وقال (عليه السلام): يَهْلِكُ فِيَّ رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ مُفْرِطٌ، وَبَاهِتٌ مُفْتَر.                
وقال (عليه السلام): خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ، وَإِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ .                
وقال (عليه السلام): إِذَا وَصَلَتْ إِليْكُمْ أَطْرَافُ النِّعَمِ فَلاَ تُنْفِرُوا أَقْصَاهَا بِقِلَّةِ الشُّكْرِ .                
وقال (عليه السلام): عَلامةُ الاِْيمَانِ أَنْ تُؤثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ،أَنْ يَكُونَ فِي حَديِثِكَ فَضْلٌ عَنْ عِلْمِكَ، وَأَنْ تَتَّقِيَ اللهَ فِي حَدِيثِ غَيْرِكَ.                
وقال (عليه السلام): زُهْدُكَ فِي رَاغِب فِيكَ نُقْصَانُ حَظّ، وَرَغْبَتُكَ فِي زَاهِد فِيكَ ذُلُّ نَفْس.                
وقال (عليه السلام): مَنْهُومَانِ لاَ يَشْبَعَانِ: طَالِبُ عِلْم، وَطَالِبُ دُنْيَا.                
وقال (عليه السلام): الْغِيبَةُ جُهْدُ الْعَاجزِ.                

Search form

إرسال الی صدیق
الحماسة في شعر الشريف الرَضي – الثالث

بقلم : محمد جميل شلش

وقد رثى الشريف الرضي كثيرا من الشخصيات التي كان لها شأن في عصره ، فألم بالحماسة في مواقف مختلفة ، ولكنه لم يبلغ فيها ما بلغه في رثاء جده الحسين ، فقد رثى والدته (٣٨٥هـ) [١] وعبّر عن صبره ، وتجلده ، وقوته ، وقوة اشياعه وقال:

أبدي التجلد للعدو، ولو درى***** بتململي ، لقد اشتفى أعدائي

ما كنت أذخر في فداك رغيبة ***** لو كان يرجع ميت بفداء

لو كان يدفع ذا الحمام بقوةٍ ***** لتكدست عصب وراء لوائي

بمدرّبين على القراع تفيّأوا ***** ظلّ الرماح لكل يوم لقاء

ثم عبر عن ثورة حزنه ، وتحرقه ، بسبب المصاب ، في نبرة يبدو فيها شديدأ هائجاً وهو يقول:

كم آمرٍ لي بالتصّبر هاج لي***** داءً ، وقدّر أن ذاك دوائي

آوى إلى برد الظلال كأنني ***** لتحرّقي آوي إلى الرمضاء

واهب من طيب المنام تفزعاً ***** فزع اللديغ نبا عن الإغفاء

كما رئى علي بن الحسين الزينبي نقيب العباسيين (٣٨٤هـ) [٢] والصاحب بن عباد (٣٨٥هـ) [٣] ، وأباه (٤٠٠هـ) [٤] وخاله (٣٩١هـ) [٥] ، وكان في اكثرها محض راث ، يلم بالفاظ الحرب والثورة ولغتها وآلاتها ،ولكنه لا يرقى الى روح الحماسة والثورة الاصيلة.

ومن امثلة ذلك ، رثاؤه لنقية بنت سيف الدولة (٣٩٩هـ) في قصيدة مطلعها [٦] :

نغالب ثم تغلبنا الليالي ***** وكم يبقى الرمي على النبال

وقد عارض فيها المتنبي ، واصطنع اسلوبه والّمَ بمطلع لاميته [٧] :

نعد المشرفية والعوالي ***** وتقتلنا المنون بلا قتال

ورثى الشريف بعض رؤساء القبائل العربية التي لعبت دورا هاما في توجيه سياسة القرن الرابع الهجري ، وعبر عن جانب من حياته الخطيرة يفسر بعض شعره الحماسي، او يعين على تفسيره ، ومن ابرز هؤلاء  العرب الذين رثاهم، ابو طاهر ابراهيم بن ناصر الدولة الحمداني، الذي قتله ابو الذواد العقيلي سنة (٣٨٢هـ) ، وكان صديق الرضي ومن شيعته ، بل ممن كان يرى فيهم بعض احلامه في الطموح والسيادة ، قال الرضي [٨] :

ألقي السلاح ربيعة بن نزار***** أودى الردى بقريعك المغوار

وترجّلي عن كل أجرد سابح ***** ميل الرقاب نواكس الأبصار

ودعي الأعنّة من أكفّك ، إنها ***** فقدت مصرفها ليوم مغار

والشريف الرضي لا يذم هنا بني ربيعة ، ولا يهجوهم ، ولكنه يقصد الى استثارة نخوتهم ، وتحريضهم للثآر، وهو يذكرنا بقربط بن انيف في استنهاض قومه واستثارة نخوتهم [٩] .

على ان الرضي في هذه القصيدة ينطلق من احساس بوجدان جماعي حتى لكان القضية تعنيه شخصيا ، وكانت النائبة تأتيه بالذات حين يقول :

اليوم صرحت النوائب كيدها ***** فينا ، وبان تحامل الأقدار

ثم يخاطب تقلبً عن نجمها الذي افل ، وبطلها الذي افتقدته سوح القتال ، متصورا ان كل شيء من أمر الجهاد والمروءة والنجدة قد تعطل، فيصرخ ، بل يشهق في استفهام ، فيه التحفز، وفيه الحيرة ، وفيه المطالبة بالثأر ايضا ، بل فيه – الثورة نفسها [١٠] :

أين القنا مركوزة تهفو بها ***** عذب البنود، يطرن كل مطار

أين الجياد مللن من طول السرى ***** يقدفن بالمهرات والأمهار

من معشرٍ غلب الرجال (الرقاب) ، جحاجحِ ***** غلبوا على الأقدار والأخطار

من كل أروع طاعنِ أو ضاربٍ ***** أو واهبٍ أو خالعٍ او قار

ركبوا رماحهم إلى أغراضهم ***** أمم العلى ، وجروا بغير عثار

وإستنزلوا أرزاقهم لسيوفهم ***** فغنوا بغير مذلّةٍ وصغار

ثم رثى صديقه أبا حسان المقلد  بن المسيب سنة (٣٩١هـ) وقال [١١] :

أعامر لا لليوم أنت ولا الغد ***** تقلّدت ذلّ الدهر بعد المقلد [١٢]

وأصبحت كالمخطوم من بعد عزة ***** متى قيد مشّاء على الضّيم ينقد

فإن سار للأعداء غيرك فاربعي ***** وإن قام للعلياء غيرك فاقعد [١٣]

وهو في هذه الابيات يحرض على الثورة .

ويستنهض بني عامر الى طلب النار ، ويفعل كما فعل في قصيدته السابقة في رثاء ابي طاهر بن ناصر الدولة الحمداني.

ثم يعرض الشريف بالاعداء الذين قتلوا المقلد غيلة ويقول  [١٤]  :

فلا نعم الاعداء (الباغون) يوما بعيشةٍ ***** ولا حضروا  إلا بألام مشهد

ولا صادفوا في الدهر منجى لخائفٍ ***** ولا وجدوا في الأرض مأوى لمطرد

ولا شربوا إلا دماً بعده ، ولا ***** تحابوا بغير الزاعبي المقصد

ثم يختتم القصيدة ، مصورا ان الردى غال اسرته ، محتارا بأي يد يرمي الزمان ، وبأي ساعد معبرا عن تجلد في طبعه:

وما كان صبري عنهم من جلادةٍ ***** أبى الوجد  لي ، بل عادة من تجلّدي

وما دمنا بصدد الكلام عن الاحداث الكبرى في حياة الشريف الرضي ، فانه من المناسب جدا ان نأتي على رثائه لخصيصتين كان لهما اثر ايمّا اثر في حياته ، ثم افتقدها ، فكان لفقدهما وقع عميق في نفسه ، واعني بهاتين الشخصيتين أبا اسحق الصابيء، وأبا العوام.

اما الصابيء، فقد كانت علاقته به علاقة اديب باديب ، وصديق حميم ، بصديق حميم، ثم تعدت ذلك الى ما هو ابعد اثرا في نفس الشريف الرضي.

والجدير بالملاحظة ان ابا اسحق ، كان يتوسم في الرضي ملامح الزعامة ، والرياسة، ويثير في نفسه نوازع الطموح ، حتى انه كان اقوى العوامل في ترسيخ نوازع الطموح نحو الخلافة في نفس الرضي.

ففي قصيدة بعث بها الى الصابيء جوابا على قصيدة كتبها الاخير اليه ، يقول الرضي متحمسا ، مفصحا عن ثورته التي سيعلنها من اجل اليوم المرتقب [١٥] :

وإنّ قعودي أرقب اليوم أو غدا ***** لعجز ، فما الإبطاء بالنهضان

سأترك في سمع الزمان دويّها ***** بقرعي ضراب صادقِ وطعانِ

وقد رثى الشريف الرضي ، ابا اسحق الصابيء في اكثر من قصيدة ، اشهرها داليته، وقد تناول فيها الموضوع من جانب علاقته الشخصية بالصابيء الأديب الصديق ، الذي طالما اثار في نفسه الطماح نحو المجد ، وجعله يرمي ببصره نحو البعيد البعيد .

وعلى طريقة الرضي في رثاء والدته ، خاطب الفقيد وهو ثائر حزين [١٦] :

لو كنت تفدي لا فتدتك فوارس ***** مطروا بعارض كل يوم طراد

وتفجع عليه ، وصوره في صورة البطل المحارب ، واضعا  نفسه في صميم التجربة ، متسائلا ، مكررا:

من للبلاغة والفصاحة إن همى ***** ذلك الغمام ، وعب ذاك الوادي

من للموك يجز في أعدائها ***** بظبيَ من القول البليغ حداد

من للممالك لا يزال يئمها ***** بسداد أمرِ ضائع وسداد

من للجحافل يستزل رماحها ***** ويرد رعلتها بغير جلاد

ولرب قائل يقول: انَ الرضي لم يفعل شيئا غيراصطناعية  لغة الحرب، تسعفه ملكته ، وقدرته الفنية في تصوير الصابىء الاديب البليغ ، في صورة البطل الذي يصول ببلاغته ، بظبى من القول الفصيح، والرأي السديد يجزء به الاعداء ، ويلم به المماليك ، ويرد الجحافل بغير جلاد .

ومثل هذا بقول وارد ان نحن طفونا على السطح ، وتعاملنا مع الالفاظ في ظاهرها ، اما اذا نقلنا الى الاعماق ، ووقفنا موقف الشاعر ، وتفحصنا روحه وتجربته ، فاننا لا يمكننا الا ان نلمحه مندمجا في الصورة التي اوردها في ابياته ، يصدر عن ذات منفعلة ثائرة، ومشاعر عائجة متوترة.

الا انني لا انكر ان الرضي كان احيانا يصطنع صور البطولة بقدرة الشاعر الفنان، ولكنه يبتعد عن الحماسة ، ويظل مجرد وصاف، وقد فعل الصابي ، والفاظه بانها تقدم اقدام الجيوش، وتصمد صمود الابطال حين يقول [١٧] :

يقدمن إقدام الجيوش ، وباطل ***** أن ينهزمن هزائم الأجناد

ومع ان هذه الصورة حربية في لغتها والفاظها ، الا انها بعيدة كل البعد عن الحماسة.

واما رثاء الشريف الرضي لابي العوام، فقد كان هو الآخر مدعاة لثورته ، وعاملا من عوامل تحركه وتململه ، ونزوعه نزوعا بدويا ، فمن هو أبوالعوام ؟ وما هي علاقته بالشريف الرضي ؟

في ديوان الرضي [١٨] يبدو ان ابا العوام ، وعمرا ، وابن ليلى ، هو احد زعماء البدو، وصديق الرضي ، وقيل انه كان دليلا له في طريق الحج، وداعية له ، وقد قتله رجل من تميم.

وفي ديوان الرضي قصيدة يفصح فيها عن ان أبا العوام كان له شان، وكان يطمح الى امر دونه الموت [١٩] :

أرى إبل العوام تحدى على الطوى ***** وتأكل حوذان الطريق المناسم [٢٠]

وتظمى على الإغذاذ أشداق خيله ***** وتشرب من أفواههنّ الشّكائم [٢١]

يحاول امراً يرمق الموت دونه ***** لقد زلّ عنه ما تروم المراوم

فأبوالعوام  بدوي ثائر طامح، كانت له علاقة بالرضي ، ربما وثقتها وعززتها رحلات الرضي ، ومروره  بنجد، ومصاحبته للادلاء من البدو في مواسم الحج التي كانت بالنسبة للرضي تجربة واقعية ، تمرس خلالها بالاهوال والمغامرات ،فاشيعت روحه بحب الحرية ، وجعلته يتذوق طعم الزعامة ، ولما كان الواقع لم يسعفه ، نفس عن هذا كله في شعره ، فجاء مصورا لجانب مهم من حياته ومفسراً  لركن اساسي من اركان حماسته.

على ان كتب التاريخ لا تعطينا صورة واضحة لشخصية ابي العوام ولكن الشريف الرضي يكشف عنها ، ويرسمها في قصائده على النحو الذي تقدم ، فقد مدحه في حياته ، ورثاه في مماته ، في قصائد فريدة جميلة ، ومن اجود مراثيه ، قصيدة مطلعها [٢٢] :

لعمر الطير يوم ثوى ابن ليلى***** لقد عكفت على لحمِ كريم

وهو مطلع بدوي «هذلي» يذكرنا بابي خراش [٢٣] .

وتكاد تكون القصيدة كلها جارية على نفس حماسي بدوي ممتزج بالاسى والالم على صاحبه وعضده، وامله في مطمحه البعيد ، هذا الصاحب الذي يقول عنه ، وعن النوائب التي اختطفته بطعنة تميميه غادرة :

أأجزع إنَ حطمن حجاز أنفي ***** وهنّ يقصن أعناق القروم  [٢٤]

ومالي لا أراع وقد رمتني ***** يد الجلّى بقارعة التميمي [٢٥]

ثم يشهق متسائلا :

أجدّك أن ترى بعد إبن ليلى ***** طعانا بين رامة والغميم

ولا نقعا يثور على مغيرِ ***** ولا بيتاً يظلّ على مقيم

ولا لجّ الصّهيل مسوّمات ***** مججن دما على علك الشكيم

وللرضي قصيدة اخرى جميلة في رثاء ابي العوام، يصف فيها بطولته ، ويهدر على البحر الوافر ، ويقيمها على قافية الجيم المطلقة ، ويوغل في شعر البداوة مبنى ومعنى ويقول [٢٦] :

ومظلمةِ من الغمرات عطشى ***** جملت لها من القضب إنبلاجا

ومائلةِ أقمت لها كعوبا ***** وقد شغرت على القوم إعوجاجا

وداهيةِ تشوّل بالذّنابى***** غدوت لباب مطلعها رتاجا

ومعضلةِ كفيت ، وذات وهيِ***** شددت لها العراقي والعناجا [٢٧]

ومنها وهي اكثر ايغالا في شعر البداوة وادل على احتماسه قوله :

برغمي أن يكن قنا تميمِ ***** قضين على الذنائب منك حاجا

حميت منابت الرّمرام منهم ***** وأخليت الأناعم والنباجا [٢٨]

منعتهم اللقاح ، وملقحاتِ ***** يكاد الخوف يمنعها التناجا

فما لقحت لهم إلا إختلاساً ***** ولا ولدت لهم إلا خداجا [٢٩]

وخير ميزة في هذه القصائد التي قالها الرضي في ابي العوام انه «جردها من اسلوبه التقليدي في الرثاء ، وجعلها نسيج وحدها حين لاءم بينها وبين الذي قيلت فيه ، واقامها على نسق بدوي خالص ، فالروح بدوية ، والطريقة بدوية كذلك ، وبعض المعاني التي يرددها فيها يدل على قوة صلة الشريف بشعر البداوة، وبخاصة شعر الهذليين» [٣٠] .

وقد رسخ هذه الروح في نفسه ، وفي شعره ، قراءته للمتتبي اولا، وتاثره به ، في الشعر ، والوسائل ، والغايات، ثم تمرسه بامارة الحج في اعوام طويلة من عمره ، ولقد وثقها اكثر من هذا كله ، وبشكل عنيف ، طموحه للخلافة ، وشعوره  بان البداوة صار لها اليد الكبرى في توجيه السياسة، ثم نفوره من بغداد ، وظيقه بالحياة فيها ، كل ذلك زاد لسوقه بالبداوة ، لانه وجد فيها بشكل عفوي، المنبع الاصيل، والمرجع الوحيد ، لشعوره العربي ، ولراحة نفسه ، ورضا قلبه وضميره، ونحن لا ننسى في هذا المقام ، ثقافته الخاصة ،وبيئته الخاصة ، وعلاقته بالخط النقدي ، وبالنزعة التي مجدت روح البداوة، واتجهت نحوها في الشكل ، فلقد كان لهذا ايضا اثر كبير في توجيه شعره ، وفي طبعه بطابع البداوة [٣١] .

وما دامت الصلة وثيقة بين طموح الشريف الرضي ، وبين نزوعه البدوي العربي ، وما دام هذا الطموح بمثابة العامل الاكبر في توجيه شعره ، وفي تحركه ، واندفاعه ، وتحديه ، وتمرده ، على واقع عصره ، فجدير بالباحث ان ينظر مليا في هذا الطموح ، وان  يقف عنده، فهو دون ادنى شك ، يلقي ضوء كاشفا على ثورة الرضي، ويفسر الجانب الاكبر من حماسته.

ولو استقصينا شعر الشريف الرضي من بدئه حتى نهايته ، لراينا ان روح الطموح  والثورة  تكاد تلازمه ، وان الفخر الحماسي بملكاته ، وقدراته وامجاده، وشعوره بالانفة ، والكبرياء، يكاد يطغى على شعره في هذا الجانب ، حتى يبدو لنا وكان هذا الشعور ولد معه ، لا يتصنعه ، ولا يتكلفه.

على ان طموحه في بواكير حياته ، كان غامضا ، غير محدد ، فهو تارة المجد [٣٢] :

المجد يعلم أنّ المجد من أربي ***** ولوتماديت في غيّ وفي لعب

إني لمن معشرِ ، إنَ جمعوا لعلى*****  تفرقوا عن نبي ، أو وصي نبي

إذا هممت ففتش عن شبا هممي *****  تجده في مهجات الأنجم الشّهب

وإن عزمت فعزمي يستحيل قذى*****  تدمى مسالكه في أعين النوب

يقول جامع ديوانه : انه قالها وسنّه فوق العشر بقليل.

واذا كانت «هموم المجد» شغلت الرضي في هذه السن المبكرة ، فان قضية الزعامة داعبت احلامه ، ورسخت في نفسه ، وهو لم يتجازو العشرين ، فاذا به يحلم بالسيادة ، «ورعي الناس عن رعي القروم» واذا به يلتمس العلى بالعرب او بغير العرب [٣٣] :

وعن قربِ سيشغلني زماني ***** برعي الناس عن رعي القروم

ومالي من لقاء الموت بدّ ***** فمالي لا أشد له حزيمي

سألتمس العلى إمّا بعربِ ***** يروّون اللّهاذم أو بروم

وتارة اخرى يكون طموح الرضي الى العلياء [٣٤] :

ما أنا للعلياء إن لم يكن ***** من ولدي ما كان من والدي

ولا مشت بي الخيل إنْ لم أطأ ***** سرير هذا الأغلب الماجد

ويلاحظ في البيت الاخير انه يعرّض بالخليفة.

ومن هذه النقطة  يبدو طماحه اكثر وضوحا ، وهو يرمي الى غاية بعيدة ، دونها الحمام [٣٥] :

سأمضي للتي لا عيب فيها ***** وإن لم أستفد إلا عناء

وأطلب غاية إن طوحت بى ***** أصابت بي الحمام أو العلاء

فقد تكون الخلافة ، او النقابة ، وهي على اية حال ، غاية سامية رفيعة، بعيدة المنال ، او هي الخلافة نفسها ، وقد افصح الشريف عن هذا عندما تقلد النقابة قائلا [٣٦] :

قلق العدو وقد حظيت برتبةِ ***** تعلوعلى النظراء والأمثال

لو كنت أقنع بالنقابة وحدها ***** لغضضت دون بلوغها آمالي

لكن لي نفساً تتوّق إلى التي ***** ما بعد أعلاها مقام عال

والشريف الرضي يتحمس لهذا كله، وتشتد حماسته ، وتلتهب ، وقد يفتخر ، مصورا نفسه بطلا يخوض الغمرات ، ويصارع الاهوال، مستغرقا في حلم اليقظة بكل كيانه ، حتى اذا عاد الى نفسه ، ند عنه استفهام ، فيه نفاذ الصبر وفيه ثورة النفس [٣٧] :

إلى كم ذا التردد في الأماني ***** ولم يلوى بناظري السراب

ولا نقع يثار ولا قتام ***** ولا طعن يشب ولا ضراب

ولا خيل معقدة النواصي ***** يموج على شكائمها اللعاب

وحتى اذا استنفد الحلم الذي يعيشه ، ووجد ان المطامح لا تتحقق بالآمال ولا بالاقوال ، هتف من جديد:

سأخطبها بحدّ السيف فعلا ***** إذا لم يغن قول أو خطاب

واخذها وان رغمت أنوف ***** مغالبة ، وإن ذلّت رقاب

والشريف الرضي ، الطامح، المتحمس في طلب العلى  والمجد ، والغايات العظام ، في شكل نقابة ، او خلافة ، او امارة حج، يكون اقوى حماسة واشد ، اذا مس طماحه بسوء ، وهددت آماله بالخطر.

فعندما يشعر بانه سيصرف عن النقابة ، يتضخم عنده الشعور بالعظمة ، فيثور ويصرخ [٣٨] :

فلئن صرفت ، فلست عن شرف العلى ***** ومقاعد العظماء ، بالمصروف

ولئن بقيت لكم ، فإني واحد ***** أبدا أقوم منكم بألوف

ثم تزداد عنده هذه الثورة ، عندما يصرف عن النقابة فعلا ، فيلح عليه شعور عنيف من مشاعر الكبرياء والانفة ، والاباء ، ويهتف [٣٩] :

ولي أنف كأنف الليث ، يأبى ***** شميمي للمذلة وإستيافي

إذا عدّ المناقب جاء بيتي ***** يجرّ ذيول أحسابِ ضوافي

ويخاطب الخليفة ، ويتجرأ عليه ، ويتحداه :

لئن أعلى بناءكم إصطناعي ***** فسوف يثلّ عرشكم إنحرافي

وهذا الشعور العنيف ، الطافح بمعاني العظمة ، والتفوق  ، يبدو للمتتبع ، وكانه اشبه بمرض ، ظل يلازم الشريف الرضي ، فتتفجر به عواطفه ، ولا يستطيع منه فكاكا ، ولذلك رايناه يعبر عنه ، عندما يقف اما الكبار [٤٠] الذين شعر من اعماقه ، انهم هم السبب في اغتيال حلمه الذهبي، وهم الذين اقاموا السد المنيع بينه وبين مطامحه.

ويبدو هذا واضحا في فخره الحماسي الذي هو في حقيقته تمجيد لمشاعر الرجولة  والبطولة في شخص الشاعر ، وقد اتينا على الكثير منه في هذا الفصل ، فهو قوام حماسته ، وهو مبثوث في اغلب قصائده ، شان المتنبي في ذلك بل اكثر منه.

ونحن  - وان كنا لا ننكر ان له فخرا تقليديا [٤١] جاري فيه من تقدمه ، ولم  يصبغه بتلاوين مشاعره وانفالاته – الا اننا نجد ان فخره الحماسي الاصيل الفاقع ، كان يطغى على شعره .

فقد وجد لمادة فخره معينا لا ينضب ، وانطلق على لسانه ، ملونا باطوار حياته ، وبمزاجه النفسي ، وبحياة البؤس والحرمان ، والهناء والسعادة ، والغضب والثورة ، والشعور بالامل الزاهي والأمل الخائب ، ثم الزهو الذي يصل الى حد الشعور بالعظمة الذاتية ، كما اسلفت ، وبالعظمة التاريخية [٤٢] ، واعني بها رصيده العالي في النسب ، وامجاده الخالدة عبر التاريخ العربي الطويل ، ولهذا كله ، جاء الفخر على لسانه قويا ، مؤثرا ، تكاد نبرة الحماس لا تفارقه ، وصور الرجولة ، والعزة ، والاباء ، لا تغيب عنه ، فكان معين حماسته ، ومنبعها الاصيل ، وقد راينا ذلك في المقدمة الحماسية في شعره ، وفي قصائده الحماسية المتكاملة ، كما رايناه مبثوثا في ثنايا قصيده ، طاغيا على اكثر اغراض شعره.

----------------------------------------------------------------------------------
[١] . ديوان الرضي – دار صادر : ١/٢٦.
[٢] . ديوان الرضي – دار صادر : ١/١٤٢.
[٣] . نفس المصدر : ١/٢٠١.
[٤] . نفس المصدر : ٢/٢٩٠.
[٥] . نفس المصدر : ١/١٤٦.
[٦] . ديوان الرضي – دار صادر : ٢/٢١٢.
[٧] . ديوان المتنبي – شرح البرقوقي : ٢/١٤٠.
[٨] . ديوان الرضي – دار صادر : ١/٤٩٠ ، ١/٢١٦.
[٩] . جاء في شرح ديوان الحماسة – المرزوقي : انها لاحد شعراء بلعتبر : ١/٢٢.
[١٠] . ديوان الرضي – دار صادر : ١/٤٩٢.
[١١] . ديوان الرضي – دار صادر : ١/٢٦٩.
[١٢] . يخطىء جامع الديوان عندما يتصور ان الشاعر يخاطب شخصا اسمه (عامر) فيحرك (تاء) «انت ، وتقلدت ، واصبحت ، وغيرك» (بالفتح) بينما المقصود  نداء قبيلة بني عامر ، والتاء للتأنيث.
[١٣] . في الديوان «افعد» والصحيح ما اثبتناه على ضوء ما تقدم لكونه يخاطب القبيلة.
[١٤] . ديوان الرضي – دار صادر : ١/٢٧١.
[١٥] . ديوان الرضي – دار صادر : ٢/٥٤. وانظر : ٢/٢٨.
[١٦] . ديوان الرضي – دار صادر : ١/٢٨١.
[١٧] . ديوان الرضي – دار صادر : ١/٢٨٢ ، ٢/٨٠ هـ٥٨١ ، ١/٢١.
[١٨] . ديوان الرضي: ١/٥٦٧،٥٨٩ و٢/٦٧ ، ٢١٧.
[١٩] . ديوان الرضي – دار صادر : ٢/٢٦٥.
[٢٠] . الطوى: الجوع . الحوذان: نبات طيب الطعم في اصله صفرة . المناسم ، الواحد منسم : خف البعير.
[٢١] . الاغذاذ : من اشد السير : اسرع.
[٢٢] . ديوان الرضي – دار صادر: ٢/٢١٧.
[٢٣] . ديوان الهذليين: ص ١٥٤. قسم ٢ – الدار القومية – القاهرة.
[٢٤] . يقصن : يكسرن.
[٢٥] . ينسب الى منهم بن نورة التميمي ، والقارعة التي اصيب هي مقتل اخيه مالك ، قتله خالد بن الوليد في حرب الردة.
[٢٦] . ديوان الرضي – دار صادر : ١/٢٢٧.
[٢٧] . العراقي: الواحدة  ,عرفوة: خشبة الدلو. العناج : حبلها.
[٢٨] . الرمرام : نبت اغبر . النباج : قرية بالبادية.
[٢٩] . الخداج : القاء الناقة ولدها قبل تمامه.
[٣٠] . الشريف الرضي ، احسان عباس : ص٢١٧ . وانظر ديوان الهذليين: ق١: ص ٨٢. ق٢ : ص ٩٩. ق٢ : ص١٢٠.
[٣١] . الشريف الرضي ، احسان عباس : ص ٢٢٣ – ٢٢٧.
[٣٢] . ديوان الرضي – دار صادر : ١/١١٢ ، ٢/١٥١.
[٣٣] . ديوان الرضي : ٢/٤١١.
[٣٤] . ديوان الرضي – دار صادر : ١/٣٤٨.
[٣٥] . نفس المصدر : ١/١٩.
[٣٦] . ديوان الرضي – دار صادر : ٢/١٨٢.
[٣٧] . نفس المصدر : ١/١٢٦ – ١٢٧.
[٣٨] . ديوان الرضي – دار صادر : ٢/١٤.
[٣٩] . نفس المصدر : ٢/١٦ ، ٢٢٤٢ وما بعدها .
[٤٠] . ديوان الرضي – دار صادر : ٢/٤٢.
[٤١] . نفس المصدر : ١/٢٥١ ، ١/١٤٩ ، ١/٢٩٢.
[٤٢] . ديوان الرضي – دار صادر : ١/١٩ ، ١١٥ ، ١٢٤ ، ١/٥٠٠ – ٥٠٤.

انتهى .

مقتبس من مجلة المورد العراقية  العدد/ ٤ السنة ١٩٧٣ م .

****************************