بسم الله الرحمن الرحيم
تاريخنا الاسلامي غني بالذكريات التي لو استغلت بجد واخلاص وفق هدف واضح غايته نفع هذه الامة وتمكين ماضيها في نفوس أبنائها ليكون عيش الحاضر وزاد المستقبل . . . لو استغلت هكذا لجادت على الامة بشآبيب من خيرها ، ولابانت لها السبيل بشموس من تلاميذ مدرسة محمد وآله صلوات الله عليهم أجمعين .
وفي هذا العام المبارك ـ ١٤٠٦ هـ ـ ذكريات كثيرة للامة ، منها الذكرى الالفية لوفاة الشريف الرضي ، جامع الكتاب الخالد ـ نهج البلاغة ـ مما وصله من كلام أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام .
والشريف ذلك الشاعر المبدع ، والاديب المتمكن ، والبليغ العارف بخفايا اللغة العربية وأسرارها ، المتذوق لها ، المعتني بها ، الذي يظهر ولوعه بها في مؤلفاته التي خصها بهذا الجانب مثل « تلخيص البيان في مجازات القرآن » و « المجازات النبوية » .
وثلث هذين بجمعه مختارات تتسم بالبلاغة من كلام امام البلغاء ـ أمير المؤمنين عليه السلام ـ وكان نظر الشريف في جمعه قاصدا هذه الناحية من الكلام العلوي الكريم .
هذه المختارات هي ما بقي مقرونا باسمه طوال القرون الماضية والى أن يرث الله الارض ومن عليها . وقد اعتنى العالم الاسلامي بهذه الذكرى ، فعقدت الندوات ،وجمعت المجامع ،وكتب الكاتبون ـ باحثين ودارسين ـ فيما يتعلق بالشريف الرضي . حياته . آثاره . أدبه . فقهه . شعره . . .
ولم ينسوا نهج البلاغة ، الكتاب الذي خلد الشريف على مر العصور ، فشهدت الاوساط العلمية والاندية الثقافية والادبية عودة الى الحديث عن ضرورة القيام بتحقيق كتاب نهج البلاغة وتقويم نصه وتصحيحه على أقدم مخطوطاته الموثوقة ، المعتمد عليها ـ وما أكثرها ـ وطبعه طبعة فنية محققة ، تتلاءم وقد سيّته عند الشيعة ، ومكانته المرموقة في المكتبة العربية الاسلامية ، ومستواه الرفيع في النصوص الادبية .
والشيعة ـ في هذا العصر ـ لابد أن يعترفوا بتقصيرهم تجاه هذا التراث العظيم والمجد الخالد ، فقد كان الواجب عليهم ـ قبل غيرهم ـ أن يتولوا تحقيقه واخراجه ـ كما يليق بشأنه ـ قبل يومنا هذا بعهد طويل .
ومن المؤسف حقا ، أن كتابا بهذه الاهمية لم يطبع الى الان ـ رغم كثرة طبعاته ـ طبعة محققة تعتمد على مناهج تحقيق النص واسسه ، من عرضه على مخطوطاته الاصلية . . . وغير ذلك .
والغريب العجيب أن محققا كمحمد محيي الدين عبدالحميد ، على الرغم من مكانته العلمية وكونه في حاضرة كالقاهرة من حواضر التراث العربي الاسلامي المهمة ، يعتمد في تحقيق كتاب نهج البلاغة ـ الذي له عشرات المخطوطات القديمة النفيسة ـ (١)[١] على ثماني طبعات سابقة ، ذكرها في المقدمة ، وذكر نسخة واحدة خطية من شرح البحراني ، ولكنها لم تبق عنده الى نهاية المعارضة ! !
وطبعات « نهج البلاغة » المصرية والبيروتية ، وان كانت أجمل منظرا من الطبعات الايرانية الحجرية ، الا انها لا يعتمد شيء منها على نسخ مخطوطة معتبرة ، ولذلك لاتجد نسخة مطبوعة خالية من التصحيف والتحريف والسقط والاسقاط والتلاعب ، لان الايدي التي تولت نشر نهج البلاغة أيد غير مأمونة على مثله .
ونذكر هنا نماذج من التصحيف والتحريف والسقط والزيادة التي مني بها النهج : [٢]
١ ـ في الخطبة الاولى من نهج البلاغة ، في جميع النسخ المخطوطة ، قال عليه السلام : « فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثناه ، ومن ثناه فقد جزأه ، ومن جزأه فقد جهله ، ومن أشار اليه فقد حده ، ومن حده فقد عده ، ومن قال فيم فقد ضمنه » .
وفي جميع النسخ المطبوعة زيادة [ ومن جهله فقد أشار اليه ] ، بعد قوله عليه السلام : ومن جزأه فقد جهله .
وهذا تحريف للنص وزيادة مستنكرة .
٢ ـ في الخطبة (١٠٤) في جميع النسخ المخطوطة : « فهو أبلج المناهج ، واضح الولائج » .
وفي النسخ المطبوعة ، ابدلت كلمة « واضح » بكلمة [ أوضح ] .
٣ ـ في الحكمة (١٩٠) في جميع النسخ الخطية : « واعجباه ! أتكون الخلافة بالصحابة ولا تكون بالصحابة والقرابة !؟ » .
وفي أكثر النسخ المطبوعة ، ومن جملتها نسخة محمد عبده ، (وهي نسخة محمد محيي الدين عبدالحميد نفسها ، ونسخة صبحي الصالح : [ واعجباه ! أتكون الخلافة بالصحابة والقرابة ! ؟ ] .
وعقب على هذه الحكمة الشريف الرضي بقوله : وروي له عليه السلام شعر في هذا المعنى وهو :
فان كنت بالشورى ملكت امورهـم ***** فـكـيـف بهذا والمشـيرون غيب
وان كنت بالقربى حججت خصيمهم ***** فغـيـرك أولـى بالنبي وأقرب
هذا الشعر يناسب تمام المناسبة النسخ المخطوطة ، وجعله ذيلا لما حرفته النسخ المطبوعة يفقده معناه ، ويخالف المعروف المشهور من مذهبه عليه السلام ومذهب شيعته في الخلافة .
هذا ، وقد دأب الشراح السابقون ـ كابن أبي الحديد وميثم البحراني ـ على شرح هذه العبارة بما يتفق مع النسخة المخطوطة ، ويتنافر مع النسخة المطبوعة مع أن متن نهج البلاغة في هذه النسخ محرف .
وهذا من أوضح الادلة على صحة المخطوطة .
٤ ـ في الخطبة (١٩٠) ـ الخطبة القاصعة ـ في جميع النسخ المخطوطة : « وضعني في حجره وأنا وليد يضمني الى صدره » .
وفي بعض النسخ المطبوعة ومنها نسخة صبحي الصالح ابدلت كلمة « وليد » بكلمة [ ولد ] .
وهذا تحريف يفقد العبارة معناها ، فانه عليه السلام يقصد تربية النبي صلى الله عليه وآله منذ الصغر ، وكلمة [ ولد ] لاتدل على ذلك .
٥ ـ في الحكمة (٢٥٢) في النسخ المخطوطة : « فرض الله الايمان تطهيرا من الشرك . . . والامامة نظاما للامة ، والطاعة تعظيما للامامة » .
ولكن كلمة « الامامة » تحرفت في نسخة صبحي الصالح الى [ الامانة ] ـ بالنون ـ ، وفي نسخة محمد عبده (وهي نسخة محمد محيي الدين عبدالحميد) الى الامانات .
وهذا غيض من فيض مما ابتلي به كتاب نهج البلاغة من محققيه وناشريه ، وطابعيه ، فقد دخل عليه منهم الذوق الخاص ، في زمان فسد فيه الذوق ، وماتت السليقة .
ودخل عليه منهم ـ أيضا ـ الهوى والتعصب ، فحذفوا ما يخالف فرقهم ومذاهبهم ، ولو كان يخل بسياق النص ، الذي تولوا ضبطه وتحقيقه .
ودخل الجهل ـ والعياذ بالله من الجهل ـ فبدل الجاهلون ما لم يفهموه. وأنى لهم أن يفهموا مطالب العرفان السامية ودقائق الفلسفة المتعالية ، التي لم يصل الفكر البشري الى بعض دقائقها الا بعد ألف من السنين أو يزيد .
ونحن بهذه المناسبة نبتهل الى العلي القدير أن يقيض لنهج البلاغة من يأخذ بناصره ، ويجلو عن زجاج مشكاته سواد أيدي من تلاعب به .
ولعل أهله يستفيقون من نومتهم ، ويأخذون عدتهم بأيديهم ، ويعطون القوس باريها ، وما ذلك على الله بعزيز .
وعودا على بدء ، فاننا في « تراثنا » قد خصصنا هذا العدد من النشرة ـ الذي هو آخر أعداد سنتها الاولى ـ لاحياء ذكرى هذا العلم الفذّ ، متنقلين بين الشريف الرضي وبين آثاره الخالدة ، لما في الصلة بين الاثنين من اكمال صورة ذكراه الالفية .
وقد عقدنا في آخر النشرة ملفا خاصا لتغطية البحوث العربية التي قدمت الى مؤتمر
الشريف الرضي ، الذي تولته مؤسسة نهج البلاغة في طهران ، باتفاق خاص مع المؤسسة .
والحمد لله رب العالمين
------------------------------------------