الشيخ أحمد سلمان
لعّل السبب الأساس الذي لأجله حورب كتاب (نهج البلاغة) هو احتواءه على الخطبة الموسومة بالشقشقية ، إذ أنها تعتبرمن أكثرالنصوص صراحة في الدلالة على ظلامة أميرالمؤمنين عليه السلام ، وعلى فساد موقف المتقدّمين عليه ، ففي هذه الخطبة لخّص أميرالمؤمنين عليه السلام كل ما حصل من وفاة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله سنة ١١ هـ ، إلى سنة ٤٠ للهجرة تقريباً عندما خطب هذه الخطبة العصماء .
ولهذا أفردنا باباً منفرداً للحديث حول هذه الخطبة دفعاً للإشكالات ، وهدماً للتشكيكات التي يلقيها الخصوم في محاولة منهم لضرب هذه الوثيقة التاريخية المهمة .
أسانيد الخطبة في كتب الخاصة :
يظن كثيرمن النّاس أن الخطبة الشقشقية من مختصات كتاب (نهج البلاغة) ، وبما أنّ الكتاب لا أسانيد فيه ، فالخطبة لا قيمة له ؛ لعدم وجود السّند ، والحال أن هذه الخطبة مروية في كتب أخرى مؤلفة قبل (نهج البلاغة) وقبل أن يولد الشريف الرضي رحمه الله ، ولها عدة أسانيد :
١ – رواها الشيخ الصدوق قدس سره ( توفي ٣٨١ هـ) في علل الشرائع : عن محمد بن علي ماجيلوية ، عن عمه محمد بن أبي القاسم ، عن أحمد بن أبي عبدالله البرقي ، عن أبيه ، عن أبي عمير، عن أبان بن عثمان ، عن أبان بن تغلب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال ... [١]
٢ – رواها الشيخ الصدوق أيضاً : عن محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني رحمه الله ، قال : حدّثنا عبدالعزيز بن يحيى الجلودي ،قال : حدثنا أبو عبدالله أحمد بن عمار بن خالد ، قال : حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني ، قال : حدثني عيسى بن راشد ، عن علي بن حذيفة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ... [٢] .
٣ – رواها الشيخ الطوسي قدس سره ( توفي ٤٦٠ هـ) في أماليه : عن الحفار،عن أبي القاسم الدعبلي عن أبيه ، عن أخي دعبل ، عن محمد بن سلامة الشامي ، عن زرارة عن أبي جعفرالباقر،عن أبيه ، عن جدّه عليهم السلام ... [٣] .
٤ – رواها الشيخ الطوسي أيضاً : عن الحفار، عن أبي القاسم الدعبلي ، عن أبيه عن أخي دعبل ، عن محمد بن سلامة الشامي ، عن زرارة ، عن أبي جعفرالباقر، عن ابن عباس ، قال : ... [٤] .
٥ – رواها الطبري الشيعي رحمه الله ( توفي بعد ٤١١ هـ) في نوادرالمعجزات : عن القاضي أبو الحسن علي بن القاضي الطبراني ، عن القاضي سعيد بن يونس المعروف بالقاضي الأنصاري المقدسي ، قال : حدثني المبارك بن صافي ، عن خالص بن أبي سعيد ، عن وهب الجمال ، عن عبد المنعم بن سلمة ، عن وهب الزايدي ، عن القاضي يونس بن مسيرة المالكي ، عن الشيخ المعتمرالرقي ، قال : حدثنا صحاف الموصلي ، عن الرئيس أبي محمد بن جميلة ، عن حمزة البارزي الجيلاني ، عن محمد بن ذخيرة ، عن أبي جعفرميثم التمار، قال : ... [٥].
٦ – رواها قطب الدين الرواندي رحمه الله ( توفي ٥٧٣ هـ) ، قال: أخبرني الشيخ أبو نصرالحسن بن محمد بن إبراهيم ، عن الحاجب أبي الوفا محمد بن بديع والحسين بن أحمد بن بديع والحسين بن أحمد بن عبدالرحمن ، عن الحافظ أبي بكربن مردويه الأصفهاني ، عن سليمان بن أحمد الطبراني ، عن أحمد بن علي الابار، عن إسحاق بن سعيد أبي سلمة الدمشقي ، عن خليد بن دعلج ، عن عطا بن أبي رباح ، عن ابن عباس : ... [٦] .
٧ – رواها السيد ابن طاووس قدس سره ( توفي ٦٦٤ هـ) في الطرائف ، قال : حدّثنا محمد ، قال : حدثنا حسن بن علي الزعفراني ، قال : حدثنا محمد بن زكريا القلابي ، قال : حدثنا يعقوب بن جعفربن سليمان ، عن أبيه ، عن جدّه عن ابن عباس ،قال ... [٧] .
فهذه سبعة طرق متضافرة لا تترك مجالاً للشك في صحة نسبة هذه الخطبة إلى أميرالمؤمنين عليه السلام ؛ لأن الخبر إذا روي بعدة طرق مختلفة ، فإن ذلك يورث الاطمئنان بصدورهذه الخبر.
وقد التزم علماء العامّة لهذا المبنى ، وصرّحوا أن الحديث اذا تعددت طرقه ارتقى من الضعيف الى الحسن أوالصحيح لغيره بحسب اختلاف المباني والاصطلاحات :
قال الحافظ ابن حجرالعسقلاني : وفي رواية هذا الحديث من لا يعرف حاله ، إلا أن كثرة الطرق إذا اختلفت المخارج تزيد المتن قوة [٨].
وقال النووي في المجموع : وإن كانت أسانيد مفرداتها ضعيفة فمجموعها يقوي بعضه بعضا ويصيرالحديث حسنا ويحتج به [٩] .
فلو طبقنا ما التزموا به على الخطبة الشقشقية لحكمنا على أسانيدها في أسواء الأحوال بالحسن أو صحيح لغيره وليس كما يشاع بين المخالفين من أن الخطبة موضوعة منحولة .
شهرة الخطبة الشقشقية :
إضافة إلى الأسانيد المتقدمة فإن هذه الخطبة قد اشتهرت بين العامة والخاصة ، وتلقاها العلماء ، بالقبول وقد قدمنا سابقاً أنّ الشهرة هي من علامات الحديث المقبول .
قال الشيخ المفيد قدس سره ( توفي ٤١٣ هـ) في الجمل : فأما خطبته عليه السلام التي رواها عبدالله بن عباس فهي أشهرمن أن ندل عليها لشهرتها [١٠] .
وأوردها الشيخ الطبرسي رحمه الله ( توفي ٦٢٠ هـ) في الاحتجاج الذي قال في مقدمته : لا نأتي في أكثرما نورده من الأخباربإسناده إما لوجود الإجماع عليه ، أو موافقته لما دلت العقول إليه ، أو لاشتهاره في السير والكتب بين المخالف والمؤالف [١١] .
وقال الشيخ محمد طاهرالقمي (توفي ١٠٩٨ هـ) : ويدل أيضاً على ما أدّعيناه من عدم رضاء علي عليه السلام بخلافة الخلفاء الثلاثة ، خطبته الموسوعة بالشقشقية والمقمصة،وهذه مشهورة معروفة بين الخاصة والعامة [١٢] .
قال العلامة المجلسي قدس سره ( توفي ١١١١ هـ) في البحار: هذه الخطبة من مشهورات خطبه صلوات الله عليه ، روتها الخاصة والعامة في كتبهم ، وشرحوها ، وضبطوا كلماتها ، كما عرفت رواية الشيخ الجليل المفيد ، وشيخ الطائفة ، والصدوق ، ورواها السيد الرضي في (نهج البلاغة) ، والطبرسي في الاحتجاج قدس لله أرواحهم ، وروى الشيخ قطب الدين الراوندي قدس سره في شرحه على( نهج البلاغة) [١٣] .
أضف إلى أن الخطبة كانت معروفة عند العلماء العامة ومتداولة بينهم ، يدل على هذا شهادة ابن أبي الحديد بشهرة هذه الخطبة بين علماء المعتزلة ، وتسليمهم بصحة صدورها عن أميرالمؤمنين عليه السلام ، فقال في الشرح : قال مصدق : و كان ابن الخشاب صاحب دعابة وهزل ، قال : فقلت له : أتقول : إنها منحولة ! فقال : لا والله وإني لأعلم أنها كلامه ، كما أعلم أنك مصدق . قال : فقلت له : إن كثيراً من الناس يقولون : إنها من كلام الرضي رحمه الله تعالى .
فقال : أنّى للرضي ولغيرالرضي هذ النَّفس وهذا الأسلوب! قد وقفنا على رسائل الرضي ، وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور، وما يقع مع هذا الكلام في خل ولاخمر. ثم قال : والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صُنَّفت قبل أن يُخلق الرضي بمائتي سنة ، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها ، وأعرف خطوط مَن هو مِن العلماء وأهل الأدب قبل أن يُخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي . قلت : وقد وجدت أنا كثيراً من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي إمام البغداديين من المعتزلة ، وكان في دولة المقتدرقبل أن يُخلق الرضي بمدة طويلة ، ووجدت أيضاً كثيراُ منها في كتاب أبي جعفر بن قبة أحد متكلّمي الإمامية وهو الكتاب المشهور المعروف بكتاب (الإنصاف) ، وكان أبو جعفرهذا من تلامذه الشيخ أبي القاسم البلخي رحمه الله تعالى ، ومات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضي رحمة الله تعالى موجوداً [١٤] .
وقد ذكرالشيخ الصدوق رضي عنه الله في (علل الشرائع) شرح أحد علماء العامة لهذه الخطبة ، فقال : سألت الحسن بن عبدالله بن سعيد العسكري عن تفسيرهذا الخبر، ففسره لي [١٥].
وهذا الرجل ترجم له الذهبي في (سيرأعلام النبلاء) ، فقال : الإمام المحدَّث الأديب العلامة ، أبو أحمد الحسن بن عبدالله بن سعيد العسكري ، صاحب التصانيف .. قال الحافظ أبوطاهرالسلفي : كان أبو أحمد العسكري من الأئمة المذكورين بالتصرّف في انواع العلوم ، والتبحّرفي فنون الفهوم ، ومن المشهورين بجودة التأليف وحسن التصنيف ، ألف كتاب (الحكم والأمثال) ، وكتاب (التصحيف) ، وكتاب (راحة الأرواح) ، وكتاب ( الزاجروالمواعظ) ، وعاش حتى علا به السن ، واشتهرفي الآفاق ، انتهت إليه رئاسة التحدّث والإملاء للآداب والتدريس بقطرخوزستان [١٦] .
بل حتّى معاجم اللغة لم تخل من الإشارة إلى هذه الخطبة المباركة ، إذ أنهم تعرّضوا لها في مادة شقشق :
قال ابن الأثير: ومنه حديث علي في خطبة له : (( تلك شقشقة هدرت ، ثم قرَّت)) [١٧] .
وقال الفيروزآبادي : والخطبة الشقشقية : العلوية ؛ لقوله لابن عباس لما قال له : لو اطردت مقالتك من حيث أفضيت : يا ابن عباس ! هيهات ، تلك شقشقة هدرت ، ثم قرَّت [١٨] .
وقال ابن منظورالأفريقي : وفي حديث علي رضوان الله عليه في خطبة له : تلك شقشقة هدرت ، ثم قرَّت [١٩].
ومن راجع الكتب الكلامية واحتجاجات المتقدَّمين علم يقيناً أن هذه الخطبة كانت من الأمورالمسلَّمة ، بحيث لم يشك أحد في نسبتها إلى أميرالمؤمنين عليه السلام .
هل الخطبة الشقشقية موضوعة ؟
ماذكرناه سابقاً كافٍ لدحض هذه الفرية ، فمع تعدّد الطرق وتظافرها ، وتلقّي الناس للمتن بالقبول ،لا يبقى مجال للشك في صحّة هذه الخطبة ، لكن من في قلبه مرض يحاول تغطية عين الشمس بغربال .
ومن باب المجاراة لهؤلاء نقول : الخطبة الشقشقية إما وضعها الرضي قدس سره ، أو أحد الرواة المتقدَّمين الذين نُقلت عنهم الخطبة .
أما الأول فممتنع؛ لوجود من روى الخطبة قبل الشريف الرضي قدس سره كما قدّمناه آنفاً ، وشهادة ابن أبي الحديد وشيوخه بوجود الخطبة حتى قبل ولادة والد الشريف الرضي قدس سره .
وأما الاحتمال الثاني فهو أيضاً ممتنع ؛ إذ أن الخطبة رواها مجموعة من الرواة ، ولم ينفرد بها راوٍ واحد كي يُتَّهم بها ، فلو راجعنا الأسانيد السابقة لوجدنا على الأقل خمسة رواة في كل طبقة ، تواطؤ هؤلاء على وضع هذه الخطبة مستبعد جدَّا ، بل يكاد يكون مستحيلاً .
وقد ادعَّى بعض المخالفين أن الخطبة لا تصحّ حتى على مباني الشيعة ؛ وذلك لأن مدارالخطبة على عكرمة مولى ابن عباس ، وهو مذموم عند الشيعة ؛ وعليه فلا يوجد إسناد صحيح لهذه الخطبة عندهم .
والجواب على هذه الشبهة المتهالكة :
أولاً: لم ينفرد عكرمة برواية الخبرعن ابن عباس ، بل رواها أيضاً الإمام زين العابدين عليه السلام ، ورواها الإمام الباقرعليه السلام عليه السلام ، وعطاء بن أبي رباح ، وعلي بن عبدالله بن عباس ، ولم تنحصر روايتها في عكرمة فقط كما يدّعي هؤلاء .
ثانياً: لو سلّمنا أن عكرمة قد انفرد بهذه الرواية ، فهذا الرجل معروف أنه من الخوارج ، وموصوف أنه كان من رؤوسهم ، وهو من كبار رواة أهل السنة ، فهل من الممكن أن يضع حديثاً يهدم به عقيدته من أساسها ؟
ثالثاً : كان عكرمة مولى لابن عباس ، وقد ذُكرفي المصادرالتاريخية أنه كان من البربر، ومن المعلوم أنه لغة البربرالأصلية ليست العربية ، وإنها هي اللغة الأمازيغية ، فهل من الممكن أن يضع عكرمة مثل هذا الكلام البليغ جدًّا مع أنه لم يكن عربياًّ صميماً ؟
وابن أبي الحديد شهد في موردين بأن هذه الخطبة في أعلى درجات الفصاحة والبلاغة .
أولهما : عند شرحه لكلام أميرالمؤمنين عليه السلام في حق عثمان بن عفان ، فإنه قال : (( نافجاً حضنيه)) رافعاً لهما ، والحضن ما بين الإبط والكشح ، يقال للمتكبر: (( جاء نافجاً حضينة)) ويقال لمن امتلأ بطنه طعاماً : (( جاء نافجاً حضنيه)) ، ومراده عليه السلام هذا الثاني ، و(( النثيل)) : الروث ، و(( المعتلف)) : موضع العلف ، يريد أن همّه الأكل والرجيع ، وهذا من ممض الذّم ، وأشد من قول الحطيئة الذي قيل : إنه أهجى بيت للعرب :
دَعِ المكارم لا تّرْحَلْ لِبُغْيَتِها ***** واقْعُدْ فإنَكَ أنتَ الطاعُم الكاسي [٢٠].
فهل يستطيع عكرمة أن يجاري الحطيئة في بلاغته وفصاحته ؟
لا أظن أن عاقلاً يقول بهذا الكلام .
وثانيهما : عند تعرّضه لآراء من شكّك في هذه الخطبة ، حيث قال : قال مصدق: وكان ابن الخشاب صاحب دعابة وهزل ، قال: فقلت له : أتقول أنها منحولة ؟! فقال : لا والله ، وإني لأعلم أنها كلامه ، كما أعلم أنك مصدق . قال : فقلت له : إن كثيراً من الناس يقولون : إنها من كلام الرضي رحمه الله تعالى .
فقال : أنّى للرضي ولغيرالرضي هذا النفَس وهذا الأسلوب ! قد وقفنا على رسائل الرضي ، وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور، وما يقع مع هذا الكلام في خلّ ولا خمر [٢١] .
فإن كان الشريف الرضي قدس سره الذي خضع له كل أديب ، وشهد له كل بليغ بالتضلع في اللغة ، بل قالوا : (( إنه أشعرقريش)) كما نقلنا ذلك سابقاً في ترجمته ، لا يستطيع أن يأتي بمثل هذا الكلام ، فكيف لعكرمة البربري أن يصنع مثله ؟
مضامين الخطبة الشقشقية :
بغض النظرعن البحث الصدوري وإثبات صحة السند من عدمه ، فإن مضامين الخطبة الشقشقية مستفيضة في الروايات الصحيحة الثابتة في كتب الموالف والمخالف ، فالمسألة لا تتوقف على هذه الخطبة بحيث لو أسقطت لم يبق دليل عند الشيعة .
١ – أنه عليه السلام كان يرى أنه أولى بالأمرممن سبقه :
فقد صرَّح أميرالمؤمنين عليه السلام بأنه أولى من أبي بكربالخلافة ، فقال : أما والله لقد تقمَّصها فلان وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى ، ينحدرعني السيل ، ولا يرقى إلَّي الطير [٢٢] .
وهذا الأمر تطفح به كتب المسلمين كافة ، بل هو محل إجماع بين الخاصة والعامة إلا من أعمى الله بصيرته .
فقد روى البلاذري في أنساب الأشراف ، عن روح بن عبد المؤمن ، عن أبي عوانة ، عن خالد الحذاء عن عبد الرحمن بن أبي بكرة : أن عليًّا أتاهم عائداً ، فقال : ما لقي أحد من هذه الأمة ما لقيت ، توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وأنا أحق الناس بهذا الأمر، فبايع الناس أبابكر، فاستخلف عمر، فبايعت ورضيت وسلّمت ، ثم بايع الناس عثمان ، فبايعت وسلّمت ورضيت ، وهم الآن يميلون بيني وبين معاوية [٢٣] .
وقد استعظم المخالفون هذه الرواية ، فحاولوا إخفاءها بشتّى الطرق ، وطمسها بكل الوسائل .
فنجد أنّ عبدالله بن أحمد بن حنبل تعمّد بترالحديث ، وإخفاء ما قاله أميرالمؤمنين عليه السلام ، وذلك في كتاب السنة ، حيث قال : حدثني أبي وعبيدالله بن عمرالقواريري ، وهذا لفظ حديث أبي ، قالا : حدثنا يحيى بن حماد أبوبكر، حدثنا أبو عوانة ، عن خالد الحذاء ، عن عبدالرحمن بن أبي بكرة أن عليًّا رضي الله عنه أتاهم عائداً ومعه عمار، فذكرشيئاً ، فقال عمار: ياأميرالمؤمنين . فقال : اسكت فوالله لأكونن مع الله على من كان ، ثم قال : ما لقي أحد من هذه الأمة ما لقيت ، إن رسول الله صلى الله عليه وآله توفي فذكرشيئاً ، فبايع الناس أبابكر فبايعت وسلّمت ورضيت ، ثم توفي أبو بكر، وذكر كلمة فاستُخلف عمر ، وذكرذلك : فبايعت وسلّمت ورضيت ، ثم توفي عمرفجُعل الأمرإلى هؤلاء الرهط الستة ، فبايع الناس عثمان ،فبايعت وسلّمت ورضيت ، ثم هم اليوم يميلون بيني وبين معاوية [٢٤] .
لاحظ أخي القارئ كيف حرّف عبدالله بن أحمد أوغيره من الرواة قول الإمام علي عليه السلام : (( وإنا أحق الناس بهذا الأمر)) إلى قوله ((فذكرشيئاً)) !
أما الثاني : فهو إمام أهل السنة والجماعة ، وصاحب أصحّ كتاب بعد كتاب الله عزَّوجل : محمد بن إسماعيل البخاري الذي روى هذا الخبر بعد تبديل ألفاظه ، قال : محمد بن عميرة النخعي ، قال : لي يحيى بن سليمان ، حدثني محمد ، قال : حدثنا شريك ، عن عبدالملك بن عمير، عن عبدالرحمن بن أبي بكرة ، قال : لما قدم عليّ البصرة قال لي : استأذن لي . يريد زياد فستأذنت فأذن له ، فذكرما لقي بعد النبي صلى الله عليه وآله ، وقال : توفي النبي صلى الله عليه وآله فظننت أني (كذا) فبويع لأبي بكرفسمعت وأطعت [٢٥] .
فالبخاري غيّر قول الإمام : (( ما لقي أحد من هذه الأمة مالقيت , توفي رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وأنا أحق الناس بهذا الأمر )) إلى قوله : (( فذكر مالقي بعد النبي صلى الله عليه واله وسلم وأنا أحق بهذا الأمر)) إلى قوله : (( فذكر مالقي بعد النبي صلى الله عليه واله وسلم , وتوفي النبي صلى الله عليه واله وسلم فظننت أني )) .
فانظر أخي القاريء كيف يخفي أئمة القوم الحقائق عن عوامهم , ويحرّفون النصوص .
٢- عدم ارتضائه عليه السلام على خلافة أبي بكر:
هو تصريحه بعدم رضاه على بيعة أبي بكر وحكومته ، لكنّه اختارالصبر والمداراة لهم حفاظاً على المصلحة العامة للإٍسلام .
قال عليه السلام : فسدلتُ دونها ثوباً، وطويتُ عنها كشحاً ، وطفقتُ أرتئي بين أن أصول بيد جذَّاء ، أو أصبرعلى طخية عمياء يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى رب ، فرأيتُ أن الصبرعلى هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى , وفي الحلق شجا , أرى تراثي نهبا [٢٦] .
ويدل على هذا الروايات التي تنص على امتناعه عن بيعة أبي بكر طيلة حياة فاطمة الزهراء عليها السلام ، والتي رواها البخاري في صحيحه بسنده عن عائشة ، قال : وعاشت بعد النبي صلى الله عليه وآله ستة أشهر، فلما توفّيت دفنها زوجها عليّ ليلاُ ، ولم يؤذن بها أبا بكر، وصلى عليها ، وكان لعلًّي من الناس وَجْهٌ حياةَ فاطمة ، فلما توفّيت استنكرعلّيٌ وجوه الناس ، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته ، ولم يكن يبايع تلك الأشهر [٢٧].
وعدم المبايعة لا يكون إلا لعدم رضاه بتلك البيعة ، خصوصاً مع وجود روايات كثيرة في الوعيد لمن تخلَف على بيعة إمام المسلمين ، كالحديث الوارد في صحيح مسلم عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، قال: من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية [٢٨] .
وما ورد في مسند أحمد عن معاوية ، قال : رسول الله صلى الله عليه وآله : من مات بغيرإمام مات ميتة جاهلية [٢٩] .
ومما يثبت هذا أيضاً ما ورد في كتب القوم من الهجوم على بين فاطمة عليها السلام لإرغام أميرالمؤمنين عليه السلام وبني هاشم على بيعة أبي بكر، وتهديدهم بحرق البيت إن لم يبايعوا كما بايع الناس .
منها : ما رواه ابن ابي شيبة بسند صحيح عن زيد بن أسلم ، عن أبيه أسلم ، أنه حين بويع لأبي بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله كان علي والزبير يدخلان على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله فيشاورونها ، ويرتجعون في أمرهم ، فلما بلغ ذلك عمربن الخطاب خرج حتى دخل على فاطمة ، فقال : يا بنت رسول الله صلى الله عليه وآله والله ما أحد أحب إلينا من أبيك ، وما من أحد أحب إلينا بعد أبيك منك ، وأيم الله ما ذاك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفرعندك ، أن أمرتهم أن يحرق عليهم البيت . قال : فلما خرج عمر جاؤوها، فقالت : تعلمون أن عمر قد جاءني ، وقد حلف بالله لئن عدتم ليحرقن عليكم البيت ، وأيم الله ليمضيّن لما حلف عليه ، فانصرفوا راشدين ، فروا رأيكم ولا ترجعوا إليّ . فانصرفوا عنها ، فلم يرجعوا إليها حتى بايعوا لأبي بكر [٣٠] .
وروى الطبري في تاريخع بسنده عن زياد بن كليب ، قال : أتى عمربن الخطاب منزل علي ، وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين ، فقال : والله لأحرقن عليكم أو لتخرجن إلى البيعة . فخرج عليه الزبير مصلتاً بالسيف ، فعثر، فسقط السيف من يده ، فوثبوا عليه فأخذوه [٣١] .
وروى عبدالله بن أحمد بسنده عن ابن شهاب ، قال : وغضب رجال من المهاجرين في بيعة أبي بكر ، منهم علي بن أبي طالب ، والزبيربن العوام فدخلا بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله ومعهما السلاح ، فجاءها عمر في عصابة من المسلمين ، فيهم أسيد وسلمة بن سلامة بن وقش ، وهما من بني عبد الأشهل ، ويقال : فيهم ثابت بن قيس بن الشماس ، أخو بني الحارث بن الخزرج ، فأخذ أحدهم سيف الزبيرفضرب به الحجرحتى كسره . قال موسى بن عقبة : قال سعد بن إبراهيم : حدثني إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أن عبدالرحمن كان مع عمر يومئذ ، وأن محمد بن مسلمة كسرسيف الزبير[٣٢] .
فهذه الرواية صريحة الدلالة في معارضة أميرالمؤمنين عليه السلام لبيعة أبي بكر، وهو ما جعل هذا الأخير يستخدم القوة ليجبرهم على البيعة .
ولا يظنّن أحد أن الرواية الأولى نصّ في أن الامام عليه السلام قد بايع أبابكر؛ لقول الراوي : ((فانصرفوا عنها ، فلم يرجعوا إليها حتى يابعوا لأبي بكر)) ؛ لأنه خارج عن هذا العموم بدليل رواية عائشة في البخاري التي نصّت على أنه لم يبايع إلا بعد أكثرمن ستة أشهر.
وقد اعترف ابن تيمية الحرّاني بهذه الحقيقة ، ولم يستطع إخفاءها رغم عناده ومكابرته ، فقد قال في منهاجه : ونحن نعلم يقيناً أن أبا بكرلم يقدم على علي والزبير بشيء من الأذى ، بل ولا على سعد بن عبادة المتخلّف عن بيعته أولاً وآخراً ، وغاية ما يقال : إنه كبس البيت لينظرهل فيه شيء من مال الله الذي يقسمه ، وأن يعطيه لمستحقه [٣٣] .
أما عن جنوحه للسلم فقد روى أحمد في مسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : إنه سيكون بعدي اختلاف أو أمر ، فإن استطعت أن تكون السلم فافعل [٣٤] .
ولا يمكن أن تحمل هذه الرواية إلا على خلافة أبي بكر وعمروعثمان ، فهذا الخبر يتحدّث عن الفترة اللاحقة لوفاة النبي صلى الله عليه وآله ، وهذه الفترة اشتملت على مرحلتين :
الأولى : كان فيها أميرالمؤمنين عليه السلام محكوماً بالشيخين .
والثانية : كان فيها حاكما ، وهذه الأخيرة لا يمكن أن تكون هي المرادة بالحديث ؛ وذلك لأن أميرالمؤمنين لم ينجح للسلم ، بل دخل في ثلاثة حروب متواصلة واستشهد وهو يجيّش الجيوش لمواصلة الحرب الثالثة ، فلا يبقى إلا الاحتمال الأول ، وهو مسالمة الخلفاء السابقين له .
٣ – استخلاف أبي بكر لعمر بن الخطاب :
استخلاف أبي بكر لعمربن الخطاب كان مثاراً لتعجّب أميرالمؤمنين عليه السلام ؛ لأن أبا بكراستقال في بادئ أمره .
قال عليه السلام : فيا عجباً بينا هو يستقيلها في حياته ؛ إذ عقدها لآخر بعد وفاته ، لشدَّ ما تشطَّر ضرعيها [٣٥].
أما الاستقالة في حياته فقد رواها الإمام أحمد بن حنبل في فضائل الصحابة بسنده عن أبي الجحاف داوود بن أبي عوف ، قال : لما بويع أبوبكرأغلق بابه ثلاثاً ، يقول : أيها الناس ، أقيلوني بيعتكم ... [٣٦] .
قال القرطبي : ويجب عليه (أي الخليفة) أن يخلع نفسه إذا وجد في نفسه نقصاً يؤثر في الإمامة ، فأما إذا لم يجد نقصاً فهل له أن يعزل نفسه ويعقد لغيره ؟
اختلف الناس فيه ، فمنعهم من قال : ليس له أن يفعل ذلك ، وإن فعل لم تنخلع امامته ، ومنهم من قال : له أن يفعل ذلك . والدليل على أن الإمام إذاعزل نفسه انعزل قول أبي بكرالصديق : أقيلوني أقيلوني . وقول الصحابة (( لا نقيلك ولا نستقيلك ، قدَّمك رسول الله صلى الله عليه وآله لديننا فمن ذا يؤخرك! رضيك رسول الله صلى الله عليه وآله لديننا فلا نرضاك !)) ، فلو لم يكن له أن يفعل ذلك لأنكرت الصحابة ذلك عليه ، ولقالت له : ليس لك أن تقول هذا ، وليس لك أن تفعله . فلما أقرّته الصحابة على ذلك عُلم أن للإمام إن يفعل ذلك [٣٧] .
وقال ابن تيمية : ومن المعلوم أن أبابكر لم يطلب الأمرلنفسه ، لا بحق ولا بغيرحق ،حق ، بل قال : قد رضيتُ لكم أحد هذين الرجلين : إما عمربن الخطاب ، وإما أبا عبيدة . قال عمر: فوالله لأن أقدَّم فتضرب عنقي ، لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلى من أن أتأمّرعلى قوم فيهم أبوبكر. وهذا اللفظ في الصحيحين ، وقد روي عنه أيضاً أنه قال : (( أقيلوني أقيلوني)) ، فالمسلمون اختاروه ، وبايعوه ؛ لعلمهم بأنه خيرهم [٣٨] .
ثم إن الخلافة كانت مداولة بينهما ، ففي السقيفة كان بطل الموقف عمربن الخطاب الذي واجه الأنصار، وكان أول من بايع أبي بكر، ثم هذا الأخير ردَّ إليه الأمر بعد أن قضى وطره منه .
-----------------------------------------------------------------------------------
[١] . علل الشرائع ١/ ١٥١ .
[٢] . علل الشرائع ١ / ١٥٣ .
[٣] . أمالي الشيخ ١/١٥٣ .
[٤] . نفس المصدر ١/ ٣٨٢ .
[٥] . نوادر المعجزات : ٤٤ .
[٦] . منهاج البراعة ١ / ١٣١ .
[٧] . الطرائف في معرفة الطوائف : ٤٢٠ .
[٨] . القول المسدد ٦٢ .
[٩] . المجموع ٧ / ١٩٧ .
[١٠] . الجمل : ٦٢ .
[١١] . الأربعين : ١٦٦ .
[١٢] . الاحتجاج : ١٠ .
[١٣] . بحارالأنوار ٢٩ / ٥٠٥ .
[١٤] . شرح نهج البلاغة ١ / ٢٠٦ .
[١٥] . علل الشرائع ١ / ١٥٢ .
[١٦] . سير أعلام النبلاء ١٦ / ٤١٤ .
[١٧] . النهاية في غريب الحديث ٢ / ٤٩٠ .
[١٨] . القاموس المحيط ٣ / ٢٥١ .
[١٩] . لسان العرب ١٠/ ١٨١ .
[٢٠] . شرح ابن أبي الحديد ١ / ١٩٧ .
[٢١] . نفس المصدر١ / ٢٠٥ .
[٢٢] . شرح ابن أبي الحديد ١ / ٢٠٥ .
[٢٣] . أنساب الأشراف ٢ / ١٧٧ .
[٢٤] . السنة ٤٠٤ .علق المحقق على الخبر بقوله : رجاله ثقات .
[٢٥] . التاريخ الكبير ١ / ١٩٥ .
[٢٦] . نهج البلاغة ١ / ٣١ .
[٢٧] . صحيح البخاري ٥ / ٨٢ .
[٢٨] . صحيح مسلم ٦ / ٢٢ .
[٢٩] . مسند أحمد بن حنبل ٤ / ٩٦ . وقد علق شعيب الأنؤوط على هذا الحديث بقوله : حديث صحيح لغيره ، وهذا إسناد حسن من أجل عاصم – وهو ابن بهدلة – وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين ، غيرأن أبابكر – وهو ابن عياش ، إنما روى له مسلم في المقدمة ، وهو صدوق حسن الحديث .
[٣٠] . مصنف ابن أبي شيبة ٨ / ٥٧٢ .
[٣١] . تاريخ الطبري ٢ / ٤٤٣ .
[٣٢] . منهاج السنة ٢ / ٥٥٤ .
[٣٣] . منهاج السنة ٨ / ٢٠٨ .
[٣٤] . مسند أحمد بن حنبل ١ / ٩٠ . وقد أخرج هذا الحديث الهيثمي في مجمع الزوائد ٧ / ٢٣٤ ، وعلق عليه بقوله : رواه عبدالله ، ورجاله ثقات .
[٣٥] . نهج البلاغة ١ / ٣١ .
[٣٦] . فضائل الصحابة ١ / ١٥١ .
[٣٧] . الجامع لأحكام القرآن ١ / ٢٧٢ .
[٣٨] . منهاج السنة ٢/ ٥٠ .
يتبع ......