وقال (عليه السلام): رُبَّ مَفْتُون بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِ.                
وقال (عليه السلام) : مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا .                
وقال (عليه السلام) : هَلَكَ فِي رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ غَال ، وَمُبْغِضٌ قَال .                
وقال (عليه السلام): أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ اكْتِسَابِ الاْخْوَانِ، وَأَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ .                
وقال (عليه السلام): الغِنَى والْفَقْرُ بَعْدَ الْعَرْضِ عَلَى اللهِ.                
وقال (عليه السلام): مَا مَزَحَ امْرُؤٌ مَزْحَةً إِلاَّ مَجَّ مِنْ عَقْلِهِ مَجَّةً.                
وقال (عليه السلام): قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِير مَمْلُول مِنْهُ.                

Search form

إرسال الی صدیق
المستشرقة الإيطالية فالييري ونهج البلاغة

نهج البلاغة

بقلم المستشرقة الايطالية : لورة فيتشيا فالييري

بطلب من جمعية أحباء ايطاليا القت الاستاذة لورة فيتشيا فالييري laura veccia vaglieri  بقاعة القنصلية الايطالية منذ بعض أسابيع محاضرة عن كتاب نهج البلاغة حضرها جمع كبير من العلماء والادباء والطلبة السيدة الفاضلة أستاذة للآ داب واللغة العربية بالمعهد العالي للدراسات الشرقية بنابلي بايطاليا وقد قدمها الاستاذ الشيخ الفاضل بن عاشور فتحدث عن منزلة الاستشراق بايطاليا وتجاوب المستشرقين فيها مع الذوق العربي والفكر الشرقي، ومما قال في تقديمها:

«قد اختارت الاستاذة في محاضرتها موضوعا من المواضيع التي تثقفت فيها؛ فقد كانت هذه الاستاذة متخصصة في دراسة العهد العلوي ودراسة شخصية الامام علي بن أبي طالب،رضي الله عنه، وخلافته وآدابه ، وهي اليوم تتولى عرض بحث يرجع الى تمييز القيمة الفنية لكتاب نهج البلاغة وتمحيص ما فيه من النصوص التي تفضل أنها صحيحة النسبة للامام علي والنصوص التي تخول كغيرها من الباحثين العرب والمستعربين القدماء والمحدثين الى انها ليست صحيحة النسبة الى الامام علي».

وقد تفضلت الاستاذة وسلمتنا مشكورة نص المحاضرة لنشره على صفحات «الفكر».

كم كان سروري عندما دعاني حضرة صاحب السعادة سفيرنا المفوض الى القاء محاضرة بين حضراتكم، تلك هي فرصة سنحت لزيارة بلدكم الذي يهواه نفسي وان اعتلاني الخجل واحاطني الوجل من الخطابة بلغة تنطقونها بكيفية تتعسر على امثالي غير ان لطافتكم التي احاطتني قد ازالت عني كل خجل ووجل، فاشكر كم من اعماق نفسي على حفاوتكم ومجاملتكم. وها انا ذي احدثكم عن نهج البلاغة، احدثكم بكل بساطة حذرا من ان يطبق علي قول الشاعر: (كالهر يحكي انتفاخا سورة الاسد).

فقبل ان استهل الموضوع التمس من حضراتكم الاصغاء الى ذكر الاسباب التي دعتني الى الاهتمام بالبحث عن كتاب قد لاتستساغ قراءته.

ولا ندري أكان ذلك من صعوبة ادراكه، او من كثرة المواعظ الموجودة  فيه.

وكما تعلمون ان الناس قد لا تحب ان توعظ او تذكرالاخرة وما ينتظر المذنبين فيها من سوء الوعيد ، كنت اعلم ان الشيعة اعتبرت (كتاب نهج البلاغة) كتالي القرآن الكريم والحديث النبوي وكما كنت اعلم ان اهل السنة يعظمونه وخصوصا بعد ان اهتم الامام الشيخ محمد عبده ببعثه من مرقده وها قد اصبح الشبان في المدارس يحفظون منه نبذا.

ومن جهة اخرى، كنت اجد هذا الكتاب مهملا في مؤلفات المستشرقين وبحوثهم باعتباره مزّورا ثم قرأت ما كتبه الاستاذ عبد الجليل القائل: ليس هناك اسباب تحمل على رفض كل ما انطوى عليه الكتاب رفضا قاطعا , وان بحثا دقيقا منصفا قد يؤدي الى تمييز المزور والاكتشاف الحقيقي فاثرت عليَّ هذه الكلمة واخذت تطارح خلدي.

وبينما كنت مشغولة بالتنقيب عن الحوادث الواقعة في عهد خلافة ابي الحسن علي بن ابي طالب اذ عثرت على صحف شتى من الكتاب فلاحظت انطباقها على نصوص المؤرخين القدماء.

فقلت لنفسي ان وثقنا بهؤلاء المؤرخين وقبلنا ما ذكروه لنا فلم لا نعتبر هذه الصحف من الحقيقي ايضا؟

وتساءلت في نفسي: لم لا أحاول دراسة ما في الكتاب؟ فلو ثبتت صحة جزء منه على الاقل لكان ذلك نجاحا في العثور على شاهد كبير في النثر العربي يعد الثاني بعد القرآن الكريم.

فشرعت في دراسة الكتاب مباشرة واذ ذاك علمت ان مشكلة صحته قد شغلت اذهان علماء المسلمين من قبل وان الجدال والنزاع كان قد قسمهم الى ثلائة فرق.

فكان فريق يدافع بحماسة عن صحة نسبة الكتاب الى الامام علي ولا يجيزون محاولة الجدال في امر صحته وفريق لا يعترف الا بصحة جزء منه  وفريق بت في عدم صحة الكتاب باسره ويعتبره مختلقا.

ثم اطلعت على بحث اجراه باللغة الفرنسية احد علماء المسلمين حديثا. غير اني لا بد ان اصرح بعدم قبولي لاسلوبه الذي يختلف عن اسلوبنا معشر المستشرقين، وحتى لو وجدنا فيه ملاحظات تقتبس لاهميتها ودقتها.

ثم وضعت الكتاب امامي وقمت بترجمته. لان عملية الترجمة هي حيلة تساعد الباحث على فهم فكرة المؤلف الاجنبي وخصوصا ان كان النص معقدا فانها تجبر على التعمق.

غير اني قد اخطات في بادىء الامر: فلقد اعتاد كل مصنف ان يستهل موضوعه بمقدمة كما اعتاد كل قارىء اهمالها وعدم الالتفات اليها. وكنت من بين هؤلاء الذين اهملوا مقدمة كتاب نهج البلاغة في بادىء الامر ولنا الآن ان نسلك سواء السبيل معا ونحلل هذه المقدمة.

ولكن قبل ان نبدأ استاذن حضراتكم في فتح قوس: لقد اخبرنا ابن خلكان عن اختلاف الآراء حول من جمع كلام الامام هل كان الشريف الرضي ام الشريف المرتضى؛ غير ان الشك في الجامع لا مبرر له فلقد كان الجامع بلا شك هوالشريف الرضي وليس اخاه الشريف المرتضى. وسوف اعرض هذا وابسطه في مقالة سانشرها عما قريب ان شاء الله تعالى، ولذا سوف لا اقصد من ذكر الجامع اثناء حديثي سوى الرضي.

فلنقفل القوس ولنعد الى مقدمة الكتاب . فالشريف الرضي – وهوالشاعر المشهور، الاديب المأثور عاش في النصف الثاني من القرن الرابع للهجرة – ذكر في سابقة الذكر انه قد ابتدا في عنفوان شبابه في تاليف كتاب في خصائص الائمة يشتمل على محاسن اخبارهم وجواهر كلامهم غير انه ما اتم من هذه الخصائص سوى ما يخص امير المؤمنين علي بن ابي طالب فجاء في اخرها فصل يتضمن محاسن ما نقل عنه من الكلام القصير دون الخطب الطويلة والكتب المبسوطة فاستحسن جماعة من اصدقائه ما اشتمل عليه هذا الفصل المذكور معجين ببدائعه متعجبين من نواصعه فسالوه ان يؤلف كتابا يحتوي على المختار من كلام امير المؤمنين في جميع فنونه ومتشعبات غصونه من خطب ومواعظ وآداب علما أن ذلك يتضمن من عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة وجواهر العربية وثواقب الكلم الدينية والدنياوية ما لا يوجد مجتمعا في كلام ولا مجموع الاطراف في كتاب الخ.

فاجاب الرضي مسالة هؤلاء معتمدا  تبيين عظيم قدر امير المؤمنين في هذه الفضيلة فلنستخرج الآن زبدة ما ذكر...

ما كان مراد الرضي من تاليف كتابه هذا؟

(اولا) كان غرضه ان يجمع نبذا . وما اهتم بجمع كل ما نقل عن ابن ابي طالب فاننا نجد خطبا ورسائل منسوبة اليه في بطون كتب اخرى فاذن قد اخطأ من قال ان كتاب نهج البلاغة يضم كل ما نقل عنه .

(ثانيا) لم يكن غرض الشريف الرضي الا  تاليف مجموعة للفصاحة العلوية ويؤيد هذا عنوان الكتاب نفسه (نهج البلاغة) كما تشير الى ذلك بعض العبارات التي تلي ما لخصناه من المقدمة يذكر فيها الجامع انه قد اجمع على اختيار محاسن الخطب فمحاسن الكتب ثم محاسن الحكم والاداب وان الغرض من هذه العملية هو ان  يورد النكت واللمع لا التتالي والنسق.

وبهذه الكيفية قد خطط الرضي حدود عمله، اذ ليس بمجموعة نصوص الامام تتخذها الشيعة اساسا لمبادئهم المذهبية ومطامعهم السياسية، كلا بل هو كتاب ادبي محض.

ولو قمنا فيما بعد بمطالعة صحائف الكتاب لوجدنا في طيه من الادلة ما يزيد وضوحا في ان الجامع قد اقتطف ما طاب له سواء كان ذلك من الطويل او القصير او الاقصر بحيث لا يكون خارجا عن حدود عمله وحيز غرضه فقد نرى كل قطعة من هذه المقتطفات متوجة باحد هذه العناوين وهي «من خطبة له عليه السلام» او«من كلام له عليه السلام» الخ كما نراها متمنطقة الوسط  بقول الجامع.. «ومنها» او«ومنه» وذلك بعد سطور معدودات من القطعة نفسها..

واخيرا قد لاحظ ابن ابي الحديد الشارح المشهور قطعا قدمت كقطع ذات عنصر واحد وهي في الحقيقة مركبة من عنصرين او اكثر ثم قال ان الجامع قد ذهب الى ذكر البليغ من كلام امير المؤمنين ولا غير.

فكانت كلمة الشارح للجامع كتزكية.

إن كان كشف النقاب عن كل هذا امرا ضرورياً؟

نعم كان ضروريا لانه بمساعدة ما ذكرته قد نستطيع معرفة سبب غرابة هذا الكتاب وغموض بعض مواضيعه.

ان العصر الذي عاش فيه الرضي  لهو القرن الرابع للهجرة ومما عرف عن ادبائه انهم كانوا يتسابقون الى النسق ودقة الصناعة والزخرفة اكثر من التفاتهم الى اشباع الموضوع. ذلك القرن شاهد موكب النثر المزخرف اثناء سيره في طريق الانتصار.

فبهذا قد اتضح لنا السبب الذي حمل مؤلفنا على جمع وثائق لغوية عتيقة غنية بزخارف البلاغة وعجائب الفصاحة ان ذلك لهو المبدا الذي تحكم في كتاب نهج البلاغة وسيطر عليه، هو العثور على رشيق الاسلوب وجميل الصيغة وغريب المفردات ونادر الجمل وبديع المجاز.

سبق ان نوهت بغرابة الكتاب وربما ظن بعض حضراتكم اني لم انصف ، فما هي علامات تلك الغرابة ؟

ان عدم وجود ترتيب وتعقيب اول ما، يلاحظ اللهم الا ما كان من فصل الجامع للخطب عن غيرها كالرسائل والحكم، ففي هذا انه لرتب وعقب. وما سوى ذلك فكان ممزوجا؛ فقد مزج طويل انبذ بقصيرها واقصرها كما مزجت السياسة بالوعظ والوصف. كذا لم يلتفت الجامع الى سابقية الحوادث. فمخاصمة امير المؤمنين لاعدائه قد سبقت مثلا رثاءه لفاطمة الزهراء حين دفنها وهلم جرا

وقد ذكر في آخر الكتاب ان الرضي انتهى من جمعه سنة اربعمائة للهجرة  ثم توفاه الله سنة ست وار بعمائة واشتغل خلال هذه السنوات الستة الاخيرة بما قد وكل اليه من المناصب فتساءلت عما اذا كان الكتاب قد أُتم عند مماته ام لا.

فلننقل الان الى بحث الكتاب من الباطن بعد ان فحصناه من الظاهر .

ذكرت ان ابن خلكان قد شك فيمن جمع الكتاب. غير اني لم اذكر انه أضاف الى ذلك الشك مخبرا عن اتهام علماء وقتئذ لصحته (صحة نسبته الى امير المؤمنين) «فقد قيل انما الذي جمعه ونسبه اليه هو الذى وضعه والله اعلم» .

فتبين ان اعظم الشكوك هو الشك في صحة نسبته وخاصة من اهل السنة قد وقع .

واما الشيعة فقد اجمعوا على صحته بتمامه او اعترفوا عن غير رضى بوجود المدسوس فيه مما لاصلة له بعليّ وقد تسرب ذلك الى نهج البلاغة بقدر الى الحديث لشريف .

فلنفتح الكتاب ونستهل قراءته: الحمد لله الذي يبلغ مدحتَه القائلون . ولا يحْص نَعماءه العادون . ولا يؤدي حقه المجتهدون. الذي يدركه بعْد الهمْم. ولا يناله غَوْص الفطن. الذي ليس لصفته حد محدود . ولا نعت موجود. ولا وقت معدود ولا اجل ممدود. الخ...

رحماك ربي قد بدأ الشك يتسرب الينا ايضا ويسري في قلوبنا. فما اوقع هذا السجع وما اضبطه.

فلنواصل قراءتنا : اول دينه معرفته. وكمال معرفته التصديق به وكمال التصديق به توحيده. وكمال توحيده الاخلاص له. وكمال الخلاص له نفي الصفات عنه. لشهادة كل صفة انها غير الصفة. فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه. ومن قرنه فقد ثنّاه. ومن ثناه فقد جزّأه . الخ...

أهذه القطعة شهدت عهد عليّ؟ كلا، ان هذه القطعة الكلامية في توحيد الله لم تُخلق في عهده مطلقا وما ولدت الا بعده غير ان ما قرأناه هو اول ما في الكتاب فقد نعتبره كمقدمة اضيفت الى الاصل فيما بعد. فلنترك هذا ونقرأ قطعة اخرى:

الحمد لله الذي لم يسبق له حال حالا. فيكون اولا قبل ان يكون آخرا، ويكون ظاهرا قبل ان يكون باطنا. الخ...

فما اكثر الافكار الفيلسوفية في هذا القطعة ولنقرأ نبذة اخرى:

وبسطتم يدي وكففتُها. ومددتموها فقبضتُها . وتداككتم علي تداكَ الابل الهيم على حياضها يوم ورودها حتى انقطعت النعل. وسقط الرداء. ووُطىء الضعيف وبلغ من سرور الناس بيعتهم اياي ان ابتهج بها الصغير . وهدج اليها الكبير . وتحامل نحوها العليل. وحسرت اليها الكعاب..

فاين السجع هنا؟ اللهم الا ما كان عفوا عن غير قصد مما لا يعرف النسق والمبالغة بحال وما وجد في هذه القطعة سوى وصف بسيط ولم لا نصرح بقدم مثل هذه القطعة؟ فربما صحت ايضا نسبتها الى الامام علي . لم لا؟

قد تشيع بعض الباحثين ومنهم نفس الشارح ابن ابي الحديد لوحدة الاسلوب (اسلوب الكتاب من اوله الى آخره) اما رايي فهوعدم وحدة الاسلوب.

فاصغوا الى هذه القطعة التالية التي يقرأها الدكتور روستكو نيابة عني: كبس الارض على موْر امواج مستفحلة ، ولجج بحار زاخرة تلتطم اواذيّ امواجها وتصطفق متقادفات اثباجها وترعو زبدا كالفحول عند هياجها ، فخضع جماح الماء المتلاطم لثقل حملها ، وسكن هيج ارتمائه اذ وطئته بكلكلها ، وذل مستخذيا اذ تمعكت عليه بكواهلها فاصبح بعد اصطخاب امواجه ساجيا مقهورا، وفي حَكَمة الذُل منقادا اسيرا وسكنت الارض مدحوّة في لجة تياره ، ورَدّت من نخوة بأوه واعتلائه وشموخ انفه وسموغلوائه وكعمته على كُظُة جريته فهمد بعد نزقاته ولبد بعد زيفان وثباته ولما سكن هياج الماء من تحت اكنافها وحَمْل شواهق الجبال الشُمّخ على اكتافها فجّر ينابيع العيون من عرانين انوفها ، وفرّقها في سهوب بيدها واخاديدها وعَدَلَ حركاتها بالراسيات من جلاميدها وذوات الشناخيب الشمّ من صياخيدها  وسكنت من الميدان لرسوب الجبال في قطع اديمها وتغلغلها متسربة في حبوبات خياشيمها وركوبها اعناق سهول الارضين وجرائيمها وفسح بين الجو بينها واعد الهواء متنسما لساكنها وأخرج اليها اهلها على تمام مرافقها ثم لم يدع جُرُز الارض التي تقصرمياه العيون عن روابيها ولا تجد جداول الانهار ذريعةً الى بلوغها حتى أنشأ لها ناشئة سحاب تُحْيي مواتها وتستخرج نباتها ، الفّ غمامها بعد افتراق لمعه وتبايُن قزعه حتى اذا تمخضت لجة المزن فيه والتمع برقه في كففه، ولم ينم وميضه في كنهور ربابه ومتراكم سحابه، ارسله سحَّا متداركا قد اسفّ هْيْدبهُ تمريه الجنوب  درر اهاضيبه ودقع شآبيبه الخ...

واظنكم توافقوني ومَن حكم على حداثة امثال هذه القطعة لاحكام صناعتها ودقتها.

يقول ناكرو النسبة ان الطريقة العددية في شرح المسائل كتقسيم الفضائل والرذائل الى عدة عناصر لم يلتفت اليها ادباء الصدر الاول وفي كتاب نهج البلاغة امثلة عديدة لهذه الطريقة واذكر منها قوله:

الايمان على اربعة دعائم على الصبر واليقين والعدل والجهاد والصبر منها على اربع شعب الخ...

ثم يقول ناكروالنسبة ان في الكتاب ما يشمّ منه ريح ادعاء صاحبه علم الغيب وان اعتقدت الشيعة في اهلية الامام لعلم الغيب, فاهل السنة افردوا الله بذلك بدليل ما ورد في القرآن (لا يعلم الغيب الا الله) فلقد قرأت هذه التنبؤات فوجدتها في غاية من الغموض فتساءلت عما اذا كانت تنبؤات حقا ام لا.

وبما قد سبق من الامثلة والكلام قدّمُت اليكم الحجج الاساسية التي كانت في متناول المتنازعين.

وعند وصولنا الى هذه النقطة من كلمتي لعل احدكم يقول في نفسه:

لقد جاءت هذه المحاضرة باشياء قد عرفناها من قبل ، فما تقصد؟

فجوابي على حضرة المتسائل هذا اني قد حضرت لا طرح شيئا جديدا على بساط البحث وذلك لاعتقادي ان العميل الذي قمت به لم يقم به احد سواي فقد استخرجت من الكتاب كل ما يحتوي عليه من المواضيع السياسية المتعلقة بالحوادث التاريخية ثم ترجمتها فادرجتها  جسب التسلسل التاريخي ثم درستها. فهذا عمل قد تبينت لي اهميته وان لم اتممه حتى الآن. لانه مكنني من ايجاد بعض الملاحظات مثلا:

اول شيء لاحظته ان الذي يرجع الى اقدم عهد من حياة ابن ابي طالب ما هو الا القليل النادر وهذا ان لم يكن بمقدار حجة تامة على صحة النسبة فقد يكون شبه حجة على الاقل. لانه لو اراد احد تزوير هذه الوثائق لقام بتزوير كل ما انطوى عليه عهد الامام. وانما كثرة ما ورد من قطع تتعلق بما حصل بعد ان بويع له بالخلافة تدل على ان اهتمام الناس بحفظ كلامه نشأ ونما حسب ارتفاع منزلته.

ولي ان اقول ايضا: ان ترتيب المقتطفات حسب تسلسل التاريخ قد جعلني أسقط بعضا من تعاليل مَن ذهب على عدم الصحة القائلين : وكيف يمكن وقوع الطعن في بعض صحابة رسول الله بما لا يليق من مثل الامام عليّ؟

وقالوا: لو ان عليّا لم يستحسن كيفية بيعة من سبقوه بالخلافة – كما ورد في الخطبة المسماة بالشقشقية – فكيف له ان يمدح عمر بن الخطاب ويتغالى في رفعة شانه كما ورد في خطبة اخرى، فاذن تضاد هذه المقتطفات، مما يحرضنا على الشك في صحتها ، ولكن، ايها السادة، الزمان وتطوراته هي حقيقة واقعية ولا بد للباحث من ان يقدر تغير الظروف فيجب فحص مقتطفات نهج البلاغة بعد ان وضعت مسلسلة حسب تطورات الحوادث التاريخية اعني بعبارة اخرى ان عليّا بعد ان بويع له بالخلافة وبعد ان اضطر الى مواجهة معارضيه بحد السيف تمكن من التصريح بما كان كامنا في نفسه او بما لم يتكون في باله قبل.

ثم من المعروف النزاع السياسي قد يدفع الى العنف لفظا وخّطا وقد اخبرنا المؤرخون من العرب عن مقدار الاهواء التي انطلقت من عقالها في عهدي خلافة عثمان وعليّ وقد وصلنا ما حفظوه لنا من الوثائق وان اختبرنا تلك النبذ على ضياء التاريخ فيتلاشى التضاد في الواقع وعندما عاودت قراءة هذه النبذ درسا تبين لي جليا ما قد احسست به اثناء سرادتي الاولى وهو رجوعها الى عهد قديم جدا.

فان وجدنا بعض جمل تثير الشك في قدمها فمن المحتمل ان تكون من التحشية وهذا لا يجيزنا على رد القطعة باسرها باعتبارها مستحدثة .

وقد صرح جرجي زيدان بان المقتطفات السياسية في كتاب نهج البلاغة ترجع الى علي غير انه لم يبرز ادلة على صحة ما تبين له. ثم من ذوات الاهمية ان ما يتوسم بالطابع الشيعي من النصوص في نهج البلاغة وهذا القليل النادر – لهو من المبهم الغامض، ولعل سبب هذا هو اهتمام الجامع بعرض الفصيح كما ذكرنا، غير اني اعتقد انه من داع آخر، وهو قدم المقتفطات نفسها.

قد لاحظ الباحث الحديث الذي اومأت اليه بان الكتاب يضم قطعا تنطوي على اراء تتماشى مع اراء الامامية والاسماعيلية واهل السنة وغيرهم ثم قال «ان لهذه الاراء اصلا في مذهب الامامية او في مذهب الاسماعيلية او في مذهب «السنة» وما الذي يستنتج من هذا القول لا بد ان يستنتج منه ان القطع التي تضم لم تتكون في عهد علي وما انشقت وتفرعت الا فيما بعد فكانما كانت لبا ثم نمت وتطورت وتميز بعضها عن بعض وضبطت. لذا نجد ان الاراء الموجودة في نهج البلاغة لا تسن اتجاها معينا لانها سابقة لتكوين المذاهب نفسها.

والاسلوب الذي يجب ان يتخذه نقاد التاريخ هو اعتبار الآراء وقت حدوثها وعدم تطبيق ما حدث فيما تاخر على ما وقع فيما تقدم.

ومما ينبغي علينا ان نذكره هو ان الرضي كان شيعيا يعيش في عهد بني بويه وهم ايضا من الشيعة وكان  بايديهم مقاليد الامور باستئثارهم على الخلفاء انفسهم ولذا كان في وسع الرضي ادراج ما يتماشى مع قومه مذهبا ومطمعا ولكنه لم يفعل ولماذا لم يفعل.؟

لانه رجل نزيه وما وجده منقولا عن الامام من تصريحات سياسية انما كانت بصيغة التخصيص. ولامانته ونزاهته تعفف عن تبديله وادراج ما يرضي قومه فيه.

ويمكنكم ان تسألوني عن الثقة التي بيني وبين الشريف الرضي وعن سببها وهي تخالف وج هة شك ابن خلكان وعادة بعض الرواة من العرب فيما مضى وهي تاليفهم للشعر وتنميته الى بعض شعراء الجاهلية مثلا. كما انهم يختلقون الاحاديث حسب شهواتهم ثم ينسبونها الى رسول الله. نعم لقد كان كذلك حقا غير انه كان دائما لغرض ما .

وما هو غرض الشريف الرضي؟

ساقص عليكم بعضا من خصائصه التي بها يمكنكم الحكم لشخصيته :

كان الرضي ينحدر من سلالة علوية كريمة تنتمي الى الامام السابع الا وهو(موسى الكاظم)عليه السلام  وهذا من جهة ابيه واما نسبه من جهة امه فكان علويا ايضا وكان احد اجداده ملكا في القوقاز.

فلقد استلم الرضي ما كان بيد والده من المناصب رغم حداثة سنه وصغره عن اخيه المرتضى. فكان نقيب الطالبيين وناظر المظالم وامير الحج وكرمه بهاء الدولة البويهي ورفع منزلته فاتحفه بانبل الالقاب كما صاحبه واخلص له الخليفتان الطائع والقادر.

وحاصل هذا ان الرضي قد وصل الى اعلى القمم فتمكن من نظم هذه الابيات:

عطفا اميرالمؤمنين فاننا ***** في دوحة العلياء لا نتفرق

ما بيننا يوم الفخار تفاوت***** ابدا كلانا في العلاء معرق

الا الخلافة شرفتك فانني ***** انا عاطل منها وانت مطوق

فرد عليها الخليفة  بقوله : على رغم انف الشريف وكان الرضي ثريا وتحمله لنفقات دار العلوم التي اسست في بغداد دليل على  ثروته. وكان مشهورا لنبوغه في الشعر. الم يذكر معاصره الثعالبي انه (الرضي) اشعر الطالبيين  وربما اشعر قريش؟ وكان معززا  بكثرة الاتباع والاصحاب. ألا يدل على ذلك بقاؤه في المناصب رغم اضطراب الآونة؟

غير ان الذي اريد احياءه هوعلو همته وحرصه على استقلال ذمته وارائه فانه لم يقبل صلات من احد حتى من بني بويه. ولما خلع بهاء الدولة الخليفة الطائع عنفا تجاسر الرضي على اظهار حزنه وذم السلطان وما اجسره عندما رثى الخليفة بعد وفاته بالحبس اذ كان الظالم هو بهاء الدولة حاميه وكان حريصا على تنفيذ ما كان عليه من الواجبات وكان يوصف بالافراط في عقاب المذنب من اهله وله حكايات في ذلك منها ان امراة علوية شكت اليه زوجها وكان مقامرا فامر الرضي بضربه مئة جلدة. فصاحت المراة  يتم اولادي فاجابها بقوله: اظننت ان افعل به كما يفعل المؤدب مع اطفاله؟

اذن كان الرضي قادرا غنيا اعتلى قمة الشهرة  لنبوغه الشعري، رقيق الحس كريم الخلق. لا يشف عنه اي غرض سياسي مما قام بجمعه في كتابه بل بالعكس فقد نجد فيه ما يخالف اراء الروافض الذين ينتمي اليهم الرضي بعينه واضف الى هذا ان كثيرا من النصوص التي اقتطفها كانت معروفة في بيئته وحينه. فهل كان في ارادته واستطاعته ان يبدل شيئا منها؟ كلا ، ثم هناك تغيرات كثيرة في النصوص التقطها الرضي ودونها. ولاي داع كانت هذه المشقة ؟

اني لأرى سر مسألة نهج البلاغة كامنا في جملة قصيرة تُقرأ في مقدمة الرضي حيث يتكلم عن كتابه الاول في خصائص الائمة فقد اخبرنا انه جمع محاسن ما نقل عنه عليه السلام من الكلام القصير.

اذن جمع الرضي ولم ينتقد ولو اخذ ينتقد ما تواتر النقل فيه فعلى ايّ يقف؟ اذ تيسرت التحشية وخاصة في السجع. فان الجملة تدعو اختها والاسم يدعو ما يرادفه والنعت  يبقى على خشونته ان انفرد فيسعى الى تهذيب نفسه بما يوافق طبعه فقد اندفع الرواة الى تنميق النصوص الصحيحة او القديمة بتنوعات ابتدعوها واستعذبها الجمهور ومن اعسر الامورالقيام بتمييز صحيح النسبة او العتيق مما زيد عليه.

وان كنت اعتقد ان في استطاعتي القيام بهذه العملية فيما يخص الجزء السياسي وذلك بمساعدة الرجوع الى ما نعرفه من الحوادث التاريخية فالباقي من الكتاب اسلّمه الى من هو اقدر مني على تلك المهمة مقتصرة على الاشارة الى مبدا واحد وهو كل رواية هي صحيحة بصفة عامة حتى يتبين انها باطلة. (لا تبتسموا من بساطة هذا المبدأ فانه من المُودة ان يشك في بادىء الامر ثم يفتش عن الحجج لتثبيت الصحة).

وبتطبيق المبدأ المذكور ارى ان الباحث يجْبر على حذف صحف كثيرة من كتاب نهج البلاغة رغم ملوسته وخصوصا المطول منه. ثم بعد الحذف يبتدىء ذلك العمل الدقيق الذي لا تمامه لا بد من معرفة عميقة بالنثر العربي وتطوره دراسة وذوقاً وقد سبق انه مما خرج من وسعي وفي اثناء العمل لن ينْسى شيء مهم جدا وهو ان شهرة فصاحة وبلاغة امير المؤمنين علي بن ابي طالب لا يُثبتها تواتر الاخبار فحسب بل كانت تُركّز على نصوص دارت بين الادباء وكفى بنا شهيدا ما حكى الجهشياري عن عبد الحميد الكاتب الشهير في اواخر عهد بني أمية احد واضعي فن الرسائل العربي وما يحكى عنه هو انه ابتدع اسلوبه بما درسه من بليغ ابن ابي طالب كما ان ابن نباتة ذلك الخطيب الذي شاعت شهرته لنبوغه في الخطابة قد اكتفى خطب عليّ واخذ منها  , اذن لم تكن شهرة فصاحة علي توسيعا للاعجاب به لكونه ابن عم رسول الله وسابقيه في الاسلام وجهاده وامامته للمسلمين بل كانت اعجابا نشأ من وثائق تدرس وتقتدى.

فحري ان يجتهد في اكتشاف ما في نهج البلاغة من النصوص القديمة. هذه النصوص التي في استطاعتها ان تزود الاداب العربية باثمن الوثائق واعظم البراهين – بجانب القرآن العظيم – على مقدرتها وثروتها ونضوجها السابق لعهد اختلاط العرب بغيرهم من الامم .

وبالختام اضيف الى ما قد قلت انه على الباحث ألا يقيس ما يجده في كتاب نهج البلاغة من الافكار والآراء المتداولة في المدينة لما كانت المركز السياسي لسكان جزيرة العرب فقط بل عليه ان يقيسها على بيئة المدينة التي ضمت عليا في نضوجه اعني في الوقت الذي اصبحت فيه المدينة عاصمة دولة كبرى؛ فلقد تحولت بيئتها وتغيرت عما كانت عليه واتسعت الافكار بفضل التحنيك الديني والسياسي والعسكري فلا عجب اذن من وجود اراء جديدة وافكار فريدة لان ذلك وليد تلك الزلازل وذلك الضجيج التي عرفها اهل المدينة مدة زادت على ربع قرن تلك هي الفترة التي بين البعثة ووفاة ابن ابي طالب.

مقتبس من مجلة الفكر التونسية العدد/ ٢ السنة ١٩٥٨ .

****************************