وقال (عليه السلام): رُبَّ مَفْتُون بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِ.                
وقال (عليه السلام): الْحِلْمُ وَالاَْنَاةُ تَوْأَمَانِ يُنْتِجُهُمَا عُلُوُّ الْهِمَّةِ.                
وقال (عليه السلام): قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِير مَمْلُول مِنْهُ.                
وقال (عليه السلام) : هَلَكَ فِي رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ غَال ، وَمُبْغِضٌ قَال .                
وقال (عليه السلام) : مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا .                
وقال (عليه السلام): مَا مَزَحَ امْرُؤٌ مَزْحَةً إِلاَّ مَجَّ مِنْ عَقْلِهِ مَجَّةً.                
وقال (عليه السلام): أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ اكْتِسَابِ الاْخْوَانِ، وَأَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ .                

Search form

إرسال الی صدیق
العلوم اللغوية والعبقرية البلاغية عند الإمام علي عليه السلام – الأول

راجي أنور هيفا

عندما نتحدث عن العلوم اللغوية عند الإمام علي عليه السلام فإننا نتحدث بلا ريب عن العلوم البلاغية بأبهى صورها وأجلى قيمها وذلك لأننا لا نستطيع أن نفصل ذكر دور الإمام علي عليه السلام الأبرز في بلورة اللغة العربية وحفظها عن ذكر كتابه الخالد (نهج البلاغة)، ذاك الكتاب الذي يعتبر ـ كما سنلاحظ مكانته عند المفكرين المسيحيين الآن ـ كتاباً وأخاً وفياً للقرآن الكريم.

فنهج البلاغة هو المرآة المعرفية واللغوية للقرآن الكريم الذي أعجز العلماء والبلغاء بفصاحته وبلاغته وبعلومه ومعارفه حتى أن الكثير من المفكرين والأدباء من المسيحيين رأوا فيه كتاباً سماوياً خالداً لا يمكن لأي يراع بشري أن يخطه أو أن يخط أي كتاب آخر يدانيه علماً وبياناً وبلاغة.

وقبل الشروع في الكلام عن العلوم اللغوية والبلاغية في فكر الإمام علي عليه السلام لابد لنا من الوقوف قليلاً عند بعض أعلام الفكر والأدب ممن كان لهم باع طويل في دراسة وتحليل كتاب نهج البلاغة الذي قام بجمعه وتصنيفه محمد بن حسين الموسوي المعروف بالشريف الرضي (٣٥٩ ـ ٤٠٦ هـ).

يقول ابن أبي الحديد المعتزلي، وهو أحد أهم أولئك الذي شرحوا كتاب نهج البلاغة، من غير الشُّراح الشيعة: )) كثير من أرباب الهوى يقولون: إن كثيراً من النهج البلاغة كلام محدث صنعه قوم من فصحاء الشيعة وربما عزوا بعضه إلى الرضي أبي الحسن أو غيره، وهؤلاء أعمت العصبية أعينهم فضلوا عن النهج الواضح وركبوا بنيات الطريق ضلالة وقلة معرفة بأساليب الكلام))، ولكن ابن أبي الحديد لم يكتف بقول ذلك دون شرح وتعليل لما قال، بل تابع حديثه مبيناً السبب الذي دعاه إلى تبني وجهة النظر تلك، فقال موضحاً: ((وأنت إذا تأملت نهج البلاغة وجدته كله ماءً واحداً ونفساً واحداً وأسلوباً واحداً كالجسم البسيط الذي ليس بعضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية ، وكالقرآن أوله كأوسطه، وأوسطه كآخره، وكل سورة منه وكل آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفن والطريق والنظم لباقي الآيات والسور)) [١] .

إذا، بالنسبة إلى ابن أبي الحديد المعتزلي، فليس هناك أدنى شك في أن الذي ورد في كتاب نهج البلاغة هو حقاً ما قاله الإمام علي عليه السلام وليس كما يدعي بعض المسلمين المتعصبين من أن نهج البلاغة ليس للإمام علي عليه السلام وإنما لتلميذه الشريف الرضي أو لبعض الشيعة المتأخرين الذين وضعوا فيه ما أرادوا من خطب ومواعظ وعلوم ثم قاموا بنسبها للإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام.

والواقع، إن الذين يعطنون في نسبة نهج البلاغة للإمام علي عليه السلام، إنما يفعلون ويتأولون ذلك لأنهم يريدون أن يجردوا الإمام علياً عليه السلام من كل فضيلة ومنقبة، بل ومن كل الألقاب التي حاز عليها سواء من الله عز وجل في محكم تنزيله أو من رسوله الكريم صل الله عليه وآله وسلم، من خلال الكثير من أحاديثه الشريفة التي تبين علو مقامه وخصيص مكانته. فهم ـ أولئك المتعصبون ـ لا يريدون للإمام علي عليه السلام أن يكون إمام البلغاء وسيد الفصحاء، بل يريدونه أن يكون كبقية العديد من الصحابة ممن لا يمتكلون أية خصلة رفيعة أو منقبة مميزة يمتازون بها عن غيرهم.

لقد كبر عليهم أن يكون علي عليه السلام هو (الإمام) و(أميرالمؤمنين) و(الفاروق الأعظم) و(الصديق الأكبر) و(صالح المؤمنين) و(أسد الله الغالب) و(أبو تراب) و(ولي المؤمنين)، وإلى غير ما هنالك من ألقاب عظيمة اختص بها حصراً دون سواه من الصحابة.

وعلى كل حال، لو تركنا ما قاله ابن أبي الحديد جانباً، وقفزنا سوية مع القارئ الكريم فوق حواجز الزمان كي نسأل أحد المفسرين العصريين لنهج البلاغة عن رأيه في نسبة هذا السفر العظيم للإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام، فسيقع اختيارنا على ما قاله الشارح الأستاذ الشيخ (محمد عبده) الذي قام بشرح وتفسير معاني الأقوال والخطب الواردة في كتاب نهج البلاغة بأسلوب عصري مبسط وسهل بحيث يمكن للقارئ أن يتناوله ويتفهمه دون مشقة أو عناء شديد.

يقول الاستاذ الشيخ (محمد عبده)، مفتي الديار المصرية سابقاً : ((ذلك الكتاب الجليل هو جملة ما اختاره السيد الشريف الرضي رحمه الله من كلام سيدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. جمع متفرقة ، وسماه بهذا الاسم (نهج البلاغة)، ولا أعلم اسماً أليق بالدلالة على معناه منه، وليس في وسعي أن أصف هذا الكتاب بأزيد مما دل عليه اسمه)) [٢].

ولو سألنا الشيخ الإمام محمد عبده عن كيفية استدلاله للوصول إلى أن صاحب كتاب نهج البلاغة هو الإمام علي عليه السلام، ولو سألناه أيضاً عن رأيه حول طبيعة ذلك الكتاب النفيس وعن الفائدة المرجوة منه، فبماذا سيجيبنا؟!

نسطيع أن نلاحظ ، وقبل إيراد إجابة الشيخ(عبده) عن هذين السؤالين، أن كلام الشيخ (عبده) ناتج عن دراسة متأنية وعميقة لنهج البلاغة ، فهو لا يطلق أحكامه جزافاً ، ولا يتفوه بأقوال غير مبنية على معرفة يقينية وحجج صادقة وبراهين قوية تؤيد صدق مقاله وصواب أحكامه ولذلك، فعندما يتحدث الأستاذ الشيخ (عبده) عن أسلوب نهج البلاغة، وعن الطريقة التي استدل بها على أن ذلك الكتاب العظيم هو لأمير البيان عليه السلام، فإنما يتحدث عن ذلك بعد قراءته التحليلية العميقة للقرآن الكريم من جهة، ولكتاب نهج البلاغة من جهة ثانية، إذ إن المقارنة بين الكتابين تدل على أن صاحب الكتاب الثاني، (نهج البلاغة)، قد تشرب قلبه وفكره القرآن الكريم بكل فصاحته وبلاغته ، وبكل علومه ومعارفه، وبكل أسراره وخفاياه ، حتى لكأن الكلام الإلهي الخالد قد عجن وامتزج بكل خلية من خلاياه وفي كل نفس من أنفاسه، فانساب ذلك الرحيق الإلهي على لسانه خطباً بليغة وأقوالاً رائعة لا يضاهيها ولا يتفوق عليها إلا ذلك الكتاب السماوي الأخير الخالد.

وإذا كان الكثير من المفكرين والأدباء المسلمين والمسيحيين، كما سنرى، وقد رأوا في الكلام الوارد في نهج البلاغة كلاماً دون مستوى كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين، فإن مرد ذلك إلى أن صاحب كتاب نهج البلاغة هو تلميذ القرآن الكريم، وإلى أن الإمام الذي وضع قواعد اللغة العربية وأسس بلاغتها هو في المحصلة الوجه الناطق للذكر الحكيم بكل ما فيه من أحكام وعلوم في الوقت الذي يكون فيه الذكر الحكيم هو الوجه الصامت للإمام المبين.

وهنا أدعو القارئ الكريم للوقوف على ما قاله الشيخ الإمام (محمد عبده) عن نهج البلاغة وعن أسلوبه القرآني البليغ، وأدعو القارئ ، بنفس الوقت ـ أيضاً للتمعن جيداً في الجملة الأولى تحديداً من قول الشيخ (عبده) الذي يبين لنا من خلالها ما شاهده وأدركه في صاحب ذلك الأسلوب البلاغي البديع. يقول الشيخ محمد عبده عن ذلك:

((وأحياناً كنت أشهد أن عقلاً نورانياً ، لا يشبه خلقاً جسدانياً ، فصل عن الموكب الإلهي ، واتصل بالروح الإنساني، فخلعه عن غاشيات الطبيعة وسما به إلى الملكوت الأعلى، ونما به إلى مشهد النور الأجلى، وسكن به إلى عمار جانب التقديس بعد استخلاصه من شوائب التلبيس. وآناتٍ كأني أسمع خطيب الحكمة ينادي بأعلياء الكلمة ، وأولياء أمر الأمة، يعرفهم مواقع الصواب ويبصرهم مواضع الارتياب، ويحذرهم مزالق الاضطراب، ويرشدهم إلى دقائق السياسة، ويهديهم طرق الكياسة، ويرتفع بهم إلى منصات الرئاسة، ويصعدهم شرف التدبير، ويشرف بهم على حسن المصير)) [٣] .

وهكذا بإمكاننا أن نلاحظ من خلال الجملة الأولى من مقولة الشيخ (محمد عبده) أن صاحب كتاب نهج البلاغة ، والذي هو بلا شك أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام ، هو صاحب عقل نوراني لطيف لا يشابه عقول بقية البشر ، بل يسمو بصاحبه إلى ما فوق مرتبة البشر العاديين علماً ومعرفة ـ فصاحة وبلاغة، حكمة وخلقاً كريماً.

وهذا ما عبر عنه ابن أبي الحديد المعتزلي من قبل بقوله عن أسلوب وطبيعة كلام صاحب ذلك العقل النوراني بأنه ((دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين)) [٤] .

وسنترك الآن ما قاله الشارحون لكتاب نهج البلاغة، وسنتجه الآن سوية إلى أقوال ونتائج دراسات وتحليلات المفكرين والأدباء المسيحيين من أجل التعرف عن كثب ، على وجهات نظرهم وآرائهم بشأن العلوم اللغوية والبلاغية عند أمير البيان، الإمام علي عليه السلام.

وأول ما سنبدأ به حديثنا الآن هو الكلام عن الباحث الفرسي المعاصر، الأستاذ (جاك لانغاد) صاحب الكتاب الفلسفي واللغوي (من القرآن إلى الفلسفة)، وهو كتاب قيم يبحث في تشكيل اللسان العربي وتكوين القاموس الفلسفي عند الفيلسوف الفارابي.

فالباحث (لانغاد) يرى أن القرآن الكريم قد لعب دوراً أساسياً في تشكيل وصياغة اللسان العربي ، وأن الرسول المصطفى صل الله عليه وآله وسلم الذي جاء بالقرآن الكريم وحياً يمثل بدوره (إنسان الكلمة)، إنه صل الله عليه وآله وسلم إنسان الكلمة بمعنيين اثنين.

فالمعنى الأول هو أنه صل الله عليه وآله وسلم يقوم بدور الناطق بلسان المتكلم: ((قل ... والإيعاز (الطلب والأمر) حيث يكون هناك قول موضوع على لسان محمد صل الله عليه وآله وسلم.

أما المعنى الثاني للكلمة، فهو أن محمداً صل الله عليه وآله وسلم يؤدي أيضاً دور من تتوجه إليه الكلمة الواجب نقلها، وذلك منذ البداية الموضوعة في ظل آية الإعلان: ((إقرأ)) ، وهذا يعني ـ بالنسبة إلى المفكر المسيحي (لانغاد) ـ أن محمداً صل الله عليه وآله وسلم الذي هو إنسان الكلمة، هو محمد ذو الحضور الكلي)) [٥] .

ولكن الأستاذ (لانغاد) عندما ينصرف من المعنى الفلسفي الصرف للكلمة إلى المعنى العلمي لها، نراه يستعرض عدة أقوال هامة لطبيعة العلاقة الوثيقة بين الفكر واللغة والوجود، إذ إنه من الصعب أن يتم فصل أي مفهوم من هذه المفاهيم الثلاثة عن المفهومين الآخرين.

وقبل أن يتكلم الأستاذ (لانغاد) عن دور الإمام علي عليه السلام في ترسيخ أسس اللغة، نراه يركز في حديثه على بعض الأقوال الهامة للإمام جعفر الصادق عليه السلام حول علاقة (الحرف) بـ (الوجود) حيث تكون الحروف مبدأ وأساس كل شيء حتى قبل أن تكون أساس اللغة والتواصل.

وبعد أن يورد الأستاذ (لانغاد) بعض الأفكار الفلسفية التي تعطي الحروف بعداً أنطولوجياً، حسب ما جاء في بعض أقوال الإمام جعفر الصادق عليه السلام، يتنقل بنا إلى قضية بدايات التفكير الألسني في اللغة العربية. ويرى (لانغاد) بناء على ما كتبه المتقدمون من أمثال أبي حاتم الرازي (المتوفى ٣٢٢ هـ / ٩٣٣ م) أو ابن النديم ( المتوفى ٣٨٥ هـ / ٩٩٥ م) أو الزبيدي (٣٩٧ هـ / ٩٨٩ م) أن الذي أرسى قواعد اللغة العربية هو الإمام علي عليه السلام الذي أو عز إلى تلميذه أبي الأسود الدؤلي المتوفى (٦٩ هـ / ٦٨٨ م) أن يدون تلك العلوم الألسنية والقواعد النحوية التي علمه إياها، وهذا ما يجعل هذا العلم الجديد مرتبطاً بعلي عليه السلام)) [٦] .

ولا يختلف رأي المستشرق الإنكليزي (دوايت رونالدسن) عن رأي الباحث الفرنسي الأستاذ (جاك لانغاد) بهذا الشأن أبداً، غير أن (رونالدسن) الذي روى كيفية وضع علم النحو على يد أبي الأسود الدؤلي بتعليمات وتوجيهات من معلمه الإمام علي عليه السلام ، وقد أورد لنا تلك الرواية نقلاَ عن كتاب (وفيات الأعيان) لابن خلّكان بشكلٍ مقتضب بعض الشيء، ثم ذكر بعد ذلك السبب الذي سمّي لأجله علم النحو بهذا الاسم، وقال متابعاً ما اقتبسه من كتاب وفيات الأعيان: ((وإنّما سمي النحو لأن أبا الأسود المذكور قال: استأذنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن أضع نحو ما وضع فسمي لذلك نحواً، والله أعلم)) [٧].

أما إذا أردنا أن نعرف السبب المباشر الذي دفع الإمام علي عليه السلام إلى وضع كتاب خاص بأصول اللغة العربية، فعلينا أن نلجأ إلى كتاب (في خطي علي) للمفكر والأديب المسيحي (نصري سلهب) الذي رفض أن يسوق إلينا قصة الإمام علي عليه السلام مع أبي الأسود بشكلها المقتضب، وإنما أوردها لنا بشكلها الصحيح والكامل وذلك من أجل التأكيد على أهمية الرواية من جهة، ومن أجل أيضاًح السبب الذي دفع بالإمام علي عليه السلام إلى وضع أول كتاب لأصول اللغة العربية من جهة ثانية.

ويبدأ المفكر الأستاذ (سلهب) حديثه عن دور الإمام علي عليه السلام في العلوم اللغوية وعن كونه واضع حجر الأساس الأول في علم النحو، بقوله: ((أما كونه واضع حجر الأساس في النحو، بل صاحب علم النحو أساساً، قثابت من حديث صحيح الإسناد لأبي الأسود الدؤلي))، وبعد أن يقول الأستاذ (سلهب) هذا المقال، نراه يسارع مباشرة لتأكيد رأيه من خلال إيراد دخول الدؤلي على الإمام علي عليه السلام وما دار بينهما من حوار حول الضرورة الملحة لوضع أسس النحو العربي.

يقول الأستاذ (سلهب): ((قال (الدؤلي): دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فرأيته مطرقاً مفكراً، فقلت له: فيم تفكر يا أمير المؤمنين؟ قال: إني سمعت ببلدكم هذا لحناً فأردت أن أضع كتاباً في أصول العربية، فقلت: إن فعلت هذا أحييتنا، وبقيت فينا هذه اللغة. ثم أتيته بعد ثلاث، فألقى إلى صحيفة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم الكلمة اسم، وفعل، وحرف.

فالاسم: ما أنباء عن المسمى، والفعل: ما أنبأ عن حركة المسمى،والحرف: ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل. ثم قال: تتبعه وزد فيه ما وقع لك.

واعلم يا أبا الأسود أن الأشياء ثلاثة: ظاهر ومضمر، وإنما يتفاضل العلماء في معرفة ما ليس بظاهر ولا مضمر. وشيء ليس بظاهر ومضمر.

قال أبو الأسود: فجمعت منه أشياء وعرضتها عليه، فكان من ذلك حروف النصب، فذكرت منها: إنَّ وإنَّ وليت ولعل، وكأن، ولم أذكر لكن. فقال لي: لم تركتها؟ فقلت: لم أحسبها منها. فقال: بل هي منها، فَزِدْها فيها)) [٨].

ويرى الأستاذ (سلهب) أن الإمام علياً عليه السلام قد اكتسب علومه اللغوية وآياته البلاغية الإعجازية من خلال تفاعل روحه الشريفة مع كل كلمة وكل حرف من القرآن الكريم، بل من اللوح المحفوظ ذاته. أما المعين الثاني الذي كان يغرف الإمام علي عليه السلام منه دون أن ينضب، فهو محمد بن عبدالله، نبي الله ورسوله المصطفى صل الله عليه وآله وسلم. وكان من نتيجة ذلك أنه عليه السلام قد أتحف

الإنسانية بتراث روحي وفير وبكنز فكري غزير تعجز اللغة العربية عن الإتيان بمثله شكلاً ومضموناً، كما ويعتبر كتابه العظيم (نهج البلاغة) من الناحية البلاغية أيضاً هو المقياس والمعيار لسلامة اللغة العربية وذلك لأنه الكتاب الذي لا يفوقه كتاب آخر علماً وبلاغةً إلا الكتاب السماوي الخالد، القرآن الكريم.

ويرى الأستاذ (سلهب)، بنفس الوقت أيضاً، أن الخطب والأقوال المجموعة في كتاب

نهج البلاغة هي الدليل المادي على أن الإمام علياً عليه السلام هو الأب الروحي لعلوم اللغة العربية النحوية والبلاغية انطلاقاً من حقيقة أن الصنعة تدل على الصانع وآثار العلم تدل على المؤثر والعالم.

وهنا يفترض الأستاذ (سلهب) افتراضاً يتعلق بنهج البلاغة، ولكنه لم يعلم أن افتراضه هذاقد تحول إلى حقيقة واقعة بعد عدة سنوات، ويتجلى هذا الافتراض المتعلق بترجمة كتاب نهج البلاغة إلى اللغات الأوروبية والأثر الذي سينتج عن تحقيق تلك الترجمات، بقوله: ((لو قدر لنهج البلاغة من ينقله، روحاً ومعنى، إلى بعض لغات الغرب، لأخذ عليٌّ مكانه بين أعظم المفكرين الذين خاطبوا القلوب والعقول والضمائر ليرقوا بها إلى ملكوت الله، ذلك الملكوت الذي لا يزول، حيث تنعم النفس بخلود أبدي في حضرة الله)) [٩] .

ولأن الأمر هو حقاً كذلك، فقد دعا الأستاذ (سلهب) جميع إخوانه المسيحيين إلى الإقبال على كتاب نهج البلاغة كي يقرأوه بإمعان وعمق، وليتبيَّنوا فيه تلك الخيوط الروحية المشعة التي تشد المسيحي إلى المسلم، يغرفان إيماناً ومعرفة من كتاب العلم والإيمان، وهناك على صفحات ذلك الكتاب الخالد يتم لقاء جميع المؤمنين بالفكر المنفتح وباحترام الإنسانية متجاوزين في ذلك حدود اللون واللغة وحواجز القوميات والأديان.

وإذا كان الأستاذ (سلهب) يدعو المسيحيين إلى فتح مغاليق قلوبهم على كتاب نهج البلاغة الذي يمثل نهج الحق وصراط الصدق والفكر الحر المنفتح علة بوابات السماء من جهة، وعلى مسارح الحياة الإنسانية من جهة ثانية، فما ذلك إلا لأن الإمام علياً عليه السلام بنظر الأستاذ (سلهب) هو صوت الله في ضمير الإنسان.

وهاهو يعرف إخوانه المسيحيين بشخصية الإمام علي عليه السلام وذلك من خلال مخاطبته الإمام عليه السلام بقوله: (( حياتك سفر قداسة لو يقرأه البشر ويعيشونه لاستحالت قلوبهم قطعاً من السماء، ذلك هو سر خلودك، يا علي: لأنك حي بالله، والله حي فيك)) [١٠].

ولا ريب في أن كلام الأستاذ (سلهب) عن عظمة الإمام علي عليه السلام وعن الخط العلمي المتحرك والمنطلق من الدائرة النظرية والمبدئية المتجلية بمبادئه الواضحة في نهج البلاغة إلى دائرة اقتران القول بالفعل وربط النظرية بالتطبيق هو كلام صائب ودقيق، بل هو كلام يحمل في طياته إشارات بليغة كثيرة إلى أن هناك دعوة واضحة في نهج البلاغة إلى ضرورة ربك القيم والمبادئ بالحياة العملية العامة وبالسلوكيات الفردية الخاصة، وفيه دعوة أيضاً لكل إنسان من أجل أن يسعى جاهداً لإكمال مسيرة الحياة الإنسانية المتوازنة وفق مقتضيات رسالة السماء.

وبالتالي، فان الذي يعيش أبعاد ذلك النهج القويم الذي رسمه الإمام علي عليه السلام بأفعاله مثلما رسمه بأقواله، سيصبح هو بدوره فرداً مهماً له دوره الفعال على مسرح الحياة الأرضية في الوقت الذي يكون قد ضمن لنفسه مكاناً لائقاً في عوالم السماء الأبدية.

إن نظرة الأستاذ (سلهب) عن فلسفة الإمام علي عليه السلام في حركته مع الواقع واقتران ذلك مع مبادئه الجليلة السامية في نهج البلاغة هي نفس النظرة التي كونها عنه المستشرق الفرنسي (روجيه غارودي) عندما درس سيرة الإمام علي عليه السلام وتفاصيل حياته والكثير من خطبه وأقواله، وخرج بعد ذلك بنتيجة منطقية تؤكد أن الإمام علياً عليه السلام ذلك الإمام العظيم كان يدعو فعلاً لبناء وإعمار الحياتين، الحياة الدنيا والحياة الآخرة.

وبالتالي، فإنه كان يدعو من خلال (تصوفه العملي) إلى عدم الفصل بين التأمل والعمل، بل كان دائماً كالرسول الكريم صل الله عليه وآله وسلم يمثل بسلوكه الشخصي المظهر الحياتي والنضالي القائم على فهم الحياة تأملاً وعملاً [١١].

وإذا كان هناك اتفاق واضح ونقاط التقاء كثيرة بين هذه الأقوال والآراء وبين آراء وأقوال الأديب والمفكر (عبد المسيح الإنطاكي) بشأن دور الإمام علي عليه السلام في صياغة اللغة العربية وصياغة قواعدها، ومن ثم تربعه على عرش الفصاحة والبلاغة لتلك اللغة العربية التي هي لغة الله سبحانه وتعالى التي خاطب من خلالها عباده في آخر كتاب سماوي منزل أرسله إليهم، وهي أيضاً اللغة التي يتحدث بها أهل السماء في جنات الخلد والنعيم، فإن كل هذا يعني ـ بالنسبة للأستاذ الإنطاكي ـ أن لسان الإمام علي عليه السلام هو اللسان الذي حفظ الرسالة، وهو اللسان الذي استطاع أن يحفظ حتى القرآن الكريم نفسه من الضياع والفساد [١٢] .

وليس هذا فحسب، بل يرى الأستاذ (الإنطاكي) أيضاً أن الإمام علياً عليه السلام الذي هو إمام الفصحاء وأستاذ البلغاء هو معيار سلامة اللغة ومقياسها السليم لأن الذي يكون كلامه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين، لابد وأن يكون إمام المخلوقين ومقياس سلامة لغتهم ومعيار بلاغتهم وفصاحتهم، العرب ومعلمهم بلا مراء، فما من أديب لبيب حاول إتقان صناعة التحرير إلا وبين يديه القرآن ونهج البلاغة، ذاك كلام الخالق وهذا كلام أشرف المخلوقين)) [١٣].

وهنا يذكر الأديب الإنطاكي حديثاً لطيفاً قاله له مرة الأديب البارز (إبراهيم اليازجي) والذي كان في وقته أكتب كتاب العرب وإمام أساتذة اللغة فيهم، قال له:

((ما أتقنت الكتابة إلا بدرس القرآن العظيم ونهج البلاغة القويم، فهما كنز اللغة العربية الذي لا ينفذ وذخيرتها للمتأدب، وهيهات أن يظفر أديب بحاجته من هذه اللغة الشريفة إن لم يحيَ لياليه سهراً في مطالعتهما والتبحر في عالي أساليبهما)) [١٤].

وعلى كل حال، فإن هذا الكلام يذكرني بحديث هام للبطريرك (إلياس الرابع)، البطريرك الأسبق للروم الأرثوذكس في إنطاكية وسائر المشرق. ومن المعروف عن البطريرك المذكور عمق ثقافته وموسوعيتها، هذا بالإضافة إلى اهتمامه الكبير والمتميز باللغة وبالأدب العربي تحديداً، وعندما سئل مرة من الأدب الرفيع الذي يحبه ويتفاعل معه، أجاب قائلاً بكل وضوح وصراحة:

((أحب القرآن ونهج البلاغة)) [١٥].

ويحق للبطريرك (إلياس الرابع) ولغيره من المفكرين والأدباء المسيحيين الذين اتخذوا العقل مطية للاستنارة بنور العلم والمعرفة أن يحبوا القرآن الكريم وأن يعشقوا نهج البلاغة ويتفاعلوا مع كل كلمة وخطبة فيه، لأن كل كلمة من كلمات الإمام علي عليه السلام هي مرآة الروح الإنسانية الصافية.

ولأن روح الإمام علي عليه السلام لا تتحدد بعالم خاص بل هي روح الإنسان الكامل الجامع لكل المراتب الإنسانية والروحية والمعنوية، فلا تختص كلماته أيضاً بعالم واحد، بل إن من الميزات الواضحة لكلمات الإمام علي عليه السلام هي أنها ذات أبعاد متعددة وليست ذات بعد واحد.

إنها كلمات خالدة تتفجر من أعماق النفس الإنسانية النبيلة التي تدرك حجم مسؤولية موقعها على الأرض، وتعي ضرورة ارتقائها إلى مستوى السماء. إنها الكلمات الخالدة التي دفعت بالأديب والفيلسوف والشاعر الأمريكي (إمرسون) إلى كتابة مقالته الفلسفية الشهيرة (الذات العليا) المستوحاة من أفكار ونظريات حكيم إمام الإسلام، الإمام علي عليه السلام [١٦] .

وهنا أريد أن أتوقف مع نقطة هامة أخرى كانت ولا تزال محط إجماع الكثير من الأدباء والمفكرين المسيحيين حول العلاقة الوثيقة بين القرآن الكريم وكتاب نهج البلاغة.

إن الكثير من الأدباء وأرباب الفكر المسيحي الحر المستنير يرون أن لمحمد بن عبدالله صل الله عليه وآله وسلم معجزات وكرامات عديدة، وأن إحدى أهم كراماته العظيمة هو مجيئه بالقرآن العظيم، ويرى أولئك أيضاً أن لابن عمه أمير المؤمنين علي عليه السلام معاجزه وكراماته أيضاً، وأن إحدى كراماته ومعاجزه الخالدة هي تلك الأقوال والخطب ذات الروح الإلهي والنفس النبوي والتي جمع البعض منها لاحقاً في ما يسمى بنهج البلاغة.

ولذلك ، فكما أن للقرآن الكريم فضلاً كبيراً على كل متكلم باللغة العربية، فكذلك الحال بالنسبة لكتاب نهج البلاغة، وكلما ارتقى متكلم العربية بفكره وبسلامة لسانه، كلما بدا عليه فضل القرآن الكريم ونهج البلاغة القويم بصورة أكثر وضوحاً وتبياناً.

وقد عبرالأديب والباحث (روكس بن زايد العزيزي) عن ذلك بقوله تحت عنوان (أثر الإمام في مثقفي العرب):؛ ((يقيناً، إن كل مثقف عربي، كل كاتب عربي، كل شاعر عربي، كل خطيب عربي مدين للإمام علي....... وانطلاقاً من هذه النقطة، فنحن لا نعد كاتباً أو أديباً عربياً مثقفاً ثقافة عربية أصيلة إن لم يقرأ القرآن ونهج البلاغة قراءات عميقة متواصلة)) [١٧].

ولذلك، فإن المستشرق الفرنسي (هنري كوربان) كان محقاً عندما رأى أن كتاب نهج البلاغة يأتي في الأهمية بعد القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، ليس على المستوى الإسلامي الشيعي فحسب، بل على المستويين الإسلامي والعربي عموماً.

وكان من جملة ما قاله المستشرق (كوربان) عن كتاب نهج البلاغة في كتابه (تاريخ الفلسفة الإسلامية): ((وتأتي أهمية هذا الكتاب في الدرجة الأولى، بعد القرآن وأحاديث النبي، ليس بالنسبة للحياة الدينية في التشيع عموماً وحسب، بل بالنسبة لما في التشيع من فكر فلسفي. ويمكن اعتبار نهج البلاغة منهلاً من أهم المناهل التي استقى منها المفكرون الشيعة..... وإنك لتشعر بتأثير هذا الكتاب بصورة جمة من الترابط المنطقي في الكلام، ومن استنتاج النتائج السليمة، وخلق بعض المصطلحات التقنية العربية التي أدخلت على اللغة الأدبية والفلسفية فأضفت عليها غني وطلاوة، وذلك أنها نشأت مستقلة عن تعريب النصوص اليونانية)) [١٨].

أما الآن، فدعونا نتوقف سوية مع أديبين عبقريين من الأدباء المسيحيين الذين تركوا لنا آثاراً رائعة وبصمات جلية في ساحات الأدب والشعر العربي.

إنهما شاعران تحدثا عن الإمام علي عليه السلام وعن نهجه البليغ بكل صدق واتزان، فكان لحديثهما عنه عليه السلام وعن نهجه ـ نهج البلاغة ـ نكهة خاصة لا يتذوقها إلا ذاك الذي يتسامى فكره علي العصبيات الدينية ويتجاوز قلبه حدود الخلافات الطائفية، فيدرك، عندئذٍ، أن الإمام علياً عليه السلام هو ملك الإنسانية جمعاء وهو الإرث السماوي الخالد الذي شاء الله سبحانه وتعالى أن يبقيه مشاعاً عاماً لكل الناس على مختلف مذاهبهم ومشاربهم لأن الشمس التي هي مصدر هام لوجود الحياة واستمرارها هي تلك الهبة الإلهية العظيمة التي شاءها الله عزوجل أن تشرق بنورها على البر والفاجر، على العادل والظالم، على الغني والفقير، وعلى الرفيع والوضيع على حدٍّ سواء.

فهل يستطيع أي مسلم، أو أي مسلم شيعي على الأخص، أن يقول: إن علياً عليه السلام هو ملك لنا فقط دون غيرنا؟!

أعتقد أنه يستطيع أن يقول ذلك بقدر ما يستطيع أن يدعي أحد المسيحيين أن تعاليم السيد المسيح الأخلاقية هي ملك للمسيحيين فقط.

ولا أعتقد أن مسيحياً واحداً من أولئك المسيحيين المستنيرين فكرياً يجرؤ على قول ذلك، لأن قول بأن السيد المسيح عليه السلام وتعاليمه الأخلاقية هي حق للمسيحيين فقط، هو تحجيم كبير لعظمة السيد المسيح عليه السلام ولمكانته الجليلة بين الناس كافة.

وعلى كل حال، فإن شاعرنا الأول الذي سنتوقف عنده هو الأديب اللبناني (أمين نخلة) (١٩٠٤ ـ ١٩٧٦). وهو شاعر كبير وناقد وناثر بليغ، وله الكثير من المؤلفات الأدبية والواوين الشعرية الشفافة.

وربما يفاجأ القارئ إذا قلنا له: إن لهذا الأديب والشاعر المسيحي كتاباً رائعاً مستوحى من كتاب نهج البلاغة للإمام علي عليه السلام ويسمى هذا الكتاب (كتاب المئة)، وهو عبارة عن كتاب قيم يضم بين دفتيه مئة كلمة خالدة لأمير المؤمنين عليه السلام، وهذه الكلمات المئة كان قد اختارها الأديب المسيحي (أمين نخلة) من كتاب نهج البلاغة حصراً.

وقد قام الأديب (نخلة) بوضع مقدمة لائقة لهذا الكتاب وبيّن من خلالها مكانة الإمام علي عليه السلام ومنزلة كتابه نهج البلاغة في قبله وفكره. وقد أبدى شديد أسفه بشأن اختياره مئة كلمة فقط من درر ذلك النهج العظيم، إذ لا يستطيع المرء، برأيه، أن يجتزئ أو أن يفصل الأبناء الغوالي عن أمهم الرؤوم وذلك لأن الروح واحدة والجوهر واحد [١٩] .

أما عن القيمة المعرفية والبلاغية لكتاب نهج البلاغة، فقد أكد الأديب (نخلة) على أنه يجب على الذي يريد أن يستضيء بنور المعارف والبلاغة، عليه أن يسير على درب ذلك النهج وأن يستحم بشعاع بلاغته لأنه هو الضوء لمن أراد العروج في مرقاة البلاغة [٢٠] .

وهنا نلفت نظر القارئ الكريم إلى أن المقدمة التي وضعها الأديب أمين نخلة لكتابه (كتاب المئة) قد جاءت مزينة أيضاً بلوحة فنية رمزية للإمام علي عليه السلام بريشة الفيلسوف والأديب (جبران خليل جبران).

وبطبيعة الحال، فليس ما قاله الأديب (نخلة) عن نهج البلاغة هو فقط ما ورد في كتاب المئة، بل له أقوال عديدة فيه، ويكفي أن نذكر أنه في إحدى المرات قد تحدث عن العلوم التي يحويها كتاب نهج البلاغة، وقد ركز في حديثه على الجوانب الروحية والأبعاد النفسية، فقال: ((من يريد أن يعالج أمراض نفسه، عليه أن يلجأ إلى خطب الإمام في نهج البلاغة،  حتى يتعلم طريق السير في ظل هذا الكتاب [٢١] .

أما الأديب الثاني الذي سنحط رحالنا عنده، فهو الأديب والمفكر (سعيد عقل) (١٩١٢).

إنه شاعر لبناني من كبار الشعراء المعاصرين الذين تميز شعرهم بالرمزية والتجديد. له عشرات المؤلفات الفكرية المتنوعة، كتبها بلغات مختلفة ولا تزال تلاقي رواجاً متميزاً.

وللمفكر والأديب الشاعر (سعيد عقل) أقوال وأشعار في الإمام علي عليه السلام يصعب فهمها وإدراك معانيها البليغة. إلا من قبل أولئك القراء أو المفكرين الذين يشغفون بالبلاغة ويهتمون بالفصاحة، أولئك الذين يعترفون بفضل الإمام علي عليه السلام بلاغة وبياناً.

ففي المجلد السادس من الأعمال الكاملة لهذا الأديب والمفكر المسيحي، يقع اختيارنا على قصيدة عصماء تحمل عنوان (كلامي على رب الكلام) ويقصد بذلك أمير البيان الإمام علياً عليه السلام، ونرى من الواجب علينا أن نقدم للقارئ الكريم بعض أفكار تلك القصيدة البليغة نظراً لما تحمل في طياتها من تراكيب بلاغية بالغة الصعوبة وشديدة التعقيد.

يعتبر الأستاذ الشاعر (عقل) أن الكلام عن إمام البلغاء وسيد الفصحاء، الإمام علي عليه السلام ، شيء صعب ومربك يتهيب الكثيرون الخوض فيه. ويري الشاعر أن الاإمام علياً عليه السلام لم يكن إماماً في جانب واحد من جوانب الحياة، بل كان إماماً وسيداً في كل جانب من جوانبها، فهو إمام الفصاحة والبلاغة، وهو إمام الكرم والسخاء، وهو سيد الفرسان وإمام الشجعان، وهو أيضاً سيد الصابرين الذين قاسوا وعانوا الكثير في أمتهم، وهو فرق ذلك ولي المؤمنين وإمامهم أجمعين وذلك لأن علياً وأهل بيته والأئمة من ولده هم محط نزول آيات الله وسوره ، وبيتهم الشريف هو مهبط الوحي الأمين.

وسنكتفي الآن بذكر بعض أبيات هذه القصيدة الرائعة للمفكر والأديب المسيحي (سعيد عقل)، وسنعمد إلى ذكر بقية الأبيات في الفصل القادم المخصص للكلام عن فلسفة بيعة الغدير المباركة وولاية الإمام علي عليه السلام على سائر المؤمنين.

يقول الأستاذ الشاعر (عقل):

كَلامي على ربّ الكلام هو صعب ***** تَهَيَّبتُ! إلاّ أنني السيفُ لم يَنْبُ

وربَّ جَمَال رُحتَ ترسم طَيفَهُ ***** تَصَبَّاك كالسيف استجاب له الضَّربُ

وما لغةُ الأقلام من لغةِ القَنا؟ ***** اثنتان؟ سألتُ الحُسْنَ ما الجفن ما الهدب؟

ليطرب لا إلاّ لغَزَّارَةٍ جَرَتْ ***** كما الفَرَسُ الدهماءُ طَيَّبَها النَّهبُ

إذا صَهَلَتْ غِبَّ التلاحمِ رَدَّها ***** أخو مِرَّةٍ في الدَّهِّو من وقعهِ رعبُ

وهنا ينتقل المفكر والأديب الشاعر (عقل) إلى ذكر بعض فضائل وخصائص الإمام علي عليه السلام بما في ذلك المعجزة البلاغية التي تميز بها الإمام علي عليه السلام دون غيره.

وها هو يتابع قائلاً في قصيدته نفسها:

يَذود عن الذِّمَّات ليس يُبيحها *****  به الشرقُ مَدَّ الصوتَ فالتفتَ الغربُ

حَببتُ عَليّاً مُذْ حببتُ شمائلي ***** له اللغتان: القول يشمخُ والعضبُ

بهذاك يُعليها، بهذا يُزيدها ***** أيكبوا؟ ولكن الأصائل لا تكبو!

لأشرف من قاسى، وأسمح من سخى ***** تقول على رمل البوادي له حَدْبُ

بلاغُته الليلاءُ أسُّ أريكةٍ ***** فكيف بما أبلى الذي وثبهُ الوثبُ؟ [٢٢]

وكما نلاحظ هنا ، فإن هذه الأبيات الشعرية البليغة منحوتة من تعابير وتراكيب عالم الشعر مثلما ينحت النحات تمثاله من جلمود الصخر. فهي، بلا يب، قصيدة بليغة وقوية الألفاظ والمعاني إلا أنها على درجة كبيرة من التعقيد في التراكيب مما يخلق بدوره صعوبة بالغة في الفهم والتحليل.

وحتى نخفف من وطأة وصلابة هذه القصيدة على القارئ، لابد لنا من الانتقال إلى محطة جديدة وشخصية مسيحية جديدة حتى نتعرف على وجهة نظرها تجاه البعد البلاغي واللغوي عند الإمام علي عليه السلام.

فمن المعروف عن المفكر والأديب المسيحي اللبناني (أمين الريحاني) (١٨٧٦ ـ ١٩٤٠) أنه مؤلف غزير الإنتاج باللغة العربية بالإضافة إلى كتابات أخرى باللغة الإنكليزية، وقد غلب على بعض كتاباته الطابع الفلسفي حتة أنه لقب بفيلسوف (الفريكة) نسبة إلى بلدته التي ولد فيها.

وخلال وجوده في المهجر، فقد عقد العزم على كتابة مسرحية تتناول سيرة وشخصية الإمام علي عليه السلام، وتبحث وتناقش المفاصل الهامة في مسيرة حياة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام. وقد استشار الأستاذ (الريحاني) صديقه المقرب (جبران خليل جبران) بشأن هذا المشروع الثقافي العظيم، فرحب به (جبران) أفضل ترحيب وشجعه على المضي قدماً في ذلك.

ومن المعروف أيضاَ عن الأديب الفيلسوف (الريحاني) أنه لم يكن صديقاً لجبران بفكره فحسب، بل كان صديقاً بالفكر والروح لكل أدباء المهجر عموماً، وبشكل خاص لأولئك الذين كانوا يقنطون في نيويورك يمارسون أعمالهم الحياتية بالإضافة إلى ممارستهم لنشاطاتهم الثقافية.

وما يهمنا الآن هنا هو أن الأديب (الريحاني) كان شديد الولع بفلسفة الإمام علي عليه السلام في الحياة وبأفكاره حول الكثير من المفردات الهامة مثل: الحق، الحرية، الإنسان، العدل، وإلى غير ما هنالك من المفردات الثمينة والهامة في وجود كل واحد منا.

وبالطبع، فإن الأديب (الريحاني) قد وجد معظم معاني هذه المفردات الهامة والجوهرية في كتاب نهج البلاغة، فقرأها مرات ومرات حتى تشربها تماماً وعكس الكثير منها في كتاباته الفكرية. وقد شعر الأستاذ (الريحاني) أنه من الإجحاف بحق الإمام علي عليه السلام أن يبقى كتاب نهج البلاغة، بكل بلاغته وبكل علومه ومعارفه وحكمه، محصوراً ضمن حدود اللغة العربية وضمن إطار الثقافة الإسلامية، ولذلك قفد ارتأى على الشاعر الأديب (أمين نخلة) في أحد لقاءاته معه أن تتم ترجمة كتاب نهج البلاغة إلى كل اللغات الأوروبية وذلك لأن ترجمته ـ برأيه ـ ستبهر الغربيين وستذهلهم، وبشكل خاص الإنكليز [٢٣].

وأعتقد أن هناك نقاط تلاقٍ عديدة بين الأديب والفيلسوف المسيحي (أمين الريحاني) وبين المفكر والفيلسوف المصري المعاصر الدكتور (زكي نجيب محمود) حول كتاب نهج البلاغة وأهميته البلاغية والفكرية. وقد أحببت أن أستشهد هنا بما قاله هذا الفيلسوف المصري على الرغم من أنه ليس من المسيحيين، بل من المسلمين غير الشيعة، نظراً لما له من أهمية كبيرة في الفكر العربي المعاصر من جهة، ونظراً للتشابه بين وجهة نظره وجهة نظر الأستاذ (أمين الريحاني) الذي كنا بصدد الحديث عنه منذ قليل، من جهة ثانية.

يقول الدكتور (زكي نجيب محمود) في كتابه (المعقول واللامعقول في التراث العربي):

((ونجول في أنظارنا في هذه المختارات من أقوال الإمام علي التي اختارها الشريف الرض (٩٧٠م ـ ١٠١٦م) وأطلق عليها نهج البلاغة، لنقف ذاهلين أمام روعة العبارة وعمق المعنى، فإذا حاولنا أن نصف هذه الأقوال تحت رؤوس عامة تجمعها، وجدناها تدور ـ على الأغلب ـ حول موضوعات رئيسية ثلاث، هي نفسها الموضوعات الرئيسية التي ترتد إليها محاولات الفلاسفة قديمهم وحديثهم على السواء، ألا وهي: الله والعالم والإنسان، وإذن، فالرجل ـ وإن يتعمدها ـ فيلسوف بمادته، وإن خالف الفلاسفة في أن هؤلاء قد غلب عليهم أن يقيموا لفكرتهم نسقاً يحتويها على صورة مبدأ ونتائجه، وأما هو فقد نثر القول نثراً في دواعيه وظروفه)) [٢٤] .

ولو توقفنا قليلاً مع تحليل هذه الكلمات للمفكر والفيلسوف (زكي نجيب محمود) بشأن المنظومة الفكرية عند الإمام علي عليه السلام، فسنكون قادرين على أن نتبين بسهولة أن غاية القول عند المفكر الدكتور (محمود) هو الإقرار بأن الإمام علياً عليه السلام هو الإمام القادر، من خلال أفكاره وعلومه المبثوثة في كتابه نهج البلاغة، على أن يذهل الفكر الإنساني وأن يعيد صياغة الأسئلة التي كانت ولا تزال تشغل فكر الإنسان منذ وجوده على الأرض، ولكن الفارق البارز بين الإمام علي عليه السلام والفلاسفة الذين تمحورت أفكارهم حول الله، والعالم والإنسان هو أن الإمام علياً عليه السلام قد نشر أفكاره ونظرياته تبعاً للظروف التي عاشها وليس وفقاً لنسق منهجي متتابع كما هو معروف عند الفلاسفة، هذا بالإضافة إلى فارق جوهري آخر لا يمكن تجاهله أو تناسيه، وهو أن الإمام علياً عليه السلام استطاع أن يجسد عملياً كل ما قاله نظرياً من مبادئ أخلاقية وتعاليم إنسانية وهذا ما عجز عن تحقيقه الكثير من الفلاسفة حيث كانت هناك هوة كبيرة تفصل ما بين مبادئهم النظرية وممارستهم العملية المتجلية على أرض الواقع، وذلك من خلال انطلاقهم في خط الحياة والواقع المعاش.

وهذه الحقيقة التي أقرَّ بها الكثير من المفكرين المسيحيين والمسلمين سوية، لم تأت عن عبث أو عن ميول ذاتية أو أهواء عاطفية، بل جاءت نتيجة تحكيم العقل والضمير بعد القراءة المتأنية والدراسة العميقة المستفيضة عن سيرة الإمام عليه السلام وتفاصيل الأحداث المصيرية التي مرَّ بها وتجاوزها دون أن يخرق ولو مبدأ واحداً من المبادئ النبيلة التي كان ينادي بها طوال حياته.

ولا ريب في أن الأديب والباحث (سليمان كتاني) كان مصيباً تماماً عندما دعا الناس على مختلف مذاهبهم ومشاربهم إلى الوقوف على عتبات نهج الحق، نهج البلاغة، لرؤية الترجمة العملية لسيرة الإمام علي عليه السلام.

فالذي يريد أن يرى الإمام علياً عليه السلام في كل حركة من حركاته وفي كل موقف من مواقفه، فما عليه إلا الرجوع إلى كتابه الخالد نهج البلاغة، لمعرفة كيفية تصرف علي عليه السلام وكيفية خط سير حياته، لأن نهج البلاغة هو الصورة الصادقة الصامتة لشخصية الإمام علي عليه السلام المتحركة والناطقة. ودق عبر الأديب (كتاني) عن رأيه بقوله:

((وهل الكتاب (نهج البلاغة) غير تقويم للرجل الكبير في نهجه الطويل، الذي زرع عليه الإنسان قيمة تتبلور بالعقل الصحيح وتسمو بالفضيلة، وجعل الفضائل تنمو وتدور على محور واحد هو محور التقوى والإيمان بالله؟)) ولم يتوقف الأستاذ (كتاني) عند حدود هذا التساؤل المنطقي المتعقل، بل راح يكمل هذا السؤال بمجموعة أخرى من التساؤلات التي لا تبحث عن إجابة بقدر ما تبحث عن عقول تتقبل تلك الإجابات الواضحة التي لا تحتاج إلى الكثير من الجهد والعناء حتى تجدها، فقال متابعاً تساؤلاته: ((ومتى، وفي أية لحظة من لحظات عمره، لم يعبر عن هذا النهج الصريح؟ أفي إعلانه الرسالة وإيمانه بها، ولقد نذر نفسه للدعوة لها والجهاد في سبيلها، أم في تطبيقها دستوراً كاملاً لكل مجاري أفكاره وأقواله وأعماله من حيث كان زهده وتقواه وشجاعته وبطولته؟)) [٢٥] .

وإذا كان كتاب نهج البلاغة هو الصورة الصادقة لسجل تحركات الإمام علي عليه السلام ولفلسفته في الحياة، فإن كل كلمة فيه، بقوة بلاغتها وبعمق معانيها، لم تكن لتقل شأناً عن قوة سيفه وبطولة ساعده، بل ربما في كثير من الأحيان والظروف كانت الكلمة عنده أقوى من الرماح وأسمى، وأنبل من السيوف وأمضى. فكان سيفه الصارم في خدمة الكلمة الإلهية مثلما كانت اليد التي تمسك به، دائماً وأبداً، في خدمة الرسالة النبوية، ولم يكن الإمام علي عليه السلام ليستخدم قوة الكلمة وقوة السيف إلا من أجل نصرة نور الحق أو إطفاء نار الباطل.

وكما كان الإمام علي عليه السلام يسل سيفه ليهوي به على خصمه بعد أن يستنفذ كل السبل والحيل في إثنائه عن القتل وإراقة الدماء، فقد كان الإمام علي عليه السلام قوياً أيضاً بكلمته وبدعوته إلى التي هي أحسن، فيهوي بحججه وبراهينه على خصومه فيذيبهم كما تذيب الشمس الملتهبة قطع الجليد الأصم.

إن هذه الحقيقة شيء أساسي في حياة الإمام علي عليه السلام وفي نهجه الفكري والاعتقادي، وقد ركز عليها الكثير من المفكرين والأدباء المسيحيين في كتاباتهم ودواونيهم، وقد ذهب معظمهم إلى اعتبارها سمة جوهرية في شخصية الإمام علي عليه السلام قلما يقع عليها الباحث أو المفكر في شخصية أخرى غير شخصية أمير المؤمنين عليه السلام ، سيد الحروف والسيوف.

وإذا كنا قد أسلفنا الكلام من كثير من الأدباء والمفكرين المسيحيين وما وجدوا في كتاب نهج البلاغة من كنوز فكرية وتراث إنساني خالد، فإن ما سنورده الآن من كلام عن نهج البلاغة وعمق ارتباط الكلمة بالسيف عند علي عليه السلام لا يمثل وجهة نظر المفكر المسيحي القائل لهذا الكلام فحسب، بل هو بكلامه هذا يمثل كل مسيحي، بل ربما يمثل كل صاحب ضمير حر في هذا المجتمع الإنساني الكبير.

فاستمع، أيها القارئ الكريم، إلى هذا الكلام البليغ الذي ينساب كأشعة الشمس الدافئة بين غيوم الربيع المثقلة بالخير والبركة والعطاء:

((وكما كانت نصلة سيفه تشع وتلمع وتدوي فيسمع لها صليل ولا أرخم، لأنها من ((الجوهر)) قدت، ومن خير المعادن صبت، صقلها أمهر الصناع، فجاءت ناصعة لا يشوبها ظل سواد، صلبة متينة، لا تفل، هكذا كانت الكلمة على لسان علي تشع وتلمع لأنها من (الجواهر)، ومن القلب قدت، تجلجل فيسمع لها دوي ولا أقوى، لا يشوبها ظل من غموض، واضحة مشرقة، آية بلاغة، نابعة من قلب قائلها، نافذة إلى قلب سامعها، لأنها تجسيد للصراحة والصدق، وتعبير عن الجرأة التي ما اعتادها البشر على هذه الأرض)) [٢٦].

إن هذه الكلمات الصادقة والشفافة هي لسان حال كل المفكرين والأدباء المسيحيين الذين درسوا بعمق الأسباب والدواعي التي جرد الإمام علي عليه السلام سيفه من أجلها، والظروف والأسباب التي بموجبها رفع الإمام راية الكلمة الطيبة وأقام عرش الفكر المستنير والمبادئ الإنسانية الثابتة التي كانت أقوى في وقعها على أعدائه، وأعمق أثراً فيهم من سلطة السيف وجبروت القوة.

ولو توقفنا للحظات قصيرة مع كتاب (في محراب علي) للأديب الشاعر (خليل فرحات) فإننا سنرى أن يتفق مع كل من سبق ذكرهم من الأدباء والمفكرين المسيحيين الذين أدركوا أن الإمام علياً عليه السلام لم يكن كلامه الشريف بأقل أثراً من سيفه ذي الفقار، فكلاهما يشهران بالحق ومن أجل الحق.

نعم، إن الأستاذ الشاعر (فرحات) يؤكد على ذلك بقوله مخاطباً أمير المؤمنين:

فقولُكَ سيفٌ لا تُردُّ نصالهُ ***** وهل سُلَّ يوماً ذو الفقار ولم يَبرِ؟

فهو يؤكد من خلال هذا البيت ومن خلال العديد من الأبيات اللاحقة على صحة هذه الفكرة القائلة بعناق السيف للحرف من أجل إحقاق الحق وإزهاق الباطل، ولكن علينا أن نعرف وبشكل واضح وأكيد مدى ارتباط الكلمة العلوية في نهج البلاغة بالعبارة الإلهية المقدسة في القرآن الكريم.

وهذا ما أراد الأستاذ (فرحات) أن يطرحه علينا من خلال قصيدته التي تحمل عنوان (على دروب النهج).

ومن أجل أن نوفر الوقت والجهد في التقديم لهذه القصيدة، دعونا نقدمها، أو بعضاً من أبياتها، بشكل مباشر حتي نتبين ما أراد الأديب الشاعر قوله عن علاقة الكلمة العلوية بالكلمة الإلهية.

يقول الأديب الشاعر (فرحات) معبراً عن تلك العلاقة الجوهرية:

وما النهج والقرآن إلاَّ تلازما          ***** وإنْ يكن القرآن أنأى عن الشعرِ

وما عجبٌ فالعارفون توافقوا          ***** على أنه ظل الألوهة في القدرِ

وفي النهج أشياء الأناجيل جملةً ***** وليس يحارُ المرءُ في’ الملهم السرِّي

تَتَبَّعْتُهُ والله حتى رأيتني ***** مليكَ ملوكِ الفكرِ والكَلَمِ البكْرِ

فأنتَ بقصْرِ القولِ وحدَكَ ربُّهُ ***** وكلُّ ملوكِ القولِ من خَدَمِ القصرِ [٢٧]

وهكذا نرى أن كتاب نهج البلاغة والقرآن الكريم شقيقان لا يقبلان الانفصال عن بعضهما البعض، بل إن العارفين، كما يرى الأستاذ فرحات، قد أقروا واتفقوا على أن كتاب نهج البلاغة هو الظلال الوارفة بلاغةً وبياناً وعلماً وحكمة للكلمة الإلهية المقدسة في القرآن الكريم.

وبما أن الشيء بالشيء يذكر، فلابد من الوقوف على وجهة نظر رجل السياسة والأدب، والوزير اللبناني السابق، الأستاذ (جوزيف الهاشم) للتعرف على ما وجده في كتاب نهج البلاغة بعد أن غاص فيه إلى قعره باحثاً عن الدرر والكنوز المخفية في أعماقه.

وهنا، لنا أن نتساءل، بل أن نتوجه بسؤالنا بشكل مباشر إلى الأديب الشاعر قائلين:

وماذا وجدت بعد رحلتك الطويلة في لجج نهج البلاغة؟

وبالطبع، عليه أن يجيبنا على سؤالنا المطروح حول ما وجده في نهج البلاغة، وها هو لا يضن علينا بالإجابة قائلاً:

أعماقُه قُلُلٌ، أغوارهُ قِمَمٌ ***** إلى مدى الله، توقٌ نحوَ رحمتهِ

أنَّي التفتَّ نُهى، أنَّي اتجهتَ هُدى ***** وحيث أبحرْتَ ضوءٌ من منارتهِ

هنا العدالةُ، نورُ الأرضِ مذهبُها، ***** ودولةُ الحق آيٌ في شريعتهِ

هنا الفضيلة، عنوان الحياة هنا ***** عنوان مجتمع، عنوان قادتهِ

هنا السياسة، مصباحُ السماءِ تُقى ***** يالَيْتَهُم فَهِموا معنى سياستهِ [٢٨]

وهذا بالطبع بعض مما وجده الأديب الشاعر (الهاشم) في كتاب نهج البلاغة، إذ لا يمكننا أن نورد كامل القصيدة خوفاً من إيقاع القارئ في براثن الإطالة والملل.

ولكن قبل أن ننتقل إلى محطة هامة أخرى هي كتاب (History of the arabs) (تاريخ العرب) والذي يقارب عدد صفحاته الألف صفحة تقريباً، لنرى موقف مؤلفه الباحث (فيليب حتي) من كتاب نهج البلاغة ومن العلوم اللغوية والمعارف البلاغية عند الإمام علي عليه السلام، فإننا سنعمد إلى طي صفحة الشعر وذلك من خلال إلقاء حزمة من الضوء على آخر أديب شاعر يمكن لنا أن نستشهد بأشعاره حول موضوع بحثنا المطروح الآن. إنه الشاعر العملاق (بولس سلامة) صاحب ملحمة (عيد الغدير).

فبعد أن نظم الأديب الشاعر (بولس سلامة) ملحمته الخالدة (عيد الغدير) بما يقارب ثلاثة آلاف وخمسمائة بيتاً من الشعر، عمد إلى وضع خاتمة مناسبة لتلك الملحمة العظيمة، وكانت تلك الخاتمة بمثابة خلاصة لما ورد في الملحمة من أفكار هامة، وكانت تلك الخاتمة أيضاً بمثابة اعتذار من الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام لعدم القدرة على إعطائه كامل حقوقه وإيفائه كل ديونه.

وكان الأديب الشاعر (سلامة) قد أوضح للقارئ منذ البداية عجزه عن إعطاء الإمام علي عليه السلام ما يستحق من المكانة الرفيعة والمقام العالي، ولكنه أراد أن يدلي بدلوه في مدح الإمام علي عليه السلام آملاً من الله الجواد الكريم أن يكون ذلك المديح ذخراً له وعدة يوم يلقى الله بقلب سليم.

وقد بدا اعتذاره واضحاً عندما قال: ((فيا أبا الحسن! ماذا أقول فيك، وقد قال الكتَّاب في المتنبي: (إنه مالئ الدنيا وشاغل الناس)، وإن هو إلاشاعر له حفنة من الدرِّ إزاء تلال من الحجارة، وما شخصيته حيال عظمتك إلا مدرة (حجرة) على النيل خجلي من عظمة الأهرام)) [٢٩].

وعلى الرغم من هذا الاعتذار الجميل، إلا أنه أقدم على تسطير ملحمته الغرء بصبر وصدق وثبات. وقد بين لنا الكثير من الحقائق الإسلامية من خلال قلمه النظيف الذي أبى أن يسطر إلا الحقائق والوقائع كما جاءت في أمهات كتب السيرة والتاريخ.

وعلى كل حال، فإن ما يهمنا الآن هنا هو الاطلاع على موقفه من علوم علي عليه السلام اللغوية والبلاغية، ومعرفة وجهة نظره بشأن دور الإمام علي عليه السلام في صياغة وبلورة قواعد اللغة العربية والتأسيس لعلومها.

وقبل إيراد بعض الأبيات الشعرية في هذا المجال، لا بد لنا من ذكر ما قاله الأديب الشاعر (سلامة) نثراً عن هذه النقطة المطروحة على بساط البحث. فالأديب (سلامة) يرى قبل كل شي أن الإمام علياً عليه السلام هو الطود الشامخ في البيان وهو خطيب العربية ورمز بلاغتها الذي لا يشق له غبار، وهو المؤسس الأول لقواعدها النحوية ولعلومها البلاغية [٣٠].

ولو تجاوزنا الآن ما قاله الأستاذ (سلامة) نثراً عن كتاب نهج البلاغة وعن العلوم اللغوية التي كان يمتلكها الإمام علي عليه السلام، ووقفنا على ما قاله شعراً في الخاتمة التي وضعها لملحمته الغراء، فماذا عسانا نجد فيها؟؟

يمكننا أن نجد فيها قوله في خطابه لأمير المؤمنين عليه السلام:

يا عليَّ العصور هذا بياني ***** صُغتُ فيه وحيَ الإمام جَليَّا

أنتَ سلسلتَ من جُمانِك للفُصحى ***** ونسَّقْتَ ثوبَها السحريَّا

يا أمير البيانِ هذا وفائي ***** أحمدُ اللهَ أن خَلِقتَ وفيَّا

فالإمام علي عليه السلام هو الذي أسس علوم اللغة العربية الفصحى، وهو الذي كساها ثوب البلاغة الآسر ، وهو أمير البيان الذي كل ما في سفر البيان طوع لسانه ورهن بيانه.

ولنستمع إليه الآن وهو يكمل تلك الخاتمة بقوله المؤثر:

يا أمير الإسلام حسبيَ فَخْرا ***** أنّني منك مالئٌ أصْغَريَّا

جلجلَ الحقُّ في المسيحيِّ حتى ***** عُدَّ من فرطِ حُبِّه عَلَويَّا

أنا من يعشق البطولةَ والإلهامَ ***** والعدلَ والخُلُقَ الرَّضيَّا

فإذا لم يكن عليٌّ نبيّا ***** فلقد كان خلقُه نَبويَّا [٣١]

إنّها نفثات قلب ندي ينضج بالحب والإجلال لعلي أمير المؤمنين عليه السلام، ويأبى صاحب ذلك القلب البصير إلا أن يسير على نهجه وأن يهتدي للحق إلا بشعاع قدسه إذ لا ضير في أن يسير القلب النقي لأي مسيحي مستنير على صراط علي عليه السلام ونهجه.

أو ليس علي مُلكاً للجميع؟!!

أليس كل مسيحي حر في العالم يتعشق صورة علي عليه السلام ويجل سيرته المباركة قولاً وعملاً؟!!

ثم، أليس كل مسلم منفتح الفكر وكل مسيحي ذو فكر مستنير يجعل من مبادئ علي عليه السلام دستوره في الحياة؟ بل يجعل من مبادئه وقيمه دستوراً للإنسانية وقانوناً عاماً للبشرية؟!!

أليس كل حر أو ثائر أو مظلوم في العالم، ولو لم يكن مسلماً أو مسيحياً، كالمهاتما غاندي مثلاً، ينادي بالاقتداء وبتطبيق كل الأهداف التي نادى بها الإمام علي عليه السلام ومن بعده ابنه الإمام الحسين عليه السلام؟!!

وعلى كل حال، وكما وعدنا القارئ الكريم، فسنتوقف الآن عند الباحث والمفكر (فيليب حتي) لنتعرف على وجهة نظره تجاه كتاب نهج البلاغة وتجاه علوم الإمام علي عليه السلام اللغوية والبلاغية وأثر ذلك على اللغة العربية.

------------------------------------------------------------
[١] . ابن أبي الحديد المعتزلي : شرح نهج البلاغة ، ج ١ ص ١٢٨ ـ ١٢٩.
[٢] . الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام : نهج البلاغة ، شرح محمد عبده ، الدار الإسلامية ـ بيروت ، ط ١/ ١٩٩٢ ، ص ٨.
[٣] . نفس المصدر السابق : راجع المقدمة ص ٨.
٤. ابن أبي الحديد المعتزلي : شرح نهج البلاغة ، ج ١ ص ٢١.
[٥] . جاك لانغاد: من القرآن إلى الفلسفة، ترجمة: وجيه أسعد، وزارة الثقافة ـ دمشق، ٢٠٠٠، ص ٦٢.
[٦] . نفس المصدر السابق: ص ١٨١.
[٧] . دوايت رونالدسن: عقيدة الشيعة، ص ٦٢.
[٨] . نصري سلهب: في حظي علي، ص ٢٥١.
[٩] . نفس المصدر السابق: ص ٣٣٢.
[١٠] . نفس المصدر السابق: ص ٣٠.
[١١] . رامي كلاوي: روجيه غارودي من الإلحاد إلى الإيمان، دار قتيبة ـ دمشق، ط ٢/١٩٤٤ ، ص ٩٧.
[١٢] . عبد المسيح الإنطاكي: ملحمة الإمام علي، ص ٦٧٦.
[١٣] . نفس المصدر السابق: ص ٦٩٩.
[١٤] . نفس المصدر السابق: ص ٧٠٠.
[١٥] . راجع المقابلة التي أجراها الصحافي (جبران عكاوي) مع البطريرك (إلياس الرابع) في مجلة (الصياد)، العدد ١٥٣٨، بتاريخ ١٥ آذار ١٩٤٧، ص ٢٣.
[١٦] . مجموعة من المفكرين: نهج البلاغة والفكر الإنساني المعاصر ، مصدر سابق ، ص ٧٦.
[١٧] . روكس بن زايد العزيزي: الإمام علي أسد الإسلام وقديسه، ص ٢٠٩.
[١٨] . الشيخ محمد حسن آل ياسين: نهج البلاغة .. لمن؟ منشورات المكتب العالمي ـ بيروت، ١٩٧٨، ص ٦٥.
[١٩] . أمين نخلة: كتاب المئة، الدار الإسلامية ـ بيروت، ط ١/٢٠٠٢، ص ١١.
[٢٠] . نفس المصدر السابق: ص ١٢.
[٢١] . مجموعة من المفكرين: نهج البلاغة والفكر الإنساني المعاصر ، ص ٢٠٥.
[٢٢] . سعيد عقل: الأعمال الكاملة، المجلد السادس (كما الأعمدة ـ الوثيقة التبادعية) منشورات نوبليس ـ بيروت، د . ت ، ص ٦٨ ـ ٧٠.
[٢٣] . أمين نخلة: كتاب المئة، مصدر السابق، ص ١٢.
[٢٤] . د. زكي نجيب محمود: المعقول واللامعقول في التراث العربي، دار الشروق ـ بيروت، ص ٣٠.
[٢٥] . سليمان كتاني: علي نبراس ومتراس، مصدر سابق: ص ٤٤٠.
[٢٦] . نصري سلهب: في خطى علي، ص ٢٩٥.
[٢٧] . خليل فرحات: في محراب علي، ص ٣٣.
[٢٨] . مجموعة من المفكرين: نهج البلاغة والفكر الإنساني المعاصر، ص ٣٩.
[٢٩] . بولس سلامة: عيد الغدير، ص ١٢.
[٣٠] . نفس المصدر السابق: ص ١١.
[٣١] . نفس المصدر السابق: ص ٣١٢

يتبع .....

****************************