وقال (عليه السلام): الْحِلْمُ وَالاَْنَاةُ تَوْأَمَانِ يُنْتِجُهُمَا عُلُوُّ الْهِمَّةِ.                
وقال (عليه السلام): مَنْ كَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ هَانَتْ عَلَيْهِ شَهْوَتُهُ.                
وقال (عليه السلام): رُبَّ مَفْتُون بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِ.                
وقال (عليه السلام): ما أَنْقَضَ النَّوْمَ لِعَزَائِمِ الْيَوْمِ.                
وقال (عليه السلام): مَا مَزَحَ امْرُؤٌ مَزْحَةً إِلاَّ مَجَّ مِنْ عَقْلِهِ مَجَّةً.                
وقال (عليه السلام): خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ، وَإِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ .                
وقال (عليه السلام): أَشَدُّ الذُّنُوبِ مَا اسْتَخَفَّ بِهِ صَاحِبُهُ.                

Search form

إرسال الی صدیق
العلوم اللغوية والعبقرية البلاغية عند الإمام علي عليه السلام – الثاني

راجي أنور هيفا

وقبل كي شي، يرى الأستاذ (حتي) أن الإمام علياً عليه السلام ((حائز على كل صفات وخصال الإنسان العربي المثالي، فهو البطل الشجاع في المعارك وهو الرجل الحكيم في المشورة وهو الخطيب البليغ الذي يملك فصل الخطاب، وهو الصديق الصدوق وهو الإنسان الشهم حتى مع ألد أعدائه)) [١] .

فالإمام علي عليه السلام، بالنسبة للأستاذ (حتي)، لم يكن مجرد رجل حرب باسل فحسب، بل كان أيضاً فارساً ومقداماً في كل مجال وفي كل فعالية من فعاليات الحياة، فهو فارس الحروب مثلما هو فارس الكلمات والحروف.

وما كان للمفكر والباحث (فيليب حتي) أن يرى ذلك لولا وقوفه الطويل على خطب الإمام عليه السلام وأقواله في نهج البلاغة، ولو لا أنه أيقن ـ كما يصرح هو بذلك ـ أن الذي أسس لعلوم اللغة العربية هو الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام الذي أفضى بهذا العلم لتلميذه المقرب (أبي الأسود الدؤلي) وأمره بتدوين وتثبيت ما أفضاه إليه [٢].

ولذلك فإن الكثير من المفكرين والأدباء والباحثين المسيحيين يعتقدون اليوم أن كتاب نهج البلاغة ليس إلا أثرا بسيطاً من الآثار اللغوية والبلاغية للإمام علي عليه السلام الذي أعطى اللغة العربية صيغتها النهائية وألبسها ثوب البلاغة البديع.

وقد أكدوا أيضاً على أن هناك الكثير من الخطب والأقوال التي قالها الإمام علي عليه السلام في مناسبات مختلفة أثبتتها كتب التاريخ والسير والأدب عند الشيعة والسنة ولم تذكر في كتاب نهج البلاغة وذلك لأن الشريف الرضي لم يتعمد جمع كل ما قاله الإمام علي عليه السلام بل أراد جمع بعض ما قاله الإمام عليه السلام، ومن الأدلة على صدق ذلك هو أن بعض الخطب التي ذكرها الشريف الرضي لم تكن كاملة، بل كان يقدمها للقارئ بالقول: (ومن خطبة له عليه السلام)، أي إنه كان يتعامل مع بعض الخطب من منطلق الانتقاء ومن مبدأ أن الجزء من الجوهر جوهر بذاته.

وقبل أن نتابع كلامنا من وجهات نظر وآراء الأدباء والمفكرين المسيحيين عن البلاغة الإمام علي عليه السلام وعن علومه اللغوية، لابد لنا من الوقوف على بعض تلك الخطب البليغة التي لا تزال تذهل المسلمين والمسيحيين في الشرق والغرب على حدِّ سواء.

والخطبة التي سنذكرها الآن، هي إحدى الخطب المذهلة لكل الأجيال، وهي أيضاً واحدة من تلك الخطب البليغة التي جعلت أرباب الفكر من المسلمين والمسيحيين يؤكدون على أن كلام الإمام علي عليه السلام ليس بكلام بشر، بل هو حقاً فوق كلام المخلوقين ودون كلام الخالق.

وللقارئ الكريم أن يحكم على ذلك بعد قراءته لهذه الخطبة العلوية البليغة والخالية من النقاط، والبعيدة كل البعد عن التكلف والتصنع.

يقول أمير المؤمنين علي عليه السلام:

((الحمد لله الملك المحمود، المالك الودود، مصور كل مولود، وموئل كل مطرود، ساطع المهاد، وموطد الأطواد، ومرسل الأمطار، ومسهّل الأوطار، عالم الأسرار ومدركها، ومدمر الأملاك ومهلكها، ومكور الدهور ومكررها، ومورد الأمور ومصدرها....

أحمده حمداً ممدوداً مداه وأوحده كما وحده الأواه، وهو الله لا إله للأمم سواه، ولا صادع لماعدله وسواه. أرسل محمداً علماً للإسلام وإماماً للحكام، مسدداً للرعاع، ومعطل أحكام ود وسواع، علم وعلم، وحكم وأحكم، أصل الأصول ومهد، وأكد الوعود وأوعد. أوصل الله له الإكرام، وأودع روحه السلام ورحم آله وأهله الكرام ما لمع رئال وملع رال وطلع هلال وسمع إهلال.

اعملوا رحمكم الله أصلح الأعمال واسلكوا مسالك الحلال واطرحوا الحرام..... وصلوا الأرحام وراعوها واعصوا الأهواء واردعوها، وصاهروا أهل الصلاح والورع، وصارموا رهط اللهو والطمع...)) [٣] وبالطبع، هذا مجرد جزء من الخطبة البليغة العارية من النقط، أما الخطبة الأصيلة الكاملة فهي طويلة نوعاً ما، ولكن نعتقد أن ما أوردناه منها يكفي لإعطاء القارئ فكرة كافية عن معجزة البيان عند علي عليه السلام.

أمّا المعجزة البيانية الثانية التي لا تزال تذهل وتأخذ بألباب أرباب الفكر والأدب من المسيحيين مثلما تأخذ بألباب أهل الفكر والأدب من المسلمين أيضاً، هي تلك الخطبة التي قالها الإمام علي عليه السلام عندما كان جالساً مع جماعة من أصحاب النبي الكريم صل الله عليه وآله وسلم يتذاكرون في أمور شتى، ومنها أمور اللغة، فتذاكروا الحروف وأجمعوا على أن حرف الألف هو الحرف الأكثر دخولاً والأبرز حضوراً في اللغة العربية، فقام الإمام علي عليه السلام فخطب هذه الخطبة على البديهة دون أن يذكر فيها حرف الألف ولو لمرة واحدة، فقال عليه السلام:

((حمدت وعظمت من عظمت منته، وسبغت نعمته، وسبقت رحمته غضبه، وتمت كلمته، ونفذت مشيئته، وبلغت قضيته، حمدته حمد مقر لربوبيته، متخضع لعبوديته، متنصل من خطيئته، معترف بتوحيده، مؤمل من ربه مغفرة تنجيه يوم يشغل عن فصيلته وبنيه، ونستعينه ونسترشده ونستهديه ونؤمن به ونتوكل عليه.

وشهدت له تشهد مخلص موقن، وفردته تفريد مؤمن متيقن، ووحدته توحيد عبد مذعن، ليس له شريك في ملكه ولم يكن له ولي في صنعه، جل عن مشير ووزير وعون ومعين ونظير. علم فستر ونظر فخبر وملك فقهر وعصي فغفر وحكم فعدل.

لم يزل ولن يزول، ليس كمثله شيء وهو قبل كل شيء وبعد كل شيء، رب منفرد بعزته، متمكن بقوته، متقدس بعلوه، متكبر بسموه، ليس يدركه بصر، وليس يحيط به نظر، قوي منيع، بصير سميع، حليم حكيم، رؤوف رحيم، عجز عن وصفه من يصفه، وضل عن نعته من يعرفه، قرب فبعد وبعد فقرب، يجيب دعوة من يدعوه ويرزقه ويحبوه، ذو لطف خفي وبطش قوي، ورحمة موسعة وعقوبة موجعة، رحمته جنة عريضة مونقة، وعقوبته جحيم ممدودة موبقة.

وشهدت ببعثة محمد عبده ورسوله وصفيه ونبيه وخليله وحبيبه، صلى عليه ربه صلاة تخطيه وتزلفه وتعليه وتقربه وتدنيه، بعثه في خير عصر وحين فترة وكفر..... ختم به نبوته ووضح به حجته، فوعظ ونصح وبلغ وكدح، رؤوف رحيم بكل مؤمن رضي ولي زكي، عليه رحمة وتسليم وبركة وتكريم من رب غفور رحيم قريب مجيب.

وصيتكم جميع من حضر بوصية ربكم وذكرتكم سنة نبيكم فعليكم برهبة تسكن قلوبكم، وخشية تذري دموعكم وتقية تنجيكم قبل يوم يذهلكم ويبليكم، يوم يفوز فيه من ثقل وزن حسنته وخف وزن سيئته، ولتكن مسألتكم وملقكم مسألة ذل وخضوع وشكر وخشوع وتوبة ونزوع وندم ورجوع، وليغتنم كل مغتنم منكم صحته قبل سقمه، وشيبته قبل هرمه وكبره، وفرصته وسعته وفرغته قبل شغله، وغنيته قبل فقره، وحضره قبل سفره، من قبل يهرم ويكبر ويمرض ويسقم ويمله طبيه ويعرض عنه حبيبه ويننقطع عمره ويتغير لونه ويقل عقله، قبل قولهم هو موعوك وجسمه منهوك، قبل جده في نزع شديد وحضور كل قريب وبعيد، قبل شخوص بصره وطموح نظره ورشح جبينه وخطف عرنينه وسكون حنينه وحديث نفسه وبكي عرسه، ويتم منه ولده وتفرق عنه عدوه وصديقه وقسم جمعه وذهب بصره وسمعه وكفن ومدد ووجه وجرد وعري وغسل ونشف وسجي وبسط له وهيئ ونشر عليه كفنه وشد منه ذقنه وقمص وعمم وودع عليه وسلم، وحمل فوق سريره وصلي عليه، ونقل من دور مزخرفة وقصور مشيدة وحجر منجدة، فجعل في ضريح ملحود ضيف مرصود بلبن منضود مسقف بجلمود وهيل عليه عفره وحثي عليه مدره وتحقق حذره ونسي خبره ورجع عنه وليه وصفيه ونديمه ونسيبه، وتبدل به قريبه وحبيبه، فهو حشر قبر ورهين قفر يسعى في جسمه دود قبره ويسيل صديده على صدره ونحره، يسحق برمته لحمه وينشف دمه ويرم عظمه حتى يوم حشره ونشره، فينشر من قبره وينفخ في صوره ويدعى بحشره ونشوره، فثم بعثرت قبور وحصلت سريرة صدور، وجيء بكل نبي وصديق وشهيد ونطيق، وقعد للفصل رب قدير بعبده بصير خبير.

فلكم من زفرة تعنيه وحسرة تقصيه، في موقف مهيل ومشهد جليل بين يدي ملك عظيم، بكل صغيرة وكبيره عليم، حينئذٍ يلجم عرقه، ويحصره قلقه، عبرته غير مرحومة وصرخته غير مسموعة وحجته غير مقبولة، تنشر صحيفته وتبين جريرته، حيث نظر في سوء عمله وشهدت عينه بنظره. ويده ببطشه ورجله بخطوه وفرجه بلمسه وجلده بمسه، وتهدده منكير ونكير وكشف حيث يصير، فسلسل جيده وغلغل ملكه يده، وسيق يسحب وحده، فورد جهنم بكرب وشدة، وظل يعذب في جحيم، ويسقى شربة من حميم تشوي وجهه وتسلخ جلده وتضربه زبنيته بمقمع من حديد، يعود جلده بعد نضجه كجلد جديد، يستغيث فتعرض عنه خزنة جحيم،ويستصرخ فلم يجب، ندم حيث لم ينفعه ندمه.

نعوذ برب قدير من شر كل بصير، ونسأله عفو من رضي عنه ومغفرة من قبل منه، فهو ولي مسألتي ومنجح طلبتي.

فمن زحزح عن تعذيب ربه، جعل في جنته بقربه، وخلد في قصور مشيدة، وملك حور عين وحفدة وطيف عليه بكؤوس، وسكن حظيرة قدس في فردوس، وتقلب في نعيم، ويسقى من تسنيم وشرب من السلسبيل قد مزج بزنجبيل ختم بمسك مستديم للملك مستشعر للرسول ويشرب من خمور في روض مغدق ليس ينزف عقله.

هذه منزلة من خشي ربه وحذر نفسه، وتلك عقوبة من عصي منشئه وسولت له نفلسه، فهو قول فصل وحكم وعدل.... تنزيل من حكيم حميد نزل به روح قدس منير مبين من عند رب كريم على قلب نبي مهتد رشيد وسيد، صلت عليه رسل سفرة مكرمون بررة. عذت برب عليم حكيم قدير رحيم من شر عدو لعين رجيم يتضرع متضرعكم، ويبتهل مبتهلك. ونستغفر رب كل مربوب لي ولكم)) [٤].

لا أريد أن أعلق على هاتين الخطبتين البليغتين للإمام علي عليه السلام، فهما أرفع وأسمى من أي تعليق أو حتى من أي مديح يمكن أن يقال.

ولا أريد أيضاً أن أستشهد بالمزيد من أقوال الإمام عليه السلام وخطبه الإعجازية البليغة، لأنني أعتقد أن الأبواب السابقة من هذا الكتاب قد أوضحت طبيعة ونوعية أقوال الإمام عليه السلام وأبرزت، بما فيه الكفاية، القيمة المعروفة لتلك الأقوال والخطب وأثر ذلك على الفكر الإسلامي العام في مسيرة الحضارة الإسلامية المادية والروحية.

ولو أردنا الاستمرار في عرض وجهات نظر المفكرين المسيحيين بشأن العلوم اللغوية والمعارف البلاغية التي خلفها الإمام علي عليه السلام من جملة تراثه الفكري الخالد، فبإمكاننا الاستشهاد بأقوال الكثير منهم.

وهنا أريد أن أتوقف للحظة قصيرة مع الأب المسيحي (لويس معلوف اليسوعي) (١٨٧٦ ـ ١٩٤٦) ومع صديقه الأب (فردينال توتل اليسوعي) المعاصر له، وهما اللذان ألفا كتاباً هاماً جداً باللغة العربية عام (١٩٠٨) وهو كتاب (المنجد في اللغة والأعلام).

ولذلك، لو قلبنا صفحات هذا المرجع اللغوي والثقافي الهام، فماذا عسانا أن نجد فيه بشأن علوم الإمام علي عليه السلام؟

لقد جاء في الكتاب المذكور للأبوين المسيحيين أن كتاب نهج البلاغة هو كتاب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام حيث جمعت فيه أقواله وبعض خطبه البليغة. وقد ورد فيه أيضاً القول التالي، بعد التأكيد على صحة نسبة كتاب نهج البلاغة للإمام علي عليه السلام: ((يعتبر (الإمام علي عليه السلام) صاحب المدرسة الأولى في الإسلام التي انبثق منها مجرى ثقافي عريض)) [٥].

وهذا المجرى الثقافي العريض لم يكن المقصود به، بطبيعة الحال، المجرى اللغوي والبلاغي فحسب، بل كان المقصود منه الرؤية الكونية الشاملة للوجود انطلاقاً من النظرة الإسلامية الأصيلة لله والعالم والإنسان.

ولذلك، فعندما قال الإستاذ الباحث (أنطون بارا) عن خطب وأقوال الإمام علي عليه السلام: (( إنها حكم إعجازية قيلت في كلمات إيجازية مكثفة)) [٦]، فإنما قصد بذلك أن الإمام علياً عليه السلام استطاع من خلال أقواله البليغة والموجزة أن يعبر عن أعتقد القضايا وأعمقها بإسلوب إيجازي إعجازي بليغ.

وهذا ما أكده بدوره الدكتور الباحث (كمال اليازجي)، الأستاذ الأسبق للأدب العربي والفكر الإسلامي في الجامعة الأميركية في بيروت، إذ إنه تحدث في كتابه القيم (روافد الأدب العربي في عصوره القديمة) عن دور الإمام علي عليه السلام في عملية إرساء العلوم اللغوية والبلاغية للغة العربية.

وقد اعتبر الدكتور (اليازجي) أن الأغراض التي تناولها الإمام علي عليه السلام في خطبه لم تكن مقتصرة على غرض واحد أو مجال فكري وحيد، بل كانت مواضيعه الخطابية مختلفة وغنية بتنوع أغراضها التي تطال كل ميادين الفكر الإنساني.

وعندما تحدث الدكتور (اليازجي) عن مميزات الأسلوب الخطابي في صدر الإسلام، قال: (( ورثت الخطابة في الإسلام أهم ما ميزها عن سائر فنون النثر الجاهلي، وتميزت بأمرين هامين: حافظت على قصر العبارة، وحلية السجع، وقوة الإثارة ، وشدة الوقع وزادت على ذلك من مؤثرات الإسلام: الافتتاح بالأدعية، والاختتام بالحمد والثناء، وتضمين الآيات المقتبسة والأدعية المعترضة، فضلاً عن طابع التعليم الجديد، في المعاني الخاصة والأغراض العامة، على السواء.

وقد كان أبلغ خطباء هذه الفترة رابع الخلفاء الراشدين: علي بن أبي طالب، من حيث اختلاف موضوعاته، وبلاغته وصياغته، وشدة وقعه، بوجه الإجمال)) [٧].

وقد أرجع الدكتور (اليازجي) أسباب التفوق الفكري والبلاغي للإمام علي عليه السلام إلى عدة أسباب، منها إيمانه الراسخ والعميق بالرسالة الإسلامية وبمبائها، ولزومه الدائم والمميز للرسول المصطفى صل الله عليه وآله وسلم واتباعه الصادق لتعاليمه السامية النبيلة التي تدعو إلى التخلق بأخلاق وآداب الله عز وجل، وإلى عدم الاكتفاء بالاقتداء النظري بالرسول الكريم، بل إلى الاقتداء به صل الله عليه وآله وسلم نظرياً وعملياً وعدم الابتعاد عنه، لا في حالات السلم ولا في ظروف الحرب، بما في ذلك عدم الابتعاد عنه حتى في لحظات وفاته وانتقاله إلى الرفيق الأعلى حيث وقف عليه السلام يصلي عليه بعد أن غسله وكفنه، ثم واراه الثرى في الوقت الذي كانت فيه البقية من الأصحاب مهتمة بأمر الخلافة، هذا بالإضافة إلى استعداداته الفكرية وصفاته الروحية والنفسية التي تؤهله لذلك [٨].

إن هذه الاستعدادات الروحية والنفسية العالية وتلك القابليات العقلية المدهشة والمتجاوزة للقدرات والحدود الإنسانية العادية هي التي جعلته عليه السلام الإمام المنصوص عليه إلهياً حتى من قبل ظهور آدم عليه السلام. ويكفي أن نذكر أن الرسول الكريم صل الله عليه وآله وسلم قد بيّن هذه الحقيقة بقوله ـ كما جاء في كتاب (تذكرة الخواص) للعلامة سبط ان الجوزي الحنفي وفي غيره من كتب السنة: ((كنت أنا وعلي بن أبي طالب نوراً بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق آدم بأربعة آلاف عام، فلما خلق آدم قسم ذلك النور جزأين، فجزء أنا وجزء علي)) [٩].

ولذلك، علينا الا نستغرب وألا يستغرب معنا المفكرون والأدباء المسيحيون من قدرة الإمام علي عليه السلام على تحويل كامل مبادئه وتعاليمه النظرية الواردة في نهج البلاغة وفي غيره من الكتب والمصنفات التي تتناول أقواله وخطبه ووصاياه إلى وقائع عملية وتطبيقات واقعية. بحيث تسد كل فراغ وتردم كل فجوة بين النظرية والتطبيق.

وهذا يعني، أيضاً، أن الباحثة والراهبة الكاثوليكية (كارين آرمسترونغ) كانت محقة تماماً في تعليقها على واحدة من خطب الإمام علي عليه السلام وهي الخطبة التي تحتوي على تعليمات ووصايا أخلاقية وسياسية هامة، أوصى علي عليه السلام عامله (مالك بن الأشتر) بتطبيقها واحترامها حين ولاه مصر.

لقد كانت تلك الراهبة الباحثة محقة تماماً عندما علقت عليها قائلة: ((يصعب القول: إن جميع الجاهلي، وتميزت بأمرين هامين: حافظت على قصر العبارة، وحلية السجع، وقوة الإثارة، وشدة الوقع وزادت على ذلك من مؤثرات الإسلام: الافتتاح بالأدعية، والاختتام بالحمد والثناء، وتضمين الآيات المقتبسة والأدعية المعترضة، فضلاً عن طابع التعليم الجديد، في المعاني الخاصة والأغراض العامة، على السواء.

وقد كان أبلغ خطباء هذه الفترة رابع الخلفاء الراشدين: علي بن أبي طالب، من حيث اختلاف موضوعاته، وبلاغته، وصياغته، وشدة وقعه، بوجه الإجمال)) [١٠].

وقد أرجع الدكتور (اليازجي) أسباب التفوق الفكري والبلاغي للإمام علي عليه السلام إلى عدة أسباب، منها إيمانه الراسخ والعميق بالرسالة الإسلامية وبمبادئها، ولزومه الدائم والمميز للرسول المصطفى صل الله عليه وآله وسلم واتباعه الصادق لتعاليمه السامية النبيلة التي تدعو إلى التخلق بأخلاق وآداب الله عز وجل، وإلى عدم الاكتفاء بالاقتداء النظري بالرسول الكريم، بل إلى الاقتداء به صل الله عليه وآله وسلم نظرياً وعملياً وعدم الابتعاد عنه حتى في لحظات وفاته وانتقاله إلى الرفيق الأعلى حيث وقف عليه السلام يصلي عليه بعد أن غسله وكفنه، ثم واراه الثرى في الوقت الذي كانت فيه البقية من الأصحاب مهتمة بأمر الخلافة، هذا بالإضافة إلى استعداداته الفكرين وصفاته الروحية والنفسية التي تؤهله لذلك [١١].

إن هذه الاستعدادات الروحية والنفسية العالية وتلك القابليات العقلية المدهشة والمتجاوزة للقدرات والحدود الإنسانية العادية هي التي جعلته عليه السلام الإمام المنصوص عليه إلهياً حتى من قبل ظهور آدم عليه السلام. ويكفي أن نذكر أن الرسول الكريم صل الله عليه وآله وسلم قد بيّن هذه الحقيقة بقوله ـ كما جاء في كتاب (تذكرة الخواص) للعلامة سبط ابن الجوزي الحنفي وفي غيره من كتب السنة: ((كنت أن وعلي بن أبي طالب نوراً بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق آدم بأربعة آلاف عام، فلما خلق آدم قسم ذلك النور جزأين، فجزء أنا وجزء علي)) [١٢].

ولذلك، علينا ألا نستغرب وألا يستغرب معنا المفكرين والأدباء المسيحيون من قدرة الإمام علي عليه السلام على تحويل مبادئه وتعاليمه النظرية الواردة في نهج البلاغة وفي غيره من الكتب والمصنفات التي تتناول أقواله وخطبه ووصاياه إلى وقائع عملية وتطبيقات واقعية. بحيث تسد كل فراغ وتردم كل فجوز بين النظرية والتطبيق.

وهذا يعني، أيضاً، أن الباحثة والراهبة الكاثوليكية (كارين آرمسترونغ) كانت محقة تماماً في تعليقها على واحدة من خطب الإمام علي عليه السلام وهي الخطبة التي تحتوي على تعليمات ووصايا أخلاقية وسياسية هامة، أوصى علي عليه السلام عامله (مالك بن الأشتر) بتطبيقها واحترامها حين ولاه مصر.

لقد كانت تلك الراهبة الباحثة محقة تماماً عندما علقت عليها قائلة: ((يصعب القول: إن جميع الحكام المسلمين تمثلوا هذه المعايير السامية)) [١٣].

نعم، إن هذا الكلام صحيح ولا ريب فيه، إذ ليس هناك من حاكم أو خليفة أو والي استطاع أن يتمثل هذه المبادئ السامية والأخلاق الرفيعة العالية مثلما قائلها، وما استطاع أحد منهم أن يجعل من سلوكه ونهجه العملي، كإنسان مسلم وكخليفة على المسلمين، المرآة الصافية والصادقة التي تعكس المبادئ والقيم التي ينادي بها من خلال منظومته الفكرية العامة المشتملة على تلك الأهداف والمبادئ والتوصيات.

فمن السهل جداً على الإنسان أن يعظ الآخرين، ولكن من الصعب جداً عليه أن يعظ نفسه أو أن يطبق كل المبادئ والقيم التي يعظ بها الناس ويدعوهم إلى تطبيقها.

وهنا يمكن لنا ولكل مسيحي أن يتساءل قائلاً: ((وهل كان الإمام علي عليه السلام خارج هذه الطبيعة الإنسانية التي تعجز في الكثير من الحالات عن القيام بعملية التكامل التام بين الفكر والممارسة؟

والجواب بكل بساطة، نعم، لقد كان الإمام عليه السلام خارج تلك الطبيعة الإنسانية، بل بالأصح ، لقد كان الإمام علي عليه السلام فوقها ومتجاوزاً لها. وقد أثبت المفكرون المسيحيون من خلال دراستهم لشخصية أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه لم يقل في يوم من الأيام قولاً بلسانه ثم خالفه بعد ذلك بأعماله، فما أمر رعيته بشيء استثنى نفسه منه، ولا نهى تلك الرعية عن شيء فخالفت نفسه ذلك النهي منه.

ولذلك، فإن المفكرين والأدباء المسيحيين قد أدركوا، مثلما أدركت الراهبة الباحثة (آرمسترونغ)  أنه من العسير، وربما من المستحيل أن ينهج أحد نهج علي عليه السلام في حركته الحياتية المؤسسة في كل مفصل من مفاصلها على مبدأ فاضل أو منطلق أخلاقي ثابت يمتد بجذوره عميقاً في صلب الرسالة السماوية ويتغلغل بعيداً في جوهر التعاليم النبوية.

ومن هنا أدرك المسيحيون أن الإمام علياً عليه السلام لم يكن في يوم من الأيام، من خلال تعاليمه الواضحة في نهجه وسلوكه، إماماً متناقضاً مع قوله الذي خاطب به عموم المسلمين طالباً منهم ربط الأقوال بالأفعال سواء في الأمر بالمعروف أم في النهي عن المنكر: ((... هيهات يا يخدع الله عن جنته، ولا تنال مرضاته إلا بطاعته، لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له، والناهين عن المنكر العاملين به)) [١٤].

وبالتالي، يحق للأديب والمفكر (جورج جرداق) أن ينبهر وينذهل من مدى التطابق والتكامل بين المبادئ والقيم في نهج البلاغة وبين المنطلقات الحركية والأسس العملية المنعكسة على سيرة صاحب ذلك النهج العظيم. وليس هذا فحسب، بل يحق له أيضاً أن يندهش من بلاغة العبارة وحلاوة الأسلوب وعمق المعاني وتعانق ظاهر العبارة مع باطن الإشارة.

وها هو الأستاذ (جرداق) يستاءل بأسلوبه الفلسفي قائلاً: ((هل سألت تاريخ هذا الشرق عن نهج للبلاغة آخذ من الفكر والخيال والعاطفة آيات تتصل بالذوق الفني الرفيع ما بقي الإنسان وما بقي له خيال وعاطفه وفكر، مترابط بآياته متساوق، متفجر بالحس المشبوب والإدراك البعيد، متدفق بلوعة الواقع وحرارة الحقيقة والشوق إلى ما وراء هذا الواقع، متآلف يجمع بين جمال الموضوع وجمال الإخراج حتى ليندمج التعبير بالهواء، فما أنت إزاءه إلا ما يكون المرء قبالة السيل إذ ينحدر والبحر إذ يتموج والريح إذ تطوف، أو قبالة الحدث الطبيعي الذي لا بد له أن يكون بالضرورة على ما هو كائن عليه من الوحدة التي لا تفرق بين عناصرها إلا لتمحو وجودها وتجعلها إلى غير كون!))[١٥] .

وإذا كان لهذا الكلام صبغته الفلسفية العميقة التي تحتاج إلى الكثير من التأمل والتروي في الدراسة والتحليل، فإن لقائلها أقوالاً أخرى لا تقل عن هذا القول عمقاً في التحليل وبعداً في الإدراك والمعرفة.

ولذلك، فقد كان من نتائج البحوث التي قام بها الأستاذ (جرداق) عن نهج البلاغة وعن الجانب اللغوي في فكر الإمام علي عليه السلام، هو أن لله مشيئة وحكمة في أن يكون الإمام علي عليه سلام ركن اللغة العربية في علومها وبلاغتها كما كان أيضاً ركن الإسلام في بقية علومه وفنونه.

ولذلك، لم يكن في أهل زمانه من يستطيع أن قف ويصمد أمام الإمام علي عليه السلام. في علوم اللغة العربية وفنونها.

ويريد الأستاذ (جرداق) أن يلفت انتاهنا إلى أن هناك نقطة هامة غائبة عن أذهان الكثيرين ممن درسوا شخصية الإمام علي وقدراتها الفكرية، وما تلك النطقة الهامة التي أغفلها، وأغفل عنها، العديد من الباحثين والدراسين لشخصية الإمام علي عليه السلام إلا تلك العبقرية الأدبية الخلاقة القادرة على صياغة الأفكار وترجمتها، ورسم الهيكلية العامة للمواضيع المختلفة التي تناولها في أحاديث وخطبه بطريقة فريدة ومدهشة.

فالإمام علي عليه السلام كما يرى الأستاذ جرداق، كان بلا شك إماماً في الفقه والشرع وفي كل المجالات المعرفة الأخرى التي تناولها وأشار إليها صراحة من خلال تعاليمه وتوصياته: كالطب والصيدلة والكيمياء والرياضيات والفلك وإلى غيرها ما هنالك من علوم أخرى هامة، ولكن الإمام علياً عليه السلام الذي هو المؤسس الحقيقي لعلوم اللغة العربية، لم يكن في مجال الإبداع الأدبي بأقل منه في بقية المجالات والميادين المرفية الأخرى التي تعزز من القيمة الوجودية للإنسان على الأرض وتدفعه، بالتالي، إلى بناء الوجود على أسس علمية قويمة وأخلاقية سليمة بحيث يحقق ذاته من خلال بناء مجتمع حضاري يضع العلم في كفة والأخلاق في الكفة الأخرى.

وقد أراد الأستاذ (جرداق) أن يقول أكثر من ذلك، فقد أراد أن يقول: إن علم اللغة شيء، وتطبيق هذه العلوم اللغوية شيء آخر.

فرب رجل يكون عالماً في أمور الطب النظرية لكنه، من الناحية العملية، قد يعجز عن تطبيق هذه العلوم على كثير من المرضى، وربما يعجز حتى عن امتلاك القدرة أو الجرأة على إجراء أي عمل جراحي بسيط من شأنه أن يكون التطبيق العملي لتلك العلوم النظرية التي اكتسبها واختزنها ضمن إطار الفكر المجرد.

ورب أستاذ جامعي قد حاز على أعلى الشهادات في علوم اللغة العربية وآدابها وتبحر في تاريخ الأدبين القصصي والشعري، لكنه قد يقف عاجزاً معقود البنان لو طلب منه أن يكتب قصة قصيرة أو أن ينظم قصيدة بسيطة.

وبالتالي، فما أراد الأستاذ (جرداق) قوله هو أن الإمام علياً عليه السلام لم يكن عالماً في المجال النظري المجرد للعلوم اللغوية فحسب، بل كان أيضاً أديباً فذاً وبارعاً في تحويل تلك العلوم اللغوية المتنوعة إلى ما يشبه حبات سبحة طيعة يتلاعب بها ببنانه كيفما يشاء، فما الأدب المكتوب واللفوظ عنده إلا رهن بنانه وطوع لسانه.

وتبعاً لذلك، يرى (جرداق) أن الذي يتتبع سيرة العظماء، كل العظماء، في التاريخ سيدرك أن هناك ظاهرة مميزة وبارزة توحد بينهم جميعاً، سيدرك الذي يتتبع سيرهم أنهم، بالإضافة إلى إبداعهم في مجال عملهم الخاص، كانوا أيضاً أدباء موهوبين على تفاوت في درجات القوة والتميز، فهم بين أديب متميز خلاق مبدع، أو متذوق قريب في تذوقه المرهف من حدود الإنتاج والإباع.

فمن نظرة واحدة إلى الأنبياء، على سبيل المثال لا الحصر، نستطيع أن نقرر صدق وجود تلك الظاهرة الجامعة بين ذلك الصنف من العظماء، وهم بلا شك أعظم من العظماء. فما داوود وسليمان وأشعيا وأرميا وأيوب والمسيح ومحمد، كما يرى الأستاذ جرداق، إلا أدباء عمالقة أوتوا من الموهبة الأدبية ما أتوا من سائر المواهب الأخرى ضمن إطار رسالاتهم السماوية ونبوءاتهم الإلهية.

وحتى القائد العسكري نابليون، والمشرع السياسي لينين، والفيلسوف أفلاطون، وعالم الرياضيات باسكال، ورجل الدولة والمفكر جواهر لال نهرو، وعالم الطبيعيات باستور، والمصلح الاجتماعي جمال الدين الأفغاني (الآستر ابادي)، كل أولئك، على مختلف صنوف أعمالهم واهتماماتهم، كانوا أيضاً أدباء ولهم في عالم الأدب ما يجعلهم في مرتبة الأدباء من أهل الاختصاص.

وهنا يأتي دور الكلام عن (الأديب) علي بن أبي طالب عليه السلام. وأول ما نبدأ به كلامنا هو السؤال التالي: ماذا قدم علي عليه السلام الأديب إلى علماء اللغة وأدبائها؟!

يقول الأديب (جرداق) في جوابه على ذلك قائلاً: ((هذه الحقيقة (حقيقة الموهبة الأدبية) تتركز جلية واضحة في شخصية علي بن أبي طالب، فإذا هو الإمام في الأدب وسره البلاغة، كما هو الإمام في ما أثبت من حقوق وفي ما علم وهدى! وآيته في ذلك (نهج البلاغة) الذي يقوم في أسس البلاغة العربية في ما يلي القرآن من أسس، وتتصل به أساليب العرب في نحو ثلاثة عشر قرناً فتبني على بنائه وتقتبس منه ويحيا جيدها في نطاق من بيانه الساحر)) [١٦].

والحقيقة، فإنني لا أستطيع أن أدون أو أن أستشهد بكل ما قاله الأستاذ الأديب (جرداق) عن العلوم اللغوية عند الإمام علي عليه السلام وعن كتابه نهج البلاغة، وذلك لكثرة الدراسات والتحليلات التي أجراها الأستاذ (جرداق) حول كتاب نهج البلاغة وعلاقته بالقيم الفكرية والعلمية لكل فرع من فروع العلم والمعارف التي تناولها بأسلوب منطقي حكيم.

ولكن بالرغم من ذلك، سنحاول أن نلخص بإيجاز بعض النقاط الهامة التي وردت بشأن موضوعنا المطروح الآن أمامنا.

ومن هذه النقاط التي يمكن إيجازها هي نقطة التسلسل المنطقي في أفكار كل الخطب التي احتواها النهج، هذا بالإضافة إلى التماسك والترابط بين الفكرة والفكرة حتى تكون كل من هذه الأفكار المترابطة نتيجة طبيعة لما قبلها وعلة منطقية لما بعدها. ثم إن هذه الإفكار ـ كما يرى جرداق ـ لا يوجد فيها ما يستغنى عنه في الموضوع المعالج المطروح، ولا يمكننا أن نجد فيهاما يستقيم البحث بدونه.

هذا بالإضافة إلى أن الإمام عليه السلام لا يستخدم لفظاً إلا وفي ذلك اللفظ الذي استخدمه ما يدعونا لأن نتأمل ونمعن في التأمل، ولا يستخدم عبارة إلا وتفتح تلك العبارة أمامنا آفاق وراءها آفاق من النظر الجليل [١٧] .

ثم إن الأفكار الواردة في كتاب نهج البلاغة هي أفكار مضبوطة بضابط العقل الحكيم والمنطق القويم، ولا فرق في ذلك بين ما يكتبه علي عليه السلام وبين ما يلقيه ارتجالاً، ففي خطب الإمام علي عليه السلام المرتجلة معجزات من الأفكار الحكومة بقيادة العقل المنطقي الحكيم.

ومما يدهش القارئ فعلاً هو ذلك المقدار الهائل من الإحكام والضبط العقليين العظيمين في طرح الأفكار وصياغة المبادئ.

وهنا يلفت الأستاذ (جرداق) نظرنا إلى ان الإمام علي عليه السلام لم يكن ليعد خطبه، ولو قبيل إلقائها بلحظات، بل كانت تخرج منه كما تخرج المياه العذبة متدفقة من الينبوع السلسبيل الصافي، إنها، باختصار شديد، تخرج منه منفصلة ومنتشرة كانتشار الضوء من السراج.

وهنا لابد من الوقوف على نقطة هامة أخرى لا تقل أهمية على ما سبق، وتكتسب هذه النقطة أهميتها من مصاقيتها أولاً، ثم من كونها إحدى النقاط التي يجتمع كل الأدباء والمفكرين المسيحيين على دقتها وصحتها ثانياً. وقد عبر الباحث والأديب (جرداق) عن هذه النقطة بقوله عن المواضيع التي تناولها الإمام عليه السلام في كتابه نهج البلاغة: ((ومن ذكاء علي المفرط في نهجه أنه نوع البحث والوصف فأحكم في كل موضوع ولم يقصر جهده العقلي على ناحية واحدة من الموضوعات أو من طرق البحث.

فهو يتحدث بمنطق الحكيم الخبير عن أحوال الدنيا وشؤون الناس،وطبائع الأفراد والجماعات. وهو يصف البرق والرعد والأرض والسماء. ويسهب في القول في التاريخ الطبيعي فيصف خفايا الخلق في الخفاش والنملة والطاووس والجرادة وما إليها.

ويضع للمجتمع دساتير وللأخلاق قوانين، ويبدع في التحدث عن خالق الكون وروائع الوجود. وانك لا تجد في الأدب العربي كله هذا المقدار الذي تجده في (نهج البلاغة) من روائع الفكر السليم والمنطق المحكم في مثل هذا الأسلوب النادر!)) [١٨].

ولا ريب في أن هذا الكلام للأستاذ (جرداق) يدل على موسوعية الإمام علي عليه السلام المعرفية وعلى إحاطته الكاملة والشاملة بخفايا الحياة وقوانين الوجود.

ولو لا أننا قد تطرقنا في الفصول السابقة إلى النواحي العملية والميادين المعرفية في نهج البلاغة لكنا الآن بصدد التوسع أكثر في ما كتبه الأستاذ (جرداق) عن هذه النقطة وأهميتها في نهج البلاغة، ولكن رأينا أنه من الأفضل أن نكتفي هنا بالإشارة العابرة إلى ما قاله الأستاذ (جرداق) عن هذه القضايا الجوهرية التي أجمع المفكرون المسيحيون على صحتها وصدقها.

ولكن قبل أن نكمل مسيرتنا مع ما قاله الأستاذ (جرداق) عن العلوم اللغوية والبلاغية عند الإمام علي عليه السلام وعن فضله في إرساء قواعدها الأساسية، لابد لنا من الوقوف مع المفكر والأديب (أنطوان بارا) لنتعرف على موقفه ووجهة نظره من كتاب نهج البلاغة الذي يعتبر الحجة والدليل لكل عالم باللغة العربية، والذي يعتبر بنفس الوقت أيضاً الكتاب الجامع ـ بعلومهن وأدبياته وحكمه ـ لكل ميادين الحياة ومفرداتها.

فالأستاذ الباحث (أنطوان بارا) يرى أن الإمام علياً عليه السلام ورث ممن سبقوه تركه ثقيلة يصعب حملها في ظل ظروف سياسية قاسية ارتبطت بمن جاء قبله إلى كرسي الحكم. ولكن بالرغم من تلك الظروف السياسية القاسية، إلا أنه استطاع، كما يقول الأستاذ (بارا)، أن يحقق العدالة وأن يعيد للإسلام صفاءه ونقاءه. وهنا يعطينا الأستاذ (بارا) جواباً حاسماً لسؤال يمكن أن يطرحه كل واحد منا على نفسه. وهذا السؤال هو:

ما هو الهدف من وضع كتاب نهج البلاغة؟

هذا هو السؤال الذي يمكن أن يطرحه كل واحد منا على نفسه ، وربما طرحنا على أنفسنا سؤالاً آخر يعتبر بمثابة التتمة الضرورية للسؤال الأول، وهو:

هل كان يعرف الإمام علي عليه السلام أن خطبه وأقواله ستجمع يوماً ما في كتاب يضم معظم هذه الخطب والأقوال والوصايا؟

والجواب على هذين السؤالين موجود في ما قاله الأستاذ الباحث (بارا) عن كتاب نهج البلاغة وعن أهداف سياسة الإمام علي عليه السلام في الحكم والخلافة.

فمن خلال حديث الأستاذ (بارا) عن فكر الإمام علي عليه السلام وعن نهجه العلمي في الحياة، كفرد مسلم وكخليفة على المسلمين، نستطيع أن نلمس من حديثه أن الإمام علياً عليه السلام كان يعرف أن خطبه وأقواله بشكل عام ستلقى الرعاية الكافية والاهتمام اللازم من الأجيال اللاحقة، وذلك لأنه أراد من خلال تلك الأقوال والوصايا أن يضع دستوراً واضحاً للناس من أجل التعامل مع كل مفاصل الحياة بحيث لا يترك للناس وللأجيال اللاحقة أي مجال للتأويل أو للتلاعب بالدستور الأساسي (القرآني) كما يريدون أو كما تميله عليهم أهواؤهم وميولهم، ولذلك عمد إلى تسليط الأضواء على الخريطة الفكرية الإسلامية بكل رموزها ومفاهيمها بهدف إعطائها الأبعاد الفكرية والروحية الأكثر وضوحاً وبساطة حتى لا يدع مجالاً لمتأول أو متقول كي يتسلل إلى جوهر العقيدة الإسلامية بهدف الإساءة إليها أو النيل منها.

أما عن الهدف من وضع كتاب نهج البلاغة، وعلى الرغم من أن الكتاب قد وضع لاحقاً بعد رحيل الإمام علي عليه السلام، إلا أنه من الممكن أن نتعرف على الهدف من وضعه.

وربما كانت وجهة نظر الأستاذ الباحث (بارا) من أكثر وجهات النظر عقلانية ومنطقية، وها هو يعبر عن وجهة نظره بشأن الهدف من وضع كتاب نهج البلاغة بقوله:

((حينما وضع كتابه العظيم نهج البلاغة لم يكن ينظر إلى الأمر من زواية خلافته فحسب، بل كان يرى الحالة المزرية التي وصلت إليها الأمة في ذلك الوقت، وغياب جيل المؤسسين في دولة الإسلام كان يستدعي وجود كتاب ومنهج لوضع مناقب أخلاقية وعملية تحفظ  كرامة الإنسان، فوضع الإمام علي عليه السلام نهج البلاغة كي يكون هذا (النهج) الدستور من بعد رحيله، حيث كان الإسلام لم يزل صغيراً أرستقراطيو قريش، بقايا الأرستقراطية القريشية التي لم تدخل الإسلام إلا لخدمة مصالحها أولاً)) [١٩].

وهذا يعني، وفقا لرؤية الأستاذ الباحث أنطون بارا، أن نهج البلاغة أو الخطب والوصايا التي قالها الإمام علي عليه السلام قبل أن تجمع في كتاب مستقل، هي في المحصلة خطب وأقوال تشكل نهجاً واضحاً في الحياة ومخططاً عاماً لكل أولئك الذين يريدون أن ينتهجوا الطريق الإنساني المرتكز على احترام الكرامة الإنسانية وصون القيمة الوجودية للإنسان سواء كان ذلك الإنسان مسلماً أم غير مسلم.

وإذا كان الأستاذ (بارا) لا ينكر ما للإمام علي عليه السلام من دور هام وأساسي في حفظ وتجذير علم النحو العربي وما لذلك من أهمية بالغة في الحفاظ على أصالة تلك اللغة التي أبى الله سبحانه وتعالى أن يخاطب عباده في آخر رسالة سماوية له إلا بها، إلا أنه يرى أيضاً أن لنهج البلاغة ـ الذي يمثل الانعكاس الحقيقي للعلوم البلاغية عند علي عليه السلام ـ دوراً هاماً جداً لا يمكن تجاهله على صعيد الحضارة الإنسانية المعاصرة.

ويمكننا أن نلخص هذه الفكرة عند الأستاذ أنطون بارا بقوله: إن العالم كله، وليس الغرب فقط، قد قام باستحداث شريعة حقوق الإنسان ضمن ما يسمى بالأمم المتحدة منذ ما يقارب خمسين عاماً مضت حيث إن الغرب كان يظن أن هذه التشريعات نبعت من مجتمعاته ومن فلسفاته الوضعية.

ولكن، في الحقيقة، إن تلك الشريعة المتعلقة بحقوق الإنسان قد وجدت منذ أربعة عشر قرناً في نهج الإمام علي ورؤياه من أجل تحقيق هذه العدالة، ولكن الغرب لم ينتبه إليها إلا بعد إقرار شريعة حقوق الإنسان. ورغم ذلك، فقد تنبهوا إليها وأخذوا منها الكثير، ولكن لو أن العالم قد التفت إلى كل ما جاء في نهج البلاغة من حقوق ودساتير ولوائح تمثلت في خطب الإمام علي لولاته على الأمصار والبلدان لكان أجدى وأنفع للبشرية من هذه الدساتير الوضعية التي يعتريها الكثير من القصور في الرؤية وآلية التنفيذ وكيفيتها.

ولو أنصف العالم لكان من الأجدر به أن ينظر إلى كتاب نهج البلاغة محيطاً عظيماً وفي عمق ذلك المحيط الكثير من الأسس والأفكار التي تفيد البشرية في مجال الأخلاق والتربية والتعليم والاقتصاد بحيث لو أنها طبقت لأغنت البشرية في مجال الأخلاق والتربية والتعليم والاقتصاد بحيث لو أنها طبقت لأغنت البشرية كلها عن وضع الدساتير وذلك لأن روحية دستور حقوق الإنسان الذي أقر منذ خمسين عاماً نجده في نهج البلاغة لا سيما في كتب الإمام علي عليه السلام لولاته على البلدان، لأن في هذه الكتب نهجاً حقيقياً لأمة الإسلام وللبشرية أيضاً.

ويتابع الأستاذ (بارا) فكرته هذه بتأكيده على أن هذه الخطب البليغة للإمام علي عليه السلام تشكل نهجاً قويماً وصراطاً مستقيماً لكيفية تعامل الحاكم والمحكوم، ولآلية تعامل الناس مع بعضها البعض على أسس ثابتة من القيم الأخلاقية والمساواة على الرغم من اختلاف الملل والأديان [٢٠] .

وهنا نلاحظ أن الأديب والباحث (أنطون بارا) قد ركز في الحوار الذي أجري معه في دمشق بتاريخ ١/٩/٢٠٠٤ م على الجوانب الفكرية والإنسانية في نهج البلاغة أكثر من التركيز على الجوانب اللغوية والبلاغية فيه. فالتركيز الأساسي كان على ما وراء تلك البلاغة الأخاذة والبيان الآسر.

وربما أراد الأستاذ (بارا) أن يبين لنا من خلال هذا الحوار معه أن الكلام البليغ والبيان العبقري الساحر في كتاب نهج البلاغة إنما هو جزء بسيط من عبقرية علي عليه السلام.

أما العبقرية الحقيقية عند الإمام علي عليه السلام فتتجلى في قدرته على وضع يده على آلام البشرية جميعها، وفي قدرته أيضاً على مداواتها وذلك من خلال وضعه الحلول العميلة الفعالة لكل المشاكل والعقبات التي يمكن أن تعترض سبيل نهوضها وتقدمها وتحقيق آمالها على كافة المستويات وفي شتى الميادين.

وعندما أرسل لي صديقي الصحافي بسام حسين نسخة خاصة من ذلك الحوار الذي أجراه مع الأستاذ (بارا) في دمشق، وقرأت ذلك الحوار الشيق بعمق أكثر من مرة، تذكرت على الفور ما قاله الأستاذ بارا عن تلك الأفكار والنظريات والمبادئ العظيمة المرتدية ثياب البلاغة القرآنية العظيمة وعن مدى قدرة تلك الأفكار والمبادئ على معالجة مشاكل عصرنا، بل ومشاكل كل عصر فيما لو أخذنا بها ونفذت كما ينبغي لها أن تنفذ، عند ذلك تذكرت أن ما قاله ذلك الباحث والأديب المسيحي (بارا) هو نفس ما قاله الكاتب والمفكر المسلم، غير الشيعي، الأستاذ (رياض نجيب الريس).

فالأستاذ (الريس) هو قبل كل شيء صحافي معروف وله شهرته الواسعة ومكانته الفكرية المحترمة، وهو أحد المفكرين من إخواننا السنة، وهو غنيٌّ عن التعريف في مجال الكتابة والطباعة والنشر على المستويين العربي والدولي. وقد قرأت له مرة مقالاً في مجلة تصدر في باريس، وبعد فترة لا بأس بها قرأت له نفس المقال في مجلة أخرى تصدر في هولندا، وقد أرادت المجلة الثانية تعميم الفائدة على أكبر شريحة من الناس من خلال ذلك المقال الرائع للأستاذ (الريس)، فأعادت نشره بالكامل دون أي تغيير أو تعديل.

وكان عنوان المقال الذي كتبه الأستاذ الصحافي رياض الريس هو (مقابلة صحفية مع أمير المؤمنين). ويدور ذلك المقال المتميز شكلاً ومضموناً حول إمكانية وقدرة الإمام علي عليه السلام على حل كل المشكلات العظيمة في المجتمعات الإنسانية الإسلامية وغير الإسلامية.

وقد وضع الأستاذ (الريس) نفسه في موضع الصحافي الذي وجه للإمام علي عليه السلام أكثر من ثلاثين سؤالاً حول هموم الانسانية ومشاكل الأفراد والمجتمعات البشرية، وكان الإمام علي عليه السلام بالمقابل، في موقع الضيف الذي يجيب على هذه الأسئلة من خلال أفكاره ومبادئه الموجودة في نهج البلاغة.

وبما أن كتابنا الذي بين يدي القارئ الكريم يتمحور حول شخصية الإمام علي عليه السلام في الفكر المسيحي المعاصر، فإننا لا نريد أن نشعب الموضوع الأساسي كثيراً بحيث نذكر نص تلك المقابلة المتميزة لكاتب وصحافي مسلم، وإنما سنكتفي بذكر شيء من المقدمة التي وضعها الأستاذ الصحافي (رياض الريس) لتلك المقابلة الفريدة التي تفصل الصحافي السائل عن الضيف المسؤول مدة زمنية قدرها ألف وأربعمئة عام!!!

يقول الأستاذ (الريس) في مقدمة مقابلته الصحفية: ((وفي زمن الأبواب المغلقة، ليس أمام الصحافي خيارات كثيرة، وفي زمن البحث عن طريق آمن وسط ظلمة هذه الأيام، ليس هناك من يجرؤ أن يتباسط مع صحافي عن مدلولات اليوم طموحاً للوصل إلى معالم الغد.

.. رحت أبحث عمن يقول لي شيئاً. قلت لنفسي: ليس في هذا العصر من هو على استعداد لان يمد رأسه من أية كوة مهما صغرت، حاولت أن أطرق باباً أساسياً من أبواب المعرفة، لعل صاحبه يجيب السائل الحيران)).

وهنا يحق لنا أن نسأل الأستاذ الصحافي (رياض الريس) عن ذلك الباب الأساسي الذي أراد الأستاذ (الريس) اللجوء إليه ليفضي إليه بآلامه وهمومه وبأسئلته الحيرى التي تبحث عن إجابات شافية كافية.

ولا شك في أن الأستاذ (الريس) سيتقبل سؤالنا برحابة صدر وسيجيبنا على سؤالنا المطروح من خلال مقدمته الموضوعية لحواره المفترض مع الإمام علي عليه السلام وسرعان ما يعطينا الجواب المطلوب بقوله: ((قررت أن أزور الإمام علي بن أبي طالب في نهج البلاغة سعياً وراء حديث صحافي مع خليفة رسول الله وسيد الشهداء وأمير المؤمنين. ولم يسبق لي أن عرفت علي بن أبي طالب من قبل. كانت معرفتي به سطحية تاريخية كمعرفة المئات من المسلمين أمثالي.

فكان لابد أن أطرق كتاب السيد الشريف الرضي ليقودني إلى باب علي بن أبي طالب ويفتحه لي في (نهج البلاغة) وهو الذي أختاره من كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه. وفتح السيد الشريف الرضي الباب في (نهج البلاغة) على مصراعيه، وكان هذا الباب بالنسبة لي في ساعات الظلمة الكثيرة التي مرت علينا: نوراً ساطعاً)) [٢١].

وبعد هذه المقدمة، يبدأ الصحافي (الريس) بطرح أسئلته على الإمام الضيف، ويجيب الإمام على تلك الأسئلة المستعصية، فيقدم الحلول المنطقية والعقلانية لكل مشاكل الإنسان والمجتمع من خلال الاستشهاد بأقواله وخطبه في نهج البلاغة.

وتؤكد خاتمة تلك المقابلة الصحفية على حقيقة أن ما على الإنسانية المعذبة إذا أردت أن تنقذ نفسها من دوامات الحيرة وغربة النفس التائهة إلا أن تسير على نهج الإمام علي عليه السلام وأن ترضى به إماماً وسيداً وهادياً.

فجميع المشكلات والمعضلات المستعصية التي رأى الأستاذ (الريس) أن حلولها الناجحة والأكيدة موجودة في فكر علي عليه السلام وفي نهجه المخصص أساساً والموضوع أصلاً لحل كل الأمور العصية والمشاكل المستعصية التي يمكن أن تصادفها الأجيال المتلاحقة من بعده عليه السلام، هي نفس المشكلات والمعضلات التي وجد الأستاذ (أنطون بارا) الحلول المنطقية والعقلانية لها في نهج علي عليه السلام أيضاً.

وهذا يعني باختصار، أن كل ذي فكر سليم ومنطق قويم يرى أن البعد عن نهج علي عليه السلام وعن تعاليمه ومبادئه هو بعد عن الحضارة وعن القيم الإنسانية التي تعتبر الحجر الأساسي في بناء شخصية الإنسان وفي تكامل أبعاد تلك الشخصية.

وبالمقابل، فإن الاقتراب من نهج علي عليه السلام ومن تعاليمه ومبادئه هو الاقتراب من المدنية في علومها ومعرفها، وهو أيضاً الاقتراب من الحضارة في أخلاقياتها وسلوكياتها على المستويين الفردي والجمعي. فالإمام علي عليه السلام هو الحضارة، وما الابتعاد عنه إلا الابتعاد عنها ومن ثم بقدر الابتعاد عنه يكون الاقتراب من دائرة البداوة ومن دائرة جاهلية العصر الحديث!!

وأذكر أنني قد وعدت في الصفحات السابقة بالعودة إلى عالم الأديب (جورج جرداق) الفكري لاستكمال صورة نهج البلاغة من خلال الخطوط والألوان الزاهية التي استخدمها الأديب (جرداق) في رسم تلك الصورة المشرقة لأعظم كتاب بعد كتاب الله عز وجل.

والنقطة الجديدة التي يمكننا الوقوف عندها بشأن العبقرية العلوية البلاغية في كتاب نهج البلاغة، هي تلك النقطة التي وقف عندها الأديب (جرداق) مطولاً نظراً لما لها من أهمية في نقل الأفكار والتعاليم من الإمام علي عليه السلام إلى الناس على مختلف أصنافهم ودرجات وعيهم وتباين انتماءاتهم.

فكما رأينا في الصفحات والأبواب السابقة أن خطب وأقوال الإمام علي عليه السلام سواء في كتاب نهج البلاغة أو في غيره من بقية الكتب التي تحتوي على بعض خطبه ووصاياه هي خطب ووصايا تحمل في مضمونها الكثير من الدساتير والقوانين والنظريات والمبادئ التي لا تغفل عن أي ميدان من ميادين الحياة ولا تهمل أي وجه من وجوهها.

ولكن هناك بعض الأمور والتعليمات الناس ، فما هو الحل إذاً، لتخفيف من حالة الجفاف تلك؟

يرى الأستاذ (جرداق) أن الحل للتخفيف من تلك الصلابة والجفاف في بعض تلك المواضيع هو اللجوء إلى إعمال الخيال كعامل من عوامل البلاغة في تسهيل وتيسير إيصال الأفكار والمبادئ إلى ذهن القارئ أو المستمع.

ولهذا يرى (جرداق) أن الخيال في نهج البلاغة (خفاق الجوانح في كل أفق) وبفضل هذا الخيال القوي، الذي حرم منه كثير من حكماء ومفكري الأمم، كان علي يأخذ من عقله وتجاربه المعاني ذات الموضوعية الخالصة، ثم يطلقها زاهية متحركة في إطار تثبت على جنباته ألوان الجمال على أروع ما يكون اللون. فالمعنى مهما كان عقلياً جافاً لا يمر بمخيلة علي حتى تنبت له أجنحة تقضي فيه على صفة الجمود، وتبلور ما فيه من حقيقة.

فخيال علي هو نموذج للخيال العبقري الذي يقوم على أساس من الواقع العميق، فيحيط بهذا الواقع ويبرزه ويجليه، ويجعل له امتدادات من معدنه وطبيعته، ويصبغه بألوان كثيرة من مادته ولونه، فإذا الحقيقة تزداد وضوحاً وإذا بطالبها يقع عليها أو تقع عليه)) [٢٢].

إذاً، فالخيال العبقري الذي كان يستخدمه الإمام علي عليه السلام في خطبه البليغة، والذي هو أحد وجوه العلوم اللغوية والبلاغية عنده عليه السلام، كان يتم استخدامه من أجل ترطيب الموضوعات الجافة، ومن أجل تفكيك القضايا المعقدة والمتشابكة، فجاء ذلك الخيال ـ في المحصلة ـ دليلاً قوياً وبرهاناً جلياً على براعة الإمام علي عليه السلام في البيان عن العبرة والإفصاح عن الفكرة.

وعلى الرغم من وجود نقاط أخرى تطرق إليها الأديب (جرداق) في معرض حديثه عن علوم علي عليه السلام البلاغية واللغوية والتي ضم صوته في معرض حديثه عنها إلى صوت كل من يقول: إن كلام علي عليه السلام دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق، إلا أننا نرى أنه قد تم إعطاء الصورة الكافية لوجهات نظر الأديب والمفكر المسيحي البارز جورج جرداق حول كتاب نهج البلاغة والعلوم البلاغية واللغوية عند الإمام علي عليه السلام، ناهيك عن العلوم والمعارف الأخرى التي قمنا بمناقشتها في الفصول السابقة من هذا الكتاب.

أما الآن، فدعونا ننطلق سوية في رحلة سريعة إلى واحة الأديب الفيلسوف (ميخائيل نعيمه) لنقطف من عناقيده مالذ وطاب. وأول هذه العناقيد اليانعة التي لوحتها الشمس بأشتعها الذهيبة فطرتها من الشوائب والعفن، هي تلك الرسالة الرقيقة التي أرسل بها الأديب (نعيمة) إلى صديقه المخلص الأستاذ (جرداق) يحضه فيها ويحثه بقوة على الإسراع في وضع كتاب شامل ومتكامل عن شخصية الإمام علي عليه السلام، تلك الشخصية التي افتتن بحبها أرباب الفكر والأدب في الشرق والغرب.

وهنا يمكننا أن نقطف بضع خصلات من ذلك العنقود الذي يستطيع أن يسكرنا بخمره الفكري الروحي فيحملنا إلى عوالم الحق والجمال والفضيلة والحكمة السماوية الخالدة.

وها هو الأديب (نعيمة) يقول في مقدمة رسالته إلى صديقه الحميم (جرداق):

(((تسألني رأيي في الإمام، كرم الله وجهه، ورأيي أنه ـ من بعد النبي ـ سيد العرب على الإطلاق بلاغة وحكمه، وتفهماً للدين، وتحمساً للحق، وتسامياً عن الدنايا. فأنا ما عرفت في كل من قرأت لهم من العرب رجلاً دانت له اللغة مثلما دانت لابن أبي طالب، سواء في عظاته الدينية، وخطبه الحماسية، ورسائله التوجيهية، أو في تلك الشذور المقتضبة التي كان يطلقها من حين إلى حين مشحونة بالحكم الزمنية والروحية متوهجة ببوارق الإيمان الحي ومدركة من الجمال في البيان حد الإعجاز)) [٢٣].

نعم، إنها كلمات قليلة وموجزة، لكنها تعني الكثير، وأقل ما تعنيه هذه العبارات البليغة هو أن الإمام علياً عليه السلام لم يكن إماماً وسيداً في البلاغة والفصاحة فحسب، بل هو الإمام والسيد أيضاً في الحق والحكمة والفضيلة، وهو فوق كل ذلك الإمام والمعلم في طرق التعامل مع الحياة ومقتضياتها الزمنية والروحية.

وكيف لا يكون الإمام علي عليه السلام هو، حقاً، حكيم الحياة وخبيرها، وقد أقر بذلك المفكرون المسيحيون مثلما أقر بذلك المفكرون المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها!!!!؟

ألم يمر معنا في الفصول السابقة أن العديد من المفكرين والأدباء المسيحيين في الشرق، والعديد من المستشرقين أيضاً، يعتبرون أن الإمام علياً عليه السلام هو الحكيم سليمان في الرسالة الإسلامية؟!

إذا، فالمفكر والأديب (ميخائيل نعيمه) لم يكن إلا واحداً من أولئك المفكرين الذين رأوا في الإمام علي عليه السلام صورة الإمام الحكيم والسيد الحليم الذي وسع صدره هموم الحياة وآلامها، واتسع فكره لحركة الحياة ورغباتها وتطوراتها، فعرف من خلال الآلام والآمال كيف يضع الأمور في مواضعها وكيف يمكنه أن يتعامل مع الظروف ومع النفس الإنسانية بكل أطيافها وذلك من خلال إدراكه لدور الخبرة والزمان في الكشف عن الحكمة الحقيقية للحياة.

وإذا كان هذا هو رأي الأديب الفيلسوف ميخائيل نعيمة في فكر الإمام علي عليه السلام من خلال قراءاته لنهجه، ومن خلال دراسته لمسيرة حياته الحافلة بالأحداث الجسام والمآثر العظام، والتأكيد على أن كتاب نهج البلاغة الذي يفيض بلاغة وفصاحة لا تضاهيها إلا بلاغة وفصاحة القرآن العظيم ذاته، فإن خلاصة هذا القول بالنسبة للفيلسوف (نعيمة) هو أن الإمام علياً عليه السلام كان درعاً وسيفاً لله في الخطوب والأهوال، ومعلماً وسيداً في عالم الحكم والوصايا والأقوال، وإماماً وهادياً في السلوك والأفعال.

وإذا كان الأديب المصري (عباس محمود العقاد) قد علق على حديث الرسول الكريم صل الله عليه وآله وسلم الذي يقول فيه: ((علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل)) بقوله: ((فهذا الحديث أصدق ما يكون على الإمام علي في حكمته التي تقارن بحكم أولئك الأنبياء ... فهي (حكم الإمام علي) من طراز الحكم المأثورة عن أشهر أولئك الأنبياء بالمثل السائر، وهو سليمان بن داود))(١).

فإن المستشرق الاسكتلندي (وليم موير) muir (١٨١٩ ـ ١٩٠٥) صاحب کتاب (حیاة النبي) وكتاب (التاريخ الإسلامي) يتفق مع من أسلفنا ذكرهم حول حكمة علي عليه السلام، إذ إنه يرى في الإمام علي عليه السلام صورة الحكيم سليمان بن داود عليه السلام ذاته مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه الحكمة كانت في خدمة الآخرين أكثر مما كانت في خدمة صاحبها وراعيها [٢٤].

وحتى لا نبتعد كثيراً عن واحة الأديب الفيلسوف (ميخائيل نعيمه)، وبما أننا ما زلنا نتفيأ في ظلال دوالي تلك الواحة الساحرة، فإننا سنعمد إلى قطف المزيد من عناقيد كرمته السخيفة، ولكن هذه المرة سنختار عنقوداً ملوناً بنفس الألوان البديعة الشفافة التي رآها صاحب الكرم والواحة في كتاب نهج البلاغة.

وحتى لا نطيل التقديم لما سيأتي ذكره، دعونا نقرأ بشكل مباشر ما قاله الأديب (نعيمة) عن الإمام علي عليه السلام بعد قراءاته المتكررة والعميقة لكتاب نهج البلاغة وبعد دراسته المتروية والمتعلقة للأسلوب البلاغي الذي اعتمده الإمام علي عليه السلام في إيصال أفكاره ومبادئه إلى عامة الناس.

وها هو يقول عن ذلك:

((ليس بين العرب من صفت بصيرته صفاء بصيرة الإمام علي. ولا من أوتي المقدرة في اقتناص الصور التي انعكست على بصيرته وعرضها في إطار من الروعة هو السحر الحلال. حتى سجعه، وهو كثير، يسطو عليك بألوانه وبموسيقاه ولا سطو القوافي التي تبدو كما لو أنها هبطت على شاعر من السماء. فهي ما اتخذت مكانها في أواخر الأبيات إلا لتقوم بمهمة يستحيل على غيرها القيام بها. إنها هناك لتقول أشياء لا تستطيع كلمات غيرها أن تقولها. فهي كالغلق في القنطرة!)) [٢٥].

هذه هي روعة البلاغة عند علي عليه السلام، وهذا هو سحر البيان الذي يجعل الفكرة العصية على الفهم تحلق في سماء الحروف والكلمات بجناحي ذلك البيان اللغوي الآسر لتستقر بعد ذلك في أذهان الناس وفي قلوبهم، فعلي عليه السلام هو ذلك البحر العظيم الذي يقذف بتلك اللآلئ الثمينة والكنوز الدفينة دون تكلف وعن غير قصد، وليغرف كل واحد من الناس منها ما يشاء.

ولو أردنا أن نودع الأديب الفيلسوف (ميخائيل نعيمه) ونتركه في واحته الخضراء الباسقة طالبين منه أن يختتم كلامه عن عبقرية الإمام علي عليه السلام بجملة واحدة، فماذا يمكن أن يقول من خلال تلك الجملة اليتيمة؟!!

لا ريب في أنه سيختار جملته المشهورة والتي يوجز من خلالها وجهة نظره في عبقرية الإمام علي عليه السلام، إنها جملته البليغة في معانيها: ((إن علياً لمن عمالقة الفكر والروح والبيان في كل زمان ومكان)) [٢٦].

وهذا هو شأن الأديب والفيلسوف المسيحي (ميخائيل نعيمة) مع الإمام علي عليه السلام ومع فكره وبيانه، هذا هو شأن مفكر وأديب مسيحي مع فضاءات الفكر العلوي الرحيب القادر على فهم غاية الوجود الإنساني في إطار العلاقة الوثيقة مع الوجود الكلي المطلق.

ولکن لیس من المعقول أن نزور الأدیب و الفیلسوف (میخائیل نعیمة) في واحته الفکریة الغنیة والمثمرة دون آن نعرج في رحلتنا علی صدیق عمره و رفیق دربه الفیلسوف  الأدیب (جبران خلیل جبران)، بل کیف یمکننا أن نغفل عن ذکر تلك الجلسات اللیلیة الرائعة التي کان یدور الحدیث فیها بین (نعیمة) و(جبران) عن العبقریة العلویة وما تختزنه تلك العبقریة من کنوز علمیة وأدیبة تذهل العقول وتأخذ بمجامع القلوب!!

فجبران خلیل جبران، ذلك الفیلسوف والأدیب والفنان المسیحي المبدع، بقي طوال حیاته یبحث من خلال أدبه و فلسفته الخاصة في الحیاة عن الوجوه الإنسانیة النقیة التي لن یتکرر مجیئها أو مجيء شبیه لها إلی هذا الوجود، ولن تجود السماء علی الإنسانیة بإرسال بدیل عنها، و قد بقیت عملیة البحث تلك من قبل الفیلسوف (جبران) فترة طویلة من الزمن، وقد رصد جهده ووقته للوقوف علی معرفة تلك الوجوه الإنسانیة الفریدة والنادرة في وجودنا.

وراح (جبران) یغوص في قراءة ما سطرته الأقلام في أسفار التاریخ وفي صفحات کتب السیر والأخبار والمناقب، هادفاً من وراء ذلك تحویل المثل والمبادیء الإنسانیة الرفیعة النبیلة من حالة الأفکار المجردة إلی حالة التجسید والتجسیم في أشخاص حقیقیین جاءت بهم العنایة الإلهیة إلی هذا الوجود لینیروا طریق الإنسان عن طریق تحقیق وتجسید تلك المبادیء والأخلاق الإلهیة السامیة علی مسرح الحیاة وعلی امتداد التاریخ.

ولو أننا تساءلنا قائلین: هل وجد الفیلسوف (جبران) ضالته المنشودة، وهل کان للإمام علی (علیه السلام) نصیب في ما کان یبحث عنه ذلك الأدیب الفیلسوف؟؟!

والجواب بکل بساطة: نعم، بل إن الإمام علیاً (علیه السلام) لم یکن في فکر (جبران) بأقل مکانة أو أدنی مرتبة من السید المسیح عیسی ابن مریم (علیهما السلام) أو من الرسول المصطفی (صلی الله علیه و آله وسلم)، فهو (علیه السلام) أحد أقطاب ثالوث قدسی[٢٧].

وقد استطاع ذلك الثالوث القدسی أن ینقل ویجسد المثل والقیم من العالم السماوي المجرد إلی العالم الأرضي لیؤکد لأهل الأرض، لعموم البشر، أن العالم الحقیقي الباقي هو ذاك العالم الذي لا یستطیع أحد أن یدخله ما لم یکن قادراً علی أن یتمثل مبادیء وأخلاق وقیم أهل ذلك العالم السماوي الخالد.

ویری (جبران) أیضاً أن الإمام علیاً (علیه السلام) الذي جسد المثالیة الاجتماعیة والإنسانیة بأبهی صورها وتجلیاتها، کان یقوم بذلك من خلال سلوکه العلمي تارة ومن خلال تعالیمه وخطبه ووصایاه تارة أخری. وکان یری أیضاً أن هذه البلاغة التی کان یسبغها الإمام علي (علیه السلام) علی خطبه ووصایاه کانت بمثابة الروح التي تعیش من الجسد فتکسبه الحیاة والحیویة وتحرك فیه رغبة وإرادة الوجود.

غیر أن (جبران) رأی أن الإمام علي (علیه السلام) من خلال ذلك العمل القائم علی استخدام البلاغة المعجونة بالحکمة والإیمان کانت محکاً أساسیاً في اکتشاف کل إنسان فیما إذا کان ذلك الإنسان یمتلك قابلیة السمو الإیماني والرقي الحضاري أم لا.

وقد عبر (جبران) عن تلك البلاغة المحکمة وعن الأثر الذي ترکته في مجتمع کان یقدس الفصاحة ویحترم البلاغة بقوله واصفاً أهل ذلك المجتمع بأنهم «تاهوا بین مناهج بلاغته وظلمات ماضیهم. فمن أعجب بها کان إعجابه موثوقاً بالفطرة، ومن خاصمه کان من أبناء الجاهلیة»[٢٨].

وهکذا یری (جبران) أن الناس المعجبین بمناهج بلاغة الإمام علي (علیه السلام) صنفان: ذما صاحب عقل راجح، وإما صاحب فطرة سلیمة تهفو بطبعها إلی الحق والخیر والفضیلة.

وما عدا ذلك، فهم قوم یحتاجون إلی رجاحة العقل ویفتقرون إلی صقل وتهذیب سلامة الفطرة، فهم العرب الذین آثروا ظلمات أیامهم وظلم جاهلیتهم علی نهج علي (علیه السلام) وعلی نور بلاغته التي لم یفهموها، أو بالأصحف لم یریدوا أن یتفهموها.

وفي رأیي الشخصي أن الدارسین لفکر (جبران) والعارفین بشخصه عن قرب، من خلال معایشتهم له وأحادیثهم معه، کانوا محقین في تصویر عمق الروابط الروحیة بین فکر (جبران) من جهة وبین شخصیة الإمام علي (علیه السلام) المتکاملة الجوانب من جهة أخری. فقد أدرك أولئك الدارسون والباحثون مدی تأثیر شخصیة الإمام علي (علیه السلام) الکاملة المتکاملة علی تکوین الشخصیة الجبرانیة وعلی نتاجها الفکري والفلسفي العام. ومثلما کان للجانب الفکري والعملي أثره الواضح في صیاغة الهویة الفکریة للفیلسوف (جبران)، کذلك کان الحال أیضاً بالنسبة للجانب البلاغي في أحادیث الإمام (علیه السلام) وفي حکمة الخالدة.

فکل مفکر مسیحي یدرس النتاج الفکري الجبراني وعلاقة هذا النتاج بالثقافة العلویة التي حصلها جبران في حیاته، وبشکل خاص في لبنان قبل رحیله إلی المهجر، یری أن الإمام علیاً (علیه السلام) في نظر (جبران): «حکیم في طلیعة حکماء العصور، مات ولم یعش العرب إلی ضوئه بل عشا الفرس إلیه، حتی کانت أزمنة طوال اهتدوا بعدها إلی مناهج بلاغته وعظمة شخصیته. وهو، بذلك کله، یعیش في هیکل الفکر المطلق والروح المطلق، لا یختلي بذاته إلا لیبعث في الناس کلاماً أبدیاً لاتصاله بینابیع المعرفة الصافیة»[٢٩].

هذه، باختصار شدید، صورة واضحظ للعلاقة الوطیدة بین الفکر الجبراني والشخصیة العلویة. وهذه أیضاً لمحة موجزة عن العشق الجبراني للإمام علي (علیه السلام) الذي لم یکن في یوم من الأیام مجرد إمام للمسلمین فحسب، بل کان دائماً وأبداً ـ کما یری جبران ـ إماماً وهادیاً لکل من کان له قلب یفقه و بصیرة تستنیر وتعشو إلی ضوء الحق والخیر والفضیلة.

وقبل أن نختتم هذا الفصل المخصص للکلام عن المعجزة اللغویة والبلاغیة عند الإمام علي (علیه السلام) لابد لنا من الوقوف عن أحد أهم الأعلام المسیحیین في عالم الفکر والأدب، إنه الأدیب والمفکر (فؤاد إفرام البستانی)، الأستاذ الأسبق للآداب العربیة في کلیة القدیس یوسف في بیروت وصاحب المؤلفات الفکریة والأدبیة الکثیرة، ولعل أکثرها شهرة موسوعته الأدبیة الرائعة المعروفة بسلسلة (الروائع) والتي تتناول بالدراسة والتحقیق والعرض أهم الکتب التراثیة والکنوز الأدبیة التي ترکت أبلغ الآثار علی الساحة الفکریة المعاصرة.

وقد کان أول کتاب صدر عن هذه السلسلة هو (نهج البلاغة درس ومنتخبات)، وهو عبارة عن کتاب موجز یتناول شخصیة الإمام علي (علیه السلام) وکتابه (نهج البلاغة) بالدراسة والتحلیل، هذا بالإضافة إلی ذکر بعض المنتخبات والمقتطفات من خطب وأقوال الإمام علي (علیه السلام) الواردة في کتابه نهج البلاغة.

وبدءاً من الصفحة الأولی من ذاك الکتب، یری الأستاذ (البستاني) أن الإمام علیاً (علیه السلام) هو أول مفکري الإسلام، وقد بدأ القول في مقدمة الکتاب قائلاً: «لعلي بن أبي طالب شخصیة جذابة، حامت حولها أقلام الرواة والمؤرخین،واجتهدت في فهمها عقول النقاد والمفکرین، واهتدت بهدیها فرق الزهاد والسالکین، وسار تحت لوائها الجم الغفیر من المتأدبین. ولم تکن الآراء المختلفة، والنظریات المتباینة، والمجادلات العدیدة بین السنیین والشیعیین، علی کرور الأیام، إلا لتزید الرجل سمواً، وعقلیته بروزاً»[٣٠].

ولو ترکنا جانباً کل الصفات والمناقب التي تحدث عنها الأدیب (البستاني) بإعجاب وإکبار بعد أن قرأ عنها الکثیر في کتب السنة والشیعة وفي کتب من سبقه من المفکرین والأدباء والمستشرقین المسیحیین، تلك الصفات والمناقب التي لم تجتمع في أحدٍ مثلما اجتمعت في شخصیة الإمام علي (علیه السلام)، فلو ترکنا کل ذلك جانباً واتجهنا مباشرة إلی الجانب الأدبي واللغوي في شخصیة أمیرالمؤمنین علي (علیه السلام) لنری ونتعرف علی وجهة نظر الأدیب (البستاني) تجاه هذه النقطة التي نحن بصدد وضع اللمسات الأخیرة علیها قبل الانتقال إلی فصل جدید، ونقطة أخری جدیدة، فما هو رأي الأدیب (البستاني) بشأن بلاغة علي (علیه السلام) وعلومه اللغویة العمیقة التي أنارت الطریق لکل من جاء بعده من أرباب اللغة والبلاغة؟!

یری الأدیب (البستاني) أن هناك ثلاث قوی أساسیة لعبت دوراً هاماً في صیاغة شخصیة علي (علیه السلام) الأدبیة.

فبالإضافة إلی الإیمان العمیق بالله وبرسوله وبکتابه العظیم، القرآن، هناك القوة الأولی: الشعور العمیق والمرهف.

والقوة الثانیة: المخیلة المشبعة بالحکمة، والقوة الثالثة: العقل المرتکز علی المنطق وعلی فهم متغیرات الحیاة ومتطلباتها.

وقد عبر الأدیب (البستاني) عن وجهة نظره تجاه شخصیة الإمام علي (علیه السلام) الأدبیة بقوله: «... هذا دور الشعور، والمخیلة، والعقل، في إنشاء علي بن أبي طالب.

وإن هذه القوی الثلاث، علی رجحان الشعور أحیاناً، یتحد بعضها ببعض اتحاداً متیناً، ویرتبط ارتباطاً وثیقاً، فلا یحس القلب بشيء إلا ظهر صورة جمیلة، یختم علیها العقل، بخاتم الإیجاز، ویدفعها حکمة مصکوکة کقطعة النقود، تتداولها العقول معجبة، مستفیدة.

ومن کانت هذه مقدرته فلا عجب أن رغب فیه قوم، وحسده قوم آخرون فأبغضوه»[٣١].

ونتیجة لحسد أعداء الإمام علي (علیه السلام) له فإنهم ـ کما یقول البستاني ـ قد حاولوا أن یسلبوه فضیلة نسبة کتاب (نهج البلاغة) إلیه، فراحوا ینسبونه إلی جامعه (الشریف الرضي) محاولین بذلك التقلیل من القیمة الأدبیة والعلوم اللغویة والبلاغیة التي کان یتمتع بها الإمام علي (علیه السلام) ویتمیز بها عن غیره من الأصحاب.

ولذلك، فإن الأدیب (البستاني) لا یری من الأسباب ما یمکن أن یقف حجرة عثرة في سبیل صحة نسبة کتاب (نهج البلاغة) إلی الإمام علي (علیه السلام)[٣٢].

وکیف یشك الأدیب المسیحي فؤاد إفرام البستاني بصحة نسبة کتاب (نهج البلاغة) إلی الإمام علي (علیه السلام)، وهو الذي یری في علي (علیه السلام) صورة الإمام الحکیم الذي تمثَّلَ قیم ومبادیء القرآن السماوي العظیم، وخاض التجارب المریرة في الحیاة، وغاص في أعماق النفس الإنسانیة، فدرسها جملةً وتفصیلاً، فخرج بعد کل ذلك بخبرته الوفیرة في الحیاة وأودعها بعد ذلك کتابه الخالد (نهج البلاغة) الذط یفیض حکمة وبلاغة وإیماناً وعلماً؟!!!

وقد أصاب (البستاني) لب الحقیقة عندما قال عن العبقریة العلویة في نهج البلاغة:

«الحکمة عند علي بن أبي طالب وافرة المعنی، جمیلة المبنی، یأخذها عقلیة لا لون لها و لا رسم، فتمر في مخیلة، فإذا هي صورة جمیلة تترجرج فیها الحیاة»[٣٣].

ولا يسعنا أن نقول الآن إلا أن الحياة الإمام علي عليه السلام في هيكل الفكر المطلق وقرب الروح المطلق هي التي بعثت فيه شمس الحكمة وفجرت في بيانه ينابيع البلاغة، فجاء كلامه أبداياً يتجاوز حدود الزمان وحواجزه، بحيث يراه كل جيل أنه قد قيل له وصيغ من أجله، من أجل أن ينير له دروب الحياة ويرفعه عالياً على مدراج العشق الإلهي من أجل الوصول إلى بوابات السماء ومملكة الخلود الأبدي.

هذا هو علي عليه السلام، وهذه هي الصورة الموجزة والمبسطة عن بلاغته وعن علومه اللغوية العامة وأثر ذلك على لغتنا العربية، لغة القرآن الكريم، لغة أهل السماء، اللغة المستقبلية ليوم الدينوية القادم بلا ريب.

وكيف لا يكون الإمام علي عليه السلام كذلك وهو الإمام الذي يعيش ذكره إلى الأبد في الكثير من الآيات القرآنية الكريمة في الوقت الذي يعيش القرآن العظيم بكامله في قلب وصدر وفكر الإمام علي عليه السلام؟!!

وما أروع عبارة الأديب والمفكر المسيحي (نصري سلهب) عندما قال متحدثاً عن علاقة الإمام علي عليه السلام بالله سبحانه وتعالى، وذلك من خلال كتابه الخالد (نهج البلاغة)، إذ إنه عبر عن تلك العلاقة بقوله:

((وما أقترب امرؤ من الله، حرفاً وروحاً، كاقتراب علي منه في نهج البلاغته)) [٣٤].

فمن له أذنان فليسمع، ومن له عينان فليبصر، وما البصر بمغنٍ عن البصيرة!!

------------------------------------------------------
[١] . Philip hatti, history of the arabs p.١٣٨
[٢] . نفس المصدر السابق: ص ٢٤١.
[٣] . نفس المصدر السابق: ص ١١٢ ـ ١١٤.
[٤] . لويس معلوف وفردينال توتل اليسوعي: المنجد في اللغة والأعلام، راجع كتاب المنجد في الأعلام المطبوع بشكل مستقل، إصدار: انتشارات ذوي القربى ـ طهران، ١٤٢٣ هـ، ص ٣٧٨.
[٥] . أنطون بارا: الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ، ص ١٥٢.
[٦] . الدكتور كمال اليازجي: روافد الأدب العربي في عصوره القديمة، المطبعة المخلصيّة ـ بيروت ١٩٦١، ص ٥٠.
[٧] . نفس المصدر السابق: ص ٥٠.
[٨] . العلامة سبط ابن الجوزي الحنفي: تذكرة الخواص، منشورات الشريف الرضي ـ قم، ١٤١٨ هـ، ص ٥١.
[٩] . الدكتور كمال اليازجي: روافد الأدب العربي في عصوره القديمة، المطبعة المخلصيّة ـ بيروت ١٩٦١ ، ص ٥٠.
[١٠] . نفس المصدر السابق: ص ٥٠.
[١١] . العلامة سبط ابن الجوزي الحنفي: تذكرة الخواص، منشورات الشريف الرضي ـ قم، ١٤١٨ هـ، ص ٥١.
[١٢] . كارين آرمسترونغ: الإسلام في مرآة الغرب، ترجمة: محمد الجورا، دار الحصاد ـ دمشق، ط ٢/٢٠٠٢، ص ٣٠٣.
[١٣] . الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: نهج البلاغة، ج ٢ ص ٢٢٣.
[١٤] . جورج جرداق: الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، ج ١ ص ٤٥.
[١٥] . نفس المصدر السابق: ج ٣ ص ١٨٤.
[١٦] . نفس المصدر السابق: ج ٣ ص ١٨٥.
[١٧] . نفس المصدر السابق: ج ٣ ص ١٨٧.
[١٨] . من مقابلة مع الأستاذ (أنطوان بارا)، أجراها معه الصديق الصحافي بسام محمد حسين، في دمشق بتاريخ ١/٩/٢٠٠٤، وذلك على هامش مهرجان (الإمام علي عليه السلام وحقوق الإنسان) المنعقد في دمشق في ذلك التوقيت، وقد أرسل لي الصديق بسام حسين نسخة من المقابلة.
[١٩] . نفس المقابلة السابقة، وقد جاء هذا الكلام من الأستاذ (بارا) كجواب على السؤال الذي طرحه عليه الصديق الصحافي بسام حسين عن كيفية التعامل مع الإرث الثقافي والفكري الروحي للإمام علي عليه السلام.
[٢٠] . راجع وقائع هذه المقابلة الصحيفة (المفترضة) مع أمير المؤمنين عليه السلام في:
أ- مجلة المستقبل: العدد ٣١٤، الصادر بتاريخ ٢٦ شباط عام ١٩٨٣، باريس.
ب- مجلة الموسم: العدد ٧ الصادر عام ١٩٩٠، وهي مجلة فصلية، هولندا.
[٢١] . جورج جرداق: الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، ج ٣ ص ١٨٨.
[٢٢] . نفس المصدر السابق: ج ٥ ص ٢٢٩.
[٢٣] . عباس محمود العقاد: عبقرية الإمام علي، المكتبة العصرية ـ بيروت، ١٩٦٧ ، ص ٢٠٢.
[٢٤] . نفس المصدر السابق: ص ٢٠٤.
[٢٥] . جورج جرداق: الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، ج ٥ ص ٢٢٩.
[٢٦] . نفس المصدر السابق: ج ٥ ص ٢٢٩.
[٢٧] . نفس المصدر السابق.
[٢٨] . روکس بن زاید العزیزي: الإمام علي أسد الإسلام وقدیسه، ص ١٠.
[٢٩] . جورج جرداق: الإمام علي صوت العدالة الإنسانیة، ج ٥ ص ٢٢٧.
[٣٠] . فؤاد إفرام البستاني: نهج البلاغة (درس ومنتخبات) المطبعة الکاثولیکیة ـ بیروت، ١٩٣٢، ص ١.
[٣١] . نفس المصدر السابق: ص ١٩.
[٣٢] . نفس المصدر السابق: ص ٢١.
[٣٣] . نفس المصدر السابق: ص ١٨.
[٣٤] . نصري سلهب: في خطي علي، ص ٢٣٢.

انتهى.

منقول من كتاب الأمام علي عليه السلام في الفكر المسيحي المعاصر(بتصرف)

العتبة العلوية المقدسة - قسم الشؤون الفكرية والثقافية

****************************