وقال (عليه السلام): لاَ خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ، كَمَا أنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ.                
وقال (عليه السلام): يَهْلِكُ فِيَّ رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ مُفْرِطٌ، وَبَاهِتٌ مُفْتَر.                
وقال (عليه السلام): الدُّنْيَا خُلِقَتْ لِغَيْرِهَا، ولَمْ تُخْلَقْ لِنَفْسِهَا.                
وقال (عليه السلام): إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .                
وقال (عليه السلام): لَيْسَ بَلَدٌ بأَحَقَّ بِكَ مِنْ بَلَد، خَيْرُ الْبِلاَدِ مَا حَمَلَكَ.                
وقال (عليه السلام): إِذَا وَصَلَتْ إِليْكُمْ أَطْرَافُ النِّعَمِ فَلاَ تُنْفِرُوا أَقْصَاهَا بِقِلَّةِ الشُّكْرِ .                
وقال (عليه السلام): عَلامةُ الاِْيمَانِ أَنْ تُؤثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ،أَنْ يَكُونَ فِي حَديِثِكَ فَضْلٌ عَنْ عِلْمِكَ، وَأَنْ تَتَّقِيَ اللهَ فِي حَدِيثِ غَيْرِكَ.                

Search form

إرسال الی صدیق
التوازن الحكيم في شخصية السيد الشريف الرضي

قبل كل شيء يجب ان نركز على أن المقصود بالتوازن ليس ما قد يتبادر إلى الأذهان لأول وهلة من التساوي من الجانبين أوما إلى ذلك ، وإنما يقصد منه ملء الواقع بالشكل العادل بحيث يوضع الشيء في محله دون أن يتحقق حيف بأجزاء الواقع ، وبحيث يشكل هذا الملء أفضل حالة لصالح الكمال .

وهو ما يمكن أن نطلق عليه اسم (التوازن الحكيم) أو(التوازن العادل) .

فمثلاً لو أننا لاحظنا جانب الغرائز الإنسانية فإننا نجد أنها تحتاج إلى إشباع معين ، وهي قد تتطلب ما يزيد على إشباعها الصحيح، فيؤثر هذا على إشباع الغرائز الأخرى . فإذا أعطيت أكثر مما يتطلبه واقعها وهدفها فقد اختل التوازن المطلوب في إشباع الغرائز فالتوازن لا يعني أن تشبع كل غريزة بالمقدار الذي تشبع به الغرائز الأخرى.

وعندما يتضح هذا المفهوم، نستطيع القول بأنه لا يحتاج في إجماله إلى إستدلال ، فإن نظرية خلق الكون بحكمة وإحكام وكون التشريع حكمة تشريعية تنسجم مع الحكمة الكونية هي من أوضح النظريات القرآنية التي يتكرر التصريح والإشارة إليها في مختلف الىيات القرآنية.

كما أن وصف (حكيم) هو من الأوصاف التي يؤكد عليها القرآن لله تعالى بعد عرض آية ، أو ذكر نعمة، أو تقرير حكم، أو بيان جانب تكويني ، وأمثال ذلك.

وبالنسبة للإنسان يحدد القرآن هدف خلقته بوضوح أكبر حين يعلن (وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون) [١]، ومما يوضح ان تكامل الإنسان يتم كلما تأصلت صفة العبودية لله تعالى فيه كفرد ، وأوج كمال الفرد يتمثل في النبي ، وأرقى صفة تمنح للنبي انه (نعم العبد).

يقول تعال: (ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد انه أواب) [٢] .

وحين يشهد المؤمن لرسول الله سيد البشرية بالرسالة يقدم العبودية أولاً فيقول: (اشهد ان محمداً عبده ورسوله) ويعكس هذا على الإنسان كمجتمع حيث يعمل عباد الله الصالحون وطليعتهم هم الأنبياء على إقامة المجتمع العابد.

(ولقد بعثنا في كل امة رسولاً ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) [٣].

هكذا إذن تكون  المسيرة الصحيحة المتوازنة المتكاملة للبشرية ضمن خطين. خط العبادة وخط اجتناب الطاغوت، وهما الناتجان الأساسيان من حالة العبودية المطلقة لله تعالى.

فنحن هنا نواجه تفصيلاً وتوضيحاً أكبر للعبودية يتمثل في (العبادة) و(رفض الطاغوت).

فالمراد إذن إيجاد الشخصية المتوازنة التي ترضي شهواتها ولكن وفق التخطيط الإلهي، وتنطلق هادية للآخرين مستخدمة كل المسائل لتبليغ كلمة الحق ونشر الخلق الحميد ، منفتحة على الآخر مع الاحتفاظ بخصوصيتها وقناعاتها.

وهذه الصفات نلحظها تماماً في شخصية السيد الشريف الرضي.

فإن الدارس لشخصية العالم الأديب والشاعر الفحل السيد الشريف الرضي يجد هذه الظاهرة (التوازن الحكيم) متجسدة فيها بشكل رائع، مما يؤهله لان يشكل قدوة رائعة للأجيال.

حياته الشخصية وظروفه السياسية

ولد في أوائل النصف الثاني من القرن الرابع الرابع الهجري في بغداد مقر الخلافة العباسية التي كانت تترنح تحت وطأة الديلم والأتراك وحيث سيطرة العوائل الشيعية على مجمل العالم الإسلامي، فآل بويه في العراق وإيران، والحمدانيون في الشام، والفاطميون في مصر والعوائل العلوية في شمال إفريقيا وهكذا.

وكانت عائلته من العوائل الهاشمية العريقة فأبوه هو الطاهر ذوالمناقب وكان يعد من الشخصيات المرموقة في المحافل العلمية والاجتماعية والسياسية، وقد كان بينه وبين عضد الدولة البويهي أمور أدت إلى اعتقال والد الشريف الرضي وعمه ومصادرة أموالهما ليعيشا معتقلين في قلعة فارس من سنة ٣٦٩ وحتى سنة ٣٧٦ هـ ورغم أن هذا العمل كان كميناً بتحريك الجماهير ضد عضد الدولة إلا أن إصلاحاته الواسعة واعماره اسكت خصومه.

ولما مات في شوال سنة ٣٧٢ خلفه ولده صمصام الدولة الذي استمر على سياسة أبيه في التضييق إلا أن أخاه شرف الدولة الذي كان يقيم بكرمان بادر بالإفراج عن والد الشريف خلافا لرغبة صمصام، وفي سنة ٣٧٦هـ  دارت الحرب بينهما وانتصر شرف الدولة ودخل بغداد فاتحاً ، وعاد الوالد إلى عائلته في بغداد.

اما أم الشريف فكانت السيدة الجليلية فاطمة وهي من سلالة الناصر الكبير فاتح مازندران وجيلان، وكانت تحظى بمكانة اجتماعية عالية ولها عند المرحوم الإمام الشيخ المفيد مقام رفيع وقد ألّف لها وباسمها كتابه (أحكام النساء).

وقد عنيت بولديها (الرضي والمرتضى) غاية العناية رغم نكبتها بزوجها ووفرت لهما أساتذة كبارا فنشآ عالمين يفتخر بهما التاريخ وحازا مكانة اجتماعية مرموقة فكان الشريف الرضي نقيب الأشراف وهو في الحادية والعشرين ثم منح لقب الأمير العام ونائب الخليفة على الحجاج ثم تسنم مقام رئيس ديوان المظالم وهي مقامات رفيعة تكشف عن استعدادات وقابليات كثيرة ، ومن الغريب أنه أحرز هذه المناصب مع وجود أمثال الشيخ المفيد والسيد المرتضى وهذان ارتفعا في مقامهما العلمي إلى مستوى جعلهما من أعاظم علماء الشيعة على مدى التاريخ.

هذا وقد ألف الشريف الرضي تسعة عشر كتاباً طبع منها لحد الآن سبعة كتب ، وقد تناولت مجالات القرآن والحديث والأدب.

وقد أسس مدرسة لتدريس العلوم الدينية وأسماها (دار العلم) ولعلها كانت أول مدرسة من نوعها كما أسس أخوه السيد المرتضى مدرسة أخرى ، وكان العلمان الجليلان الشيخ الطوسي والقاضي عبد العزيز بن البراج من تلاميذها وبطبيعة الحال فقد سبقت هاتان المدرستان تأسيس (المدرسة النظامية) بحوالي ٨٠ عاماً، وربما جاءت تقليداً لهما.

هذا وقد عرف من تلامذة الشريف الرضي من العلماء والأفاضل.

ويعد جمعه لكلمات الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتاب اسماه «نهج البلاغة» أروع ما قام به على الإطلاق، وقد روته عنه ابنة أخيه السيد المرتضى بعد ان درسته على يديه.

وقد توفي عام ٤٠٦هـ  وهو في السابعة والاربعين مخلفاً تراثا علمياً وأدبياً وشعرياً ضخماً لا يقدر بثمن،وان لم يقدره البعض بدوافع تعصبات مذهبية أوعلمية أو حتى أدبية.

وسوف نركز في هذا المقال على ظاهرة عامة هي (التوازن الحكيم) حيث تبدو بوضوح لكل من درس حياته ، وسبر أغوار نفسيته من خلال شعره الذي بلغ الأوج ، ومؤلفاته التي وصلت إلينا وتم طبعها وما لم يطبع منها كثير مع الأسف، بل وصلنا بعضها ناقصاً؛ فكتابه الرائع (حقائق التأويل) وصلنا منه جزؤه الخامس فقط وهو يفسر الآيات من سورتي آل عمران والنساء تخالف بالنظرة الأولى ما هو معروف من القواعد الأدبية أو الشرعية أو العقلية هو يرى أن الآيات الست في مطلع سورة آل عمران من المحكمات ويركز على واحد وثلاثين مورداً منها.

ويمكن أن نلخص هذه الظاهرة في حياة السيد الشريف الرضي في المظاهر التالية:

أولاً : العلم المعمق والأدب والشعر الرائع

ورغم أن هذه الحالة تبدو لنا في حياة  الكثير من العلماء سابقاً ولاحقاً ومنهم أخوه الإمام السيد المرتضى الا أنها هنا تبدو أعظم جلاء بل تكاد فيه ان تصل إلى حد التضاد فلا يمكن ان تجتمع شاعرية مرهفة وخيال مجنح مع الطبيعة النفسية للعالم المحقق المتأمل بعمق وصبر.

اذكر بهذه المناسبة بيتين لعالم كبير واديب المعي هو الشيخ الحر العاملي (رحمه الله) يقول فيهما:

علمي وشعري اقتتلا واصطلحا ***** فخضع الشعر لعلمي راغما

فالعلم يأبى أن اكون شاعراً ***** والشعر يرضى أن أعدّ عالما

ولا يحل هذا التضاد إلا إذا وجدت الروح الكبيرة والإيمان العميق والثقافة الواسعة والإرادة القعساء، وهذا ما نشهده في شخصية هذا العالم والشاعر الشاعر وفوق ذلك الإنسان الإنسان.

والجميل أن يشير هو إلى عنصر التوازن في شخصية الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، فينقل لنا أنه أراد في جمعه لكلامه في «نهج البلاغة» أن يبدي هذا الجانب فيقول:

«ومن عجائبه ، (عليه السلام)، التي انفرد بها ، وأمِنَ المشاركةَ فيها، أن كلامه الوارد في الزهد والمواعظ ، والتذكير الزواجر، إذا  تأمله ، وفكر فيه المتفكر ، وخلع من قلبه أنه كلام مثله ممن عظم قدره ، ونفذ أمره ، وأحاط بالرقاب ملكه، لم يعترضه الشك في أنه كلامُ مَنْ لاحَظّ له في غير الزّهادة ، ولا شغل له بغير العبادة ، قد قبع [٤] في كسر بيت [٥]، أو  انقطع إلى سفح جبل [٦] ، لا يسمع إلا حسّه ، ولا يرى إلا نفسه، ولا يكاد يوقن بأنه كلامُ من ينغمس في الحرب مصلتاً سيفه [٧]، فيقُطّ الرقاب [٨] ، ويجدّل الأبطال [٩]، ويعود به ينطف [١٠] دماً، ويقطر مهجاً [١١] .

وهو مع تلك الحال زاهد الزهاد ، وبدلُ الأبدال [١٢] وهذه من فضائله العجيبة ، وخصائصه اللطيفة ، التي جمع بها بين الأضداد ، وألف بين الأشتات [١٣]، وكثيراً ما أذاكر الإخوان بها ، وأستخرج عجبهم منها ، وهي موضع للعبرة بها ، والفكرة فيها».

إننا هنا لا نحتاج للتدليل على شاعريته فهي كالشمس لا تحتاج إلى بيان، ولكن نشيرإلى ما يدل عليه وقد أجمع مؤرخو الأدب على جعل حجازيات الشريف من ألمع فرائد الشعر العربي، ولكن نشير الى علمه بالإضافة لما مر عند الإشارة لكتابه (حقائق التأويل) حيث يكتشف المطالع  له ثقافة وعلماً واسعين ، فعندما يطرح الاية الشريفة (زين للناس حب الشهوات...) يتساءل عن هذا التزيين وحقيقته ، وإذا كان الأمر كذلك فما معنى العقاب عليه؟ ثم يجيب بأن هذه الطاقات معطاة بالفطرة ولكنها عيون فوارة بينت الشريعة أساليب الاستفادة منها على نحو متوازن فإذا خالف الإنسان أمرها استحق العقوبة.

وهكذا نجده يقف بعمق متأملاً المعاني الواردة في المقاطع القرآنية الشريفة: (هن ام الكتاب) (ربنا لا تزغ قلوبنا) (شهد الله أنه لا إله إلا هو) وغيرها.

وإذا انتقلنا إلى كتابه (تلخيص البيان في مجازات القرآن) نجده أحد أهم المصادر البلاغية على الإطلاق.

وهو أول كتاب يركز على المجازات القرآنية بمعناها البلاغي، أما أبوعبيدة معمر بن المثنى فهو في كتابه يجنح إلى التفسير أكثر كما لا يركز الجاحظ في كتابيه (البيان والتبيين) و(الحيوان) على خصوص المجازات وكذلك نجد ابن قتيبة – تلميذ الجاحظ – في كتابه (تأويل مشكل القرآن).

وربما كان تبحر الرضي في البلاغة ناتجاً عن دراسته على أساتذة كبار كالسيرافي وابن نباتة.

وقد ذكر الأستاذ زكي مبارك ذلك وقال: «ومعاذ الأدب ان استخف بآثار الشريف في ميادين الفكر والعقل ، فقد بلغ الغاية في كتاب (المجازات النبوية) وكتاب (حقائق التأويل) ولو كان الشريف غير شاعر لاستطاع أن يزاحم أماثل العلماء ولكن عبقريته الشعرية جنت عليه ، فخف ميزانه في الحياة العلمية بالقياس إلى بعض معاصريه ومنهم أخوه الذي أتى بالأعاجيب في الفقه والتوحيد) [١٤].

ثانياً: الاعتزاز بالمذهب والدفاع عنه مع الانفتاح على الآخر

ولا تنافي بين الأمرين في الواقع وان كان البعض يرى التنافي إلا أن الحقيقة تؤكد الانسجام. فطبيعي ان يعتز المرء بما يقتنع به وان يعتبره صحيحاً حقاً يعبد الله على أساسه، ولكن ذلك لا يعني ان يرفع الآخر او يحقّره أو يكفره.

فالشريف شيعي مؤمن بمذهب أهل البيت (ع) يعمل الى نشر فضائلهم ، ويتغنى بتاريخهم، ويتألم لآلامهم ولكن ذلك لا يمنعه من احترام الآخرين وتجليلهم فيقول عن يوم (الغدير):

غدر السرور بنا وكان ***** وفاؤه يوم الغدير

يوم أطاف به الوصي ***** وقد تلقب بالأمير

ويقول عنه أيضاً

لله در اليوم ما أشرفا ***** ودر ماكان به أعرفا

ساق الينا فيه رب العلى ***** ما أمرض الأعداء أو أتلفا

وخص بالأمر علياً وإن ***** بدّل من بدّل أو حرَفا

ان كان قولاً كافياً فالذي ***** قال بخم وحده قد كفي

قيل له بلغ فإن لم يكن ***** مبلغاً عن ربه ما وفى [١٥]

ويفتخر به فيقول: -

على مثل هذا اليوم تحنى الرواجب ***** وتطوى بفضل حيز فيه الحقائب

حُبينا وأمّرنا به فبيوتنا ***** لدن قيل ما قد قيل فيه الأهاضب

وطارت بما نلناه أجنحة الورى***** وسارت به في الخافقين الركائب

وقال اناس هالهم مارأوا لنا ***** ألا هكذا تأتي الرجال المواهب [١٦]

وقصيدته في التأوه على فاجعة كربلاء سارت بها الركبان ويقول فيها:

كربلا لازلت كرباً وبلا ***** ما لقي عندك آل المصطفى

كم على تربك لما صرّعوا ***** من دم سال ومن دمع جرى

ونجده يمدح الفاطميين رغم أنه كان يعيش في دولة العباسيين فيقول:

وطاغ يعير البغي غرب لسانه ***** وليس له عن جانب الحق ذائد

شننت عليه الحق حتى رددته ***** صموتاً وفي انيابه القول راقد

يُدل بغير الله عضداً وناصراً ***** وناصرك الرحمن والمجد عاضد

يُعير رب الخير بالي عظامه ***** الا نُزّهت تلك العظام البوائد

ولكن رأي سب النبي غنيمةً ***** وما حوله الا مريب وجاحد

ولو كان بين الفاطميين رفرفت ***** عليه العوالي والظبا والسواعد

وربما يصح ما قيل : ان اهتمامه بشرح خصائص البلاغة القرآنية والبلاغة النبوية هو دحض للمفتريات التي وجهت إلى التشيع والتي ادعت ان الشيعة لا يهتمون بالقرآن والحديث ، ومن هنا نفهم ان الشريف المؤلف كان معلماً عظيماً. وكان من الساهرين على رعاية الوحدة الاسلامية وهو بالتكريم خليق  [١٧].

ومع كل ذلك فإن موضوعيته وعلميته كانت تسمو على شخصيته المذهبية ، وقد اهتمّ بدراسة مذهب الإمام الشافعي  تماماً كما رأينا تلميذ مدرسته الشيخ العظيم الطوسي يهتم به ويطرحه في كتاب الخلاف حتى عده المرحوم السبكي من علماء الشافعية [١٨] ويبدو أن حالة التسامح هذه كانت سمة عامة آنذاك فقد ألّف السيد المرتضى (الناصريات) وفاء لجده الناصر وهو زيدي المذهب مركزاً على نقاط الوفاق ، وربما أيد الرأي الآخر حيث يقول مثلاً: - «ويقوى في نفسي – عاجلاً إلى ان يقع التأمل في ذلك – صحة ما ذهب إليه الشافعي» [١٩] .

ومن الجميل ان نجد أن العلاقة بينه وبين أبي اسحق الصابي بلغت شأوا بعيداً ، مع اختلاف الدين والعمر وقد رثاه بقصيدة رائعة يقول في مطلعها: -

أرأيت من حملوا على الأعواد ***** أرأيت كيف خبا ضياء النادي

ما كنت أعلم قبل حطك في الثرى***** أن الثرى يعلوعلى الأطواد

ثالثاً: بين خلق الشعراء وأدب العلماء وعفتهم

فصحيح ان خلق الشعراء وخيالهم يجنح بهم إلى الطرف والغزل والنسيب والجمال حتى في أقدس اللحظات والحج والحجاز في موردنا أقدس الأماكن ولكنه في شخص شريفنا لا يتجاوز الصورة الشعرية ولا يعبر العفة والخلق الرفيع ، بل يمتلئ شعره بالوعظ والتربية الخلفية.

وهو ما نلمحه في كثير من العلماء وحتى العرفاء والربانيين . وربما عبروا به عن وله  بمعشوقهم الأصيل.

وان المرء ليعيش روعة الحب العذري وعلو الروح والصورة عندما يعيش مع حجازيات الشريف وغيرها من شعره الغزلي البدوي الحضري الأصيل.

ولا تزال الأبيات التالية تتردد عبر العصور وهي تصف حالة وداع ديار الحبيب:

ولقد وقفت على ديارهم ***** وطلولها بيد البلى نهب

فبكيت حتى ضج من لغب ***** نضوي ولج بعذلي الركب

وتلفتت عيني فمذ خفيت *****عني الطلول تلفّت القلب

وينطلق الخيال معه وهو يقول:

إن الذي غمر الرقاد وساده ***** لم يدر كيف نبا علي وسادي

لولا هواك لما ذللت وإنما ***** عزي يعيرني بذل فؤادي

او يقول:

ابكي ويبسم والدجى ما بيننا ***** حتى اضاء بثغره ودموعي

قمر إذا استخجلته بعتابه ***** لبس الغروب ولم يعد لطلوع

قد كنت أجزيك الصدود بمثله ***** لو أن قلبك كان بين ضلوعي

ولكن العفة تطفح في شعره فتوازن المسيرة فيقول:

عفاف كما شاء الاله يسرني***** وان سيء منه بكرها وعوانها

ويقول:

وإذا هممت بمن احب أمالني***** حصر يعوق وعفة تنهاني

وبقوله :

يعف عن الفحشاء ذيلي كأنما ***** عليه نطاق دونها وحجاب

ويقول :

أنا من علمتن الغداة نقية ***** أزري وضامنة العفاف مآزري

وشعره في بث روح العمل والخلق الحسن والعزيمة كثير فهو يقول:

ينال الفتى من دهره قدر نفسه ***** وتأتي على قدر الرجال المكايد

ويقول :

ما الفقر عار وان كشّفت عورته ***** وإنما العار مال غير محمود

ويقول :

يقدم الباسل الأبي على ***** الحتف وفيه عند الهوان نكول

وبقوله :

وما واثق بالدهر الا  كراقد ***** على فضل ثوب الظل والظل يسرع

ويقول:

بالجد لا بالمساعي يبلغ الشرف ***** تمشي الجدود باقوام وان وقفوا

ويقول :

وما جمعي الأموال الا غنيمة ***** لمن عاش بعدي واتهام لخالقي

الى غير ذلك مما يشعرنا بنفس الزاهد المربي الحصيف.

والحقيقة إن معالم التوازن في هذه الشخصية العظيمة كثيرة ؛ من قبيل ما نلاحظه من توازن بين البداوة والحضارة ، وبين تحمل الاضطهاد وعلو النفس ، وبين الاعتداد بالأصل والعشيرة ونبذ الاقارب وغير ذلك فلنكتف بما أوردناه.

وفي ختام هذا المقال أشعر بكثير من التقصير من قبل كتابنا ومحققينا تجاه هذه الشخصية الفذة فليعوض الجميع ذلك والله الموفق.

----------------------------------------------------------
[١] . ص/ ٣٠ .
[٢] . ص/ ٣٠ .
[٣] . النحل/ ٣٦ .
[٤] . قبع القنفذ ، كمنع: أدخل رأسه في جلده، والرجل أدخل رأسه في قميصه، أراد منه: إنزوى.
[٥] . كسر البيت: جانب الحباء.
[٦] . سفح الجبل: أسفله و جوانبه.
[٧] . أصلت سيفه: جرده من غمده.
[٨] . يقط الرقاب: قطعها عرضاً. فإن كان القطع طولا قيل: يقد.
[٩] . يجدل الأبطال: يلقيهم على الجدالة كسحابة: وهي وجه الأرض.
[١٠] . ينطف: من نطف كنصر و ضرب، نطفاً و تنطافاً: سال.
[١١] . المهج: جمع مهجة، وهي : دم القلب ، والروح.
[١٢] . الأبدال قوم صالحون لا تخلو الأرض منهم ، إذا مات منهم واحد بدل الله مكانه آخر. والواحد بدل أو بديل.
[١٣] . الأشتات: جمع شتيت: ما تفرق من الأشياء.
[١٤] . عبقرية الشريف الرضي ج١ ص١٩٣.
[١٥] . مناقب آل أبي طالب لابن شهراشوب ج٢، ص٢٢.
[١٦] . الديوان تحقيق المحامي ج١ ص٣٥.
[١٧] . عبقرية الشريف الرضي ، المبارك ، ج١ ، ص ٢٠٠.
[١٨] . طبقات الشافعية الكبرى ج٣ ص٥١.
[١٩] . مقدمة كتاب الناصريات ص ٤٣.

مقتبس من رسالة التقريب العدد/٨٣ السنة ١٤٣٣هـ

****************************