وقال (عليه السلام): الغِنَى والْفَقْرُ بَعْدَ الْعَرْضِ عَلَى اللهِ.                
وقال (عليه السلام): إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .                
وقال (عليه السلام): مَا أَخَذَ اللهُ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُعَلِّمُوا.                
وقال (عليه السلام): رُبَّ مَفْتُون بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِ.                
وقال (عليه السلام): قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِير مَمْلُول مِنْهُ .                
وقال (عليه السلام): خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ، وَإِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ .                
وقال (عليه السلام): الْغِيبَةُ جُهْدُ الْعَاجزِ.                

Search form

إرسال الی صدیق
النحو من وحي الإمام عليه السلام والبلاغة من نهج البلاغة

إنّ أساس الخطاب في فعالية الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام ـ من الناحية اللغوية ـ هوأساس نحوي ، ذلك لأن علياً عليه السّلام هوواضع النحوالعربي ، في منطلقه الأول .
قال لأبي الأسود الدؤلي ، حين أعرب عن ألمه من شيوع اللحن على اللسان العربي: اكتُبْ ما أُملي عليك . ثمّ أملى عليه أصول النحوالعربي ، ومنها أنّ كلام العرب يتركب من اسم وفعل وحرف ، فالاسم ما أنبأ عن معنىً ليس باسم ولا فعل . ثمّ أملى عليه أن الأشياء ثلاثة: ظاهر ومضمر وشيء ليس بظاهر ولا مضمر .
وفي خاتمة التوجيهات قال الإمام عليّ: يا أبا الاسود، انحُ هذا النحو. وهكذا أصبح عند العرب علم النحو.
من هنا ، كان الأساس النحوي للنص في خطب الإمام عليّ بن أبي طالب ، يُؤمّن القاعدة المادية لشبكة العلاقات الداخلية للنص ، التي يرتكز عليها البناء البلاغي للنص .
ولا شك في أن تكامل الأساس النحوي والبناء البلاغي قائم ـ أصلاً ـ على المحور الفكري للنص ، وهومحور المعاني والدلالات .
وإذ يستكمل الخطاب ( العَلَوي ) شروطه المادية ـ اللغوية ، وجماع علاقاته الداخلية ، فإنه يستكمل الوحدة القائمة بين نصّية النص ـ بمعناها الأدبي ـ والفضاء الروحي للنص .
أي إنّ النص يتوفر له البعدان الرمزيان للأرض والسماء في وحدتهما التامة .
أما المقوّم المادي الثاني للنص ، فهوالمقوّم الرياضي الذي يُستدلُّ عليه استدلالاً ، لأنه لا يعبّر على نحومباشر ، إلاّ بالنسبة إلى المتلقّي النابه .
إنّ الذهنية الرياضية النشطة ، والمبادِهة لعليّ سلام الله عليه ، تنعكس تأثيراتها على تعبيراته الأدبية ، بصورة الإتقان المحكم لعرض الأفكار ، وكذلك في تقديمه المتقن للبناء اللغوي والبلاغي للخطاب .
فالاتّساق الرياضي وارد في صلابة أفكاره ، وفي عظمة منطقه ، وبلاغته .
ومردُّ ذلك ثابت في معرفته العلمية بالحساب؛ تلك المعرفة التي كانت تكشف عنها سرعة البديهة في الجواب عن معضلات معقدة في المواريث والأقضية .
وذاعت الفريضة المنبرية التي أفتى بها وهوعلى منبر الكوفة ، حينما سُئل عن ميت ترك زوجة وأبوين وابنتين ، فأجاب من فَوره: صار ثُمنها تُسعاً .
وشكت ـ مرّةً ـ امرأة أنّ أخاها مات عن ستمائة دينار ولم يُقسم لها من ميراثه غير دينار واحد ، فقال لها بسرعة: لعله ترك زوجة وابنتين وأمّاً واثني عشر أخاً وأنتِ ؟ وكان الأمر كذلك .
فمعرفته بعلم الحساب كانت أكثر من معرفة فقيه يتصرف في معضلات المواريث ، لأنه كان سريع الفطنة إلى طُرقه التي كانت تعد في ذلك الزمن ألعازاً تكدّ في حلها العقول .
وإنّ الدلالة المشتركة للمفردات وللتعبيرات ، والتي يشترك في قولها وفي فهمها جمهرة الناس ، مثقفين وغير مثقفين ، هي توكيد للتفاهم بين أفراد المجتمع وللتعبير عن حاجاتهم الأساسية .
وقد أشبعت الكلمات والتعبيرات المشتركة تداولاً منذ بدء استعمالها ، فأصبح الوصول إلى المعنى من خلالها ممارسة اعتيادية ، ولكنْ أساسية .
والفارق بين الكلام العادي ، والأسلوب الأدبي ، ليس فارقاً في الاستعمالات اللغوية فقط ، بل هوفارق في دقة الاحتياز على المعاني ، ومن ثمَّ التعبير عنها .
فأُنيطت بالقدرة التعبيرية مسؤولية الإمساك بالمعاني والكشف عن الدلالات ، وإحراز أكبر نجاح في مخاطبة الآخرين والوصول إلى أذهانهم ونفوسهم .
ويتفاوت الكتّاب في مستويات الإبداع ،وتبعاً لذلك تتفاوت النصوص في ما تملكه من طاقة تعبيرية ،ومن جمالية أسلوبية .
قد انتقد ابن قتيبة في مقدمة( أدب الكاتب ) أولئك الذين لم يعطوا الأسلوب حقّه ، فقال :
« رأيت كثيراً من كتّاب أهل زماننا كسائر أهله قد استطابوا الدعة ، واستوطأوا مراكب العجز ، وأعفوا أنفسهم من كدّ النظر ، وقلوبهم من تعب الفكر ، حين نالوا الدَّرَك بغير سبب ، وبلغوا البُغية بغير آلة» .
وابن قتيبة مُحقّ ، لأننا لا نريد من الأديب أن ينقل إلينا المعاني وحدها ، فإن الغاية من الأدب ليست هي المعرفة وتقرير الحقائق ، بل نريد نقل المعاني ممزوجة بشعور الأديب ، باعثة لشعورنا ، وهذا لا يتأتّى إلاّ إذا كان التعبير فنيّاً .
ويُلخص ( الحوفي ) عدة صفات في تعبير الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام هي :
١ . تخيّر المفردات : بحيث تنسجم من الناحية الصوتية ، فتجيء خفيفة على اللسان ، لذيذة الوقع في الآذان ، موافقة لحركات النفس ، مطابقة للعاطفة التي أزجتها أوللفكرة التي أملتها .

كقوله في كتاب إلى عمّاله على الخراج: «إنكم خُزّان الرعية ، ووكلاء الأمة ، وسفراء الأئمّة» . وكقوله إلى معاوية: « لستَ بأمضى على الشك مني على اليقين» ،
وقوله : « كلما أطلَّ عليكم مَنسِر من مناسِر أهل الشام أغلق كل رجل منكم بابه ، وانجحر انجحار الضبّة في حجرها ، والضَّبُع في وجارها» .

وقوله : « دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجَرْجَرتم جَرجْرَة الجَمل الأَسَرِّ ، ثمّ خرج إليَّ منكم جنَيْد وتذاؤب ضعيف» . وقوله: «من أبطأ به عمله ، لم يُسرع به حسبه» .

وقوله : « إن تقوى الله دواءُ داء قلوبكم ، وبَصَرُ عمى أفئدتكم ، وشفاء مرض أجسادكم ، وصلاح فساد صدوركم ، وطهور دَنَس أنفسكم ، وجلاء غشاء أبصاركم ، وأمنُ فزع جأشكم ، وضياء سواد ظُلمتكم» .
٢ . قوّة التعبير: إذ أجمع علماء البيان العربي على أن الكلام إذا كان لفظه غثّاً ، ومعرضه رثّاً ، كان مردوداً ولواحتوى على أجلّ معنى وأنبله ، كما ذكر أبوهلال العسكري في ( الصناعتين ) .

وأجمعوا على أن الجزل القوي من الكلمات يستعمل في وصف الحروب ، وفي قوارع التهديد والتخويف ، وفي التنفيس عن الغضب والضيق وما شابه هذا .
وأما الرقيق منها ، فإنه يستعمل في وصف الأشواق ، وذكر أيّام الفراق ، وفي استجلاب المودّات ، واستدرار الاستعطاف وأشباه ذلك ( كما ورد في المثل السائر لابن الأثير الموصلي ) .
ومن السهل أن نجد كثيراً مما يتصف بالقوة والجزالة والفخامة في خطب الإمام عليّ وفي رسائله ، تعبيراً عن عواطفه وأفكاره التي تقتضي التعبير القوي الفخم الملائم لشدتها وقوتها وحرارتها.
ومن الأمثلة والنماذج قوله : « واللهِ لا أكون كالضَّبُع تنام على طول اللَّذم حتّى يصل إليها طالبها ، ويَخْتِلها راصدها ، ولكني أضرب بالمقبل على الحق المدبَر عنه ، وبالسامع المطيع العاصي المريب أبداً ، حتّى يأتي علَيّ يومي».
وقوله : « ألا وإني لم أرَ كالجنة نام طالبها ، ولا كالنار نام هاربُها . ألا وإنه من لم ينفعه الحق يضرّه الباطل ، ومن لم يستقم به الهدى يجُرْ به الضلال . ألا وإنكم قد أُمِرتُم بالظَّعن ، ودُللتم على الزاد ، وإن أخوف ما أخاف عليكم اتّباع الهوى وطول الأمل» .
وقال في خطبة يخوِّف فيها أهل النهروان: «فأنا نذير لكم أن تصبحوا صرعى بأثناء هذا النهر ، وبأهضام هذا الغائط ، على غير بيّنة من ربكم ، ولا سلطان مبين معكم ، قد طوَّحت بكم الدار ، واحتبلكم المقدار . وقد كنت نهيتكم عن هذه الحكومة ، فأبيتم علَيَّ إباءَ المخالفين المنابذين ، حتّى صرفتُ رأيي إلى هواكم ، وأنتم معاشر إخفاء الهام ، سفهاء الأحلام ، ولم آتِ ـ لا أباً لكم ـ بُجراً ، ولا أردتُ بكم ضُراً».
وقوله من خطبة له عند مسيره إلى البصرة: «إن الله سبحانه بعث محمداً صلّى الله عليه وآله ، وليس أحد من العربِ يقرأ كتاباً ، ولا يدَّعي نبوّة ، فساق الناس حتّى بوَّأهم محلَّتهم ، وبلَّغهم منجاتهم ، فاستقامت قناتهم ، واطمأنت صفاتهم . أما والله إن كنتُ لفي ساقتها حتّى تولّت بحذافيرها ما عجزتُ ولا جبنتُ ، وإن مسيري هذا لمثلها ، فلأنْقُبَنّ الباطل حتّى يخرج الحق من جنبه . ما لي ولقريش ؟! والله لقد قاتلتهم كافرين ، ولأقاتلنّهم مفتونين» .
٣ . سهولة التعبير: مثل قوله في كتاب إلى عبدالله بن عباس بعد مقتل محمّد بن أبي بكر: «فعند الله نحتسبه ولداً ناصحاً ، وعاملاً كادحاً ، وسيفاً قاطعاً ، وركناً دافعاً . وقد كنت حثثت الناس على لحاقه ، وأمرتهم بغيائه قبل الوَقْعه ، ودعوتهم سراً وجهراً ، وعوداً وبدءاً ، فمنهم الآتي كارهاً ، ومنهم المعتلّ كاذباً ، ومنهم القاعد خاذلاً» .
وقوله في رسالة إلى عمروبن العاص قبل التحكيم: «أما بعد ، فإن الدنيا مشغلة عن غيرها ، ولن يصيب صاحبُها منها شيئاً إلاّ فتحت له حِرصاً يَزيده فيها رغبة ، ولن يستغني صاحبها بما نال عمّا لم يبلُغْ ، ومن وراء ذلك فراقُ ما جمع . والسعيد من وُعِظ بغيره ، فلا تُحبط ـ أبا عبدالله ـ أجرك ، ولا تُجارِ معاوية في باطله ، والسلام» .
وقوله في خطبة له بعد أن بلغه مقتل محمّد بن أبي بكر: «اسمعوا قولي ، وأطيعوا أمري ، فوالله لئن أطعتموني لا تَغوون ، وإن عصيتموني لا ترشدون . خذوا للحرب أُهْبَتها ، وأعدّوا لها عُدَّتها ، فقد شبَّت نارها . . . إلاّ إنه ليس أولياء الشيطان من أهل الطمع والمكر والجفاء بأولى في الجدَّ في غيِّهم وضلالتهم من أهل البِرّ والزهادة والإخبات في حقهم وطاعة ربهم . إني والله لولقيتهم فرداً وهم مِلاءُ الأرض ما باليتُ ولا استوحشتُ ، وإني من ضلالتهم التي هم فيها والهدى الذي نحن عليه لَعلى ثقة وبيّنة ويقين وبصيرة . فانفروا خفافاً وثقالاً ، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون» .
٤ . قِصَر الفقرات: مثل قوله لما أغار النعمان بن بشير الأنصاري على عين التَّمر :
« مُنيتُ بمن لا يطيع إذا أمرت ، ولا يجيب إذا دعوت . لا أباً لكم! ما تنتظرون بنصركم ربكم ؟ أما دينٌ يجمعكم ، ولا حَمِيّة تُحمِشكم؟! أقوم فيكم مستصرخاً ، وأُناديكم مُتَغوّثاً ، فلا تسمعون لي قولاً ، ولا تطيعون لي أمراً ، حتّى تكشف الأمور عن عواقب المساءة ، فما يُدرَك بكم ثأر ، ولا يُبلَغ بكم مرام . دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم جرجرة الجمل الأسرّ ، وتثاقلتم تثاقل النضْوالأْبَر . . .» .
وقوله : « فتداكّوا علَيّ تداكَّ الإبل الهِيم يوم وِردها ، وقد أرسلها راعيها ، وخُلعت مثانيها ، حتّى ظننتُ أنهم قاتليَّ ، أوبعضهم قاتل بعض لديَّ . قد قلّبت هذا الأمر بطنَه وظهره ، حتّى منعني القوم ، فما وجدتني يسعني إلاّ قتالهم أوالجحود بما جاء به محمّد صلّى الله عليه وآله ، فكانت معالجة القتال أهون عليَّ من معالجة العقاب ، ومَوْتاتُ الدنيا أهونَ عليَّ من مَوْتات الآخرة» .
وقوله في كتاب إلى أمراء جيوشه: «ألا وإنّ لكم عندي ألاّ أحتجز دونكم سراً إلاّ في حرب ، ولا أطوي دونكم أمراً إلاّ في حُكم ، ولا أُؤخّر لكم حقاً عن محله ، ولا أقفُ به دون مقطعه ، وأن تكونوا عندي في الحق سواء . فإذا فعلتُ ذلك وَجَبَت لله عليكم النعمة ولي عليكم الطاعة ، وألا تنكصوا عن دعوة ، ولا تُفرّطوا في صلاح ، وأن تخوضوا الغمرات إلى الحق» .
٥ . كثرة الصيغ الإنشائية : وهي : « الأمر والنهي ، والاستفهام ، والترجي والتمني ، والنداء والقسم والتعجب» ، وهي: أقوى من الصِّيغ الخبرية تجديداً لنشاط السامعين ، وأشد تنبيهاً وأكثر إيقاظاً ، وأدعى إلى مطالبتهم بالمشاركة في القول وفي الحكم . وهي في الوقت نفسه أدق في تصوير مشاعر الخطيب وأفكاره ، لأن أفكاره ومشاعره المتنوعة في حاجة إلى أساليب متغايرة تفصح عنها .
ثمّ إن مغايرة الأساليب تستتبع مغايرة في نبرات الصوت وفي الوقفة والإشارة وطريقة الإلقاء ، وهذا كله عون على الوضوح من ناحية ، وعلى التأثير في السامعين من ناحية.

أمثلة ونماذج
أ ـ من الأمر
قوله : « فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حُثالة القَرَظِ» ، وقوله : « فاعتبروا بما أصاب الأممَ المستكبرين من قبلكم من بأس الله وصولاته ، ووقائعه ومثلاته . واتعظوا بمثاوي خدودهم ، ومصارع جنوبهم ، واستعيذوا بالله من لواقح الكِبْر ، كما تستعيذون من طوارق الدهر» . وقوله : « ليتأسَّ صغيركم بكبيركم ، وليرأف كبيركم بصغيركم» .
ب ـ ومن النهي
قوله : « فلا تجلعنَّ للشيطان فيك نصيباً ، ولا عن نفسك سبيلاً» .
وقوله : « ألا وإن الآخرة قد أقبلت ، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا» .
وقوله : « لاتقاتلوا الخوارج بعدي ، فليس من طلب الحقَّ فأخطأه ، كمن طلب الباطل فأدركه» .
وقوله : « لا تُرَخِّصوا لأنفسكم ، فتذهب بكم الرَّخص مذاهب الظلمة ، ولا تداهنوا فيهجم بكم الإدهان على المعية . . . ولا تَحاسدوا ، فإنّ الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النارُ الحطب ، ولا تَباغضوا ، فإنها الحالقة» .
وقوله : « فلا يغرنّكم ما أصبح فيه أهل الغرور ، فإنما هوظل ممدود ، إلى أجَل معدود » .
وقوله : « فإن نهضوا فانهضوا ، ولا تسبقوهم فتضلوا ، ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا» .
وقوله : « عباد الله ، لا تركنُوا إلى جهالتكم ، ولا تنقادوا إلى أهوائكم » .
وقوله: «لا يؤنِسنّك إلاّ الحقّ ، ولا يوحشنَّك إلاّ الباطل» .
وقوله : « فلا تنفروا من الحق نفارَ الصحيح من الأجرب» .
وقوله : « فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة ، ولا تتحفظوا مني بما يُتحفَّظ به عند أهل البادرة ، ولا تخالطوني بالمصانعة ، ولا تظنوا بي استثقالاً في حقَّ قيل لي . . . فلا تكفّوا عن مقالة بحق ، أومشورة بعدل» .
ج ـ ومن الاستفهام
قوله : « أبعد إيماني برسول الله صلّى الله عليه وآله ، وهجرتي معه ، وجهادي في سبيل الله ، أشهد على نفسي بالكفر؟ ! لقد ضللتُ إذاً وما أنا من المهتدين!» .
وقوله : « أصبحت والله لا أصدّق قولكم ، ولا أطمع في نصركم ، ولا أُوعد العدوبكم . ما بالكم ؟ ما دواؤكم ؟ ما طبّكم ؟!القوم رجال أمثالكم . أقولاً بغير علم ؟وغفلة من غير ورع ؟ وطمعاً في غير حق ؟!» .
وقوله : « أيها الناس ، إن الوفاء توأم الصدق ، ولا أعلم جُنّة أوقى منه . . ولقد أصبحنا في زمان اتخذ أكثرُ أهله الغدرَ كيْساً ، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حُسن الحيلة . ما لهم ؟ قاتلهم الله! قد يرى الحُوّل القُلَّب وجه الحيلة ، ودونها مانع من أمر الله ونهيه ، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها ، وينتهز فرصتها مَن لا حريجة له في الدين».
وقوله : « هل يُحسّ به ـ ملك الموت ـ إذا دخل منزلاً ؟ أم تراه إذا توفّى أحداً ؟ بل كيف يتوفّى الجنين في بطن أمه ؟ أيلج عليه من بعض جوارحها ؟ أم الروح أجابته بإذن ربها ؟ أم هوساكن معه في أحشائها ؟ كيف يصف إلهَه من يعجز عن صفة مخلوق مثله؟!» .
وقوله : « أين العقول المستصبحة بمصابيح الهدى ، والأبصار اللامحة إلى منازل التقوى ؟ أين القلوب التي وُهِبَتْ لله ، وعوقدت على طاعة الله ؟!» .
د ـ ومن الترجّي
قوله : « فاسمعوا قولي ، وعُوا منطقي ، عسى أن تروا هذا الأمر من بعد هذا اليوم تُنتضى فيه السيوف» . و«لعل الله أن يصلح في هذه الهدنة أمر هذه الأمة» .
وقوله : « لا تعجل في عيب أحد بذنبه؛ فلعلّه مغفور له ، ولا تأمن على نفسك صغير معصية ، فلعلّك معذّب عليه» .
وقوله : « هيهات أن يغلبني هواي ، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة ! ولعل بالحجاز وباليمامة من لا طمع له في القُرص ، ولا عهد له بالشِّبع» .
هـ ـ ومن التمنّي
قوله : « يا أشباه الرجال ولا رجال ، لَوددتُ أنّي لم أركم ، ولم أعرفكم» .
وقوله : « قد دارستكم الكتاب ، وفاتحتكم الحجاج ، وعرّفتكم ما أنكرتم ، وسوَّغتكم ما مججتم ، لوكان الأعمى يلحظ ، أوالنائم يستيقظ» .
وومن النداء
قوله : « أيها الناس ، شقّوا أمواج الفتن بسفن النجاة . .» .
وقوله : « فاتقوا الله عباد الله ، وفِرّوا إلى الله من الله» . وقوله : « أيها الناس المجتمعةُ أبدانهم ، المختلفة أهواؤهم ، كلامكم يُوهي الصمَّ الصِّلاب ، وفعلكم يُطمِعُ فيكم الأعداء» .
وقوله : « أيها الناس ، إنا قد أصبحنا في دهر عنود ، وزمن كنود» .
زـ ومن القسَم
( قوله: « والله ما أنكروا عليَّ منكراً ، ولا جعلوا بيني وبينهم نَصَفاً» .
وقوله : « أما والله ما أتيتكمُ اختياراً ، ولكن جئت إليكم شوقاً» .
وقوله: «ولئن ألجأتموني إلى المسير إليكم ، لأوقعنّ بكم وقعة لا يكون يوم الجمل إليها إلاّ كلعقةِ لاعق» .
وقوله: «أما والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، لولا حضور الحاضر ، وقيام الحجة بوجود الناصر . . لألقيتُ حبلَها على غاربها . .» .
وقوله : « لعمري ، لوكنا نأتي ما أتيتُم ما قام للدين عمود ، ولا اخضرّ للإيمان عود . . وايمُ الله ، لتحتلبُنّها دماً ، ولتتبعُنَّها ندماً» .
وقوله: «والله لوقتلتم على هذا دجاجة لَعظُم عند الله قتلها ، فكيف بالنفس التي قتلُها عند الله حرام ؟!» .
ح ـ ومن التعجب
قوله : « سبحانك ما أعظم شأنك! سبحانك ما أعظم ما نرى من خلقك! وما أصغر كلّ عظيمة في جنب قدرتك! وما أهَولَ ما نرى من ملكوتك ! وما أحقر ذلك فيما غاب عنا من سلطانك! وما أسبغَ نعمَك في الدنيا ، وما أصغرَها في نِعم الآخرة!» .
وقوله : « استتمّوا نعم الله عليكم بالصبر على طاعته ، والمجانبة لمعصيته ، فإن غداً من اليوم القريب!» .
وقوله : « ما أسرع الساعات في اليوم ، وأسرع الأيام في الشهر ، وأسرع الشهور في السنة ، وأسرع السنين في العمر!» .
وقوله : « فيا عجباً ! عجباً والله يميت القلب ، ويجلب الهمّ من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم ، وتفرّقكم عن حقّكم» .
وقوله : « فيا عجباً للدهر إذ صرتُ يُقرنُ بي من لم يَسعَ بقَدَمي ، ولم تكن له كسابقتي . .» .
٦ . السجع والترسُّل: قوله في إحدى خطبه: «فلْيقبل امرؤ كرامة بقبولها ، وليحذر قارعة قبل حلولها ، ولينظر امرؤ في قصير أيامه ، وقليل مُقامه في منزل حتّى يستبدله به منزلاً ، فليصنع لمتحوّله ، ومعارف منتقله . فطوبى لذي قلب سليم أطاع من يهديه ، وتجنّب من يُرديه ، وأصاب سبيل السلامة ببصرِ من بَصَّره ، وطاعة هاد أمره ، وبادر الهُدى قبل أن تُغلق أبوابه ، وتُقطَع أسبابه ، واستفتح التوبة ، وأحاط الحَوْبة ، فقد اُقيم على الطريق ، وهُدِيَ نهج السبيل» .
وقوله : « وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أرسله بالدين المشهور ، والقلم بالمأثور ، والكتاب المسطور ، والنورِ الساطع ، والضياء اللامع ، والأمر الصادع ، إزاحة للشبهات ، واحتجاجاً بالبيّنات ، وتحذيراً بالآيات ، وتخويفاً بالمثُلات ، والناس في فتنٍ انجَذمَ فيها حبل الدين ، وتزعزعت سواري اليقين ، واختلف النَّجر ، وتشتت الأمر ، وضاق المخرج ، وعَميَ المصدر ، فالهدى خامل ، والعَمى شامل . .» .
ومن قوله لما أنكر عليه الخوارج تحكيم الرجال: «إنّا لم نُحكّم الرجال ، وإنما حكّمنا القرآن ، هذا القرآن إنما هوخط مستور بين الدفّتين ، لا ينطق بلسان ، ولابد له من ترجمان ، وإنما ينطق عنه الرجال . ولمّا دعانا القوم إلى أن نُحكّم بينا القرآن لم نكن الفريق المتولي عن كتاب الله سبحانه وتعالى ، وقد قال الله تعالى عزّ من قائل: فإنْ تنازْعتُم في شيءٍ فردُّوه إلى الله والرسول ، فردُّه إلى الله أن نحكم بكتابه ، وردُّه إلى الرسول أن نأخذ بسنّته ، فإذا حكم بالصدق في كتاب الله فنحن أحقُ الناس به ، وإن حكم بسنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله فنحن أحق الناس وأولاهم بها . وأما قولكم: لمَ جعلتَ بيننا وبينهم أجلاً في التحكيم ؟ فإنما فعلتُ ذلك ليتبين الجاهل ، ويثبت العالم ، ولعل الله أن يُصلح في هذه الهُدنة أمر هذه الأمة ، ولا تؤخذ بأكظامها . .».
وقوله : « من ترك الجهاد في الله ، وأدهَنَ في أمره ، كان على شفا هُلكه ، إلاّ أن يتداركه الله بنعمة . فاتقوا الله ، وقاتلوا من حادَّ الله ، وحاول أن يطفئ نوره . قاتلوا الخاطئين الضالّين القاسطين المجرمين الذين ليسوا بقرّاء للقرآن ، ولا فقهاء في الدين ولا علماء في التأويل ، ولا لهذا الأمر بأهل في سابقة الإسلام . والله لووَلّوا عليكم لعملوا فيكم أعمال كسرى وهرقل . تيسّروا وتهيأوا للمسير إلى عدوكم من أهل المغرب ، وقد بعثنا إلى إخوانكم من أهل البصرة لِيقْدموا عليكم ، فإذا قدموا فاجتمعتم ، شخصنا إن شاء الله ، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله» .
٧ . التوازن: كثيراً ما تجيء الجُمل في نهج البلاغة متوازنة ، بأن يتساوى عدد كلماتها ، أوتتماثل أوزان نهاياتها ، وهذا ضرب آخر من موسيقى التعبير ، ويحبّب إلى السمع ، ويقرّبُه إليه .
ومن الموازنة قول الإمام عليّ عليه السّلام: «لم يَؤدْه خلقُ ما ابتدأ ، ولا تدبير ما ذرأ ، ولا وقفَ به عجزٌ عمّا خلق ، ولا ولَجت عليه شبهة فيما قضى وقدّر ، بل قضاء متقن ، وعلم مُحكم ، وأمر مبرم . . » .
وقوله : « إنّ غاية تنقصها اللحظة ، وتهدمها الساعة ، لجديرة بقِصر المدة . وإن غائباً يَحْدره الجديدان الليل والنهار ،لحريّ بسرعة الأوبة . وإن قادمة يقدم بالفوز أوالشِّقوة ، لمستحق لأفضل العدة . فيا لها حسرة على ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجة ، وأن تؤديه أيامه إلى الشِّقوة! نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم ممن لا تُبطره النعمة ، ولا تُقصِّر به عن طاعة ربه غاية ، ولا تحلُّ به بعد الموت ندامة ولا كآبة» .
وكذلك قوله : « إنّ الزاهدين في الدنيا تبكي قلوبهم وإن ضحكوا ، ويشتد حزنهم وإن فرحوا ، ويكثر مقتهم أنفسَهم وإن اغتبطوا بما رُزقوا . .» .
وقد يجيء التوازن في داخل الجمل لا في نهاياتها ، فيؤلف انسجاماً في نطق الكلمات وفي سماعها ، مثل قوله : « الحمد لله غيرِ مقنوط من رحمته ، ولا مخلومن نعمته ، ولا ميؤوس من مغفرته ، ولا مستنكَف عن عبادته ، الذي لا تبرح منه رحمة ، ولا تُفقَد له نعمة» ، فإنّ هنا موازنةً بين مقنوط ومخلووميؤوس .
٨ . الجناس ، الطباق ، والمقابلة ، والتوشع . . كما استعرض الدكتور الحوفيّ أمثلة عديدة عن الخيال البياني في خطب الإمام عليّ بن أبي طالب ورسائله ـ وما تعتمده من ( التشبيه ) و( الاستعارة ) و( الكناية ) و( المجاز ) ـ وهي عُدّة الشاعر والخطيب والكاتب ، التي برع فيها الإمام عليّ براعة منقطعة النظير ، في شتى شؤون المعرفة ، والعقل ، والنفس ، وفي مختلف قضايا البشر ، والدين والدنيا .

مزيّة خاصة
إنّ نهج البلاغة ـ كما يقول ابن أبي الحديد ـ إذا تأملته ، «وجدتَه كلَّه ماءً واحداً ، ونَفَساً واحداً ، وأسلوباً واحداً ، كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية» . . وهوـ في عظمته الأسلوبية ـ يحتوي على عبقرية الحُسن اللفظي ، تلك العبقرية التي تتمثل في علاقة اللفظة بالأخرى ، والتي تَرِد في خطب ، وفقرات ممتازة التميّز ، تأخذ فيها اللفظة بعنق قرينتها ، جاذبة إياها إلى نفسها ، دالة عليها بذاتها» .
وذلك باعتراف جعفر بن يحيى ، الذي كان من أبلغ الناس وأفصحهم ، كما رأى الجاحظ .
قال الجاحظ: حدثني ثمامة ، قال: سمعت جعفر بن يحيى ـ وكان من أبلغ الناس وأفصحهم ـ يقول: الكتابة بضم اللفظة إلى أختها ، ألم تسمعوا قول شاعر لشاعر ـ وقد تفاخر ـ: أنا أشعر منك ، لأني أقول البيت وأخاه ، وأنت تقول البيت وابنَ عمه . ثم وناهيك حسناً بقول عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: «هل من مناص أوخلاص ، أومعاذٍ أوملاذ ، أوفرار أومحار».
قال أبوعثمان ( الجاحظ ): وكان جعفر يُعجَب أيضاً بقول الإمام عليّ عليه السّلام:
« أين من جدّ واجتهد ، وجمع واحتشد ، وبنى فشيّد ، وفرش فمهّد ، وزخرف فنجّد ؟!» .
قال : « ألا ترى أنّ كل لفظة منها آخذة بعنق قرينتها ، جاذبةٌ إياها إلى نفسها ، دالّة عليها لذاتها» .
وقد روى هذا كلَّه أيضاً ابن مسكويه في كتابه ( الحكمة الخالدة ) بأسلوب آخر عن جعفر بن يحيى ، والفقرات التي حكى الجاحظ إعجاب جعفر بن يحيى بها ، وهي ( هل من مناص أوخلاص . . إلخ ) هي من بعض فصول هذه الخطبة .
أما الفقرات التي اُعجب بها جعفر وهي ( أين من جد واجتهد . . الخ ) فهي من خطبة أخرى ذكرها ابن عبد ربه في ( العِقد الفريد ) .
وأوّلها : أوصيكم عبادَ الله ونفسي بتقوى الله ولزوم طاعته ، وبتقديم العمل ، وترك الأمل ، فإنه من فرَّط في عمله ، لم ينتفع بشيء من أمله . . .» .

****************************