراقة الدم وما عنده من الحلم والصفح ومغالبة هوى النفس، وقد رأيت فعله يوم الجمل، ولقد أحسن مهيار في قوله :
حتى إذا دارت رحى بغيهم ***** عليهم وسبق السيف العذل
عاذوا بعفو ماجد معود ***** للعفو حمال لهم على العلل
فنجت البقيا عليهم من نجا ***** وأكل الحديد منهم من أكل
أطت بهم أرحامهم فلم يطع ***** ثائرة الغيظ ولم يشف الغلل [٥٤]
تذييل واستطراد :
قال العلامة المناوي: (ويح عمار ! تقتله الفئة الباغية: (ويح عمار) بالجر على الأضافة، وهو ابن ياسر، (تقتله الفئة الباغية)، قال القاضي في شرح المصابيح: يريد به معاوية وقومه، انتهى.
وهذا صريح في بغي طائفة معاوية الذين قتلوا عمارا في وقعة صفين، وأن الحق مع علي، وهو من الأخبار بالمغيبات - إلى أن قال: - قال القرطبي: هذا الحديث من أثبت الأحاديث وأصحها، ولما لم يقدر معاوية على إنكاره، قال: إنما قتله من أخرجه، فأجابه علي بأن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إذن قتل حمزة حين أخرجه، قال ابن دحية: وهذا من علي إلزام مفحم لاجواب عنه، وحجة لااعتراض عليها.
وقال الأمام عبد القاهر الجرجاني في (كتاب الأمامة): أجمع فقهاء الحجاز والعراق من فريقي الحديث والرأي، منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي والجمهور الأعظم من المتكلمين والمسلمين (على) أن عليا مصيب في قتاله لأهل صفين كما هو مصيب في أهل الجمل، وأن الذين قاتلوه بغاة ظالمون له، لكن لا يكفرون ببغيهم... وعن أبي سعيد الخدري، قال: كنا نحمل في بناء المسجد لبنة لبنة وعمار لبنتين، فراه النبي صلى الله عليه واله وسلم ينفض التراب عنه ويقول: (ويح - الخ،) قال المصنف (يعني السيوطي) في الخصائص: هذا الحديث (أي حديث عمار) متواتر، ورواه من الصحابة بضعة عشر...) [٥٥] .