![](https://arabic.balaghah.net/sites/all/themes/nahjArabic/image/besmellah.png)
![](https://arabic.balaghah.net/sites/all/themes/nahjArabic/image/mola.png)
![](https://arabic.balaghah.net/sites/all/themes/nahjArabic/image/fi_rahab.jpg)
![](https://arabic.balaghah.net/sites/all/themes/nahjArabic/image/haram.jpg)
![](https://arabic.balaghah.net/sites/all/themes/nahjArabic/image/nahj.jpg)
ونفصل القول في عدة نقاط:
١ ـ يغلب على الاذهان تصور ان الحياة العقلية عند غير العرب، كانت على السواء مثلما هي عندهم، في اول ظهور الإسلام وهذا يجعلها خالية من النظر العقلي والحكمة والفلسفة.
وقد وضع اوليري في كتابه «كيف انتقل العلم الاغريقي إلى العرب»[١] وصفاً دقيقاً لاوضاع الجزيرة العربية وبلاد الشام ومصر والعراق عند مطلع الإسلام والقرون القليلة التي تلته.
كما ان عدداً من المؤلفين[٢] ناقشوا مصير الفلسفة اليونانية بعد سقوط اثينا بيد الرومان وهجرة فلاسفتها على اثر تنصر الامبراطور جوستنيان واغلاقه لمدارس الفلسفة، نحو الاسكندرية بمصر وتأسيس مدرستها الفلسفية المعروفة بـ«الافلاطونية المحدثة».
وقد كان الرومان لا يأبهون بالفلسفة ويميلون إلى العناية بالقانون لانه كان عماد امبراطوريتهم الشاسعة. ومن خلال وصف الاحداث التالية على ذلك نقف على الخلاصة التالية، وهي: ان الرومان احتلوا مصر بعد ذلك، فهرب الفلاسفة باتجاه الرهاونصيبين وحران وانطاكية، وهي مواقع بأعلى الشام وتابعة لتركيا حالياً، وكانت مدارس علمية للصابئة والمسيحيين.
وقد استقدم كسروى انوشروان بعضهم إلى المدائن، ويذكر المؤرخون منهم دمسقوس وسمبلقيوس[٣].
ثم انّه اسس لهم ولتلامذته مدرسة جند يشابور في الاهواز في منتصف القرن السادس الميلادي وزودها بالعلماء والحكماء من مختلف بقاع الارض.
وقد رفدت هذه المدرسة الحضارة الإسلامية فيما بعد بالمترجمين والفلكيين والاطباء. وقد صممت المدرسة على ضوء مدرسة الاسكندرية.
والذي يعنينا من هذه الدورة الفلسفية الكبرى هو اتصالها بالعهد الاسلامي وبالعنصر العربي تحديداً. فالقفطي في كتابه «تاريخ الحكماء» يورد خبراً ع التقاء عمرو بن العاص بيحيى النحوي (يوحنا فيلوبونس) وهو من شراح ارسطو ولاهوتي مسيحي رد على فكرة ازلية العالم، وكان ذلك عند دخول المسلمين مصراً. يقول القفطي «انّه دخل على عمرو بن العاص، وقد عرف موضعه من العلم واعتقاده وما جرى له مع النصارى، فاكرمه عمرو ورأى له موضعاً، وسمع كلامه في ابطال التثليث فاعجبه، وسمع كلامه في انقضاء الدهر ففتن به، وشاهد من حججه المنطقية وسمع من الفاظه التي لم يكن للعرب بها انسة ما هاله»[٤].
واما اتصال العنصر العربي بها، فان الحيرة هي الموضع الذي انشئت الكوفة إلى جواره بعد الإسلام.
ودراسة تاريخ الحيرة توحي بالطبيعة الفكرية المعقدة والمتطورة التي كان عليها العراق زمن الفتح الاسلامي، فأهل الحيرة عرب، وهم ثلاث قبائل: تنوخ وعبادة والاحلاف.
وتنوخ مشتق من تنخ اي اقام في الارض، وعبادة قبائل شتى من بطون العرب اجتمعوا على النصرانية بالحيرة والنسبة اليهم عباديّ، وقيل هي كلمة نبزوا بها لعبادتهم، والاحلاف هم الذين لحقوا بأهل الحيرة ونزلوا فيهم ولم يكونوا من تنوخ الوبر ولا العباد.
وكان ناس من العرب يحدثون في قومهم الاحداث أو تضيق بهم المعيشة فيخرجون إلى ريف العراق وينزلون الحيرة[٥].
وكان اهل الحيرة على علم بالقراءة والكتابة فهم «كانوا اول من دوّن الشعر وكتبه، وكان ذلك ايام آل المنذر، وكانت شعراء الجاهلية تفد عليهم، مثل الاعشى والنابغة وعبيد بن الابرص، وبشر بن ابي حازم وعمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة، والمتلمس، وطرفة وغيرهم. وكان آل المنذر يأمرون كتابهم من اهل الحيرة ان يكتبوا اشعارهم، فاخذ الناس عنهم»[٦].
وقد «اعتنق ملوك الحيرة الديانة النصرانية، وكان اول من اعتنقها من ملوكهم عمرو بن عدي مؤسس الدولة. وقد ادى اعتناقهم هذه الديانة إلى انتشارها في ربوع العراق. وانتشر بصورة خاصة المذهب النسطوري الذي لقي عطفاً وتشجيعاً من ملوك الفرس لمعارضته الكنيسة البيزنطية»[٧].
ان اتصـال الحيـرة بالبابليين مـن جهـة قد اورثهـا علومهم، كما شهد بذلك ابن صاعد في كتابه «طبقات الامم»[٨].
كما ان تأثير النساطرة من جهة اخرى جعلها مفتوحة على تيارات الفلسفة اليونانية، فقد كان هؤلاء يميلون إلى النظر العقلي، خلافاً للمسيحية المنتشرة في داخل الجزيرة العربية وبعض القبائل الحجازية واليمنية والتي كانت تعتقد بطبيعة واحدة للسيد المسيح وتميل إلى الرّهبنة.
وكانوا ايضاً يختلفون عن الكنيسة البيزنطية التي كانت ترى في مقولتهم هرطقة وتجديفاً بحق السيد المسيح، مما دعاها إلى اضطهادهم.
واستفاد الفرس من هذه الفرصة فابدوا عطفهم على النسطوريين. وكان هؤلاء قد درسوا في نصيبين كتب اليونان وفلسفتهم وترجموا كتب ارسطو إلى السريانية.
وصارت الحيرة مقراً لهم بعد اخراجهم من نصيبين، كما ان بعضهم صار إلى كسكر (موقع واسط التي تشمل الكوت والعمارة حالياً).
وانتقل بعضهم تحت مظلة عطف الفرس إلى جند يشابور فشاركوا في تدريس الفلسفة اليونانية وجعلوا من منطقة جنوب العراق مركزاً للفلسفة اليونانية بترجمة سريانية.
وقد بقيت هذه الترجمات معتمدة حتى فترة متأخرة[٩].
ويذكر فالزر ان ترجمات ارسطو إلى السريانية والتي تمت في زمن مقارب لظهور الإسلام بقيت مستعملة حتى القرن الرابع الهجري.
ومن الحيرة سوف يظهر مترجمون مثل حنين بن اسحق واسحاق وغيرهما. ثم اننا نسمع بسلسلة متصلة من علماء السريان في الكوفة تحرص على ترجمة ارسطو وتدريسه حتى نهاية القرن الهجري الاول تقريباً[١٠]. ورغم ان لغة التدريس والكتابة هي السريانية، فهذا لا يستبعد تأثر عرب الحيرة المباشر بهؤلاء المدرسين اذ كانوا واعظيهم في كنائسهم واديرتهم.
واشتهرت الحيرة بكثرة الديارات[١١] وبعضها ابتناها ملوك المناذرة وافراد عوائلهم، ويظهر من الكتابات التي تركت على بعضها عمق ايمان المناذرة بالمسيحية النسطورية، وبالتالي انفتاحهم على آفاق الفكر اليوناني والمعضلات الكلامية المسيحية التي ستجدد في زمن الإسلام وهذا يفسر الطبيعة المعقدة للكوفة فيما بعد وكثرة ظهور الفرق فيها وفي المدائن، وكلاهما تدينان بالولاء لعلي بن ابي طالب وتتفاعلان مع خطه السياسي والفكري، فليس مستبعداً ان يكون هو ايضاً على وعي بواقعهما الفكري ومتفاعلاً معه.
وكل هذا يصدق على بيئة الحيرة بالتحديد، في الفترة السابقة على الإسلام وقد امتد تأثيره في العصر الاسلامي فقد «عثر الباحثون على نصوص سريانية من مخلفات العهد الاسلامي الاول في العراق، وفيها ترجمات لبعض سور القرآن التي تكلمت عن المسيحية، نقلها السريان إلى لغتهم في مطلع غزو المسلمين لما بين النهرين لكي يناقشوا مضمونها»[١٢] وهذا يثبت وجود تفاعل فكري بين التيارات الفكرية الموجودة في العراق والفكر الاسلامي الوافد إليه ومن هنا يقترح الدكتور علي سامي النشار اطاراً اوسع لرؤية بدايات الفلسفة عند المسلمين واول معرفتهم بالفكر اليوناني فيقول: «نلاحظ في كتابات المتكلمين الاوائل، من امثال الهذيل العلاف وهشام بن الحكم وغيرهما، معرفة واسعة بالفلسفة اليونانية، وتناولاً لمصطلحات فلسفية، مما يدل على ان حركة الاتصال قد تمت من قبل، بل اننا نرى لهشام بن الحكم، هذا المتكلم الشيعي الاول، وفي زمن مبكر، كتاباً في نقد ارسططاليس، كما اننا سنرى ان لابي الهذيل العلاف نقداً متعدداً في ثنايا فلسفته لارسطو.
ان كل هذا دليل قاطع على ان الفلسفة اليونانية قد عرفت معرفة طيبة قبل حركة الترجمة الرسمية التي بحثها المؤرخون من مختلف نواحيها»[١٣].
ويطرح الدكتور النشار عدداً من الاحتمالات عن الطرق الاخرى غير المباشرة التي انتشرت بها الفلسفة اليونانية في الاوساط الإسلامية، والتي تشمل في رأينا مرحلة صدر الإسلام، ويعددها كما يلي: «اما اول هذه الاحتمالات، فهو المناقشات الشفوية بين المتكلمين وبين رجال الكنيسة المنبثة كنائسهم في العالم الاسلامي.
وقد حدث تبادل الآراء وتبادل الاسلحة. والاحتمال الثاني: ان يكون من المسلمين من تردد على «الاسكول» ـ المدارس الملحقة بالكنائس والاديرة ـ وقد عرف اجزاء من الفلسفة. والاحتمال الثالث: ان تكون معرفة المسلمين الاوائل بالفلسفة اليونانية انما تمت عن طريق الغنوصية، وقد كانت الغنوصية تحمل في اعماق فلسفتها كثيراً من عناصر الفلسفة اليونانية»[١٤].
ولا يفوتنا قبل ان نختم الحديث عن بيئة الحيرة، والعراق بوجه عام، ان نورد راي ابن ابي الحديد في شرحه لنهج البلاغة، اذ يقول: «وطينة العراق ما زالت تنبت ارباب الاهواء واصحاب النحل العجيبة والمذاهب البديعة. واهل هذا الاقليم اهل بصر وتدقيق ونظر وبحث عن الآراء والعقائد وشبه معترضة في المذاهب. وقد كان منهم في ايام الاكاسرة مثل ماني وديصان ومزدك وغيرهم، وليست طينة الحجاز هذه الطينة، ولا اذهان اهل الحجاز هذه الاذهان.. ولم يكن فيهم من قبل حكيم ولا فيلسوف ولا صاحب نظر وجدل، ولا موقع شبهة، ولا مبتدع نحلة»[١٥].
واشار الشيخ عبد الله نعمة في كتابه «مصادر نهج البلاغة» إلى ان الامام علي (ع) قد سكن العراق وبخاصة الكوفة، وهو يومذاك مهبط الافكار الفارسية والسريانية والكلدانية وبخاصة البصرة التي كانت موئل الديصانية والافكار الهندية والنسطورية التي عاشت فيها بتاثير مدرسة جند يشابور»[١٦].
٢ ـ وبالاضافة إلى ما تقدم، فان العرب كانت لهم معرفة بمختلف الديانات التي كانت منتشرة قبل الإسلام، وبالاخص الزرادشتية والمانوية المجوسيتين والمسيحية بفرعيها النسطوري الذي فصلنا الكلام عنه سالفاً والمونوفستية (الموحدة) التي امتدت من شمال بلاد الشام إلى اليمن وكذلك اليهودية. وعرفوا ايضاً المقالات التي اشتملت عليها كل ديانة. ونقرأ في رسالة «الرد على النصارى» للجاحظ تعداداً للقبائل التى كانت على النصرانية واليهودية، يقول: «ان العرب كانت النصرانية فيها فاشية، وعليها غالبة، الا مضر (عرب الشمال) فلم تغلب عليها يهودية ولا مجوسية، ولم تفش فيها النصرانية الا قوم منهم نزلوا الحيرة»[١٧].
ولكنه حينما يعدد القبائل نجدها اوسع مما ذكر، اذ «غلبت النصرانية على ملوك العرب وقبائلها، على لخم، وغسان، والحارث بن كعب بنجران، وطيء في قبائل كثيرة واحياء معروفة، ثم ظهرت في ربيعة فتغلبت على تغلب وعبد القيس وافناء بكر، ثم في آل ذي الجدين وخاصة.
وجاء الإسلام وليست اليهودية بغالبة على قبيلة، إلاّ ما كان من ناس من اليمانية، ونبذ يسيرة من جميع اياد وربيعة، ومعظم اليهودية انما كانت بيثرب وحمير وتيماء ووادي القرى، في ولد هـارون دون العـرب»[١٨]. وقد نقل الدكتور النشار[١٩] عن اليعقوبي والمقريزي ان العرب عرفوا الزندقة والثنوية المجوسية واعزياها إلى مجاورة بعض العرب للفرس، وينص المقريزي على ان ابا سفيان «كان في الجاهلية زنديقاً»، ويستشهد على زندقته بانه شهد حنيناً مع رسول الله (ص) «وكانت الازلام معه يستقسم بها» وانّه دخل على عثمان في خلافته، فقال: «وقد صارت (الخلافة) اليك بعد تيم وعدي، فأدرها كالكرة، واجعل اوتادها بني امية، فانما هو الملك ولا ادري ما جنة ولا نار».
ونجد في كتاب «عيون الانباء في طبقات الاطباء» لابن ابي اصيبعة، ان النضر بن الحارث، وهو ابن خالة النبي (ص)، وأمر قتله على يد النبي مشهور للابيات التي قالتها اخته تعاتب فيها النبي وقد اوردها اهل السير[٢٠]»، ان والد النضر كان طبيباً وله كتاب «المحاورة فى الطب» يشتمل على محاوراته مع كسرى انو شروان (وانو شروان كان راعياً لمدرسة جند يشابور).
وكان النضر نفسه، كما يقول ابن ابي اصيبعة: «وقد سافر في البلاد ايضاً كأبيه واجتمع مع الافاضل والعلماء بمكة وغيرها وعاشر الاحبار والكهنة واشتغل وحصل من العلوم القديمة اشياء جليلة القدر واطلع على علوم الفلسفة واجزاء الحكمة وتعلم من ابيه ايضاً ما كان يعلمه في الطب».
وان عبد الملك بن ابجر الكناني درس في الاسكندرية واسلم على يد عمر بن عبد العزيز قبل ان تصل إليه الخلافة، وجاء اثناء خلافته وشرع بالتدريس في انطاكية وحران وتجول في البلاد، وهو القائل: «دع الدواء ما احتمل بدنك الداء» وهو مشابه لقول علي (ع): «امش بدائك ما مشى بك».
واما ابن اثال، طبيب معاوية الذي تضرب به الامثال، فقد كان نصرانياً، وهو الذي قتل مناوئي معاوية بالسم، وقد قتله خالد بن المهاجر بن خالد بن الوليد بعد ان ثبت له انّه هو قاتل عمه عبد الرحمن بن خالد. كان هناك من الاطباء حكم الدمشقي وعيسى بن حكم ونياذوق وغيرهم من الاطباء النصاري الذين كانوا في البلاط الاموي[٢١].