وقال (عليه السلام): أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ اكْتِسَابِ الاْخْوَانِ، وَأَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ .                
وقال (عليه السلام): الرِّزْقُ رِزْقَانِ: طَالِبٌ، وَمَطْلُوبٌ، فَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا طَلَبَهُ الْمَوْتُ حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنْهَا،مَنْ طَلَبَ الاْخِرَةَ طَلَبَتْهُ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رِزْقَهُ مِنْهَا.                
وقال (عليه السلام): لاَ خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ، كَمَا أنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ.                
وقال (عليه السلام): يَهْلِكُ فِيَّ رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ مُفْرِطٌ، وَبَاهِتٌ مُفْتَر.                
وقال (عليه السلام) : مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا .                
وقال (عليه السلام): النَّاسُ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا.                
وقال (عليه السلام): الْقَنَاعَةُ مَالٌ لاَيَنْفَدُ.                

Search form

إرسال الی صدیق
الحكومة في نهج البلاغة

الإمام السيد الخامنئي           

إن قضية الحكومة في نهج البلاغة قد طرحت ـ كعشرات القضايا المهمة في الحياة ـ في هذا الكتاب العظيم بأسلوب مغاير لأساليب المحققين والمؤلفين. فلم يفرد أمير المؤمنين "عليه السلام" فصلاً مستقلاً حول الحكومة يرتب فيه المقدمات للوصول إلى النتائج.

فإن أسلوبه في تناول هذا الباب المهم، كغيره من الأبواب الأخرى كان أسلوب الحكمة، أي عبور المقدمات والتأمل والتركيز على النتيجة. فإن نظر أمير المؤمنين "عليه السلام" إلى قضية الحكومة هو نظر حكيم عظيم له ارتباط قريب بمنبع الوحي.

كذلك فإن هذه القضية في نهج البلاغة لم تطرح بصورة بحث مجرد (تجريدي).

فإن الإمام علي "عليه السلام" كان على تماس مباشر بأمر الحكومة، وكان يتحدث كحاكم يمارس إدارة الدولة الإسلامية مع كل ما فيها من مشاكل ومصائب وآلام، ويتابع جوانبها المتعددة. وإن التفاتنا إلى هذا الأمر، ونحن نعيش في ظروف وأوضاع مشابهة لظروف أمير المؤمنين "عليه السلام" ملهم ومفيد جداً، وسوف أتعرض هنا، من خلال جولة قصيرة في نهج البلاغة، إلى قضايا قد دونتها وهي تمثل رؤوس المطالب.

والقضية الأساسية التي ينبغي الالتفات إليها في هذا المجال :

١ـ معنى الحكومة

في البداية ينبغي أن نرى هل ان "الحكومة" عند الإمام "عليه السلام" هي بالمعنى المتداول في ثقافة العالم القديم والعالم المعاصر؟ أي تلك الحكومة التي تعني التسلط والتحكم، وأحياناً تعامل الحاكم مع المحكومين من واقع التمايز في الحياة؟ أم لا، ان "الحكومة"، في ثقافة نهج البلاغة لها مفهوم آخر؟

في هذا المجال نستخلص من نهج البلاغة عدة مصطلحات تشير إلى الحاكم بعنوان "الإمام" و"الوالي" و"ولي الأمر" وتشير إلى الشعب بعنوان "الرعية".

٢ ـ  ضرورة الحكومة

المطلب التالي، هو قضية ضرورة الحكومة. فمن الأبحاث التي تدور في هذا المجال هو هل يعد وجود القيادة والحكومة أمراً ضرورياً  للمجتمع الإنساني أم لا؟ والاستنتاج الذي نخرج به من هذا البحث هو الالتزام بلوازم في الحياة الاجتماعية، ولا ينحصر الأمر بمجرد قبول ضرورة الحكومة للمجتمع بل نتيجة بحثنا سترسم الخطوط الخاصة لنهج القيادة والحكومة وإدارة المجتمع.

٣ ـ منشأ الحكومة

ما هو منشأ الحكومة في نهج البلاغة؟

هل هو الأمر الطبيعي، العرق، العشيرة، النسب، القوة والاقتدار (سواء الطبيعي أم المكتسب)؟ أم لا، وإن منشأ الحكومة، وما يعطي الشرعية لحكم الفرد أو الجماعة هو أمر إلهي أم أمر شعبي؟

٤ ـ الحكومة حق أم تكليف؟

المسألة الرابعة هي هل ان الحكم هو حق أم تكليف؟ وهل ان الحاكم يمتلك حق الحكومة أم هو مكلّف بالحكم؟ ومن هو الذي يمكنه أو ينبغي له أن يحكم؟ في نهج البلاغة، تعد الحكومة حق وتكليف أيضاً. وبالنسبة للذي يتمتع بشروط ومعايير ومواصفات الحاكم، يجب عليه أن يقبل الحكومة في بعض الشرائط والظروف، ولا ينبغي له أن يلقي هذا الحمل عن عاتقه.

٥ ـ الحكومة هدف أم وسيلة؟

المسألة الخامسة، هل أن الحكم يعد ـ للفرد أو للجماعة الحاكمة ـ هدفاً أم وسيلة؟ وإذا كان وسيلة، فلأي هدف؟ وما هو الهدف الذي يريد الحاكم الوصول إليه من خلال الحكومة وإيصال المجتمع إليه أيضاً؟

٦ ـ الحاكم والرعية

المسألة السادسة، هي ما يتعلق بقضية حساسة حول علاقة الحاكمة بالرعية، وما هي المباني والأسس التي تقوم عليها هذه العلاقة؟ فهل هي حق من طرف واحد يمتطي الحاكم من خلاله رقاب الناس؟ أم أنه حق متقابل؟ إن من أكثر الأبحاث المتعلقة بالحكومة في نهج البلاغة من حيث التأسيس والمعنى والنتيجة هي هذه القضية.

٧ ـ الشعب والحكومة

المسألة السابعة، ما يرتبط بدور الشعب في الحكومة. ويجب أن ننظر إلى ثقافة نهج البلاغة ونرى دور الشعب في الحكومة. هل هو مصيري؟ أم ابتدائي؟ كامل الصلاحيات؟ أم مجرد من الدور؟ فأي شيء هو؟

فمثل هذه الأمور تعد من أكثر المسائل دقة في نهج البلاغة. وإن الثقافات الحاكمة في عصرنا الحالي على أذهان الناس في الأجنحة والتيارات السياسية المختلفة، لا ينطبق أي واحد منها على ثقافة نهج البلاغة.

٨ ـ كيفية التعامل مع الناس

المسألة الثامنة والتي تعد من الناحية الأصولية مسألة ثانوية، ولكن من الناحية العملية مسألة مهمة جداً وحساسة، هي كيفية تعامل الجهاز الإداري مع الشعب. فكيف ينبغي أن يتعامل أعضاء الحكومة مع الناس؟ فهل هم مدينون لهم أم العكس؟ وكيف ينبغي أن تكون أخلاق الجهاز الحاكم في تعامله مع الشعب؟

٩ ـ سلوك الحاكم مع نفسه

المسألة التاسعة والتي هي أيضاً من المسائل الملفتة جداً هي ما يتعلق بسلوك الحاكم مع نفسه. فهل يوجد حدود معينة لسلوك الحاكم في المجتمع؟ وهل يمكن الرضى والاكتفاء بحسن سلوكه مع الشعب؟ أم لا، فإن هناك ما يفوق هذا الارتباط والعلاقة، وهو علاقة الحاكم بنفسه؟ فكيف ينبغي أن تكون حياته الشخصية، وما هو المطروح في نهج البلاغة حول هذا الأمر؟

١٠ ـ شروط الحاكم ومواصفاته

المسألة العاشرة هي صفات الحاكم. فكيف يمكن للإنسان أن يحكم المجتمع البشري بناءً على أحكام نهج البلاغة؟

فهذه عناوين القضايا التي وردت في نهج البلاغة، ونحن نستطيع أن نتعرض لها بالبحث.

مفهوم الحكومة

المسألة الأولى تدور حول مفهوم الحكومة.

في التعابير المستعملة في اللغة العربية للحاكم يوجد هذه العبارات والعناوين: السلطان والملك. وتتضمن كلمة السلطان في باطنها مفهوم السلطة في الحاكم. أي أن ذلك المسمى بالحاكم ينظر إليه ها هنا من بُعْد السلطة, حيث لا يحق للآخرين التدخل في شؤون الناس وأمورهم، بينما يحق له ذلك.

أما الملك، والملوكية والمالكية فإنها تتضمن مفهوم تملك الناس أو امتلاك مصيرهم. وفي نهج البلاغة لا نجد هذين التعبيرين (الملك أو السلطان) قد استخدما في مجال الإشارة إلى الحاكم على المجتمع الإسلامي. بل التعابير الواردة في نهج البلاغة هي الإمام الذي هو القائد. ومفهوم القائد يختلف عن مفهوم المرشد. فالقائد هو ذلك الإنسان الذي يتقدم الجماعة أو الأمة التي يقودها. كما أننا نجد في كلمة الإمام مفهوم الحركة والتبعية والتقدم في تحرك الناس وفق مسار ما.

التعبير الآخر هو الوالي. وقد أخذ هذا التعبير من كلمة الوِلاية أو الوَلاية. وبالالتفات إلى مشتقات هذه الكلمة يمكن الوصول إلى البعد المنظور فيها. والولاية في أصل معناها اللغوي تدل على ارتباط شيئين. فاللغة تقول إن الولاية تعني اتصال شيئين معاً، بحيث لا يبقى أي شيء فاصلاً بينهما. وبالطبع فهناك معاني أخرى للولاية، كالمحبة والإشراف والقومية. والولاية بمعنى تحرير العبد، أو بمعنى العبودية أو السيادة على العبد.

يبدو أن طبيعة العلاقات التي ذكرت في معنى الولاية كلها مصاديق ذلك الارتباط والاتصال. فوالي الأمة أو الرعية هو الذي يتحمل أمور الناس وهو مرتبط بهم.

ونفس هذا المعنى يوضح بعداً خاصاً من مفهوم الحكومة في نهج البلاغة وعند أمير المؤمنين "عليه السلام": فولي الأمر هو المتصدي لهذا العمل. ولا يوجد أي امتياز يختفي في كلمة المتصدي لهذا العمل. فالمجتمع الإسلامي يشبه مصنعاً ضخماً يتألف من أقسام، وآلات ومفاصل وأجزاء صغيرة وكبيرة تتفاوت في تأثيرها. وأحد هذه الأقسام هو الذي يشغله مدير المجتمع، مثل بقية الأقسام، فهو مثل بقية الأجزاء والعناصر المشكِّلة لهذه المجموعة.

ولي الأمر هو المتصدي لهذا العمل، والمتصدي لا يطلب ولا ينتظر الحصول على أي امتياز ومن الناحية العملية ليس له أي امتياز من ناحية وضعه المعيشي أو شؤوناته المادية. فإذا كان يقدر على أداء تكليفه بشكل صحيح، فإنه بمقدار ما يؤدي هذا التكليف ينال الشأنية المعنوية، ولا غير. فهذا حاق وجوهر مفهوم الحكومة في نهج البلاغة.

وهكذا، فالحكومة في نهج البلاغة ليس فيها أية إشارة أو علامة على السلطة. وليس فيها أي مبرر لنيل الامتياز. ومن هنا، يكون الناس بحسب تعبير نهج البلاغة رعية، والرعية هم الجماعة التي تقع مسؤولية رعايتها والسهر عليها وحراستها على عاتق ولي الأمر. ولا شك أن مفهوم الرعاية والمحافظة يتفاوت من الجماد إلى الحيوان.

وأحياناً تكون الحراسة والمحافظة على الناس، فهنا نأخذ الإنسان بجميع أبعاد شخصيته ووجوده وحريته وسعيه الدائم للكمال والسمو ورقيه المعنوي، وأهدافه العليا، ويجب رعاية هذه الأبعاد والشؤون مجتمعة.

فهذا الأمر هو الذي أشير إليه في الثقافة الإسلامية عبر العصور.

يقول كميت الأسدي: "ساسة لا كمن يرى الناس سواء ورعيه الأنعام".

السياسيون هم الذين لا يرون رعية الناس مثل رعية الحيوانات بيد أن الإنسان يجب مراعاة إنسانيته، وهذا هو مفهوم الرعية التي تعبّر عن الشعوب في نهج البلاغة.

وباختصار، عندما نكون بصدد البحث عن مفهوم الحكومة في نهج البلاغة، نشاهد من جانب أن رأس الحكومة هو الوالي أو ولي الأمر يتصدى لأعمال الناس وهو موظف ومكلف بتكليف مهم، يتحمل على أساسه مسؤولية ثقيلة وكبيرة. ومن جانب آخر، نرى الشعب بكل قيمه وأهدافه والعناصر المشكِّلة لهويته يقع مورد الرعاية. فهذا هو مفهوم الحكومة، وهو لا يدل على تسلط أو قهر أو سعي إلى المزيد من الامتيازات.

ويشير أمير المؤمنين "عليه السلام" في مواضع مهمة من نهج البلاغة إلى أبعاد الحكومة.

ولعلنا نجد عشرات الجمل في هذا الكتاب مما يدل على مفهوم الحكومة عند الإمام علي (عليه السلام)، منها ما ورد في بداية عهده لمالك الأشتر حيث يقول: "جباية خراجها وجهاد عدوها واستصلاح أهلها وعمارة بلادها" فهذا معنى الحكومة.

وإذا عُيِّن مالك الأشتر كوالٍ وحاكم على مصر، فليس لأجل أن يحصل على سلطة وموقعية لنفسه، أو نيل امتيازات ومنافع مادية، بل لأجل أداء هذه الأعمال: إدارة الأمور المالية للبلاد، ومحاربة أعداء الشعب والحفاظ عليه منهم، وإصلاح الناس (وهذا الصلاح بأبعاده المادية والمعنوية الواسعة قد طرح في نهج البلاغة)، وعمارة المدن مما هو واقع ضمن نطاق حكومته. وباختصار: القيام ببناء الناس والبلاد ورفع مستواهم المعنوي وقيمهم الأخلاقية.

ضرورة الحكومة

المسألة الأخرى هي مسألة ضرورة الحكومة. وهذا البحث كان يطرح في نهج البلاغة مقابل تيار خاص، واستمر كذلك. أي مقابل التيارات السلطوية. ففي كل مجتمع، يوجد أفراد يريدون تحصيل الشأنية والقدرة الفردية، ويرون الوضع الجاري في المجتمع غير مناسب لهم، فيتحركون لأجل التحرر من الضرورات التي تفرضها الحياة الاجتماعية على الناس، والعقود الاجتماعية السائدة.

ولقد وجدت مثل هذه الدوافع في المجتمعات السابقة، ولا زالت، وستبقى ما دامت الأخلاق الإنسانية غير كاملة وصحيحة. مثل هؤلاء كمثل الذين ركبوا سفينة مع غيرهم وأرادوا أن يخرقوا المكان الذي جلسوا فيه. أو ركبوا قطاراً، وأرادوا أن يوقفوا عربتهم التي تقلّهم في مكان يحلو لهم، حتى لو أوقفوا كل القطار. إن هؤلاء لا يلتزمون بالضرورات التي تفرضها الحياة الاجتماعية ـ الموافقة للطبيعة الاجتماعية الإنسانية ـ على الإنسان.

ولو وجدت هذه الدوافع التسلطية في المجتمع مجالاً لها للبروز، فإن الأمر سينتهي إلى الهرج والمرج. ومن هنا كان الإمام علي "عليه السلام" يقول رداً على هذه التيارات: "لابد للناس من أمير".

ولقد نطق الإمام علي "عليه السلام" بهذا الكلام في الرد على تيار خاص ينفي ضرورة الحكومة. وهو في باطنه يريد الهيمنة والتسلط، لكنه يتظاهر بمقولة فلسفية. وهؤلاء هم الخوارج الذين كانوا يقولون: "لا حكم إلا لله". وكان قسم منهم يقول ذلك عن اعتقاد خاطئ وقسم آخر كان مغرضاً، وهم يريدون أن ينفوا لزوم وجود الحكومة في المجتمع.

وهنا وقف أمير المؤمنين "عليه السلام" موضحاً معنى "لا حكم إلا لله"، ومبيناً خطأهم. ونحن لا نصدق أبداً أن الأشعث بن قيس الذي كان زعيم الخوارج قد وقع في الخطأ والشبهة، وكذلك لا نصدق بأن الأيادي التابعة للسياسيين المتربصين بالإمام علي "عليه السلام" لم تكن وراء مثل هذا التيار المتظاهر بالتوحيد وحماية الألوهية. فقد كانوا يقولون إن الحكومة مختصة بالله، ونحن لا نريد الحكومة. أما قصدهم الواقعي فقد كان رفض حكومة الإمام علي "عليه السلام".

ولو سلّم الإمام علي "عليه السلام" في ذلك الوقت لهذه المغالطة الواضحة، أو تنازل لصالح هذه الاضطرابات الاجتماعية، أو للناس الذين كانوا ينطقون بهذه الأقوال الباطلة بسذاجة واعتزل الميدان فإن نفس أولئك الذين كانوا يتفوهون بهذه الشعارات كانوا ليصبحوا أدعياء وطلاب الحكومة.

فيقول أمير المؤمنين "عليه السلام": "كلا، فإن الحكومة لازمة للمجتمع": "كلمة حق يراد بها الباطل". فهذا الكلام حق، وهو بيان القرآن: ﴿إن الحكم إلا لله﴾، ولكن ليس بمعنى أن المجتمع لا يحتاج إلى مدير: "نعم أنه لا حكم إلا لله ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة إلا لله"، مما يعني أن يبقى المجتمع بدون مدير: "وإنه لابد للناس من أمير بر وفاجر".

فإن هذه ضرورة اجتماعية، وضرورة طبيعية وإنسانية تفرض لزوم المدير للمجتمع، سواء كان مديراً سيئاً أم جيداً. فإن ضرورة حياة البشر تفرض وجود مدير. أما قولهم "لا حكم إلا لله" فأرادوا به إسقاط حكومة الإمام علي "عليه السلام"، وهو في الحقيقة يعني نفي الأنداد لله، نفي أية حاكمية مقابل حاكمية الله.

أما حاكمية الإمام علي "عليه السلام" فلم تكن في عرض حاكمية الله. بل كانت ذائبة في حكم الله وفي طوله، ونابعة منه. وكان أمير المؤمنين "عليه السلام" يوضح هذه القضية.

فإذا وجدت مثل هذه الحكومة ـ التي منشؤها الحاكمية الإلهية. في المجتمع، فإن أي حركة دالة على هذا المفهوم الانحرافي "لا حكم..."، هي حركة معادية لله ولهذا واجد أمير المؤمنين "عليه السلام" في ذلك الوقت تيار الخوارج بقوة وقضى عليهم بشدة.

منشأ الحكومة

المسألة الثالثة تتعلق بمنشأ الحكومة. ففي الثقافة الإنسانية الرائجة في الماضي والحاضر، كان منشأ الحكومة هو القوة والسلطة. وكانت جميع الفتوحات العسكرية لهذا الغرض. وجميع الأسر الحاكمة، التي حلت مكان أسر حاكمة أخرى، جاءت إلى الحكم بهذه الطريقة. فالاسكندر الذي فتح إيران، والمغول الذين اجتاحوا هذه المناطق، لم يكونوا سوى تعبير عن هذه الحالة.

فالمنطق السائد كان أننا طالماً نقدر على التقدم والسيطرة فلنتقدم ولنقتل. وفي مسيرة التاريخ كانت التحركات التي تصنع تاريخ الحكومات تدل على هذه الثقافة. فقد كان رأي الحكام وكذلك المحكومين أن ملاك ومنشأ الحكومة هو القدرة والسيطرة.

وبالطبع في ذلك الوقت الذي كان الملك يريد تولي العرش لم يكن يصرح بأن القوة والقهر هي منشأ حكومته. حتى جنكيزخان المغولي، فإنه عندما اجتاح إيران، كان هذا الأمر بالنسبة لأنصاره وأتباعه أمراً معقولاً.

وفي عصرنا الحالي، نجد القوى العظمى أيضاً تتبع نفس ذلك المنطق. فأولئك الذين يسوقون الدول بالقهر والقوة، وأولئك الذين يدخلون إلى بيوت الشعوب التي تبعد عنهم آلاف الكيلومترات، وأولئك الذين يتحكمون بمصائر الشعب ويسلبونها الإرادة والحرية، وإن كانوا لا يتفوهون بأن منشأ حاكميتهم هو القوة، إلا أنهم يطبقون ذلك عملياً. وهذه الثقافة، وإن كان هي الغالبة، إلا أنه يوجد إلى جانبها آراء أخرى.

فأفلاطون كان يرى إن ملاك الحكم والحكومة هو الفضل والفضيلة، أي يقول "بحكومه الأفاضل" أو الصالحين. ولكن هذا الرأي كان حبراً على ورق وبحثاً للمدارس فقط.

وفي عالمنا المعاصر، تعد الديمقراطية، التي هي إرادة الأكثرية، ملاك ومنشأ الحكومة. ولكن من هو الذي لا يعلم أن عشرات الأساليب الرذيلة هي التي تستخدم من أجل سوق إرادة الناس باتجاه إرادة المتسلطين الرذيلة هي التي تستخدم من أجل سوق إرادة الناس باتجاه إرادة المتسلطين والمقتدرين. لهذا يكن في جملة واحدة القول أن في ثقافة البشر السائدة، من البداية وحتى اليوم، اليوم وحتى تحكم الثقافة العلوية وثقافة نهج البلاغة حياة البشر، فإن منشأ الحاكمية هو القوة والتسلط، وسيبقى ولا غير.

وفي نهج البلاغة، نجد أمير المؤمنين "عليه السلام" لا يعتبر ما مر منشأ الحكومة، والأهم أنه "عليه السلام" قد أثبت ذلك عملياً. فعند الإمام علي "عليه السلام" المنشأ الأساسي للحكومة، هو مجموعة من القيم المعنوية.

فالذي ينبغي أن يحكم الناس ويتولى أمورهم ينبغي أن يتمتع بخصائص معينة. فانظروا في كتبه ورسائله إلى معاوية وطلحة والزبير وعماله وأهل الكوفة ومصر. فقد كان يعتبر الحكومة والولاية على الناس ناشئة من القيم المعنوية. ولكن هذه القيم المعنوية لا تكفي لوحدها ليصبح الإنسان في الواقع حاكماً وولياً، بل إن للناس هنا دوراً حيث تعتبر "البيعة" مظهراً له.

ولأمير المؤمنين "عليه السلام" تصريحات عديدة فيما يتعلق بالمسألتين، منها ما كتبه للمعارضين لحكومته وأشرنا إلى ذلك سابقاً، ومنها في خطبه التي ذكر فيها أهل البيت وبيّن فيها القيم المعنوية التي تمثل ملاك الحكومة. ولكن هذه القيم ـ كما قلنا ـ لا تكون سبباً لتحقق الحكومة، بل أن بيعة الناس في ذلك شرط:

"إنه بايعني القوم الذي بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضى".

الحكومة حق أم تكليف؟

إن المسألة الأخرى التي تحوز على أهمية فائقة من نهج البلاغة هي هل ان الحكومة حق أم تكليف؟ وقد بين أمير المؤمنين "عليه السلام" في كلام مختصر ووجيز أن الحكومة حق وتكليف أيضاً. فليس كل ما توفرت له ظروف تولي أمور الناس.

واستطاع أن يحصل على مقام واه، بشكل أو بآخر ـ كالاعلام أو الأساليب التي يرفعها طلاب الزعامة جيداً، ويستطيعون من خلالها جذب الناس إليهم ـ فإنه يحق له الحكم. فعندما تكون الحكومة حكومة الحق، فهذا يعني أن هذا الحق متعلق بالأشخاص محددين، ولا يعني ذلك طبعاً أن هناك طبقة متميزة. لأن الجميع في المجتمع الإسلامي يمكنهم أن يكسبوا تلك الفضائل. نعم، في العصر الذي تلى وفاة النبي الأكرم "صلى الله عليه وآله وسلم" كانت المرحلة استثنائية. أما نهج البلاغة فإنه يبين القضية بصورتها العامة، ويشير إلى هذا الحق مرات عديدة.

ويقول الإمام "عليه السلام" في أول خلافته وحكمه في الخطبة المعروفة بالشقشقية: "وأنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى، ينحدر عني السيل ولا يرقى إلي الطير".

وحول ذلك اليوم الذي شكلت فيه شورى الستة قبل بيعة عثمان، يقول "عليه السلام": "لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري".

فالإمام يعتبر أن الحكومة حق. هذا الأمر واضح في نهج البلاغة. ولكن الإمام يقول بعدها مباشرة:

"ووالله لأسلِّمن ما سلِمت أمر المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليّ خاصة".

ونفس هذا البيان قد صدر حول بداية حكومة أبي بكر وفي ذلك الوقت، حيث يقول "عليه السلام":

"فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام".

أي أنني أول الأمر لم أسلّم ولم أبايع، ولكن عندما رأيت تلك الحوادث التي كادت تجر على الإسلام والمسلمين المصائب العظمى، لم يكن الأمر قابلاً للتحمل بالنسبة لي، فتركت حقي بالولاية. إذاً، فإن أمير المؤمنين "عليه السلام" يرى الولاية حقاً، وهذا ما لا يمكن إنكاره.

من المناسب أن ينظر جميع المسلمين إلى هذه القضية بعين واقعية. فهذا الأمر ليس له دخل بالجدال الذي يحصل أحياناً بين الشيعة والسنة. فنحن اليوم نعتقد أن على الشيعة والسنة أن يكونوا معاً، ويعيشوا معاً، وأن يعتبروا الأخوة الإسلامية أهم من كل شيء، وهذا أمر حقيقي. إن التفاهم والاتحاد يعد اليوم تكليفاً، ولقد كان دوماً كذلك.

أما البحث العلمي والاعتقادي في نهج البلاغة فإنه يدلنا على هذه الحقيقة، ونحن لا نستطيع أن نغمض أعيننا ولا نرى ما يظهر في نهج البلاغة بوضوح. فهذا ما يراه أمير المؤمنين "عليه السلام" حقاً، وكذلك كان يعده تكليفاً. ففي ذلك اليوم الذي أحاط الناس بالإمام علي "عليه السلام" حتى:

"فما راعني إلاّ والناس كعرف الضبع إلي، ينثالون علي من كل جانب حتى لقد وطى الحسنان وشق عطفاي".

فالناس اندفعوا بشوق ولهفة إلى الإمام علي "عليه السلام" يريدونه أن يكون لهم. ولم يكن أمير المؤمنين "عليه السلام" يرى للحكم شأناً واقعاً. فالحكومة عنده ليست هدفاً، كما سيتضح في البحث الثاني. ولكن مع كل ذلك، قبل الحكم بعنوان التكليف الإلهي، ووقف ودافع عنه:

"لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر... لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها".

ولقد كان يقول مؤكداً: "دعوني والتمسوا غيري".

ولكنه عندما رأى أن الأمر أصبح تكليفاً، وأن الأرضية مستعدة، وهو قادر على القيام بهذا الدور العظيم والأساسي، قبل... فهل كانت الحكومة عند الإمام علي "عليه السلام" هدفاً أم وسيلة؟ إن الخط الأساسي الفاصل بين حكومة الإمام علي "عليه السلام" وحكومة الآخرين هو أن علياً "عليه السلام" لم يكن يرى الحكومة هدفاً، بل وسيلة لأجل الوصول إلى الأهداف المعنوية.

على المحققين، أن يلتفتوا إلى قدر نهج البلاغة بالنسبة لهذا الزمان. ونحن في الحقيقة إذا كنا اليوم نحتفل بألفية نهج البلاغة (مرور ألف عام على نهج البلاغة)، ينبغي أن نعلم أن هذا الكتاب العزيز كان من هذه الألف سنة على الأقل تسعمئة وخمسين سنة في عزلة وانزواء.

فغير العلماء والخواص، لم يكن أحد يعمل عنه سوى الاسم. وأول ترجمة ظهرت على يد مترجم عالم محترم جعل هذا الكتاب بمتناول أفهام الجميع وهو السيد علي نقي فيض الإسلام. وإنني أكن له تقديراً خاصاً واعتبر عمله عملاً مهماً.

وشيئاً فشيئاً، نزل هذا الكتاب إلى ميدان الحياة، ووصل إلى أيدي الناس. ولم يكن الناس يعرفون نهج البلاغة، وإنما كانوا يسمعون منه بعض الكلمات، وأكثرها في ذم الدنيا وقسم قليل في الأخلاق والباقي لا شيء. ومن بعدها أصبح في متناول الأيدي وصنفت حوله الشروح، والتحليلات بعنوان الشروح. وكل ذلك مورد تقدير، ولكن في مقابل العظمة التي لهذا الكتاب فلا يوجد شيء يذكر.

علينا اليوم أن نرجع إلى نهج البلاغة، وعلى الفضلاء والعلماء أن يقوموا بما يلزم، ولكن لا ينبغي للشباب أن يقفوا منتظرين للأساتذة والفضلاء وأهل العلم والأدب.

يجب أن يؤخذ "نهج البلاغة" بأبعاده المختلفة، ولهذا علينا أن نقيم الاجتماعات واللقاءات [١] .

-----------------------------------------------------
[١] . الإمام السيد الخامنئي دام عزه / محاضرة ألقيت في مؤتمر ألفية نهج البلاغة طهران ـ مدرسة الشهيد مطهري ـ رجب ١٤٠١هـ.

منقول من شبكة المعارف الإسلامية

****************************