الحكمة العملية:
هي مجموعة من المسائل والموضوعات المطروحة في متناول واختيار الإنسان، ولولا وجوده لما وجدت هي الاُخرى، أي أن تحقّقها مرتبط بتحقق الإنسانية، وهذه الموضوعات هي كالأخلاق وتهذيب النفس، وتزكيتها، وتدبير المنزل، وتربية العائلة، وادارة شؤون المجتمع، وتأسيس المدينة الفاضلة ونظائرها، وكلّها فروع للحكمة العملية، وسنبحثها من منظار أميرالمؤمنين(عليه السلام)، ذلك لأ نّه مثلما هو فرد في الحكمة النظرية فإنّه فرد أيضاً في ميدان الحكمة العملية، يقول(عليه السلام) واصفاً نفسه: «وَإِنَّا لاَمَرَاءُ الْكَلاَمِ، وَفِينَا تَنَشَّبَتْ عُرُوقُهُ، وَعَلَيْنَا تَهَدَّلَتْ غُصوُنُهُ»[١].
إن لأميرالمؤمنين(عليه السلام) سواء في تهذيب النفس وبنائها، أو في تربية الأبناء وتأسيس المدينة الفاضلة وإدارة شؤون المجتمع على النحو الصائب عدداً من القواعد العامة تتفرع عنها سلسلة من القواعد والخطوط الثانوية، أمّا القواعد العامة فهي قواعد تدعو إلى تعلّم الحكمة والتعرّف عليها وإلى تمهيد السبيل لفهمها، فهي تعتبر الحكمة حياة، وبناءً على ذلك فإن أميرالمؤمنين(عليه السلام) يرى أن الإنسان غير الحكيم إنساناً ميّتاً، والحكيم هنا ليس المراد منه العالم بموضوعات الحكمة فحسب، بل العالم العامل وقد اتضح ـ فيما سبق ـ أن العلم غير المقرون بالعمل لا يعدو أكثر من كونه جهلا «رُبَّ عَالِم قَدْ قَتَلَهُ جَهْلُهُ، وَعِلْمُهُ مَعَهُ لم يَنْفَعُهُ»[٢] وقد تناولنا هذا الموضوع مفصلا.
إن عليّاً(عليه السلام) يرى أن الحكمة حياة القلب وأن الحياة الدنيا كالحكمة فالأُولى حياة ظاهرية والثانية حياة باطنية، يقول(عليه السلام) في ذلك: «وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَيْء إِلاَّ وَيَكَادُ صَاحِبُهُ يَشْبَعُ مِنْهُ وَيَمَلُّهُ، إِلاَّ الْحَيَاةَ»[٣] أي ما من شيء إلاّ ويملّ نتيجة التكرار والمداومة إلاّ الحياة فإنها لا تملّ، قد يضجر الإنسان ويتعب من المشاكل والمواقف المحرجة التي تواجهه ويحاول التغلّب عليها، إلاّ أ نّه لا يملّ ولا يضجر من الحياة ذاتها ومن كونه حياً.
قال أبو الطيب المتنبي:
ولذيذ الحياة أنفس في النفس | وأشهى من أن يمل وأحلى | |
وإذا الشيخ قال اُف فما ملّ | حياة ولكن الضعف ملاّ[٤] |
ويقول أميرالمؤمنين(عليه السلام): «فَإِنَّهُ لاَ يَجِدُ لَهُ فِي الْمَوْتِ رَاحَةً»[٥] إن الأحداث المفجعة في الحقيقة ليست هي الحياة كي تكون مملّة، ولا هي الباعثة على الملل، وإنّما الباعث هو المؤلم من الأحداث، ولهذا يرى أميرالمؤمنين(عليه السلام) أن الحياة بذاتها والعيش فيها لا يبعث الإنسان على التعب والملل يقول(عليه السلام): «وَإِنَمَا ذلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحِكْمَةِ الَّتي هِيَ حَيَاةٌ لِلْقَلْبِ الْمَيِّتِ»[٦].
فالحياة الظاهرية هي بمنزلة الحكمة التي تضخ الحياة في القلب حيث تبقى علب قلب الحكيم حياً، إنّه(عليه السلام) يرى أن قلب الحكيم قلب حي، وما الحياة الظاهرية إلاّ كالحياة المعنوية.
من هذا يتّضح أنّ الحكمة حياة القلب، وأن القلب الخالي منها قلب ميت، لذا يرى أميرالمؤمنين(عليه السلام) أن اُولئك الذين يعنون كثيراً بموت أجسامهم ولا يعنون بموت قلوبهم هم في الحقيقة موتى، ذلك لأن موت القلب أهم من موت الجسد، إذ القلب الميت قلب محروم من السعادة الأبدية، أمّا الجسم فإنّه إن مات وترك هذه الحياة الظاهرية خلفه، فإن تركه هذا لا يعني فقد الشيء لأ نّه إنّما انتقل من عالم إلى عالم آخر، ومثال ذلك هو ما يستشف من قوله(عليه السلام) المشار إليه وهو أن قلوب بعض الناس ميتة، وإن هذا البعض لا يعير أهمية لموت القلب في حين أن ما يميت الإنسان ويسلب حياة القلب منه هو التعلّق بالدنيا، هذا التعلّق الّذي يدفع الإنسان أن يبيع نفسه ويجعلها عبداً يقول(عليه السلام): «وَالنَّاسُ فِيهَا رَجُلاَنِ: رَجُلٌ بَاعَ نَفْسَهُ فَأَوْبَقَهَا، وَرَجُلٌ ابْتَاعَ نَفْسَهُ فَأَعْتَقَهَا»[٧] أي أن الناس في الدنيا على نحوين، نحو باع نفسه للدنيا فأصبح عبداً لها، ونحو اشترى الدنيا فتحرر من قيودها وأصبحت تحت سيطرته وإرادته، ثمّ يقول(عليه السلام): «الدُّنْيَا دَارُ مَمَرٍّ لا دَارِ مَقَرٍّ»[٨].
أي ينبغي للإنسان أن يجتاز ممر الطبيعة لا أن يتوقف فيه، فالدنيا محل رحيل لا مكوث ولا بقاء. إنّها عالم المرور لا عالم القرار، كما أ نّه(عليه السلام) يعبر عن عالم الدنيا بأ نّه عالم متحرك: «دَارُ مَمَرٍّ لا دَارِ مَقَرٍّ».
إذن فالدنيا ليست مقراً، ولابدّ من التعامل معها تعامل من يريد المرور على جسر للوصول إلى نقطة ما وإلى هدف ما، حيث ينبغي له تعبيد الطريق، أو نصب الجسر للمرور عليه وتجاوزه لا البقاء فيه، لأ نّه محل مرور لا محل بقاء وإذا ما بقي وحلّ في الطريق وسكن فيه فإنّه سيتخلّف عن الوصول إلى الهدف، يقول(عليه السلام): «وَالنَّاسُ فِيهَا رَجُلاَنِ: رَجُلٌ بَاعَ نَفْسَهُ فَأَوْبَقَهَا، وَرَجُلٌ ابْتَاعَ نَفْسَهُ فَأَعْتَقَهَا».
فالناس من منظار أميرالمؤمنين(عليه السلام) ـ وكما أشرنا ـ على قسمين: قسم باعوا أنفسهم للدنيا فأصبحوا عبيداً لها، يتهالكون على ما فيها ممّا شاهدوه وسمعوه وخطر ببالهم من لذاتها، واتخذوها إلهاً ومولى يفرض عليهم ولايته بمالها من زينة وبهارج وجديد يأخذ بقلوبهم الولهى، فأذلوا أنفسهم إذ: «عبد الشهوة أذل من عبد الرق»[٩] أي أ نّه أذل من العبد المشترى، لأن العبد المشترى ليس بذليل في الحقيقة، أمّا عبد الشهوة فإنّه يسقط نفسه في الذل ويخرجها من الكرامة ومن القيم الإنسانية، وهذا هو القسم الّذي باع نفسه للدنيا فملكته.
أمّا القسم الثاني فهو الّذي يعبر عنه أميرالمؤمنين(عليه السلام) بقوله: «وَرَجُلٌ ابْتَاعَ نَفْسَهُ فَأَعْتَقَهَا» وهو بهذا يعين الذين اشتروا أنفسهم من الدنيا، فقايضوها بما يحرّر نفوسهم «فَأَعْتَقَهَا» إنّهم حرّروا أنفسهم فلم يعد هناك شيء يتحكم بهم، لا الأضواء تتحكم بهم ولا البهارج، فلا سلطة لأي شيء خادع عليهم، والسبب هو أ نّهم عرفوا أن بهارج الدنيا ما هي إلاّ زهرة ولا يمكن لهذه الزهرة أن تكون فاكهة أو ثمرة تماماً. وقد جاء هذا الوصف للدنيا في قوله تعالى: (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنيَا[١٠] أي يا أيها الرسول لا تطمع بما في أيدي أهل الدنيا فهو ليس أكثر من زهرة، بل أن كلّ ما في الدنيا زهرة، وأن هذه الزهرة ما كانت ثمرة ولا زهرة قط إنّها كشجرة يتعهدها الإنسان فتصبح خضراء تينع بالزهور ثمّ تتساقط قبل أن تصير ثماراً، فلا أحد يحصل على ثمر منها، أمّا من يرد قطف ثمارها فإن الأجل سيدركه قبل أن يدرك الثمر، فهو يظن أن أمراً ما أثمره فيتجه صوبه وإذا به زهرة والزهرة ـ بطبيعة الحال ـ لا تروي غليله ولا تشبع طموحه، وعلى أية حال فإنّه من غير الممكن أن يجني إنسان ما ثمرة الدنيا ليتمتع بها.
إن الدنيا وردة وزهرة فاكهة ليست إلاّ، فالحرّ من حرّر نفسه منها وأعتقها وخرج من أسرها يقول أميرالمؤمنين(عليه السلام): «يَا دُنْيَا يَا دُنْيَا، إِلَيْكِ عَنِّي، أَبِي تَعَرَّضْتِ؟ أَمْ إِلَيَّ تَشَوَّقْتِ؟ لاَ حَانَ حِينُكِ! هيْهَات! غُرِّي غَيْرِي، لاَ حاجَةَ لِي فيِكِ، قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلاَثاً لاَ رَجْعَةَ فِيهَا! فَعَيْشُكِ قَصِيرٌ، وَخَطَرُكِ يَسِيرٌ، وَأَمَلُكِ حَقِيرٌ»
آهِ مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ، وَطُولِ الطَّرِيقِ، وَبُعْدِ السَّفَرِ، وَعَظِيمِ الْمَوْرِدِ!»[١١] إذن فالحكمة العملية هي نيل الحرية، والإنعتاق من الدنيا، التحرّر من الذلّ ومن شهوة الغضب، وعبودية المال والأولاد والمقام والجاه ومن كلّ شيء غير الله، ذلك لأن كلّ ما هو غير الله هو دنيا، ومنذ تعلق قلبه به فإنّه سيكون عبداً لا حراً.
إن القرآن الكريم يعتبر الناس مكبلين بأعمالهم إلاّ أصحاب اليمين فإنهم أحرار، قال تعالى شأنه: (كُلُّ نَـفْس بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إلاَّ أصْحَابَ اليَمِينِ)[١٢] فهم أحرار غير مدينين: كما إنّهم لم يقعوا رهن الأعمال السيئة، فهم أحرار، ومن هذا يتضح أن الناس في الدنيا على قسمين، قسم عبدوا الدنيا وقسم عبدوا الله.
ويشرح أميرالمؤمنين(عليه السلام) ـ في بعض خطبه طبيعة الدنيا وكونها لا تمارس عملية الخداع بنفسها، حيث يرى أ نّه ينبغي القول لمن يزعم بأن الدنيا تغرو وتخدع، إنّك أنت الّذي انخدعت لا الدنيا التي خدعتك، ذلك لأ نّها لا تخدع، وإنّما أنت الخادع وأنت المخدوع، ولا دخل للدنيا في مخدوعيتك، فالدنيا كشفت لك عن نفسها وما كانت منافقة يوماً ما. إنّها أرتك حيث الموتى، وتقلب الأحوال، وأرتك النصب والعزل في المناصب والمسؤوليات، إنّها أرتك الحوادث المؤسفة والمفرحة ولم تخف شيئاً، أو تتكتم عليه.
من هذا يتضح أن الإنسان هو الّذي ينغر وينخدع ولا دور للدنيا في ذلك، فالدنيا ـ وطبقاً لما يراه الإمام عليّ(عليه السلام) ـ لا تخدع بل الإنسان هو الّذي ينخدع لأن الدنيا لم تبق على شيء إلاّ وبينته، إنّها لم تتكتم على شيء ولم تتستر عليه إذن إذا كانت الحكمة هي حياة القلب، وكان الإنسان جاداً لنيل الحرية، فأين تكمن حريته هذه؟
يرى أميرالمؤمنين(عليه السلام) أن حرية الإنسان تكمن في نزاهته وتقواه وصونه للنفس عن الذنوب وعن الوقوع فيما يخالف الله تعالى، وأ نّه بهذا يمكنه الإنفلات من كلّ قيد، ومن كلّ ما يحاول امتلاكه واحتواءه فلا المال يملكه ولا المقام ولا الموقع ولا الجاه، ولا مدح الناس ولا ذمهم بغير الحقّ.
يقول(عليه السلام): «أيها الناس اعلموا أ نّه ليس بعاقل من انزعج من قول الزور فيه، ولا بحكيم من رضى بثناء الجاهل عليه»[١٣] أي أن عليّاً(عليه السلام) يرى أن من يفرح بمدح الجهّال لا يكون حكيماً، بل يكون عبد المدح والثناء، كما أن من ينزعج من سماع التهمة والسبّ واللعن اللاذع هو الآخر ليس بعاقل.
ومثال ذلك هو من انزوى لتهمة لا أساس لها، وكذا من فرح وانتعش لسماعه مدحاً من جاهل، فمن يفرح بالمدح وينزوي بالذم ليس بحر ولا حكيم ولا عاقل بل عبد.
ويقول عليّ(عليه السلام) في مجال آخر: «فَإِنَّ تَقْوَى اللهِ مِفْتَاحُ سَدَاد، وَذَخِيرَةُ مَعَاد»[١٤] أي أ نّه يرى(عليه السلام) أن مفتاح كلّ عمل صائب وصحيح وكلّ ذخيرة يدخرها الإنسان ليوم القيامة يتجلى فى تقوى الله وفي كف النفس عن الرذائل ومنعها عنها، والاحتراز عن ترك الواجب.
ثمّ يقول(عليه السلام) في التقوى «وَعِتْقٌ منْ كلِّ مَلَكَة، وَنَجَاةٌ مِنْ كلِّ هَلَكَة»[١٥] فالتقوى كفيلة بتحرير الإنسان من أي شيء يحاول امتلاكه، كما أ نّها كفيلة بتحصينه من أن يكون مملوكاً لشيء، أو يفرح بمقام ومنصب، وتحصّنه من التأسف والضجر لفقده المقام والمنصب، قال تعالى: (لِكَيْلا تَأسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَـفْرَحُوا بِمَا آ تَاكُمْ)[١٦] فلا يكون المتقي عبداً للقادم ولا ذليلا للفائت، إنّه حرّ من كلّ قيد وناج من كلّ منزلق، ومصون من السقوط والاستعباد يقول(عليه السلام): «وَعِتْقٌ منْ كلِّ مَلَكَة، وَنَجَاةٌ مِنْ كلِّ هَلَكَة، بِهَا يَنْجَحُ الطَّالِبُ، وَيَنْجُوا الْهَارِبُ، وَتُنَالُ الرَّغَائِب»[١٧].
فالتقوى تنجي الإنسان من السقوط، وتوصله إلى الهدف، وإلى كلّ من يرغب فيه، وإذا ما أراد أن يكون تقياً فعليه أن يزن نفسه، يقول(عليه السلام): «زِنُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُوزَنُوا، وَحَاسِبُوهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تُحَاسَبُوا»[١٨] أي لابدّ للإنسان من محاسبة نفسه قبل حلول يوم الحساب حيث سيحاسب عما عمل؟ وعما باع واشترى، وسيسأل عما إذا خسر أو ربح. وفي هذا يقول القائل:
اختم وطينك رطب إن قدرت فكم *** قد أمكن الختم أقواماً فما ختموا[١٩] .
ويقول(عليه السلام): «زِنُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُوزَنُوا» فعلى الإنسان وزن نفسه، ولكن بأي شيء يزن نفسه؟ يقول القرآن الكريم: (وَالوَزْنُ يَوْمَئِذ الحَقُّ)[٢٠].
أي أن الوزن يوم القيامة هو الحقّ، وهذا لا يعني أن هناك وزناً يسمّى الحقّ، وإن كان هنالك وزن، بل المراد هو أن الوزن حقّ والموزون أنفسكم وأعمالكم التي ستخضع لميزان وتقيّم حيث لابدّ لها من وزن، قال تعالى: (الوَزْنُ يَوْمَئِذ الحَقُّ) أي أننا سنوزنكم يوم القيامة بالحقّ، وستكون أعمالكم ونفوسكم ثقيلة إذا ما كانت ممتزجة به ومنبثقة عنه، أمّا إذا لم تكن كذلك فإنّها ستكون خفيفة الوزن، لذا فمن ثقلت موازينه فإنّه من أهل النجاة، أمّا من خفّت موازينه فهو من أهل العذاب.
وبناءً على هذا فإنّه(عليه السلام) يدعو إلى وزن النفس بالحقّ قبل أن توزن، وأن تكون على بينة من أمرنا أنحن ثقيلي الوزن أم خفيفيه؟ هل أن عملنا يسير باتجاه الحقّ أم لا؟ أهو للحق أم لغيره؟ وهل هو منطلق منه أم لا؟
إن الإنسان ـ في الحقيقة ـ إذا أراد تسويغ سيئاته للآخرين فإنّه لا يتمكن من تسويغ ذلك لنفسه قال تعالى: (بَلِ الإنسَانُ عَلَى نَـفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أ لْقَى مَعَاذِيرَهُ)[٢١] وكلمة «بصيرة» هنا تدل على المبالغة لا التأنيث، فتاؤها تاء مبالغة لا تاء تأنيث وقول فلان علاّمة يعني كثير العلم، وقوله تعالى: (بَلِ الإنسَانُ عَلَى نَـفْسِهِ بَصِيرَةٌ) يعني أن الإنسان بصير جداً بما هو عليه وعلى أية حال فإن الإنسان بإمكانه أن يخفي ما هو عليه، ويسدل ستار التسويغ على سيئاته، أمّا فيما بينه وبين نفسه فإنّه مطلّع على أعماله، وعلى ما هو عليه ويعلم ما الّذي عمله وما الذي يعمله، ويعرف نفسه جيداً وإن كان قد اختلق الأعذار وأظهر نفسه بمظهر يخالف الحقيقة.
وهنا يدعو أميرالمؤمنين(عليه السلام) الإنسان إلى محاسبة النفس وإلى وزنها بالحقّ لمعرفة ثقل الوزن من خفته، فإن كان ثقيلا فينبغي له الشكر والإستمرار على الطريق والنهج الّذي عليه وإن كان خفيفاً فعليه بالتوبة وبالاستغفار والتقرب إلى الحقّ. إذ على الإنسان أن يكون ثقيل الوزن، سائراً على درب الحقّ، وبهذا يكون قد اتضح الجانب المهم من التحرر من قيود الدنيا.
إن أميرالمؤمنين(عليه السلام) يرى أن من حرَّر نفسه من قيود الدنيا وشهواتها هو الحي، وأن من كبّل نفسه بأصفادها هو الميت، فمن باع نفسه للدنيا ميت، ومن اشترى الدنيا وتخلّى عنها فهو حرّ.
يقول(عليه السلام): «كَانُوا قَوْماً مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِهَا»[٢٢] أي أ نّهم من حيث التعداد والإحصاء السكاني هم من أهل الدنيا، أمّا حقيقة أمرهم فليسوا من أهلها ولم تستطيع شراءهم.
يقول(عليه السلام): «ويَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا يُعَظِّمُونَ مَوْتَ أَجْسَادِهِمْ وَهُمْ أَشدُّ إِعْظَاماً لِمَوْتِ قُلُوبِ أَحْيَائِهِمْ»[٢٣] أي أن الأحرار هم اُولئك الذين طلقوا الدنيا ولم يعبأوا بها، وهذا لا يعني أ نّهم ترهبنوا وقبعوا في ديارهم، وعلى أية حال فإن من لم يتعلّق قلبه بالدنيا وتخفّف للرحيل، وجاهد نفسه، ولم ينخدع بالدنيا، وزهد بها زهداً حقيقياً، انكشف له أن الناس إذا فقدوا الحياة الظاهرة انتابهم الهلع، بينما هو يرى أن موت قلب هؤلاء الأحياء أشد أهمية من موت البدن، فالزهّاد يعتقدون أن من الناس من ماتت قلوبهم مع أن أجسادهم لم تزل حية: «يَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا يُعَظِّمُونَ مَوْتَ أَجْسَادِهِمْ» أي يعنون بموت الأجساد ولا يعنون بالموت الباطني، أمّا اُولئك المتحرّرون من قيود الدنيا الزاهدين فيها، العقلاء الحكماء فإنهم يرون أن موت قلوب أهل الدنيا أبلغ من موت أجسادهم «وَهُمْ أَشدُّ إِعْظَاماً لِمَوْتِ قُلُوبِ أَحْيَائِهِمْ» .
فمن الناس من هو حي في الظاهر وقلبه ميت، وهذا ما تتقزز منه نفوس الزهاد ويرون أن موت القلب أهم من موت الجسد.
وفي الحقيقة، إن هذا التألق الفكري نابع من فكر حكيم عاقل ذي تقوى، وبعد أن يسلط أميرالمؤمنين(عليه السلام) الأضواء على كلّ هذه الاُمور «بيّنت لكم» أي أوضحت لكم ما يجب قوله من نصيحة وموعظة في مجال الحكمة العملية، ذكرتكم بما جاءكم به الأنبياء السابقون وبما قاله الأئمّة الماضون لاُممهم، وجوهر ما قالوا وما دعوا إليه هو أن لا يبيع الإنسان نفسه، وليعرف أ نّه من أهل الطريق والسير والسلوك أم لا؟ ولكي يكون على بيّنة من ذلك لابدّ له من امتحان زهده، وهل أ نّه مطمئن بما عند الله أكثر من اطمئناه بما في يديه، والسبب هو لأ نّه: «لاَ يَصْدُقُ إِيمَانُ عَبْد، حَتّى يَكُونَ بِمَا فِي يَدِ اللهِ سُبْحَانَهُ أَوْثَقَ مِنهُ بِمَا فِي يَدِهِ»[٢٤]. فلا ينبغي أن يسر الإنسان بما عنده لأن سرور الحكيم هو في غير ذلك، كما لا ينبغي أن يسر الإنسان بما عنده لأن سرور الحكيم هو في غير ذلك، كما لا ينبغي له الحزن على ما فقده، لأن حزن الحكيم لشيء آخر، أ نّه لا يحزن ولا يفرح لما هو سريع الزوال، قال تعالى:(ألا إنَّ أوْلِيَاءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)[٢٥] إنهم لا يخافون من المستقبل ولا يحزنون على ما مضى.
ثمّ يقول(عليه السلام) في اُولئك الغافلين النائمين الذين لم ينم عنهم رقباء الله تعالى: «مَنْ نَامَ لَمْ يُنَمْ عنْهُ»[٢٦] أي من أغفل تهذيب نفسه وتربية أبنائه وغفل عن ايجاد المجتمع الفاضل في موقع من مواقع الحكمة العملية والأخلاق فإنّه الحفظة ورقباء الله ليسوا نياماً «مَنْ نَامَ لَمْ يُنَمْ عنْهُ» فمن نام وغفل فإن الحفظة الإلهيين المراقبين له والنظام الكوني كلاهما يقظيين غير نائمين ولا غافلين.
إن الإنسان العامي غير المبالي نائم لا يوقظه إلاّ سوط الموت قال(صلى الله عليه وآله وسلم): «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا»[٢٧] ولو نام أو غفل الإنسان فهل سينام عنه الشيطان أو سيغفل؟ وهل ينام اللص؟ أم هل ينام أعداء الدين وأعداء الله؟ هل تنام علل وأسباب الضلال؟ كلا: «مَنْ نَامَ لَمْ يُنَمْ عنْهُ» فلا يغفل عنه اُولئك وإن غفل هو.
هذا من جهة، ومن جهة اُخرى فإن الرجال الإلهيين لا يستعينون بأحد في أي أمر ذلك لأنهم أحرار، يقول(عليه السلام): «وَإِنْ صُبَّتْ عَلَيْهِمُ الْمَصَائِبُ لَجأُوا إِلَى الاِْسْتِجَارَةِ بِكَ، عِلْماً بَأَنَّ أَزِمَّةَ الاُْمُورِ بِيدِكَ، وَمَصَادِرَهَا عَنْ قَضَائِكَ»[٢٨] إنّهم يستعينون بالله فيما يحدث ممّا يؤلم ويفجع، يلجأون إليه لعلمهم أ نّه هو لا غير المسيّر للاُمور، وأن قضاءه هو المبدأ لكلّ أمر، لذا فإنّهم لو أرادوا الإستعانة على مواجهة الأحداث بقدرة ما فإن تلك القدرة ـ في الحقيقة ـ هي قدرة الله تعالى، وهؤلاء الذين يفهمون الاُمور بهذا النحو هم عباد الله، وهم المتحررون من كلّ قيد، والمهم هو أن يكون الإنسان حراً، وما هدف الحكمة العملية إلاّ أن يتحرر الإنسان من كلّ قيد.
يقول(عليه السلام) في مجال السعي والجهد من أجل العمل: «فَاعْمَلُوا وَأَنْتُمْ فِي نَفَسِ الْبَقَاءِ، وَالصُّحُفُ مَنْشُورَةٌ، وَالتَّوْبَةُ مَبْسُوطَةٌ، وَالْمُدْبِرُ يُدْعَى، وَالْمُسِيءُ يُرْجَى، قَبْلَ أَنْ يَخْمُدَ العَمَلُ، وَيَنَقَطِعَ الْمَهَلُ، وَتَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ، وَتُسَدَّ أبْوابُ التَّوْبَةِ، وَتَصْعَدَ الْمَلاَئِكَةُ»[٢٩].
أي أسع ما دمت حياً، وما دامت صحف العمل مفتوحة ولما تغلق سجلاته بعد، إسع ما دامت أبواب التوبة مفتوحة، إسع ما دامت هناك فرصة العودة إلى الله ففتحت الأبواب أمام المعرضين وما دامت توبتهم مقبولة، إسع ما دام المذنبون والمخطئون يمتلكون فرصة التوبة وهنالك أمل بالرجوع، إسع قبل أن ينتهي العمل وتنقضي المهلة ويأتي الأجل وتغلق أبواب التوبة ويتوقف عمل الحفظة ويرتفعون إلى السماء، ويرتحل الإنسان عن هذا العالم إلى العالم الآخر.
ثمّ يقول(عليه السلام): «فَأخَذَ امْرُؤٌ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، وَأَخَذَ مِنْ حَيّ لِمَيِّت، وَمِنْ فَان لِبَاق، وَمِنْ ذَاهِب لِدَائِم»[٣٠].
أي إنّهم رجال استثمروا العمر الفان الزائل من أجل حياة دائمة خالدة، إنّهم تزوّدوا من عالم الدنيا العالم البقاء، وأعداوا له عدته، ومن هؤلاء الرجال السالكين: «امْرُءٌ لْجَمَ نَفْسَهُ بِلِجَامِهَا، وَزَمَّهَا بِزِمَامِهَا، فَأَمْسَكَهَا بِلِجَامِهَا عَنْ مَعَاصِي اللهِ، وَقَادَها بِزِمَامِهَا إِلَى طَاعَةِ اللهِ»[٣١].
أي أمسكو بلجام النفس الجموح الأمارة، ولم يسمحوا لها بالنطق، إذ المؤمن ملجم، لا ينطق بكل ما تهوى النفس، ولا يأكل كلّ ما تشتهي، يقول عليّ(عليه السلام): «طهّروا أفواهكم فإنّها طرق القرآن» أي طهّروا أفواهكم باعتبار أن الفم هي القناة التي يجري عبرها القرآن، فلا ينبغي للإنسان أن ينطق بالبذيء من الكلام، كما لا ينبغي له السماح للأكل الحرام من أن يدخل جوفه، فأميرالمؤمنين(عليه السلام) يدعوا إلى تطهير الشفاه والأسنان واللسان والفم، لأن القرآن يمرّ عبرها والقرآن مجلّى لحديث الله تعالى مع الإنسان يقول عليّ(عليه السلام): «تجلّى لعباده في كلامه ولكنهم لا يبصرون» أي أن الله ظهر لعباده بكلامه المحفوظ بين دفتي القرآن الكريم إلاّ أ نّهم لا يرون، يقول(عليه السلام): «طهّروا أفواهكم فإنّها طرق القرآن» إذ لا سبيل لخروج آيات القرآن الكريم إلاّ من هذا الفم وإذا ما خرج كلام بذيء منه فإن ذلك سيؤدي إلى تلوث المجري، آنذاك لابدّ من تطهيره ولا يتطهر إلاّ بتلاوة القرآن، فالفم الملوث بالغذاء الحرام لا يدع القلب أن يتذوق حلاوته، لهذا نجد أميرالمؤمنين(عليه السلام) يدعو إلى تطهير مجراه وقناته التي هي الفم، إنّه(عليه السلام) يدعو إلى عدم تلويث الفم باعتباره مجرى كمجري النهر حيث يجري منه الماء الزلال للقرآن: «طهّروا أفواهكم فإنّها طرق القرآن».
إذن فالمؤمن العاقل الحرّ الحكيم هو في الحقيقة الإنسان الّذي تمكن بالحكمة العملية وبالعقل العملي من تحرير نفسه من قيود الدنيا، وأقفل فمه باللجام أي: «ألْجَمَ نَفْسَهُ بِلِجَامِهَا، وَزَمَّهَا بِزِمَامِهَا» فاتخذ لنفسه لجاماً فلجمها، وبهذا يكون قد أمسك بزمان لسانه بيده، وأمسك بزمان حبّه وبغضه وإرادته بيده، بل أمسك بزمام موالاته وبراءته بيده، وإذا ما أمسك المرء بزمام موالاته وبراءته بيده فإنّه سيكون قد حفظ نفسه من السقوط في الهلكة وحررها من أي مالك: «وَعِتْقٌ منْ كلِّ مَلَكَة، وَنَجَاةٌ مِنْ كلِّ هَلَكَة»[٣٢].
ثمّ يقول(عليه السلام): «فَأَمْسَكَهَا بِلِجَامِهَا عَنْ مَعَاصِي اللهِ، وَقَادَها بِزِمَامِهَا إِلَى طَاعَةِ اللهِ» أي أ نّه ما دام له لجام فإنّه لا يقع في المعصية، بل ويساق إلى الطاعة سوقاً، أي بالإضافة إلى أن زمام النفس بيده فإن نفسه تكون طيّعة ومنقادة له، لهذا لا يقدم على السيئات والمعاصي، ولا يطغى لأن الزمام بيده، إنّه يتحرك نحو الطاعة بهذا الزمام وبهذا اللجام وبهذا الحبل الّذي هو حبل الله ودينه.
نسأل الله أن يحي قلوب الجميع بالحكمة، وأن يشملهم برحمته، ويوفقهم لنيل الحرية والتزوّد بالتقوى والطاعة لأوامره سبحانه.
إن ما نريد تناوله هنا هو البحث في مجال تهذيب النفس وتربية الروح، وتزكيتها والإدارة السليمة للمنزل وتأسيس الدولة والمجتمع الإسلامي الأصيل، وهذه بمجملها تؤلف موضوعات الحكمة العملية، وبديهي أن لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) وجهات نظر وآراء راقية في كلّ واحد من هذه الأبحاث سنأتي عليها، كما أن لهذه الموضوعات بُعد جامع وقدر مشترك بينها يعمل فيها عمل قاطع طريق ويقف أمام سير الأخلاق وتربية النفس وتهذيبها وأمام حركة تربية الأبناء وإدارة المنزل والمجتمع، وقاطع الطريق هذا هو حب الدنيا الّذي يحول أمام عملية النمو والتكامل، وقد اتضح سابقاً أن كلّ غير الله وكلّ ما يحول بين الإنسان وبين الله هو دنيا، فسواء أكان ذلك الغير مالا أو ولداً أو زوجة أو مقاماً أو غير ذلك فهو دنيا، بل إن كلّ ما يصدّ عن الله ويفصل الإرتباط به ويسلب الضمير الغيبي والخلوص له تعالى هو دنياً. إن القلب الدنيوي قلب ميّت لا يحيا إلاّ بالحكمة العملية، وإلى هذا أشرنا ـ فيما سبق ـ واستشهدنا بنصوص من نهج البلاغة وقلنا أن الحكمة حياة القلب، وأن الحكيم هو الإنسان الحي ليس غير.
إن الإنسان الحكيم إنسان يقظ الروح متفتّح النفس، وإذا أصبحت الروح حية يقظة فإنّها سوف لا تقع في أسر الدنيا، بل تعمل على تأسيرها. أمّا إذا كانت ميتة ومتفسخة فإنّها ستقع في قبضة الدنيا، وستخضع لإغرائها، ذلك لأن كلّ ما هو غير الله يجعل القلب دنيوياً ويخضعه لسيطرته، ويصده عن الله تعالى.
إنّ أميرالمؤمنين(عليه السلام) عرف الدنيا وبيّن قيمتها وأشار إلى أن التعلّق بها واتخاذها إلهاً لا يؤدي إلاّ إلى انجرار الإنسان إلى المتاهات، يقول(عليه السلام) في وصيته لولده الحسن(عليه السلام): «وَجَدْتُكَ بَعْضِي، بَلْ وَجَدْتُكَ كُلِّي، حَتَّى كَأَنَّ شَيْئاً أَصَابَكَ أَصَابَنِي، وَكَأَنَّ الْمَوْتَ لَوْ أَتَاكَ أَتَانِي، فَعَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِيني مِنْ أَمْرِ نَفْسِي، فَكَتَبْتُ إِليْكَ كِتَابِي هَذا، مُسْتظْهِراً بِهِ إِنْ أَنا بَقِيتُ لَكَ أَوْ فَنِيتُ.. أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي وَإِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي، فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ، وَسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ، حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ، بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذلِكَ مِنْ كَدَرِهِ، وَنَفْعَهُ مِنْ ضَرَرِهِ، فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أَمْر نَخِيلَتَهُ،تَوَخَّيْتُ لَكَ جَمِيلَهُ، وَصَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَهُ .. ثُمَّ أَشْفَقْتُ أَنْ يَلْتَبِسَ عَلَيْكَ مَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ أَهْوَائِهِمْ وَآرَائِهِمْ مِثْلَ الَّذِي الْتَبَسَ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ إِحْكَامُ ذلِكَ عَلَى مَا كَرِهْتُ مِنْ تَنْبِيهِكَ لَهُ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ إِسْلاَمِكَ إِلَى أَمْر لاَ آمَنُ عَلَيْكَ بِهِ الْهَلَكَةَ، وَرَجَوْتُ أَنْ يُوَفِّقَكَ اللهُ فِيهِ لِرُشْدِكَ، وَأَنْ يَهْدِيَكَ لِقَصْدِكَ، فَعَهِدْتُ إِلَيْكَ وَصِيَّتِي هذِهِ»[٣٣].
إن هذا النص هو جزء من مقدمة وصيته(عليه السلام) وقد تعرض فيما تلاها الموضوع إحياء القلب بالحكمة وهو موضوع سنشير إليه فيما بعد. أمّا فيما يتعلق بصدر هذه الوصية فقوله(عليه السلام): «فإنّي اُوصيك بتقوى الله» يعني إنّي أدعوك إلى أن تتّقي الله تعالى، وقد تحدثنا عن التقوى وأوضحناها من منظار أميرالمؤمنين(عليه السلام) حيث يعتبرها: «عتق من كلّ ملكة ونجاة من كلّ هلكة».
إن نور التقوى هو ما يحرّر الإنسان من عبودية الرذائل، وهو نفسه الّذي بحفظ الإنسان من كلّ هلكة ولهذا يوصي عليّ(عليه السلام)ولده(عليه السلام): «بتقوى الله ولزوم أمره وعمارة قلبك بذكره» أي اجعل قلبك عامراً بذكر الحقّ، فذكره بالشفاء وبالقلب يبعث على حياة القلب، إنّه يوصي(عليه السلام) بعدم حرمان القلب منه لأ نّه ماء الحياة. فالروح الحية بذكر الحقّ هي روح مترعة بماء الحياة وهي روح مثمرة: (تُؤْتِي اُكُلَهَا كُلَّ حِين) أمّا الروح الغافلة عن ذكر الله فهي روح خاوية خربة، لا تثمر مطلقاً. وبناءً على هذا يرى أميرالمؤمنين(عليه السلام) أن ذكر الحث يبعث على إعمار القلب ويبقي على حياة الروح.
إن من يغفل عن ذكر الله تعالى سيؤول أمره إلى أن يكون إنساناً غافلا عابداً للشهوة، سواء أكانت هذه الشهوة هي شهوة الغضب أو الإنتقام أو الحقد وسيسقط في مهوى الحيوانية ثمّ يوصي(عليه السلام) بـ «الاعتصام بحبله» أي تمسك بالحبل الّذي تعلّقت به فإنّه يوصلك إلى العلو.
إن الحبل هنا لا يعني الحبل المشدود المرمي في زاوية البيت، فهذا لا يسمّى حبلا، بل الحبل هو ما كان أحد طرفيه مربوطاً في مكان وطرفه الآخر بيد الشخص المحتاج إليه يمسك به ليتسلق إلى العلو. إن القرآن هو حبل الله له درجات ومنازل وينطوي على علم بإمكان الإنسان أن ينهل منه كما أن له طرقاً عملية تمهّد للإنسان سيره وسلوكه، وهذا هو الحبل، حيث نجد أن أحد طرفيه بيد الله وطرفه الآخر بيد الناس، وإذا ما استأنس الإنسان بدرجة من درجات القرآن وفهمها وعمل بها فإنّه يكون قد تمسك بالحبل وارتقى درجة من درجاته، ذلك لأن العلم والعمل هما أليافه وخيوطه.
كما أن الإنسان إذا ما تعلّم وعمل بعمله يكون قد استمسك بتلك الألياف وارتقي وتسلق، يقول أميرالمؤمنين لولده الحسن(عليه السلام) بعد توصيته له بعدم التخلي عن حبل الله: «وأي سبب أوثق من سبب بينك وبين الله إن أنت أخذت به» أي وهل هناك ارتباط أقوى من الارتباط بالله؟ وإذا رغبت عنه فيمن تريد أن تستعين؟ أتستعين بنفسك وأنت معرض للفناء؟ أم تريد الإستعانة بغيرك وهو مثلك معرض للفناء؟ إنك بأيّ استعنت فهو مرشح للموت وللفناء، وبأي تعلقت فإنّه معرّض للتبدّل وللتقلّب والتغيّر من حال إلى حال، وسائر في درب الفناء ، لذا فلا وثاق أوثق من الرابط بينك وبين الله، لأ نّه لا قدرة كقدرة الله، إنّه يمنح القوة للإرتباط به، وما دمت قد استعنت بهذا الوثاق فإنّك ستستمد القوة منه: «وأي سبب أوثق من سبب بينك وبين الله إن أنت أخذت به». إنّك إن تمسكت بهذا الحبل وبهذه العروة فـ «أحي قلبك بالموعظة» ولا تدع الغفلة تميت قلبك، أمّا الموعظة فهي «جذب الخلق إلى الحقّ» وأمّا الواعظ فهو حالة الإنجذاب في الإنسان نحو الفضائل الإلهية، وهو العامل المسبّب لهذا الإنجذاب، أمّا المتّعظ فهو الشخص المجذوب.
إن أميرالمؤمنين(عليه السلام) يقول أحي قلبك بالإنجذاب إلى الله، ولا تمت نفسك بالإنشغال بالماديات فقط، إذ الروح المادية روح ميتة، الروح التي تجهد نفسها من أجل المادة والدنيا روح ميتة، إذ الطبيعة الخالية من الروح لا يمكنها أن تكون هدفاً، فالإنسان وهو يتخلّى عن هذه الطبيعة المادية وهذه الدنيا، بل وقبل أن يتخلّى عنها تكون الروح هي التي تخلّت عنه، لذا فليس من الحكمة أن يتعلّق قلب الإنسان بالطبيعة وبالدنيا.
يقول(عليه السلام): «وأمته بالزهادة» أي أمت حالة الإنحراف والإنجذاب نحو الدنيا من خلال الإعراض عن عالم الطبيعة، والقضاء على العدو الباطني. إن الإنجذاب نحو الطبيعة قيد وغل لقدميك ولرقبتك ولرجلك فأمته وأحي الدافع الذي يدفعك نحو الخلود.
يقول(عليه السلام): «وقوّه باليقين» أي قوِّ قلبك باليقين، ولا ترتب بما جاءك من معارف وتعاليم الدين واعلم أ نّك مسافر، وأ نّك لم تكن فكنت، وأ نّك راحل، ولم تأت إلى هذا العالم برغبة منك، كما أ نّك سوف لن ترحل عنه برغبة منك أيضاً.
لقد جيء بك إلى هذا العالم سواء كنت راغباً أم رافضاً، وسيخرجوك منه سواء رغبت أم أبيت، وبين لك فيما بين مجيئك وارتحالك الطريق والدرب لتختار الصحيح، فإنك مختار وحرّ، مختار في انتخاب الطريق، فقو يقين نفسك بهذه المعارف، إذ الإنسان الشاكّ المرتاب إنسان ضعيف، ومن لا يقين له لا يكون قوياً.
يقول(عليه السلام): «ونورّه بالحكمة» أي أنر باطن روحك بمصباح الحكمة، والحكمة هي أن تعرف مبدأ العالم، ونهايته ورسله والتكليف والكمال الإنساني والعمل بهذه المعرفة هو الآخر كلمة، لذا فأميرالمؤمنين(عليه السلام) يوصي بإنارة القلب بها فيقول: «ونورّه بالحكمة وذلّله بذكر الموت» أي اكسر شوكة الطغيان والتكبّر والغرور وحبّ الذات بذكر الموت، وليكن هذا منطلقك إلى التواضع، والدافع لك للترجّل عن صهوة الغرور، فبالتواضع يبلغ السالكون الكمال، ومثلما يترجّل الراكب عند بلوغ الهدف، فإن الإنسان الواصل إلى الهدف يكون مترجّلا، أمّا الإنسان الراكب فهو إنسان لم يبلغ الهدف بعد، إن الإنسان الواصل إنسان سهل العريكة متواضع، وكذا فإنّه إنسان ليّن معتدل.