ابن سينا والإمام عليّ(عليه السلام):
ابن سينا حكيم من حكماء الإسلام المشهورين، فقد كتب ـ هذا الحكيم المتأله ـ رسالة في «المعراج» ذكر فيها حديثاً لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قاله في أميرالمؤمنين ويتعلّق الحديث بالعقل واكتسابه، قال(صلى الله عليه وآله وسلم) فيه: «يا عليّ إذا تقرّب الناس إلى الله بأنواع البرّ، تقرّب إليه أنت بالعقل تسبقهم»، جاء ذلك في الرسالة المعراجية المكتوبة باللغة الفارسية لابن سينا، وأورده أحد المحشّين في حاشية كتاب الشفاء مترجماً وقال: «إنّ عليّ بن أبي طالب بين أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)هو كالمعقول بين المحسوس، فهو عقل وغيره حس، وطبيعة الحواس أ نّها بحاجة إلى العقل لقيادتها»[١].
وبناءً على هذا فإنّ شرح الحكمة النظرية والحكمة العملية من منظار نهج البلاغة ما هو في الحقيقة إلاّ ابراز لهاتين الحكمتين على لسان شخص هو نفسه حكيم كامل فيهما، وما دامت أهم مسائل الحكمة النظرية هي التوحيد والنبوة والمعاد، وأهم مسائل الحكمة العملية هي الأخلاق وتهذيب النفس، فإننا سننقل من نهج البلاغة نصوصاً تتعلق بالحكمة النظرية وبالحكمة العملية.
الحكمة النظرية: توحيد الحقّ تعالى:
يعتبر توحيد الحقّ تعالى أوّل موضوعات الحكمة النظرية ويقول أميرالمؤمنين(عليه السلام): «أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ» أي أن معرفة الله هي أوّل الدين.
إنّ هذا القسم من أقسام الحكمة النظرية هو البداية التي ينطلق الإنسان منها لمعرفة مبدئه، يقول الإمام عليّ(عليه السلام): «أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ، وَكَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْديقُ بِهِ، وَكَمَالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ، وَكَمَالُ تَوْحِيدِهِ الاْخْلاصُ لَهُ، وَكَمَالُ الاْخْلاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ»[٢].
وهنا ينبغي أن نتساءل هل ان معرفة الله ممكنة أم لا؟ وإذا كانت ممكنة فما السبيل إليها؟ وإذا كانت خلاف ذلك فلماذا جعلت أوّل الدين؟
يجيب الإمام عليّ(عليه السلام) عن كلّ هذه الأسئلة في احدى خطبه ويشير إلى أن القدر اللازم والضروري من معرفة الله ميسّر للبشر ومودع في كيانهم، بل وممتزج بفطرتهم بالنحو الّذي يؤمّن لهم المعرفة اللازمة، ولكنه لم يودع في فطرتهم أكثر ممّا يحتاجون إليه.
يقول(عليه السلام) في خطبته التي يشرح فيها الصفات الربوبية: «لَمْ يُطْلِعِ الْعُقُولَ عَلَى تَحْدِيدِ صِفَتِهِ، ولَمْ يَحْجُبْهَا عَنْ وَاجِبِ مَعْرِفِتِهِ»[٣] أي أن الله تعالى لم يطلع الإنسان على عمق الصفات وكنهها، وذلك لمحدودية العقل وعدم قدرته على الإحاطة بالصفات اللامحدودة، إذ لا يمكن للعقل المحدود أن يدرك صفة غير محدودة مطلقاً، كما لا يمكن لمحدود أن يعرف غير المحدود، سواء كانت تلك المعرفة عن طريق العقل أو الفكر أو العرفان، وسواء كانت بالدماغ أو القلب، فهي غير ميسورة في الحالتين.
يقول(عليه السلام): «الَّذِي لاَ يُدْركُهُ بُعْدُ الهِمَمِ، وَلاَ يَنَالُهُ غَوْصُ الفِطَنِ»[٤] فلا المفكرون قاردون بإعمال الذهن على معرفة ذات الله كما هي عليه، ولا العارفون قادرون بتأملاتهم على ذلك، إنّه لا يمكن الوصول إلى قعر بحر المعرفة للتعرف على حقيقة ذات الله، وحتى لو خاضوا بحر المعرفة، أو أرادوا التحليق إلى قمتها فإنّهم سيتوقفون عند حدّ معين.
ولما لم يكن هناك طريق من العلو إلى الكنه، ولا من السفل إليه، فلا يمكن معرفة الله على ما هو عليه لا بالذهن ولا بالقلب، لا بالفلسفة ولا بالعرفان، لا بالفكر ولا بالشهود ذلك لأنّه: «لَيْسَ كمثله شَيْء»[٥].
إنّ معرفة الله معرفة ملازمة للاعتراف بالعجز دوماً، أي أننا نجد الاعتراف بالعجز إلى جانب معرفتنا مهما كانت هذه المعرفة واسعة.
وإلى هذا أشار(عليه السلام) في قوله السابق ومؤدّاه، إلهي إنّ معرفتي لا تدرك كنهك ولا تصل إلى عمقك، كما يقول: «لَمْ يُطْلِعِ الْعُقُولَ عَلَى تَحْدِيدِ صِفَتِهِ»[٦] أي أنّ حدّه هو أ نّه سبحانه لا حدّ له، «ولَمْ يَحْجُبْهَا عَنْ وَاجِبِ مَعْرِفِتِهِ»[٧] فلم يحجب الله القدر اللازم ممّا ينبغي حصوله للإنسان من المعرفة لله سبحانه، سواء كان ذلك عن طريق الشهود أو عن طريق الفكر، أي عن طريق القلب وعن طريق العقل«لا يَنَالُهُ غَوْصُ الفِطَنِ» وكذا «لاَ يُدْركُهُ بُعْدُ الهِمَمِ».
إذن يمكن إدراك ذلك القدر من المعرفة بالفكر، مضافاً إلى إمكان معرفته بالشهود القلبي فبالإضافة إلى ما يشاهده القلب يمكن الحصول على المعرفة أيضاً عن طريق الفكر، إلاّ أن ما يشاهده القلب هو أنفع، مع أ نّه أصعب ممّا يحصل عليه الفكر عن طريق أعمال العقل.
فالوصول إلى ذروة الفكر وتسلّق قمته أسهل من خوض غمار البحر والغوص في عمقه، كما أنّ السفر جواً أسهل من السفر بحراً، كذلك الغوص في قعر بحار العرفان هو أصعب من التحليق في سماء الإستدلال الفلسفي.
وخلاصة القول: أنّ باب معرفة الله مفتوح ـ وبالقدر اللازم ـ أمام البشر، سواء عبر الفكر أو المشاهدة أو أي طريق آخر: «ولَمْ يَحْجُبْهَا عَنْ وَاجِبِ مَعْرِفِتِهِ» فالعالم والكون ما هو إلاّ آيات ودلائل، مخلوقة لتدل عليه، وقد بيّنا ذلك مفصلا في بحوث التفسير الموضوعي للقرآن الكريم»[٨].
«فَهُوَ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ أَعْلاَمُ الْوُجُودِ، عَلَى إِقْرَارِ قَلْبِ ذِي الْجُحُودِ، تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقولُ الْمُشَبِّهُونَ بِهِ وَالْجَاحِدُونَ لَهُ عُلوّاً كَبِيراً»[٩].
وإذا كان أميرالمؤمنين(عليه السلام) قد دلّ على أوّل الدين في خطبه فإنّه نفى إمكانية معرفة كنه الله في خطبة اُخرى.
كما أوضح في احدى خطبه التوحيدية الطويلة ممّا يمكن الإستعانة به على معرفة الله بنحو استدلالي.
دور الإستدلال في معرفة الله:
يقوم نظام الكون والوجود على نظام العلة والمعلول، أي أنّ كلّ موجود لا يكون وجوده عين ذاته هو موجود معلول محتاج إلى ذات يكون وجودها عين ذاتها.
يقول عليّ(عليه السلام) في صدر خطبة له:
«مَا وَحَّدَهُ مَنْ كَيَّفَهُ، وَلاَ حَقِيقَتَهُ أَصَابَ مَنْ مَثَّلَهُ، وَلاَ إِيَّاهُ عَنَى مَنْ شَبَّهَهُ، وَلاَ صَمَدَهُ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ وَتَوَهَّمَهُ، كُلُّ مَعْرُوف بِنَفْسِهِ مَُصْنُوعٌ، وَكُلُّ قَائِم فِي سِوَاهُ مَعْلُولٌ»[١٠] أي أن كلّ موجود مهما كان نصيبه من الوجود، هو موجود معلول إلاّ الله تعالى شأنه، وهذا يرسّخ ويؤكد نظام العليّة والمعلول، كما يقسّم عالم الوجود إلى قسمين، قسم العلة وهو الله تعالى، وقسم المعلول وهو عالم الخلق.
إنّ أميرالمؤمنين(عليه السلام) يرى في نصه السابق، أنّ كلّ موجود غير الله وكلّ قائم أياً كان، هو معلول، أمّا الله تعالى فليس كذلك، ولما كان كلّ معلول محتاجاً إلى علة، فالخلق معلول له.
وفي النهاية نحصل على نتيجة تقضي بأن: كلّ موجود هو إمّا علة وإمّا معلول، وبهذا يكون الوجود على قسمين، علة وآخر معلول، عندئذ تكون المحصلة هي أن عالم الوجود معلول، وأنّ الله تعالى هو علة ذلك الوجود والسبب هو أن غير الله أيا كان ومهما كان فهو معلول، باعتبار أنّ وجوده ليس عين ذاته، إذ لو كان وجوده عين ذاته لما كان له سبق ولا عدم، ولما انتهى إلى الفناء بعد ذلك، «وَكُلُّ قَائِم فِي سِوَاهُ مَعْلُولٌ».
وقد بيّن(عليه السلام) هذا الموضوع في خطبة له أيضاً فقال: «فَالوَيْلُ لِمَنْ أَنْكَرَ الْمُقَدِّرَ، وَ جَحَدَ الْمُدَبِّرَ»[١١] إذن من ذا الّذي هندس الكون بهذه الهندسة وهذا التقدير والنظم؟ ومن ذا الّذي شاده؟ ومن ذا الّذي أوجد هذا التنسيق الفريد الّذي نشاهده في الكون بنحو أصبح فيه دليلا للعلم وهادياً له يقوده إلى الخالق؟
وإذا كان العلم عبارة عن سلسلة من القواعد المنظّمة يكون قد استوحى قواعده من عالم الخلق، فإنّه مستوحى فالرياضيات إذا كانت تمتلك قدرة البرهان فإنّها لا تعدو كونها مظاهر إمكانية مستوحاة من العالم الخارجي، وهكذا سائر العلوم فإن نظمها وتناسقها ـ بغض النظر عن كونها سلسلة موجودات إمكانية ـ فإنّها تمثل بنفسها آيات منتزعة من عالم الخلق وهذا بحدّ ذاته دليل على النظم والتناسق.
يقول(عليه السلام): «فَالوَيْلُ لِمَنْ أَنْكَرَ الْمُقَدِّرَ، وَ جَحَدَ الْمُدَبِّرَ» أي الويل لمن أنكر الله وادّعى أنّ الكون ما هو إلاّ المادة المشهودة ليس غير، وأنّ هذه المادة بما يحدث فيها من تغيّر وتفاعل تنطوي على آثار ونتائج من غير الحاجة إلى الخالق.
إنّهم «زَعَمُوا أَنَّهُمْ كَالنَّبَاتِ مَا لَهُمْ زَارعٌ، وَلاَ لاِخْتِلاَفِ صُوَرِهِمْ صَانِعٌ»[١٢] يعتقدون بأن عالم الطبيعة قد أوجدهم وأوجد نباتاتهم، في حين أ نّه لا يوجد شيء في عالم الطبيعة قائم بنفسه، وإنّ للنبات زارعاً ومقوّماً هو الله سبحانه، كما أنّ السذّج من الناس يتصوّرون أنّ النباتات الصحراوية تنمو لوحدها، وأنّ نشوء الإنسان كنشوئها حيث تنشأ من غير زارع يغرسها ويتعّهدها «كَالنَّبَاتِ مَا لَهُمْ زَارعٌ، وَلاَ لاِخْتِلاَفِ صُوَرِهِمْ صَانِعٌ» أي أ نّهم ظنّوا أن نشوءهم كان كنشوء النباتات الطبيعية الناشئة من غير زارع، كما ظنوا أن التباين والإختلاف بينهم هو عدم وجود تشابه بين وجه ووجه مطلقاً، ولا بين صوت وصوت ولا بين لهجة ولهجة، وأنّ هذا الاختلاف ما هو إلاّ مصادفة محضة ولم يحدث نتيجة لنظم ولوجود خالق مبدع ومصور (هو الّذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء)[١٣].
يقول(عليه السلام): «وَلَمْ يَلْجَأُوا إِلَى حُجَّة فِيَما ادَّعَوا، وَلاَ تَحْقِيق لِمَا دْعَوْا»[١٤] أي لم يقيموا دليلا على زعمهم فـ: (حجتهم داحضة عند ربّهم)[١٥] فاستدلالهم باطل لا دليل لهم عليه.
بعد ذلك يتساءل الإمام عليّ(عليه السلام) عن مدى إمكانية وجود الموجود المادي إثر حركة مادية؟ وهل أن أدعياء هذا الزعم لا يعلمون أنّ الحركة في الحقيقة ما هي إلاّ حدث يحتاج إلى خالق، وما يحصل عليه هذا الحدث من كمالات بعد الحدوث لا يكون قد امتلكها من قبل ليمنحها لنفسه، وإنّما اكتسبها اكتساباً، والمكتسب عادة يحتاج إلى مانح ومعطي، ولهذا يرى(عليه السلام) أن لا دليل ولا حجة لمنكري الله وأنّ دعواهم تفتقر إلى بيّنة وإلى شاهد: «وَلَمْ يَلْجَأُوا إِلَى حُجَّة فِيَما ادَّعَوا» أي لم يستدلوا على زعمهم هذا «وَلاَ تَحْقِيق لِمَا دْعَوْا» وان ما أودعوا في وعاء القلب واختزنوه لم يقم على دليل أو فحص وتدقيق في حين أن ذلك ضروري للقلب لأ نّه وعاء المطالب «إِنَّ هذهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ، فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا»[١٦] أي أنّ هذه القلوب آنية أفضلها هو ما كان أكثرها استيعاباً للمعارف الإلهية، وما كان مجرداً عن عالم الطبيعة لأنّ كلّ موجود مادي يقل استيعابه كلّما زيد في مظروفه إلاّ القلب، فإنّه ليس فقط لا يقل استيعابه، بل يزيد المظروف في سعته كلما ازداد.
وهذا يتفق مع ما جاء في نهج البلاغة من قول لعليّ(عليه السلام): «كُلُّ وِعَاء يَضِيقُ بِمَا جُعِلَ فِيهِ إِلاَّ وِعَاءَ الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ يَتَّسِعُ»[١٧] إذ كلّ إناء يضيق بدخول شيء فيه إلاّ قلب الإنسان فإنّه إناء للأفكار ودخولها فيه ليس فقط لا يقلل من استيعابه، بل يوسّعه ويفتح أمامه الآفاق ويشرح الصدر، فكلما فهم أكثر واستوعب، كلما كان مهيئاً لاستيعاب أشمل وأكثر.
إنّ العلم ييسّر سبيل انشراح الصدر، كما أن شهود العارف يسهّل انشراح القلب، وهكذا فتفكّر الحكيم يمهّد السبيل أمام تطوّر الفكر ليفتح له الآفاق عبر العقل.
إنّ الحكيم إذا ما اتخذ القلب طريقاً للسباحة فإنّه سيكون أمهر سبّاح، وإذا ما اتخذ الفلسفة والحكمة سبيلا فإنّه سيكون أمهر حكيم، وكذا إذا ما اتخذ العرفان اُسلوباً فإنّه سيكون أكثر عرفاناً، هذا إذا سلك الطريق الصحيح، إذ لا نهاية للصراط المستقيم وإنّ الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق، فينبغي أن يكون السير في وسط الصراط المستقيم وباعتدال من غير انحراف إلى أحد طرفيه، عندئذ سيجد السائر أن الطريق أمامه مفتوح سواء أسلك طريق «بُعْدُ الهِمَمِ» أو سلك طريق «غَوْصُ الفِطَنِ»... سلك طريق التفكير الفلسفي أو سلك طريق الشهود العيني.
إنّ السائر على الصراط المستقيم هو أعمق إدراكاً، كما أ نّه أكثر استعداداً للإكتساب والتفكر، أمّا اُولئك المنكرون لله فقد غمروا الروح الإلهية والوعاء الملكوتي (القلب اللطيف» بظنون وأوهام وجعلوه مخزناً لها، إنّهم فسحوا المجال أمام سلسلة من الموضوعات لتجد طريقها إلى قلوبهم من غير تحقيق، وجعلوا القلب وعاءً للظنون وَلاَ تَحْقِيق لِمَا دْعَوْا».
ثمّ يقول(عليه السلام): «وَهَلْ يَكُونُ بِنَاءٌ مِنْ غَيْرِ بَان، أَوْ جِنَايَةٌ مِن غير جان؟»[١٨] أي هل يمكن لبناء أو يوجد بنفسه؟ أو يبنى من غير معمار أو مهندس؟ فهل لجدار أو سقف أو بيت يبنى من غير بان؟ وهل أنّ هذا الكون العظيم وهذا الإنسان المحيّر للعقول هو الّذي أوجد نفسه؟
وهلا ساوى هذا الكون وهذا الإنسان حائطاً حيث لا يمكن أن يوجد من غير بان؟ وهلا كان هذا البناء المحكم البنيان والدقيق لداخل الكون وخارجه مساو لغرفة من طين لا يمكن أن توجد من غير فاعل؟ بل هل يكون فعل من غير فاعل؟ وهل اقتطفت فاكهة من غير قاطف؟ وهل يكون اعتداء من غير معتد؟
من هنا يمكن أن نخرج بنتيجة هي أ نّه لا يمكن أن يكون عمل بلا عامل أو فعل من غير فاعل أو معلول من غير علة، وهذا هو الأصل العام للخطبة المشار إليها والتي يقول(عليه السلام) فيها: «وَكُلُّ قَائِم فِي سِوَاهُ مَعْلُولٌ» فكما لا يمكن أن يكون بناء بلا بنّاء، ولا عمارة من غير معمار، ولا أثر من غير مؤثر، فإنّ عالم الخلق المنتظم هو الآخر لا يمكن أن يوجد بغير الله سبحانه، أي بغير خالق.
إنّ هذا النمط من الإستدلال هو نفسه النمط الّذي يعتمده القرآن الكريم، وقد جرت معارفه على لسانه عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) باعتباره القرآن الناطق بنحو خطبة ورسالة جمعت في نهج البلاغة.
إنّ أوّل ما أكده الإمام عليّ(عليه السلام) في الخطبة التي نحن بصددها، هو نظام العلة والمعلول، وأفاد فيها، أنّ كلّ موجود معلول، وأنّ كلّ ما لا يكون وجوده عين ذاته معلول، كما أنّ كلّ موجود يستمدّ وجوده من غيره معلول أيضاً، وأنّ الوحيد الّذي يكون وجوده عين الوجود هو الله تعالى، وهو العلة لغيره لا غير، وهو الّذي يمكن أن يعرف بالقلب والفكر معاً.
قال(عليه السلام): «بِهَا تَجَلَّى صَانِعُهَا لِلْعُقُولِ، وَبِهَا امْتَنَعَ عَنْ نَظَرِ الْعُيُونِ»[١٩] إنّه(عليه السلام)أفاد ـ بعد أن ذكر لله عدة أوصاف ـ أنّ الله تعالى تجلّى للقلوب بآيات وعلامات ودلائل الخلق، أمّا إذا كانت مرآة القلب مشابة بالغبار فإنّها لا يمكنها أن تكون مجلاة لمعرفة الله، كما إذا كانت أفكار وآراء المفكرين الماديين مغبرة بغبار المادة فإنّها لا يمكنها أن تكون وسيلة تتجلّى فيها معرفة الله.
فلا غبار في الحقيقة على حقائق العالم والكون ولا حجاب، وإذا ما وجد فإنّه على صفحة مرآة فكر المفكر المادي وتفكيره.
يقول عليّ(عليه السلام) في حقائق العالم وموجوداته: «بِهَا تَجَلَّى صَانِعُهَا لِلْعُقُولِ، وَبِهَا امْتَنَعَ عَنْ نَظَرِ الْعُيُونِ».
أمّا عدم قدرة العيون على رؤية الله تعالى فإنّه يكمن في عدم محدوديته وعدم تناهيه وإنّ عدم انحصار وجوده في جهة معينة هو لعدم ماديته سبحانه.
ويذكر الإمام الرضا(عليه السلام) في جواب له على سؤال الفيلسوف المادي عن كيفية الإيمان بالله مع أ نّه ليس بشيء مرئي، أ نّه لو كان الله قابلا للرؤية لما كان إلهاً، وكذا لو كان مرئياً في جهة معينة لكان محتاجاً ممكناً وهذا يعني أ نّه لا يمكن أن يكون إلهاً، باعتبار أنّ النظر إليه محال لملازمة امتناع النظر إليه سبحانه باعتباره محض الوجود، وأ نّه وجود غير محدود: «وَبِهَا امْتَنَعَ عَنْ نَظَرِ الْعُيُونِ».
فالله لما سواه، وكلّ موجود غيره معلول له، وأ نّه خالق الموجودات وموجدها جميعاً.