وقال (عليه السلام): رُبَّ مَفْتُون بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِ.                
وقال (عليه السلام): إذَا كَانَ في رَجُل خَلَّةٌ رَائِعَةٌ فَانْتَظِرْ أَخَوَاتِهَا.                
وقال (عليه السلام): مَنْهُومَانِ لاَ يَشْبَعَانِ: طَالِبُ عِلْم، وَطَالِبُ دُنْيَا.                
وقال (عليه السلام): إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .                
وقال (عليه السلام) : مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا .                
وقال (عليه السلام): الْقَنَاعَةُ مَالٌ لاَيَنْفَدُ.                
وقال (عليه السلام): اذْكُرُوا انْقِطَاعَ الَّلذَّاتِ، وَبَقَاءَ التَّبِعَاتِ.                

Search form

إرسال الی صدیق
التكامل الأخلاقي في نهج البلاغة

المدرس الدكتور : يحيى رمزي محسن

كلية الإمام الكاظم(ع) للعلوم الإسلامية الجامعة

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

     الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف خلق الله محمد وآله الطيبين الطاهرين وأصحابه الأخيار المنتجبين .. وبعد

" لقد عُلِّقَ بنياطِ هذا الإنسانِ بَضعةٌ هي أعجبُ مافيه  : وذلكَ القلبُ ، وأنّ لهُ أدواتٌ منَ الحكمةِ وأضداداً من خلافها . فإنْ سنَحَ لَهُ الرَّجاء أذلَّهُ الطَّمعُ ، وإنْ هاجَ بهِ الطَّمعُ أهلَكهُ الحرصُ ، وإنْ ملَكَهُ اليأسُ قَتلَهُ الأسفُ ، وإنْ عرَضَ لهُ الغَضَبُ آشْتَدَّ بهِ الغيظُ ، وإنْ أسْعَدَهُ الرِّضى نَسيَ التَّحفُّظَ ، وإنْ غالَهُ الخوفُ شَغَلَهُ الحذرُ ، وإنِ اتَّسّعَ لهُ الأمرُ آستلَبَتْهُ آلغِرَّةُ ، وإنْ أفادَ مالاً أطْغاهُ آلغِنى ، وإنْ أصابتْهُ مُصيبَةٌ فَضحهُ آلجَزَعُ ، وإنْ عَضَّتْتهُ آلفاقةُ شَغَلَهُ آلبلاءُ ، وإنْ جَهَدَهُ آلجوعُ قَعَدَ بِهِ الضَّعفُ ، وإنْ أفْرَطَ بهِ الشِّبعُ كَظَّتْهُ البِطْنَةُ . فكُلُّ تَقصيرٍ بهِ مُضِرٌّ ، وَكلُّ إفْراطٍ لَهُ مُفْسِدٌ " .

هذا ما أورده الإمام علي(ع) عن سايكلوجية الأخلاق عند الإنسان وتضاده بين السمو والانكسار،بين الرفعة والوضاعة،بين الإندفاع والغريزة . فهو يرى بأنّ الإنسان مخلوق وله ملكات باطنية تعمل للخير ، مع وجود أضدادها التي تعمل للشّر ، فالإنسان الذي له أدوات الحكمة ومعرفتها له أضدادها التي تخالفُها .

ونهج البلاغة كتابٌ نفيس ذو قيمةٍ علمية ٍواسعة ٍ، وليس  لذي لُبٍّ أن يشكَّ في ذلك أو أن تعتريه أية شبهةٍ حولهُ .. فهو في مصاف الكتب النفيسة والتي تعد من أمّات حضارتنا الإسلامية . فهو كتابٌ أدبي ،وديني،واجتماعي،وأخلاقي وتاريخي بعد القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف.حيث يُعد تراثه العلامة المضيئة والدلالة البالغة على روح الإسلام ، وقد عجز الزمان من أن يبلاه ، بل أصبح الزمانُ والأفكار الحديثة النيرة المستقاة منه تزيدهُ ثمناً ونوراً وبهاءً . فكلماتهُ التي يطلقها الإمام فيه هي مرآةٌ لروح الإسلام الخالد ، وبلاغتهُ هو البيان الرائع الذي بلغ فيه أوج عظمتهِ ، والتي نثرها الإمام في هذا الكتاب . وانّ المواعظ والحكم المنثورة فيه رغم صدورها قبل ألفَ عامٍ أو أكثر فإنّها تؤدّي دورها الفعّال ،وتؤثرُ أثرها الغريب لوقتنا الحاضر .  فكلماتهِ الموجودة بين دفّتي النهج هي حيّةً خالدةً لم تفقد أي أثرٍ من آثارها ،فهي تنفد في القلوب وفي الألباب فتهزّها ، تجري في العواطف فتجعلها تذرف الدموع من حيث يدري القارىء أم لايدري.

جاءت فكرة كتابة هذا البحث وليدة إندفاع مني لإحياء هذا التراث الإسلامي العظيم المبثوث هنا وهناك كالدرر المنثورة تزيّن حضارتنا وتراثنا الإسلامي العريق .

وقد وقع إختياري لموضوع (الأخلاق) بالذات لما لها من تأثير فعّال لبناء الأمة الإسلامية بناءاً صحيحاً وقويماً ..    

 وقد قسم البحث إلى ثلاثة مباحث  :

عني المبحث الأول باستقصاء( الأخلاق) لغةً وما تناولتها معاجم اللغة ،إذ ذهبت إلى أنّ معناها هي الطبيعة والسجية والمروءة والدين .، واصطلاحاً وقد وجدت أنّ هناك علاقة بين اللغة والإصطلاح للكلمة وأنّها قد انحدرت عن أصلها اللغوي من خلال تسمية ( علم الأخلاق) باسم ( الحكمة الخلقية) وهي مأخوذة من هذه الصفات التي ذكرتها المعاجم اللغوية والتي تندرج تحت مصطلح(الحكمة) .أمّا الإتجاهات والآراء التي دارت حول الإنسان وفطرته على الخير والشر ، فهي ثلاثة اتجاهات ، الأول منها ذهب الى القول بأنّ ( الأخلاق) هي ملكة نفسانية للإنسان تكون مقابلة للخير والشر معاً . في حين ذهب الإتجاه الثاني الى أنّ الإنسان مفطور على الخير حيث أنّه اذا رجع الى أصل فطرته فلا يرى إلاّ الخير ولا يميل إلاّ إليه ، أما الشّر فهو يتعرض للإنسان نتيجة للعوارض التي تعترضه لا من أصل جبلّته . أمّا الإتجاه الثالث فقد ذهب إلى أنّ الإنسان مفطورٌ على الشّر وهو شرّيرٌ بطبعه ، وأنّ الفساد غريزةٌ فيه .

وكان عنوان المبحث الثاني (عليٌ والأخلاق) تناولت فيه عن عاطفة الإمام(ع) وغريزته التي يمتاز بها ، وأوضحت فيه بأنّ عاطفة الإمام(ع) هي عقله ، وأنّ العوارض الخارجية التي تعترضه كان لا يتأثّرُ بها بل هي التي كانت تتأثّرُ به . فنرى أنّ الإمام علي (ع) له رأيٌ خاص في معنى (الأخلاق) عند الإنسان حيث سبق جميع علماء الأخلاق في ذلك . فنرى رأيه قد تجلى في خطبه الكثيرة التي يشرح فيها معنى ( الأخلاق) وينشرها بين أصحابه .ويمكن من خلال ذلك القول بأنّ (الأخلاق) هو علمٌ باحثٌ في الملكات النفسية الموجودة في الإنسان بقواه الباطنية والتي تجعله يثبت فيه الفضائل ويرفع عنه الرذائل ، وبرأي السيد الطباطبائي هو :" الباحث عن الملكات الإنسانية المتعلقة بقواه النباتية والحيوانية والإنسانية ، وتميز الفضائل منها من الرذائل ليستكمل الإنسان التحلي والإتصاف بها سعادته العلمية ، فيصدر عنه من الأفعال ما يجلب الحمد العام والثناء الجميل من المجتمع الإنساني ".

وتناول المبحث الثالث لذكر ثلاثة نماذج من الفضائل الأخلاقية الواردة في (نهج البلاغة ) والتي وصلت إلى أكثر من (٤٥) فضيلة، فتناولت لفضيلة الزهد لما لها من أهمية كبيرة من بين الفضائل ، ولكثرة ورودها في خطب وحكم النهج ، وكذلك تناولت لذكر حب الدنيا وذمِّها ،فتناولت لجميع الخطب والرسائل والحكم التي ذكرها الإمام(ع) في النهج . ثمَّ تكلمت عن ( الصبر والجزع ) وما تناوله الإمام لهما في نهج البلاغة .

 وبعد هذه المقدمة البسيطة للبحث أودّ أن أذكر عن خير ما قيل عن ملاك الأخلاق عند علي (ع) هو ما قاله الأستاذ عباس محمود العقاد في عبقريته حيث قال :" وكان ملاك الأمر في أخلاق علي (ع) أنّه كان لا يتكلف إظهار شيء ، ولا يتكلف إخفاء شيء ، ولا يقبل التكلف حتى من مادحيه ، فربما أفرط الرجل في الثناء عليه وهو متّهمٌ عنده فلا يدعه يعلن عن طويته ويقول له : ( أنا دونَ ما تقول وفوقَ ما في نَفْسِك ) .

وفي الختام أرجو أن أكون قد وفقت في كتابة هذا البحث وما توفيقي إلاّ بالله العلي العظيم عليه توكلت وإليه أنيب ..

 د . يحيى رمزي محسن

رئيس قسم الفكر الإسلامي

كلية الإمام الكاظم (ع) للعلوم الإسلامية الجامعة

المبحث الأول

الأخلاق لغةً واصطلاحاً

المعنى اللغوي للأخلاق...

الأخلاق ، مأخوذة من مادة خُلْق – خُلُق : ( بضم الخاء وسكون اللام أو بضم الخاء واللام ) ، وهي بمعنى الطبيعة ، كما قال تعالى  وأنك لعلى خلق عظيم أورده ابن منظور في لسان العرب  . وكذلك قد وردت بمعنى : السجية والمروءة والدين، كما في الحديث الشريف}  أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً { .. وخالق الناس : أي عاشرهم على أخلاقهم . وتحدثت بقية معاجم اللغة حول هذه الكلمة وأوردتها على نفس المعنى  ، وهي الطبيعة أو السجية أو المروءة والدين .

وذهب الأزهري في تهذيب اللغة عن أبي عبيدة عن أبي زيد – إنه لكريم الطبيعة والخليقة والسليقة : هي بمعنى واحد  .

و( الخُلْق – الخُلُق ) : جمعها أخلاق.

فهذا هو المعنى اللغوي للأخلاق في متناول لغة الإنسان المتبادلة عند العرب...

المعنى الاصطلاحي للأخلاق...

هنالك علاقة في اشتقاق كلمة ( الأخلاق ) بين اللغة والاصطلاح ، فكما أن معنى الأخلاق في اللغة هي : السجية والطبيعة ، فأنها في الاصطلاح تعني سجية الإنسان وجبلته بما تحويها من خير وشر ، وكما أن هذه الصفات تندرج تحت مصطلح الحكمة ، فكذلك إن تسمية علم الأخلاق باسم ( الحكمة الخلقية ) قد انحدرت من هذا المعنى.

وبهذا نرى بأن المعنى الاصطلاحي منحدر عن أصله اللغوي...

أما الاتجاهات المنظورة لعلماء الأخلاق فقد رأيناها قد انقسمت إلى ثلاثة اتجاهات ، فالاتجاه الأول قد ذهب إلى القول بأن ( الخلق ) هو ملكة نفسانية باطنية للإنسان تكون قابلة للخير وللشر معاً ، وهو ماذهب إليه أبن مسكويه،ابو علي احمد بن محمد الرازي (ت ٤٢١هـ/١٠٣٠م)، ثم حذا حذوه كل من الغزالي،ابو حامد محمد بن محمد بن محمد (ت٥٠٥هـ/١١١١م) وابن خلدون،عبد الرحمن بن محمدالحضرمي (ت ٨٠٨هـ/ ). حيث عبر عنها ابن خلدون في مقدمته : بأن الإنسان مفطور على فعل الخير والشر، حيث أن الخير هو أصل فطرته وهي قوته الناطقة العاقلة ، أما فعل الشر فهي قد جاءت إليه من قبل الحيوانية التي هي فيه من حيث أنه إنسان ، ولكنه إلى الخير أقرب منه إلى الشر .

أما الاتجاه الثاني فقد مثله الشيخ محمد عبده (ت ١٣٢٣هـ) حيث قال : " لاشك في أن الميل إلى الخير مما أودع طبع الإنسان .. والإنسان يفعل الخير بطبعه وتكون فيه لذاته ، ويميل إلى عبادة الله تعالى ، لأن شكر المنعم مغروس في الطبع ، ويظهر أثره في كل إنسان ، ولا يحتاج الإنسان إلى التكلف في فعل الخير،وأما فأنه يعرض للنفس بأسباب ليست من طبيعتها ولا مقتضى فطرتها. ومهما كان الإنسان شريراً ، فأنه لا يخفى عليه أن الشر ممقوت في نظر الناس وصاحبه مهين عندهم ".

فالشيخ محمد عبده قد ذهب إلى أن الإنسان مفطور على الخير ، حيث أنه إذا رجع إلى أصل فطرته فهو لايرى ألا الخير ، ولا يميل إلا إليه. أما الشر فهو   يتعرض للإنسان نتيجة للعوارض التي تعترضه لا من أصل جبلته التي تجبل عليها...

أما الاتجاه الثالث فهو القائل بأن الإنسان مفطور على الشر وهو ما ذهب إليه أبو العلاء المعري،احمد بن عبد الله (ت ٤٤٩هـ/١٠٥٧م) في نظر صاحب كتاب     ( الخلق الكامل ) حيث قال عنه  " بأن الإنسان مفطور على الشر ، فأذن في شعره بأن الإنسان شرير بطبعه ، وأن الفساد غريزة فيه ".

فهذه الاتجاهات الثلاثة التي ذهب إليها علماء الأخلاق ، يرى الباحث أن أقرب هذه الآراء الى الصحة هو ما ذهب إليه كل من ابن مسكويه (ت- ٤٢١هـ) والغزالي (ت-٥٠٥هـ) أبن خلدون(ت-٨٠٨هـ) ، حيث أن في الإنسان جبلة خير تقابلها نقيضتها الشر. فكل أصل وفرع للأخلاق الفاضلة لابد وأن لها نقيض يقابله عند الإنسان. بدليل بعض الآيات القرآنية الكريمة التي وردت في القرآن الكريم ، حيث تدل على أن الإنسان قابلاً للخير والشر معا, قال تعالى :  ألم نجعل له عينين، ولساناً وشفتين، وهديناه النجدين  أي هديناه طريقي الخير والشر ، وقوله تعالى  ونفس وما سواها فألهما فجورها وتقواها ، وقوله تعالى  إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً   .

المبحث الثاني

علي والأخلاق...

إن الإمام علي(ع) بشر مثلنا، له عقل يفكر به، ودين يتمسك به، وعاطفة وغريزة. ولكن العاطفة والغريزة التي التي تميزنا عنه هو كوننا قد تجاوز حدها المعقول التي رسمت لها. فهي قد تقودنا الى الطغيان والى الظلم، فهذه هي نزعة جميع أفراد البشر قاطبة، لهم بواعث وزواجر من الداخل قد تدفعهم إلى فعل الشر وتغلبه على فعل الخير...

هذا هو حال البشرية جمعاء، في حين نرى أن عاطفة الإمام على (ع) وعقله ليس هناك بينهما أي تصادم ولا أي صراع، فعاطفته هي عقله. ومعنى هذا أن الإمام (ع) لايضطر إلى الاستجابة لعواطفه وشهواته إذا دعته إلى فعل الشر ومخالفة للدين. لان ذلك غير موجود أصلا عنده, ومستحيل أن يحصل في حقه أبدا ..أما العوارض الخارجية التي تعترضه فهو فوقها تتأثر به ولا يتأثر بها. فالأخلاق عند علي (ع) لا تتوقف وجودها على الشعور والانفعالات والعواطف, بل هي الأصل , فهي صفات قائمة في الأفعال بذاتها ولا دخل في وجودها اي أوامر أو نواهي، فقيمة كل فعل وحقيقته تكمن في ذاتها وفي باطنها. فالخير هو فعل الخير بذاته، والشر هو فعل الشر بذاته...

   فالله سبحانه وتعالى عندما أمرنا على فعل الحسن لأنه حسن، ونهانا عن فعل الشر لأنه شر، فالعمل الصالح المجلب للمنفعة والخير للجميع يوصف بالحسن.. فهذا هو منهج الإسلام في حقيقة الأخلاق" تلك الأخلاق التي أمرها الدين الإسلامي التي لايصل البشر إلى تأسيسها مهما تكاملت نفسه، تلك الأخلاق التي تجعل الإنسان أعلى منزلة من الملائكة ".

والإمام علي (ع) (ت٤٠هـ) له رأي خاص في معنى الأخلاق عند الإنسان حيث سبق جميع علماء الأخلاق في ذلك ، فنرى بأن رأي الإمام (ع) قد تجلى في خطبه الكثيرة التي يشرح فيها الأخلاق ، وينشرها بين أصحابه ، فهو يرى بأن الإنسان مخلوق وله ملكات باطنية تعمل للخير ، مع وجود أضدادها التي تعمل للشر ، فالإنسان الذي له أدوات الحكمة ومعرفتها له أضدادها التي تخالفها فقال (ع) :

" لقد عُلِّقَ بنياطِ هذا الإنسانِ بَضعةٌ هي أعجبُ مافيه  : وذلكَ القلبُ ، وأنّ لهُ أدواتٌ منَ الحكمةِ وأضداداً من خلافها . فإنْ سنَحَ لَهُ الرَّجاءُ أذلَّهُ الطَّمعُ ، وإنْ هاجَ بهِ الطَّمعُ أهلَكهُ الحرصُ ، وإنْ ملَكَهُ اليأسُ قَتلَهُ الأسفُ ، وإنْ عرَضَ لهُ الغَضَبُ آشْتَدَّ بهِ الغيظُ ، وإنْ أسْعَدَهُ الرِّضى نَسيَ التَّحفُّظَ ، وإنْ غالَهُ الخوفُ شَغَلَهُ الحذرُ ، وإنِ اتَّسّعَ لهُ الأمرُ إستلَبَتْهُ الغِرَّةُ ، وإنْ أفادَ مالاً أطْغاهُ الغنى ، وإنْ أصابتْهُ مُصيبَةٌ فَضحهُ آلجَزَعُ ، وإنْ عَضَّتْتهُ الفاقةُ شَغَلَهُ البلاءُ ، وإنْ جَهَدَهُ الجوعُ قَعَدَ بِهِ الضَّعفُ ، وإنْ أفْرَطَ بهِ الشِّبعُ كَظَّتْهُ البِطْنَةُ . فكُلُّ تَقصيرٍ بهِ مُضِرٌّ ، وَكلُّ إفْراطٍ لَهُ مُفْسِدٌ " .

هذا هو رأي الإمام (ع) في معنى الأخلاق عند الإنسان وهو قد أختص به دون غيره ولم يسبقه إليها أحد غيره ، سوى أن الذين جاءوا من بعده قد أخذوه وصاغوه صياغة أخرى ، ورأيه هذا قد صارح ماجاء به القرآن الكريم . ويمكن القول بان (الأخلاق) هو علم باحث في الملكات النفسية الموجودة في الإنسان بقواه الباطنية تجعله يثبت فيه الفضائل ويرفع عنه الرذائل وبرأي العلامة الطباطبائي هو:" الباحث عن الملكات النفسية المتعلقة بقواه النباتية والحيوانية والإنسانية وتميز الفضائل منها من الرذائل ليستكمل الإنسان بالتحلي والاتصاف بها سعادته العلمية فيصدر عنه من الأفعال ما يجلب الحمد العام والثناء الجميل من المجتمع الإنساني" وخير ما قيل عن ملاك الأخلاق عند علي(ع) هو ماقاله الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد في ( عبقرية الإمام ) حيث قال: " وكان ملاك الأمر في أخلاق علي (ع) إنه كان لايتكلف إظهار شيء ولا يتكلف إخفاء شيء ولا يقبل التكلف حتى من مادحيه، فربما أفرط الرجل في الثناء عليه وهو متهم عنده فلا يدعه حتى يعلن له عن طريقته ويقول له: { أنا دونَ ماتقول وفوقَ ما في نفسك} وهكذا نرى من خلال ذلك بأن الإمام علي (ع) قد " ألقى على الأمة الإسلامية دروساً خالدة مابعدها دروس، دروساً فيها عز الدنيا وسعادة الآخرة، فيها راحة الفرد وراحة المجتمع، فيها العدل الاجتماعي المطلق وكل مايؤدي بالفرد إلى ذروة الكمال ".

المبحث الثالث

نماذج من الفضائل الأخلاقية الواردة في نهج البلاغة

إن المباحث المطروحة في ( نهج البلاغة ) لايمكن لشخص واحد أن يجمع مافيها ويدرسها دراسة تحليلية عميقة وكاملة ، فهو يتضمن لبحوث كثيرة كل منها تستحق البحث والتحقيق بصورة مستقلة . وهذا القسم الذي أتناوله في بحثي هذا هو أحد هذه البحوث ، لا أقول أكثرها تعمقاً وعدداً، إلاّ أنّه أحد البحوث المهمة والتي قد أكّد عليها الإمام (ع) في نهجه .. فهو يعكس فيه أخلاقه العظيمة ، أخلاقه الإسلامية الرائعة والتي قد قام بها قولاً وعملاً ، فهي تعتبر من الموازين الراقية لبناء الإنسان .. كل هذا قد عكسه الإمام(ع) في خطبه وحكمه الكثيرة ، فعلينا أن نأخذ من سيرته هذه الومضة ، ومن سير عظمائنا الأوائل ونأخذ منهم خُلُقهم العالي في سيرهم حتى نعيد للإنسانية قيمتها العليا ، فنحنُ في حاجةٍ إلى عطائهم فهم زاداً لنا .

وقد جمعنا الفضائل الأخلاقية التي وردت في نهج البلاغة فكانت أكثر من (٤٥) فضيلة ، إلا أننا ورغبة منا في الاختصار وعدم الإطالة ارتئينها أن نذكر ثلاثة نماذج من هذه الفضائل هي :

١ - الزهــــــد...

      يعتبر الزهد من المواضيع المهمة التي يؤكد عليها الإمام (ع) في خطب النهج، فهو من أكثر المواضيع بحثاً في نهج البلاغة، وهي بذلك تحتاج إلى بحث مستقل كامل ومنفصل عن بقية المواضيع لأهميتها وكثرة تكرارها والتأكيد عليها في خطب الأمام(ع).  

والزهد : هو كلمة مرادفة إلى حب الدنيا والرغبة إليها، فهو فطام النفس عن لذائذ الدنيا، والرغبة عن الدنيا عدولاً إلى الآخرة، وهو أحد منازل الدين وأرفع وأعلى مقاماته .

وقد عرف الأمام(ع) الزهد في موضعين هما:

  • قوله(ع) : { أيها الناس: الزَّهادةُ قِصَرُ الأملِ، والشُّكْرُ عندَ النِّعَمِ، والتَّوَرُّعُ عند المحارمِ ، فإنْ عَزَبَ ذلك عنكم، فلا يَغْلِبِ الحرامُ صبركُمْ ، ولا تَنْسَوْا عند النعم شُكْرَكُمْ } .
  • و قوله (ع) : { الزُّهدُ كلُّهُ بينَ كَلمَتينِ منَ القُرآنِ: قالَ اللهُ سُبحانَهُ : لكَيلا تَأْسَوْا على ما فَاتَكُمْ ولا تَفْرَحُوا بما آتَاكُمْ . ومنْ يأسَ على الماضي ، ولمْ يَفْرَحْ بِآلْآتِي، فَقَدْ أخَذَ الزُّهْدَ بِطَرَفَيْهِ }

فوصف الأمام (ع) الزهد بأنه في المقدور عند الإنسان وحددها بثلاثة أوصاف: ( قصر الأمل ) و( الشكر عند النعم ) أي بالطاعة و( التورع عند المحارم ). وكذلك وصفها الأمام(ع) بعدم الحزن على المفقود وعدم الفرح بالموجود، فهو الرضا الميسور...

وقد قال(ع) في صفة الزهاد في الدنيا... بقوله : { كانوا قوماً من أهلِ الدنيا وليسُوا من أهلِها فَكانُوا فيها كَمَنْ ليْسَ مِنْها، عَمِلُوا فيها بما يُبْصِرونَ، وبَادَرُوا فيها ما يَحْذَرُونَ ، تَقَلَّبُ أبدانُهُمْ بينَ ظَهْرانَيْ أهلِ الآخرةِ ، ويَرَوْنَ أهلَ الدنيا يُعَظِّمُونَ مَوتَ أجسادِهمْ وهُمْ أشَدُّ إعظاماً لموتِ قُلوبِ أحيائِهِمْ } .

فالزُّهاد هم في الدنيا يأكلون ويلبسون ويتلذذون، ولكنهم قد أدركوا أن فضلها هو ما كان أبقى، فبذلك قد أنفقوا لها فهم بهذه يفترقون عن أهل الدنيا، فأبدانهم معهم وأرواحهم للآخرة تتطلع . 

وعن نوف البكالي قال: رأيت أمير المؤمنين عليه السلام، ذات ليلة وقد خرج من فراشه، فنظر في النجوم فقال لي: يا نوف أراقد أنت أم رامق؟ ( أي منتبه العين ) فقلت: بل رامق ، قال: { يا نوفُ ، طُوبَى للزّاهدينَ في الدنيا الرّاغبينَ في الآخرةِ ، أُولئِكَ قَومٌ آتَّخَذُوا الأرضَ بِساطاً ، وتُرابَها فِرَاشاً، وَماءَهَا طِيباً، والقُرْآنَ شِعَاراً ، وَالدُّعاءَ دِثاراً ( كناية عن الدعاء جهراً ) ثم قَرَضُوا الدُّنْيَا قَرْضاً على مِنْهَاجِ آلمَسيحِ }. .

وقال (ع) : { أزْهَدْ في الدُّنيا يُبَصِّرْكَ اللهُ عَوراتِها، ولا تَغْفُلْ فَلسْتَ بِمَغْفُولٍ عنكَ } . .

ففي زهد الإنسان تُكشف له مصير الدنيا وأخبارها، فزهده تكشفه على حقيقتها فهي ثروة للإنسان... كما قال(ع) : { .. والزُّهْدُ ثَرْوَةٌ } .

وقال(ع) : { أفضلُ الزُّهْدِ إخْفاءُ الزُّهْدِ } .

وقال (ع) عن ثواب الزهاد قوله :{ فوَ اللهِ لوْ حَنَنْتُمْ حَنينَ آلْوُلَّهِ العِجَالِ ، ودَعَوْتُمْ بهَديلِ آلحَمَامِ وَجَأَرْتُمْ جُؤارَ مُتَبَتِّلِي الرُّهْبَانِ، وخَرَجْتُمْ إلى اللهِ منَ الأموالِ والأولادِ، إلتِماسَ القُرْبَةِ إليهِ في آرْتِفاعِ دَرجة عندَهُ، أو غُفْران سَيِّئَةٍ أحْصَتْها كُتُبُهُ، وَحَفِظَتْها رُسُلُهُ لَكانَ قَليلاً فيما أرْجُو لَكُم منْ ثَوَابِهِ، وأخافُ عَلَيْكُمْ من عِقابِهِ } .

ويقول(ع) في كتابه إلى عامله على البصرة (عثمان بن حنيف الأنصاري)، قال له(ع) : { ولو شئتُ لآهتدَيْتُ الطريقَ إلى مُصَفَّى هذا العسلِ وُلبابِ هذا القَمحِ وَنَسائِجِ هذا القَزِّ، ولكن هيهاتَ أنْ يَغْلِبَني هوَايَ ويَقودَني جَشَعي إلى تَخَيُّرِ الأطعِمَةِ، ولعلَّ بالحجازِ أوِ الَيمامَةِ من لا طَمَعَ لهُ في القُرْصِ ولا عَهدَ لَهُ بالشِّبْعِ، أو أبيتَ مِبْطاناً وَحوْلي بطونٌ غَرْثى (اي جائعة )، وأكبادٌ حَرّى،.. ألا وإنَّ إمامَكُمْ قدْ آكْتَفى من دُنْياهُ بِطِمْرَيْهِ، ومن طُعْمِهِ بقُرْصَيْهِ، فو اللهِ ما كَنَزْتُ من دُنياكُمْ تَبْراً، ولا آدَّخَرتُ من غَنائِمِها وَفْراً، ولا أعدَدْتُ لِبالي ثَوْبي طِمْراً...، إليكِ عني يا دنيا فحَبْلُكِ على غارِبِكِ   ( تشبيهاً لها بالناقة ) قدِ آنسَلَلْتُ من مخالبكِ ، وأفْلَتُّ من حَبائِلِكِ وآجْتَنَبْتُ الذَّهابَ إلى مَداحِضِكِ( أي مساقطك)} .

فالأمام كان بدوره مواسياً للآخرين في أحزانهم فنراه قد زهد في حياته في الخلافة أكثر  من أي وقت مضى، فهذا هو الزهد الحقيقي ليس فراراً من المسؤولية وأعراضاً عنها، بل هو مواساة لآلام الفقراء الجياع ومشاركة للضعفاء في ضعفهم...

وقد وصف الأمام(ع) زهد النبي(ص) وهو قائد الأمة وحامل رسالتها، كي يكون عبرة وموعظة للآخرين، ودرساً لهم كي يسيروا على ما سار عليه نبيهم نبي الرحمة (ص) إشفاقا منه على الفقراء والضعفاء والمساكين، فقال (ع) عن وصفه بذلك قوله : { ولقد كان صلى الله عليه واله وسلم يأكلُ على الأرضِ, ويجلس جِلْسَةَ العبدِ, ويخصفُ بيده نعلهُ, ويَرْقَعُ بيده ثَوْبَهُ, ويركبُ الحمارَ العاريَ, ويُرْدفُ خَلفَهُ, ويكون السترُ على بابِ بَيْتِهِ فتكونُ فيه التَّصاويرُ فيقولُ:{ يافلانةُ- لأحدى أزواجهِ- غيبيهِ عنِّي فاني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفَها}, فاعرض عن الدنيا بقلبه, وأمات ذكرَها من نفسهِ, وأحب أن تغيبَ زينتُها عن عينهِ , لكيلا يتَّخذَ منها رِياشاً, ولا يعتقِدَها قَراراً, ولا يَرجو فيها مُقاماً, فأخرَجَها من النَّفسِ, وأشخَصَها عن القلبِ, وغيَّبَها عن البَصَرِ. وكذلك من أبْغَضَ شيئاً أبْغَضَ أن ينظُرَ إليهِ, وان يُذْكَرَ عِنْدَهُ.

ولقد كان في رسول الله- صلى الله عليه واله- ما يدلك على مساوئِ الدنيا وعيوبها. إذ جاع فيها مع خاصته, وزُويتْ عنهُ زَخارفُها معَ عَظيم زُلْفَتِهِ. فلينظر ناظرٌ بعقلهِ, أكرمَ الله محمداً بذلك أم أهانه! فان قال: أهانه, فقد كذب- والله العظيم- بالأفكِ العظيم, وان قال: أكرمه فليعلم أن الله قد أهان غيره حيث بسطَ الدنيا له, وزَواها عن اقربِ الناسِ منه. فتأسَّى متأسٍّ بنبيهِ, واقتصَّ أثرهُ, وولجَ مولجَه, وإلا فلا يأْمَنِ الهَلَكةَ, فان الله جعل محمداً- صلى الله عليه واله- علماً للساعة, ومبشراً بالجنة, ومنذراً بالعقوبة, خرج من الدنيا خميصاً وورَدَ الآخرةَ سليماً. لم يضع حجراً على حجٍر, حتى مضى لسبيلهِ, وأجاب داعي ربِّهِ } .

فالنبي (ص) الحامل لرسالة الله سبحانه وتعالى إلى عباده, ومنقذاً لهم من الضلالة والردى, قد أصاب من الدنيا بقدر الحاجة الضرورية. فقد حقر الدنيا وزهد فيها, فهو تواضعٌ لله وتغليبٌ للعقل على المشاعر, فقد تكلم الأمام علي (ع) عن حياة الرسول الكريم (ص) وتصرفاته ما هو إلا بان تتأسى به بعد التكالب على الدنيا والغرور بزخرفها..

وتكلم الامام (ع)  عن نفسه ويصف مدرعته بقوله:{ والله رقَّعْتُ مِدْرعتي هذه حتى آستحيَيْتُ من راقِعِها. ولقد قال لي قائل: ألا تَنْبِذُها عنكَ ؟ فقلت: آعزُبْ عنِّي، فعندَ الصباحِ يَحمَدُ القومُ السُّرَى } .

ومن خبر ضرار بن حمزة الضبائي عند دخوله على معاوية ومسألته له عن أمير المؤمنين، وقال: فأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وهو قائم في محرابه قابض على لحيته يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: { يادُنيا يادُنيا، إليكِ عنِّي أبي تَعرَّضْتِ؟ أمْ إليَّ تشوَّقْتِ؟ لا حانَ حِينُك، هيهات! غُرّي غَيري، لا حاجةَ لي فيكِ، قد طلَّقْتُكِ ثلاثاً لا رجعةَ فيها! فعيشُكِ قصيرٌ، وخطرُكِ يسيٌر، وأملُكِ حقيرٌ. آهٍ من قلَّةِ الزاد، وطولِ الطريقِ، وبُعِد السَّفر، وعظيم المَوردِ }.

٢ - حب الدنيا وذمها ..

ومن مباحث نهج البلاغة المهمة أيضاً التحذير من الاغترار بالدنيا وعدم الركون إليها، فهو ذو علاقة بالزهد الذي قلنا عنه في فصل سابق، فالزهد هو مفهوم ذم الدنيا وهو المانع لعبادتها. ولأهمية هذا المبحث فقد أكثر الأمام(ع) في أكثر خطبه في النهج على التحذير من الدنيا ومن عبادتها...

قال(ع) : { عباد الله ، إنكم - وما تأمُلون من هذه الدنيا – أثوياءُ مؤجلونَ، ومدينون مُقتضونَ : أجلٌ منقوصٌ، وعملٌ محفوظٌ . فَربَّ دائبٍ مُضيعٌ ، وربَّ كادحٍ خاسرٌ. وقد أصبحتمْ في زمنٍ لا يزدادُ الخيرُ فيه إلاّ إدباراً، ولا الشرُّ فيه إلا إقبالاً ، ولا الشيطانُ في هلاكِ الناس إلا طمعاً. فهذا أوانٌ قويتْ عُدَّتُهُ، وعَمَّتْ مكيدتُهُ ، وأمكنتْ فَريستُهُ... أين أخيارُكم وصُلحاؤُكم! وأين أحرارُكُم وسُمحاؤُكُم! وأين المتورِّعُونً في مكاسبِهِم، والمُتنزِّهونَ في مذاهبِهِم! أليس قد ظَعَنوا جميعاً عن هذه الدنيا الَّدُنِيَّةِ ، والعاجلةِ المُنَغِّصَةِ . وهل خُلِقتُمْ إلاّ في حُثالَةٍ لا تَلتقي إلاّ بِذَمِّهِمُ الشَّفَتانِ ، آسْتِصغاراً لقَدْرِهِمْ ، وذَهاباً عن ذِكرِهم ! فإنّا للهِ وإنّا إليهِ راجُعونَ !} .

فالأمام علي(ع) قد كافح هذا الخطر ، خطر حب الدنيا والاغترار بها ، إذ أنها تجر الويلات على المسلمين، فكان يسير في حياته الخاصة ضد هذه السيرة الغير المرضية ، وجعل كفاحه على رأس القائمة الإصلاحية التي يقوم بها الأمام مع الناس..

ومن أقواله(ع) التي حذر فيها من الدنيا وعلى رفضها. قوله (ع) :    { عبادَ اللهِ، أوصيكم بالرفضِ لهذه الدنيا التاركةِ لكم، وإن لم تحبوا تركها، والمُبلية لأجسامِكم، وإن كنتم تحبون تجديدها، فإنَّما مَثَلُكُم ومَثَلُها كسفر سلكوا سبيلاً فكأنَّهُم قد قَطعوهُ وَأَمُّوا عَلَماً فكأنَّهم قد بلغوه، وكم عسى المُجري إلى الغايةِ أن يجريَ إليها حتى يَبْلُغَها! وما عسى أن يكونَ بقاءُ منْ لَه يومٌ لا يَعْدُوهُ وطالبٌ حثيثٌ من الموت يَحدوهُ، ومزعجٌ في الدنيا حتى يفارِقَها رَغْماً ! فلا تنافَسُوا في عِزِّ الدُّنْيا وفَخْرِها، ولا تعجبوا بزينتها ونعيمها ولا تجزَعوا من ضرّائِها وبُؤسِها، فإنَّ عزَّها وفخْرِها إلى انقطاع، وإنَّ زينتها ونعيمها إلى زوالٍ ، وضرّاءَها وبؤسَها إلى نفادٍ ، وكلُّ مدّةٍ إلى انتهاءٍ، وكلُّ حيٍّ فيها إلى فناءٍ... أولستُم ترون أهلَ الدُّنيا يُصبِحون ويُمسونَ على أحوالٍ شتّى: فمَيِّتٌ يبكي، وآخَرٌ يُعَزّى، وصريعٌ مبتلى، وعائدٌ يعودُ ، وآخرُ بنفسه يجودُ ، وطالبٌ للُّدنيا والموت يَطْلبُهُ ، وغافلٌ وليسَ بمغفولٍ عنه ، وعلى أثَرِ الماضي ما يمضي آلباقي!.} .

   فالإسلام المتمثل في نهج البلاغة يرى برفض هذه الدنيا لكثرة آثامها، وأن كل إنسان مادام إلى زوال ، وأنَّ الدنيا عمرها قصير، فعلى المرء أن يأخذ من ممره إلى مقره. فعلينا أن نتعظ بما يقوله الأمام علي(ع) عن الدنيا وأن لا نتغرر بها ونتكالب عليها.

      ويذكر الأمام في خطبة أخرى حول ذم الدنيا فيقول: { فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حُثالةِ القَرَظِ (وهو ورق السلم يدبغ به) وقُراضةِ الجَلَمِ (مقراض يجز به الصوف) وآتَّعظوا بمن كان قبلكم، قبل أن يتَّعِظَ بكم من بعدَكُم، وآرفُضوها ذميمةً ، فإنّها قد رفضت مَنْ كانَ أشغف بها منكم } .

وقال (ع) في خطبة أخرى: { والدُّنيا دارٌ مُني لها الفناءُ، ولأهلِها منها الجَلاءُ، وهي حُلوَةٌ خضراءُ ، وقد عَجِلَتْ للطّالب، والتبستْ بقلب النّاظرِ، فارتحلُوا فيها بأحسن ما بحضرتِكُم من الزّادِ ، ولا تسألُوا فيها فوق الكفافِ ، ولا تطلبُوا منها أكثر من البلاغِ } .

  وقد تحدث الأمام(ع) في خطب أخرى كثيرة يحذر فيها من الدنيا وعدم الغرور في زخرفها وزبرجها، لو جمعت كلها لطال بنا الوقت وأخذ منا وقتاً كثيراً، ألا وإنّني سأورد هنا أرقام الخطب ورقم صفحاتها فقط رغبة مني في الاختصار وعدم إطالة الوقت فلتراجع في كتاب النهج...

  • الخطبة:(١، ص٤٣) قوله(ع) يصف هبوط آدم(ع) إلى الأرض:{ وأهبطه الى دار البلية.وتناسل الذرية }.
  • الخطبة:(٣، ص٤٩) في آخر الشقشقية { ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها }.
  • الخطبة:(١٦، ص٥٨) قوله(ع) : { ولقلّما أدبرَ شيءٌ فأقبل}.
  • الخطبة:(٢٣ ، ص٦٤) من قوله (ع) : { فإن رأى أحدكم لأخيه غَفيرَةً – إلى - فلا تكوننَّ له فتنةً }.
  • الخطبة:(٣٢ ، ص ٧٥) من قوله (ع) : { ولبئس المتجر- إلى- عند الله عوضاً }. ومن قوله { ومنهم من أبعده عن طلب الملك – إلى – ولا مغدى } .
  • الخطبة:(٥٢، ص٨٩) من قوله ( ع) : { ألا وأن الدنيا قد تصرَّمَتْ-إلى- ولا يطولن عليكم فيها الأمد }.
  • الخطبة:(٦٣، ص٩٤) من قوله (ع) : { ألا إنَّ الدنيا دار لا يُسلم منها -إلى- وزائد حتى نقص }.
  • الخطبة:(٨٠، ص١٠٦) من قوله (ع) { ما أصفُ من دارٍ أولها عناء-إلى- ومن أبصر إليها أعمته }.
  • الخطبة:(٨١ ، ص١٠٧) من قوله (ع) : { فإنَّ الدنيا رَنِقٌ مشربُها-إلى- صيّور الفناء }.
  • الخطبة:(١٠٣، ص١٤٨-١٤٩) من قوله (ع) : { أيها الناس انظروا الى الدنيا-إلى- مايصحبُكُم منها ).
  • الخطبة: (١٠٩، ص١٥٨) قوله(ع) : { أقبلوا على جيفه قد أفتضحوا بأكلها، وأصطلحوا على حبها }.
  • الخطبة:(١١١، ص١٦٤-١٦٦) من قوله (ع) : { أما بعد فأني أحذركم الدنيا-الى – وظاعنون عنها } .
  • الخطبة:(١١٣، ص١٦٧- ١٦٨) من قوله (ع) : { وأحذركم الدنيا-إلى-حب العاجل } .
  • الخطبة:(١١٤ ، ص١٧٠) من قوله (ع) : { ثم أن الدنيا دار فناء وعناء-إلى-وأبعد الميت الحي لانقطاعه عنه }، ومن قوله { وأعلموا أن ما نقص من الدنيا-إلى-ومزيد خاسر }.
  • الخطبة: (١٣٢، ص١٩٠) من قوله (ع): { أما رأيتم الذين يأملون بعيداً-إلى-بل خلقت لكم مجازاً }.
  • الخطبة:(١٤٥، ص٢٠٢) من قوله (ع) : { أيها الناس أنما أنتم في هذه الدنيا-إلى-فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله }.
  • الخطبة : (١٥٧، ص٢٢٢) قوله(ع) : { فما يصنع بالدنيا مَن خُلق للآخرة! وما يصنع بالمال من عمّا قليل يسلَبُهُ، وتبقى عليه تبعتُه وحسابهُ}.
  • الخطبة: (١٦٠، ص٢٢٦) من قوله (ع) : { وكذلك من عظمت الدنيا في عينيه-إلى-وزوي عن زخرفها }. ومن { وإن شئت ثَنَّيْتُ بموسى كليم الله-إلى-لكفى به شقاقاً لله ومحاذة عن امر الله }.
  • الخطبة: (١٦١، ص٢٣٠) من قوله (ع) : { رهَّبَ فأبلغ-إلى- والمجد الكادح }.
  • الخطبة:(١٧٣، ص٢٤٨) من قوله (ع) : { ألا وأن الدنيا التي أصبحتم-إلى- وألهمنا وأياكم الصبر }.
  • الخطبة: (١٧٨، ص٢٥٧) من قوله (ع) : { أيها الناس أن الدنيا-إلى-وتغلب من غلب عليها }.
  • الخطبة:(١٨٢، ص٢٦٣) من قوله (ع) : { ألا أنه قد أدبر من الدنيا- إلى- بكثير من الآخرة لا يغنى }.
  • الخطبة: (١٩١- ص٢٨٤) من قوله (ع) : { ولاترفعوا من رفعته الدنيا- إلى- فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين }.
  • الخطبة: (١٩٦، ص٣١٠) من قوله (ع) : { أوصيكم عباد الله بتقوى الله وأحذركم الدنيا- إلى – وما نما منها فإلى مهلك }.
  • الخطبة/(٢٠٣، ص٣٢٠) من قوله (ع) : { أيها الناس إنما الدنيا دار مجاز- إلى – من قبل أن تخرج منها أبدانكم }.
  • الخطبة: (٢٢٣، ص٣٤٤) من قوله"(ع) عند تلاوته ياأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم إلى – بهلكة نفسك{ .،، ومن { وحقاً أقول: ما الدنيا غرتك-إلى – هم الهاربون منها اليوم }.
  • الخطبة: (٢٢٦، ص٣٤٨) من قوله (ع) : { دار بالبلاء محفوفة-إلى – وتفنيهم بحماميها }.
  • الخطبة: (٢٣٠، ص٣٥٢) من قوله (ع) : ( فأحذروا الدنيا- إلى – ولايركد بلاؤها ).
  • من كتاب له (ع) الى شريح بن الحارث : (٢٤٤، ص٣٦٥) من قوله (ع) : { أما إنك لو كنت أتيتني عند شرائك ماأشتريت-إلى – وسلم من علائق الدنيا }.
  • من وصية له (ع) للحسن بن علي (ع) : (٢٧٢، ص٣٩١) من قوله (ع) : { من الوالد الفان- إلى – صريع الشهوات }. ومن { وإن الدنيا لم تكن لتستقر-إلى – أو ما شاء مما لاتعلم }. ومن { وإياك أتغتر بما ترى-إلى – ونسوا ماوراءها }. وقوله(ع) : { من امن الزمان خانه، ومن أعظمه أهانه }.
  • من كتاب له (ع) الى معاوية : (٢٩٠،، ص٤٢٣) من قوله (ع) : ( أما بعد فان الدنيا مشغلة عن غيرها-إلى – والسلام ).
  • من كتاب له (ع) الى عبد الله بن عباس : (٣٠٧، ص٤٥٧) من قوله (ع) : ( أما بعد فان الرء ليفرح بالشيء-إلى – وهمك بعد الموت ).
  • من كتاب له (ع) الى سلمان الفارسي : (٣٠٩، ص٤٥٨) من قوله (ع) : ( أما بعد فإنَّما مثلُ الدنيا مَثلُ الحية-إلى – والسلام ).
  • من كتاب له (ع ) الى الحارث الهمداني : (٣١٠، ص٤٥٩-٤٦٠) من قوله (ع) : { وأعتبر بما مضى من الدنيا-إلى – وكلها حائل مفارق }. ومن { وإياك أن ينزل بك-إلى – في طلب الدنيا }.
  • من كتاب له (ع) الى عبد الله بن عباس : (٣١٣، ص٤٦٢) من  قوله (ع) : { أما بعد فأنك لست سابق أجلك-إلى – لم تدفعه بقوتك }.

 ومن باب الحكم...

  • ح : ٩ ، ص ٤٧٠.
  • ح : ٢٩، ص ٤٧٢.
  • ح : ٦٤ ، ص ٤٧٩.
  • ح : ١١٩، ص ٤٨٩.
  • ح : ١٣١ ،  ص ٤٩٢.
  • ح : ١٣٢ ، ص ٤٩٣
  • ح : ١٣٣ ، ص ٤٩٣
  • ح : ١٩١ ، ص ٥٠٣
  • ح : ١٩٢ ، ص ٥٠٣
  • ح : ١٩٥ ، ص ٥٠٤
  • ح : ٢٢٨ ، ص ٥٠٨
  • ح : ٣٠٣ ، ص ٥٢٩
  • ح : ٣٤٤ ، ص ٥٣٥
  • ح : ٣٥٩ ، ص ٥٣٧
  • ح : ٣٦٧ ، ص ٥٣٩
  • ح : ٣٨٠ ، ص ٥٤٣
  • ح : ٣٨٤ ، ص ٥٤٤
  • ح : ٣٨٥ ، ص ٥٤٤
  • ح : ٣٩٣ ، ص ٥٤٥
  • ح : ٣٩٦ ، ص ٥٤٦
  • ح : ٤١٥ ، ص ٥٤٨
  • ح : ٤٢٦ ، ص ٥٥١
  • ح : ٤٥٦ ، ص ٥٥٦
  • ح : ٤٥٧ ، ص ٥٥٦

ونرى بذلك أن الأمام(ع) بكثرة خطبه وحكمه والتي أكد عليها في نهج البلاغة عن التحذير من الدنيا ومن عبادتها ومن فنائها وزوالها، وعن زلاتها وعثراتها، إنما يوضح لنا بجلاء تام عن مفهوم ذم الدنيا في الإسلام في الوقت نفسه يحثنا على الزهد لأنه المانع عما نهانا عنه من الدنيا...

٣ - الصبر والجزع

الصبر: هو ثبات النفس وعدم اضطرابها في الشدائد والمصائب، بأن تقاوم معها، بحيث لاتخرجها عن سعة الصدر وما كانت عليه قبل ذلك من السرور، فيحبس لسانه عن الشكوى وأعضائه عن الحركات الغير المتعارفة.

وقد كتب الأمام(ع) وصية لأبنه الأمام الحسن(ع) ذاكراً في ضمنها التصبر وتعويد نفسه على ذلك وعدم الاستسلام للباطل وأهله فقال(ع): { وعود نفسك التصبر على المكروه ونعم الخُلُقُ التصبر في الحقِّ}.

فالصبر فضيلة من الفضائل الخلقية يعتصم بها المؤمن فيقلل بأسه وبه يهنأ قلبه بدخول السكينة والاطمئنان، فمن هداه الله بنور الأيمان وفقه وألهمه الصبر والثبات في مصائبه وشدائده،إذ أن من يتخلق بالصبر فأن الله يعطيه الأجر والثواب بغير حساب فقد قال تعالى في كتابه العزيز إنما يتوفى الصابرون بغير حساب.

والصبر دعامة من دعائم الأيمان الأربعة التي ذكرها الأمام(ع) في خطبته التي سُئِلَ بها عن الإيمان، فقال(ع) : { الإيمان على أربعة دعائم:على الصبر، واليقين، والعدل، والجهاد. والصَّبُر منها على أربع شُعب : على الشَّوقِ والشَّفق، والزُّهد والتَّرقُّب، فمن آشْتاق إلى الجنَّةِ سَلا عن الشَّهوات ومن أشفقَ من النارِ آجتنَبَ المحَّرمات، ومن زَهِدَ في الدُّنيا آستَهان بالمصيبات، ومن آرتقَب الموتَ سارعَ إلى الخيراتِ } .

وقوله(ع) : { وعليكم بالصبر، فإنَّ الصبر من الإيمان كالرَّأس من الجسد ولا خير في جسد لا رأس له ، ولا إيمانٍ لا صَبْرَ مَعَهُ } .

وقوله(ع) : { ولا إيمان كالحياء والصبر }  .

وقد قسم الأمام(ع) الصبر إلى قسمين، صبٌر على المكاره مثل الجائع الذي لا يجد القوت سبيلاً، وصبر لما يحب فقال(ع) : { الصبر صبران: صبر على ما تكره وصبر عما تحب } .

فإن " الصبر نفحة من نفحات الله، يعتصم به المؤمن فيتلقى المكاره والمصائب بحزم ثابت ونفس مطمئنة، ولولاه لأنهارت نفسه، وتحطمت قواه، وأصبح عاجزاً عن السير في ركب الحياة". وقد أوصى الإمام(ع) بطرح الهموم بعزائم الإرادة فقال(ع) :  إطرح عنك وإرادات الهموم بعزائم الصبر وحسن اليقين} . وأن الله سبحانه وتعالى يمنح الرضا على مرارة بقدرها، فقال(ع) : { ينزل الصَّبْرُ على قدر المصيبة، ومن ضرب يده على فخذه عند مصيبته حبط عملُهُ }  .

وقال(ع) : { لا يَعْدَمُ الصَّبُورُ الظَّفَرَ وإنْ طال به الَّزمانُ} ، أي أن سالك الطريق القويم يصبر ويثابر فيظفر بمرماه، فهو من الشجاعة التي يمتاز بها المرء.

وقال(ع) : { والصبر شجاعة}  فالصبر هو الأصل وأساس لحياة الإسلام، فبه يتحطم الكفر والشرك، فلولا الصبر وشجاعته ما كان للإسلام عينٌ ولا أيَّ أثرٍ  فـ{ من صبر صبر الأحرار وإلاّ سَلا سُلُوَّ الأغْمارِ } .

ولما كان الصبر بهذه المنزلة العظيمة والتي تحدث عنها الأمام(ع) في خطبه ومواعظه، فقد جعل الله تعالى جزاءه عظيماً وجليلاً وقد ذكر الله الصبر في أكثر من (٧٠) آية يحث فيها على الصبر والتخلي به وأثنى على الصابرين ورفع منزلتهم لأنه أساس جميع الفضائل،" فما من فضيلة إلا وهي محتاجة إليه، فالشجاعة هي الصبر على مكاره الجهاد، والعفاف هو الصبر على الشهوات، والحكم هو الصبر على المثيرات، والكتمان هو الصبر على إذاعة الأسرار، لهذا كله أحب الله الصابرين وأعلن في القرآن أنهم ينالون مزيداً من الفضل والرحمة في الدنيا والآخرة ".

فكما تحدث الأمام(ع) عن الصبر تحدث كذلك عن ضده ألا وهو (الجزع) فهو من المهلكات، ومن رذائل القوة الغضبية فهو ضيق في الصدور وتبرم وتضجر، فـ{ من لم ينجه الصبر أهلكه الجزع }

والجزع في المصائب إنكار لقضاء الله تعالى، وإكراه الحكمة، وسخطه على فعله. فقد قال الأمام(ع") مغزياً الأشعث بن قيس عن ابنٍ لهُ بقوله: { ياأشعث، إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت مأزور} .

فالصابر يؤجر على صبره ويشكر عليه، والجازع يلام ويؤاخذ على جزعه. والصبر يناضل نوائب الدهر بالتعقل، والجزع يزيدها إصفافاً. فقد قال(ع) في ذلك : { والصبر يناضلُ الحدثان – أي نوائب الدهر – والجزع من أعوان الزمان }. " فالصبر هو بلسم للقلوب المكلومة التي أثكلها الخطب، وجار عليها الزمان، وهو عزاء للنفوس الحزينة التي هامت بتيار من الهواجس والهموم، وهو تسلية للمعذبين الذين يعانون من محن الأيام    

وخطوبها ففي ظلاله يجدون الاطمئنان وتحت كنفه ينعمون بالراحة والاستقرار".

****************************