وقال (عليه السلام): مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا.                
وقال (عليه السلام): لَيْسَ بَلَدٌ بأَحَقَّ بِكَ مِنْ بَلَد، خَيْرُ الْبِلاَدِ مَا حَمَلَكَ.                
وقال (عليه السلام) : هَلَكَ فِي رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ غَال ، وَمُبْغِضٌ قَال .                
وقال (عليه السلام): مَا أَخَذَ اللهُ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُعَلِّمُوا.                
وقال (عليه السلام): خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ، وَإِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ .                
وقال (عليه السلام): قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِير مَمْلُول مِنْهُ .                
وقال (عليه السلام): إِذَا وَصَلَتْ إِليْكُمْ أَطْرَافُ النِّعَمِ فَلاَ تُنْفِرُوا أَقْصَاهَا بِقِلَّةِ الشُّكْرِ .                

Search form

إرسال الی صدیق
دفع الإشكالات وهدم التشكيكات حول الخطبة الشقشقية – الثاني

الشيخ أحمد سلمان

٤ – خلافة عمربن الخطاب :

تحدّث أميرالمؤمنين عليه السلام في هذا المقطع على حكومة عمربن الخطاب ، وتعرَّض إلى غلظة الرجل وخشونته في إدارة شؤون المسلمين ، فقال الإمام عليه السلام فصيَّرها في حوزة خشناء ، يغلظ كلامها ، ويخشن مسّها ، ويكثرالعثارفيها والاعتذارمنها ، فصاحبها كراكب الصعبة ، إن أشنق لها خرم ، وإن أساس لها تقحم ، فمُنِيَ الناس لعمرالله بخبط وشماس وتلون واعتراض [١] .

أما غلظة عمر فهي من الأمورالمعروفة والمشهورة التي لا ينكرها أحد من النّاس ، وما ذكر في الخطبة الشقشقية ليس إلا غيضاً من فيض ، وإلا فإن فضاضته تكاد تكون أشهر من بعض البلدان .

فقد روى البخاري في صحيحه بسنده عن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه ، قال : أستاذن عمربن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وآله ، وعنده نسوة من قريش يكلمنه ويستكثرنه عالية أصواتهن على صوته ، فلما أستاذن عمربن الخطاب قمن ، فبادرن الحجاب ، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وآله ، فدخل عمر ورسول الله صلى الله عليه وآله يضحك ، فقال عمر: أضحك الله سنَّك يا رسول الله ، فقال النبي صلى الله عليه وآله : عجبت من هؤلاء اللاتي كنَّ عندي ، فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب . فقال عمر: فأنت أحق أن يهبن يا رسول الله . ثم قال عمر: يا عدّوات أنفسهن ، أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ فقلن : نعم ، أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وآله [٢] .

فهذا إقرار من النبي صلى الله عليه وآله لكلام النساء اللواتي شهدن بفضاضة عمر وغلظته  وجلافته .

وهذا الأمراستمر حتّى استخلفه أبوبكر، ولهذا لاقى معارضة من كبار الصحابة بسبب معرفتهم المسبقة بغلظة عمر، وقد روى ابن أبي شيبة بسنده عن زبيد ، قال : لما حضرت أبابكر الوفاة أرسل إلى عمر ليستخلفه ، قال : فقال الناس : أتستخلف علينا فظَّا غليظاً ، فلو ملكنا كان أفظ وأغلظ ، ماذا تقول لربك إذا أتيته وقد استخلفته علينا ؟ قال : تخوفوني بربي ! أقول : اللهم أمرَّتُ عليهم خير أهلك [٣] .

وقد بيَّنت الروايات أن المعترضين كانوا كبارالصحابة كما في لفظ الطبري : عن أسماء ابنة عميس ، قالت : دخل طلحة بن عبيدالله على أبي بكر، فقال : استخلفت على الناس عمر، وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه ، فكيف به إذا خلا بهم وأنت لاق ربك ، فساءلك عن رعيتك ؟ فقال أبوبكروكان مضطجعاً : أجلسوني . فأجلسوه ، فقال لطلحة : أبالله تفرقني ، أو أبالله تخوّفني ، إذا لقيت الله ربي فساءلني قلت : استخلفت على أهلك خيرأهلك [٤] .

أما تفاصيل هذه الفظاظة والجلافة فحدّث ولا حرج ؛ إذ أنّ السمة العامة لحكمه كان الضرب والجلد وتعنيف المسلمين والمسلمات ، فلم يسلم من درّه عمربن الخطاب وسوطه أحد!

فكان يجلد كل من يسأل عن المعارف الدينية من قرآن  وعقائد وفقه عوضاً عن إجابتهم .

فقد ضرب الصحابي صَبِيْغاً لأنه سأل عن آیات من القرآن كما ذكرابن حجرفي الإصابة عند ترجمته لصبيغ ، قال : له إدراك ، وقصّته مع عمرمشهورة ، روى الدارمي من طريق سليمان بن يسار، قال : قدم المدينة رجل يقال له صَبِيْغ – بوزن عظيم وآخرمهملة [٥] – ابن عسل ، فجعل يسأل عن متشابه القرآن ، فأرسل إليه عمر، فأعدَّ له عراجين النخل ، فقال : من أنت ؟ قال : أنا عبدالله صبيغ . قال : وأنا عبدالله عمر. فضربه حتى أدمى رأسه ، فقال : حسبك يا أميرالمؤمنين ، قد ذهب الذي كنت أجده في رأسي [٦] .

وضرب عمررجلاُ لأنه سأل عن قوله تعالى : (وَفاكِهَةً وَأَبَا) (عبس ٣١) ، كما روى ذلك ابن حجرفي الفتح ، قال : وأخرج عبد بن حميد أيضاً من طريق إبراهيم النخعي ، عن عبدالرحمن بن يزيد ، أن رجلاً سأل عمرعن فاكهة وأبًّا ، فلما رآهم عمر يقولون أقبل عليهم بالدَّرَّة [٧] .

وضرب من اشتغل بالتدبرفي كتاب الله عزَّوجل ، فقد قال السيوطي : وأخرج ان راهوية في مسنده عن محمد بن المنتشر، قال : قال رجل لعمربن الخطاب : إني لا أعرف أشدَّ آیة في كتاب الله . فأهوى عمر، فضربه بالدَّرَّة [٨] .

ولم يسلم من جلد عمربن الخطاب المصلّين ، ففي كتاب الله منع الله أن يُنهى المصلي عن صلاته ، لكن الرجل تجاوزالأمر إلى جلدهم وضربهم ؛ لمنعهم من الصلاة التي لا تعجب عمر وإن كانت مشروعة !

فمنها : قصّة ضرب عمربن الخطاب للصحابي زيد بن خالد التي أخرجها أحمد في مسنده عن حجاج مولى الفارسي ، عن زيد بن خالد أنه رآه عمربن الخطاب وهو خليفة ركع بعد العصرركعتين ، فمشى إليه فضربه بالدَّرَّة وهو يصلي كما هو، فلما انصرف قال زيد : ياأميرالمؤمنين فوالله لاأدعهما أبداً بعد أن رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله یصلیهما . قال : فجلس إليه عمر، وقال : يا زيد بن خالد لولا أني أخشى أن يتخذها الناس سلماً إلى الصلاة حتى الليل لم أضرب فيهما [٩] .

ومنها : قصّة ضربه لتميم الداري التي رواها الذهبي في (سيرأعلام النبلاء) عن وبرة ، قال : رأى عمرتميماً الداري يصلي بعد العصر، فضربه بدرَّته على رأسه ، فقال له تميم : يا عمر، تضربني على صلاة صليتها مع رسول الله صلى الله عليه وآله قال : يا تميم ، ليس كل الناس يعلم ما تعلم [١٠] .

ومنها : قصّة ضربة لأحد الصحابة لكونه التفت في صلاته ، فقد قال ابن حجرفي تلخيص الحبير: وروى محمد بن نصرالمروزي في صلاة الليل من طريق زيد بن وهب ، قال : لما أذّن المؤذن بالمغرب قام رجل يصلي ركعتين ، فجعل يلتفت في صلاته ، فعلاه عمر بالدَّرَّة ، فلما قضى الصلاة سأله ، فقال : رأيتك تلتفت في صلاتك [١١] .

ولم يتوقف الأمرعند هذا الحد، بل نجد أن درّة عمرأخذت نصيبها من النساء ، فإن الرجل كان يهوى جلد النساء وإيذاءهن .

فقد ذكرابن حجرفي الفتح قصة ضربه للصاحبية أم فروة ، قال : وصله ابن سعد في الطبقات بإسناد صحيح من طريق الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، قال : لما توفي أبوبكرأقامت عائشة عليه النوح ، فبلغ عمرفنهاهن ، فأبَينَ ، فقال لهشام بن الوليد : اخرج إلى بيت أبي قحافة – يعني أم فروة - ، فعلاها بالدّرّة ضربات ، فتفرَّ النوائح حين سمعن بذلك [١٢] .

وروى عبد الرزاق الصنعاني في المصنَّف قصة ضربه لمجموعة من النساء ، قال : عن عمرو بن دينار، قال: لما مات خالد بن الوليد اجتمع في بيت ميمونة نساء يبكين ، فجاء عمرومعه ابن عباس ومعه الدّرّة ، فقال : يا أباعبدالله ! ادخل على أم المؤمنين فأمرها فلتحتجب ، وأجرجهنّ علي . قال : فجعل يخرجهن عليه وهو يضربهن بالدّرّة ، فسقط خمارأمراة منهن ، فقالوا : ياأميرالمؤمنين ، خمارها ! فقال : دعوها ولا حرمة لها [١٣] .

وكان عمر يضرب الجواري والإماء لأنهن يسترون شعورهن عن الأجنبي كما أمرالله سبحانه وتعالى ، بذريعة أنهن يتشبَّهن بالحرائراللاتي يسترن شعورهن .

فقد روى ابن أبي شيبة قصة ضربة لجارية أنس بن مالك : عن أنس قال : رأى عمرأمة لنا متقنَّعة ، ضربها ، وقال : لا تَشَبَّهي بالحرائر [١٤] .

وروى أيضاً قصّة ضربة لجارية أحد الصحابة : عن أنس بن مالك قال : دخلتْ على عمربن الخطاب أمة قد كان يعرفها لبعض المهاجرين أوالأنصاروعليها جلباب متقنَّعة به ، فسألها : عُتِقْتِ ؟ قالت : لا . قال : فما بال الجلباب ؟ ضعيه على رأسك ، إنما الجلباب على الحرائر من نساء المؤمنين . فتلكَّأت ، فقام إليها بالدرة ، فضرب بها برأسها ، حتى ألقته عن رأسها [١٥] .

وهكذا كان دأبه في التعامل مع الجواري والإماء حتى قال عنه السرخسي في المبسوط : كان إذا رأى جارية متقنّعة علاها بالدّرّة ، وقال : ألقي عنك الخمار يا دفار [١٦]، أتتشبَّهين بالحرائر؟ وكذلك المكاتبة ، والمدبرة ، وأم الولد ؛ لان الرق قائم فيهن [١٧] .

ومن هنا كان الجواري لا يتحجّبن ولا يسترن أجسادهن في بيته ، وقد روى البيهقي في السنن عن أنس بن مالك ، قال : كن إماء عمر يخدمننا كاشفات عن شعورهن ، تضرب ثديهن [١٨] .

وتطبيقاً لقاعدة : (( الأقربون أولى بالمعروف)) فإن زوجة عمربن الخطاب كان لها نصيب وافر من الضرب والجلد ، فقد روى ابن ماجة في سننه عن الأشعث بن قيس ، قال : ضفت عمرليلة ، فلما كان في جوف الليل قام إلى امرأته يضربها بها ، فحجزت بينهما [١٩] .

وبلغ به العنف والفظاظة مبلغاً عظيماً حتَى نقل ابن سعد عنه حادثة غريبة جداًّ لا تكاد تصدّق ، فقد روى عن علي بن زيد أن عاتكة بنت زيد كانت تحت عبدالله بن أبي بكر، فمات عنها ، واشترط عليها أن لا تزوّج بعده ، فتبتَّلت ، وجعلت لا تزوج ، وجعل الرجال يخطبونها ، وجعلت تأبى ، فقال عمرلوليّها : اذكرني لها . فذكرها لها فأبت عمرأيضاً ، فقال : زوَّجنيها . فزوَّجه إياها ، فأتاها عمر، فدخل عليها ، فعاركها حتى غلبها على نفسها ، فنكحها ، فلما فرغ قال : أفَّ أفَّ أفَّ .أَفَّفَ بها .ثم خرج من عندها ، وتركها لايأتيها . فأرسلت إليه مولاة لها أن تعال ، فإني سأتهيّأ لك [٢٠] .

كما أن الأطفال الصغارلم يسلموا من هذه الدرّة ، فقد جعلها عمرسوط عذاب عليهم ، فكان يضربهم بسبب وبدون سبب .

فقد ذكرابن أبي حاتم الرازي في ترجمة شرحبيل على لسانه ، قال : رأيت عمربن الخطاب رضى الله عنه ونحن غلمان نلعب في المسجد ، فضربنا بالمخفقة [٢١] .

وروى الصنعاني في مصنفه عن عكرمة بن خالد ، قال : دخل ابن لعمربن الخطاب عليه وقد ترجّل ، ولبس ثياباً حساناً ، فضربه عمربالدرة حتى أبكاه ، فقالت له حفصة : لم يكن فاحشاً  لم ضربته ؟ فقال : رأيته قد أعجبتْه نفسه ، فأحببت أن أصغّرها إليه [٢٢] فغلظة عمر وجلافته أمرمتواتر ومقطوع به ، وما ذُكر في الخطبة الشقشقية هو مجّرد تصويرللواقع المسلَّم به بين كل المسلمين .

وقد أشارابن أبي الحديد في مقدمة النهج إلى هذا المعنى بإشارة لا تخفى على اللبيب عند ذكره لخصال أميرالمؤمنين عليه السلام ، حيث قال : وقد بقي هذا الخلق متوارثاً متناقلاً في محبيه وأوليائه إلى الآن ، كما بقي الجفاء والخشونة والوعورة في الجانب الآخر، ومن له أدنى معرفة بأخلاق الناس وعوائدهم يعرف ذلك [٢٣] .

٥ – الشورى العمرية :

يذكرأميرالمؤمنين عليه السلام في هذه الفقرة كيفية انتقال الخلافة من عمربن الخطاب إلى عثمان بن عفّأن بما يسمّى بالشورى ، قال عليه السلام : حتى إذا مضى لسبيله ، جعلها في جماعة زعم أني أحدهم ، فيا لله وللشورى ، متى اعترض الريب فيّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر،لكني أسففت إذ أسفّوا، وطرت إذ طاروا ، فصغى رجل منهم لضغنه ، ومال الآخرلصهره ، مع هن وهن [٢٤].

ففي هذا المقطع يصرّح الإمام علي عليه السلام برفضه للشورى ، ويبيّن أنها كانت خديعة كبرى ومؤامرة عظمى أريد بها إقصاؤه عن سدّة الخلافة .

وهذا المعنى أيضاً موجود في كتب المخالفين المعتبرة ، بل هو مستفيض .

فقد روى الطبري في تاريخه عن عبدالرحمن بن عوف ، قال : إني قد نظرت وشاورت ، فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلاً .ودعا عليَّا ، فقال : عليك عهد الله وميثاقه لتعملنَّ بكتاب الله ،و سُنّة رسوله ، وسيرة الخليفتين من بعده .

قال : أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي . ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلي ، قال : نعم فبايعه، فقال علي : حَبَوْتَه حبو دهر، ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا ، فصبرجميل والله المستعان على ما تصفون ، والله ما ولّيتَ عثمان إلا ليرد الأمرإليك ، والله كل يوم هوفي شأن . فقال عبدالرحمن : يا علي لا تجعل على نفسك سبيلاً ، فأني قد نظرت وشاورت الناس ، فإذا هم لا يعدلون بعثمان .فخرج علي وهو يقول : سيبلغ الكتاب أجل [٢٥] .

وقد أخرج ابن شبّة النميري هذا الأثر في كتابه (تاريخ المدينة) [٢٦] مسنداُ ، وابن الفدا في تاريخه [٢٧] ، وغيرهما من المؤرخين الذين ارتضوا هذا النّقل .

وهذا نصّ صريح في أن الشورى العمرية هي مؤامرة ضد أهل البيت عليهم السلام، ولذلك قال أميرالمؤمنين عليه السلام : (ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا)) ، بل يفهم منه أيضاً عدم رضاه ببيعة المتقدمين عليه ، مما يجعل من هذا النصّ شاهد آخرعلى صحة ما ادّعيناه .

بل إن عبدالله بن عباس رضى الله عنه كان ممّن يرى أن الشورى خديعة ومؤامرة لإبعاد أميرالمؤمنين عليه السلام ، فقد روى عبدالرزاق في مصنفه عن المسور بن مخرمة ، قال في كلام طويل : اجتمع الناس إلى عبدالرحمن ، فحمد الله وأثنى عليه ،ثم قال : أما بعد ، فإني نظرت في الناس ، فلم أرهم يعدلون بعثمان ، فلا تجعل يا علي على نفسك سبيلاُ . ثم قال : عليك يا عثمان عهدالله ، وميثاقه ، وذمته وذمة رسول الله صلى الله عليه وآله أن تعمل بكتاب الله ، وسنة نبيه صلى الله عليه وآله ، وبما علم به الخليفتان من خرج ، فلقيه ابن عباس ، فقال : خُجىعْتَ . فقال علي : أو خديعة هي ؟ [٢٨] .

فليس علي عليه السلام فقط يرى أن الأمرخديعة ، بل إن ابن عبّاس رضى الله عنه كذلك ، ولعلّ جملة من الصحابة كانوا يرون الأمرهكذا ، لكن لم ينقل لنا ذلك .

ولا يتوهّم أحد أنّ استفهام أميرالمؤمنين عليه السلام لابن عباس رضى الله عنه هو حقيقيّ ، بمعنى أنه لا يعلم بما حصل ، بل إن هذا الاستفهام تقريري يريد من خلاله أميرالمؤمنين عليه السلام إفهام ابن عبّاس أنه على علم بما يدبرونه من مكيدة ، وليس خديعة كما توهّم هو ، إذ أنّ دخوله في الشورى كان لأقامة الحجّة عليهم .

٦ – خلافة عثمان بن عفان :

في هذه الفقرة تعرّض أميرالمؤمنين عليه السلام لحال عثمان أيام خلافته ، وما حصل فيها من مخالفات ، فقال : إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع ، إلى أن انتكث فتله ، وأجهزعليه عمله ، وكَبّتْ به بطنته [٢٩] .

والمصائب التي حصلت في خلافة عثمان لا يمكن استقصاؤها على عجالة ، ولا يُقدرعلى حصرها بإيجاز، لكن سنذكربعض الشواهد التي تؤيّد ما ذكرفي الخطبة .

فقد روى نعيم بن حمّأد في الفتن عن ابن المبارك ، عن الإعمش ، عن أبي وائل ، أن عبدالله بن مسعود ذكرعثمان يوماً ، فقال : أهلكه الشح ، وبئست البطانة أو بطانة السوء . قال : قلنا له : ألا تخرج فنخرج معك ؟ فقال :لأن أزاول جبلاً راسياً أهون عليَّ من أن أزاول ملكاً مؤجلا [٣٠] .

فهذه الرواية تنقل لنا صراحة السّبب في قتل المسلمين لعثمان بن عفان على لسان الصحابي عبدالله بن مسعود ، فالأمرالأول هوالشح ، والثاني هو بطانة السوء وهو موافق تماماً لما ذكرفي الخطبة الشقشقية .

وكالعادة حاول القوم إخفاء هذه الحقائق ، فعمدوا إلى تحريف الرواية وتبديل ألفاظها ، إذ أن أبي شيبة أخرج الرواية في مصنّفه بنفس السند، لكن مع إسقاط عثمان ، وإبداله بلفظ رجل .

قال : وكيع قال : حدثنا الأعمش ، عن شقيق ، عن عبدالله وذكررجلاً ، فقال : أهلكه الشح ، وبطانة السوء [٣١] .

وأخرج النسائي بسنده عن أبي إسحاق ، عن العلاء ، قال : سأل رجل ابن عمرعن عثمان ، قال : كان من الذين تولوا يوم التقى الجمعان ، فتاب الله عليه ، ثم أصاب ذنباً ، فقتلوه [٣٢] .

وليعلم القارئ أن الذين قتلوا عثمان هم كبارالصحابة ، ولم يكونوا من المنافقين أو المصريين كما يحاول البعض التلبيس على الناس ، وهذا إن دلّ على شيء فإنه يدّل على إجماع المسلمين في ذلك الوقت على فساد حكومة عثمان ، وانحرافها على جادة الحق .

 فقد روى أحمد في مسنده بسنده عن ابن عمرأن عثمان أشرف على أصحابه وهو محصور، فقال : علامّ تقتلوني ؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله یقول : (( لا يحل دم أمرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل زنى بعد إحصانه ، فعليه الرجم ، أو قَتَل عمداً فعليه القود ، أو ارتدَّ بعد إسلامه فعليه القتل)) ، فوالله ما زنيت في جاهلية لا إسلام ، ولا قتلت أحداً فأقيد نفسي منه ، ولا ارتددت منذ آسلمت إني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله [٣٣] .

فعثمان يصرّح أن الذين يحاولون قتله أصحابه ، وليسوا أناساً أجانب عن المدينة أو مندسّين كما يعبّر عنهم في هذه الأيام .

بل روى الخلال في (كتاب السنة) عن عبدالله بن أحمد بن حنبل عن أبيه ما هو أصرح من هذا ، حيث نقل عن سفيان قوله : أهل المدينة لّما وثبوا على عثمان فقتلوه قال لهم سعد : أمعاوية خيرعندكم من عثمان ؟ قالوا : لا ، بل عثمان .

قال : فلا تقتلوه . قالوا : نكله إلى الله . قال : كذبة والله [٣٤] .

وطبعاً لم يعجب هذا الأثرمحقق الكتاب ، فحاول تزييف الحقائق كالمعتاد ، وتحميل النص ما لا يحتمله ، فقال : الحق أنهم الخارجون الذين جاؤوا من خارج المدينة ، من الكوفة ، والبصرة ومصر، وهم أتباع ابن سبأ وصنائعه [٣٥] .

فالعجب كل العجب من هذا الدكتور! سفيان يقول : إن قتلة عثمان أهل المدينة ، ويأبى هذا المتمشيخ إلا أن يكونوا من أهل الكوفة ومصر وإتباع ابن سبأ .

بل إن طلحة قد اعترف بتأليبه النّاس على عثمان ومشاركته في سفك دمه ، وذلك فيها رواه الذهبي في السير، بسنده عن علقمة بن وقاص الليثي ، قال : لما خرج طلحة والزبير وعائشة للطلب بدم عثمان ، عرجوا عن منصرفهم بذات عرق ، فاستصغروا عروة بن الزبير ، وأبابكربن عبد الرحمن ، فردوهما ، قال : ورأيت طلحة ، وأحب المجالس إليه أخلاها ، وهو ضارب بلحيته على زوره ، فقلت : يا أبا محمد ! إني أراك وأحب المجالس إليك أخلاها ، إن كنت تكره هذا الأمر، فدعه فقال : يا علقمة ! لا تلمني ، كنا أمس يداً واحدة على من سوانا ، فأصبحنا اليوم جبلين من حديد ، يزحف أحدنا إلى صاحبه ، ولكنه كان مني شيء في أمرعثمان ، مما لا أرى كفارته إلا سفك دمي ، وطلب دمه [٣٦] .

فالخبرفيه اعتراف صريح من طلحة بمشاركته في قتل عثمان وتأليب النّاس عليه ، ولذلك أراد الذهبي أن يبرّرله  لينفذ ما عرف بعدالة جميع الصحابة ، فعلّق على هذا الخبر بقوله : الذي كان منه في حق عثمان تمغفل وتأليب ، فعله باجتهاد ، ثم تغيَّرعندما شاهد مصرع عثمان ، فندم على ترك نصرته ، وكان طلحة أول من بايع عليًّا ، أرهقه قتلة عثمان ، وأحضروه حتى بايع [٣٧] .

والأصرح من هذا ما نقله ابن قتيبة في  (الإمامة والسياسة) من تعداد سعد بن أبي وقاص لقتله عثمان في كتاب له لعمربن العاص ، قال : كتب عمرو بن العاص إلى سعد يسأله عن قتل عثمان ، ومن قتله ، ومن تولى كبره ؟ فكتب إليه سعد : إنك سألتني من قتل عثمان ؟ وإني أخبرك أنه قُتل بسيف سلّته عائشة ، وصقله طلحة ، وسمّه ابن أبي طالب ، وسكت الزبير وأشاربيده ، وأمسكنا نحن ، ولو شئنا دفعنا عنه ، ولكن عثمان غيّر وتغيّر، وأحسن وأساء، فإن كنا أحسنا فقد أحسنا، وإن كنا أسأنا فنستغفرالله [٣٨].

فكل هذه الأمورتثبت أنَ كبار الصحابة لم يكونوا يرتضون خلافة عثمان ؛ لعدوله عن الحق ، واستبداده بأموال المسلمين ، ومحاباته لبني أمية دون غيرهم .

ومما يدّل على هذا أيضاً ما حصل لعثمان بن عفان بعد موته ، فقد روى الطبراني بسنده عن عبد الملك الماجشون ، قال : سمعت مالكاً يقول : قُتل عثمان فأقام مطروحاً على كناسة بني فلان ثلاثاُ ، فأتاه اثنا عشر رجلاً ، فيهم جدي مالك بن أبي عامر، وحويطب بن عبد العزى ، وحكيم بن حزام ، وعبدالله بن الزبير، وعائشة بنت عثمان ، معهم مصباح في حق ، فحملوه على باب ، وإن رأسه يقول على الباب : طق طق ، حتى أتوا به البقيع ، فاختلفوا في الصلاة عليه ، فصلى عليه حكيم بن حزام ، أو حويطب بن عبد العزى ، شكَّ عبدالرحمن ، ثم أردوا دفنه فقام رجل بني مازن فقال : والله لئن دفنتموه مع المسلمين لأخبرن الناس . فحملوه حتى أتوا به إلى ( حش كوكب) ، فلما دلوه في قبره صاحت عائشة بنت عثمان ، فقال لها ابن الزبير: اسكتي فوالله لئن عدتِ لأضربن الذي فيه عيناك . فلما دفنوه وسووا عليه التراب قال لها ابن الزبير: صيحي ما بدا لك أن تصيحي [٣٩] .

وقد بيّن ياقوت الحموي حقيقة الموضع الذي دفن فيه عثمان ، وهو ( حّش كوكب) بقوله : بفتح أوله ، وتشديد ثانيه ، ويُضم أوله أيضاً ، والحش في اللغة : البستان ، وبه سممّي المخرج حشًّا ؛ لأنهم كانوا إذا أرادوا الحاجة خرجوا إلى البساتين [٤٠] .

فهل يعقل أن يُقتل صحابي في المدينة بين كبارالصحابة ولا يغسّل ، ولا يجهّز ، ويحمل على باب خشبي ، ثم يدفن في مكان لا يدفن فيه المسلمون ، ويقول قائل بعد ذلك : إن هذا الرجل كان مرضيًّا عند الصحابة ؟

٧ – بيعة أميرالمؤمنين عليه السلام :

ذكرأميرالمؤمنين عليه السلام في هذا الموضع من خطبته الغرّاء كيف تمت مبايعة النّاس له وإجماعهم عليه بطريقة لم تحصل مع الثلاثة الذين سبقوه ، قال عليه السلام : فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلى ، ينثالون عليَّ من كل جانب ، حتى لقد وُطئ الحسنان ، وشُقَّ عطفاي ، ومجتمعين حولي كربيضة الغنم [٤١] .

وهذا الموضوع أيضاً هو محلّ أجماع بين المسلمين ، فقد أتّفقوا على أن بيعة أميرالمؤمنين عليه السلام كانت فريدة من نوعها من حيث اجتماع الناس ومسارعتهم للبيعة ، بخلاف بيعة من سبقه التي كان بعضها فلتة ، وبعض بنص ، وثالثة بشورى مصغرة جدًّا .

فقد روى أحمد بن حنبل في فضائل الصحابة بسنده عن محمد بن الحنيفة ، قال : كنت مع علي ، وعثمان محصور، قال : فأتاه رجل فقال : إن أميرالمؤمنين مقتول . ثم جاء آخرفقال : إن أميرالمؤمنين مقتول الساعة . قال : فقام علي ، قال محمد : فأخذت بوسطه تخوفاً عليه ، فقال : لا أم لك . قال : فأتى علي الدار، وقد قُتل الرجل ، فأتى داره فدخلها ، وأغلق عليه بابه ، فأتاه الناس فضربوا عليه الباب ، فدخلوا عليه ، فقالوا : إن هذا الرجل قد قُتل ولابد للناس من خليفة ، ولا نعلم أحداً أحق بها منك ، فقال لهم علي : لا تريدوني ، فإني لكم وزير خير مني لكم أمير.فقالوا : لا والله ما نعلم أحداً أحق بها منك . قال : فإن أبيتم علي فإن بيعتي لا تكون سرًّا ، ولكن أخرج إلى المسجد فمن شاء أن يبايعني بايعني .

قال : فخرج إلى المسجد فبايعه الناس [٤٢] .

فهذه الرواية مطابقة لما ورد في النهج من توجّه الناس ابتداء لأميرالمؤمنين عليه السلام لبيعته ، دون أن يكون هو الذي طلب منهم ذلك أودعاهم لنفسه .

وقد ذكرالخلّال هذه الرواية مع تفاصيل أخرى مهمّة ، فروى بسنده عن سالم بن أبي الجعد الأشجعي ، عن محمد بن الحنيفة ، قال : كنت مع علي حين قُتل عثمان رضى الله عنهما فقام فدخل منزله ، فأتاه أصحاب رسول الله فقالوا : إن هذا الرجل قد قُتل ، ولابد للناس من إمام ، ولا نجد أحداُ أحق بهذا الأمر منك ، أقدم مشاهداً (كذا) ولا أقرب من رسول الله . فقال علي : لا تفعلوا ، فإني وزير خير مني أكون أميراً. فقالوا : لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك . قال : ففي المسجد ، فإنه لا ينبغي بيعتي أن تكون خفيًّا ، ولا تكون إلا لمن رضي من المسلمين . قال : فقام سالم بن أبي الجعد ، فقال عبدالله بن عباس : فلقد كرهت أن يأتي المسجد كراهية أن يشغب عليه ، وأبى هو إلا المسجد . فلما دخل جاء المهاجرين (كذا) والأنصار، فبايعوا وبايع الناس [٤٣] .

فهذا النص فيه تصريح بأن المهاجرين والأنصارقد بادروا لبيعة الإمام عليه السلام ، وتبعهم النّاس مختارين غيرمكرهين .

٨ - الناكثين والمارقين والقاسطين :

أشارالإمام علي عليه السلام إلى الملابسات التي تلت بيعته المتمثلة في انقلاب جملة من الناس عليه وخروجهم عن طاعته ، قال : فلما نهضتُ بالأمر نكثتْ طائفة ، ومرقتْ أخرى ، وقسط آخرون ، كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول : ( تِلكَ الدَّارُالأَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَيُرِيدُونَ عُلُوُا فِي الأَرضِ وَلاَ فَسادًا وَالعَاقِبَة لِلمُتَّقِينَ) ، بلى والله لقد سمعوها ووعوها ، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم ، وراقهم زبرجها [٤٤] .

وهذه المسألة أيضاً من المسلمات التاريخية ، فالكل يعرف أنّ الإمام عليه السلام خاض ثلاثة حروب ، هي : الجمل ، والنهروان ، وصفين .

وتعبيرأميرالمؤمنين عليه السلام في غاية الدقة إذ أنه يشيربكلامه هذا للحديث المعروف الذي أخبرفيه النبي محمد صلى الله عليه وآله  أخاه وابن عمه عليه السلام بحقيقة ما سيحصل بعده من فتن وحروب .

فقد أخرج الحاكم بسنده عن عقاب بن ثعلبة : حدثني أبو أيوب الأنصاري في خلافة عمربن الخطاب ، قال : أمررسول الله صلى الله عليه وآله علي بن أبي طالب بقتال الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين [٤٥] .

وروى الطبراني بسنده عن محنف بن سليم ، قال : أتينا أبا أيوب الأنصاري وهو يعلف خيلاً له بصعنبى ، فقلنا عنده فقلت له : أبا أيوب قاتلتَ المشركين مع رسول الله أمررسول الله صلى الله عليه وآله ، ثم جئت تقاتل المسلمين ؟ قال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله أمرني بقتال ثلاثة : الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين ، فقد قاتلن الناكثين ، وقاتلت القاسطين وأنا مقاتل إن شاء الله المارقين بالشعفات بالطرقات بالنهراوات ، وما أدري ما هم [٤٦] .

ورواه بسنده عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبدالله ، قال : أمررسول الله رسول الله صلى الله عليه وآله بقتال الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين [٤٧].

ورواه في الأوسط  بسنده عن أبي صادق ، عن ربيعة بن ناجد ، قال : سمعت عليَّا يقول : أُمرتُ بقتال الناكثين والقاسطين ، والمارقين [٤٨] .

ورواه بسند عن علقمة ، عن عبدالله بن مسعود ، قال : أُمرعلي بقتال الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين [٤٩] .

ورواه أبو يعلى بسنده عن علي بن ربيعة ، قال : سمعت عليًّا على منبركم هذا يقول : عهد إلى النبي صلى الله عليه وآله  أن أقاتل الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين [٥٠] .

وروى بسنده عن عماربن ياسر، قال : أمرت أن أقاتل الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين [٥١] .

وقد تعمّدت ذكرجملة من طرق الحديث لإثبات استفاضته ؛ وذلك لأن بعض المتمسلفين في هذا العصرحاولوا قدرالإمكان ردّ هذا الحديث ؛ لضعف بعض رواته ، وتغافلوا على الطرق الكثيرة له [٥٢] .

ومن يدقّق في العبارة يعلم حقيقة مراد النبي صلى الله عليه وآله من الحديث ، إذا أنه جاء بصفتهم المنطبقة عليهم ، وهي النكوث ، والقسط ، والمروق ، وتعليق الحكم على الصفة مشعربعلّتها كما يقول المحقّقون ، فمن هنا نعلم أن علّة محاربة أميرالمؤمنين عليه السلام لأهل الجمل أنهم نكثوا البيعة ، وعلّة مقاتلته لأهل صفّين هي أنهم قسطوا ومالوا عن الحق ، وعلّة مقاتلته لأهل النهروان انهم مرقوا عن الدين .

ومن هنا نعلم أن قتال أميرالمؤمنين عليه السلام لهؤلاء ليس للخلاف المعروف حول قتلة عثمان كما يصّورذلك المخالف ، بل إن الأمرأعظم من ذلك ، لكنّه غُلّف بقميص عثمان .

وقد كشف عمروبن العاص حقيقة سريرة معاوية كما روى الطبري ، حيث قال : ثم خرج عمرو بن العاص ومعه ابناه ، حتى قدم على معاوية ، فوجد أهل الشام يحضون معاوية على الطلب بدم عثمان ، فقال عمروبن العاص : أنتم على الحق ، اطلبوا بدم الخليفة المظلوم . ومعاوية لا يلتفت إلى قوم عمرو، فقال ابنا عمر ولعمر: إلا ترى إلى معاوية لا يلتفت إلى قولك  ؟ انصرف إلى غيره .

فدخل عمروعلى معاوية ، فقال : والله لعجب لك إني أرفدك بهم أرفدك وأنت معرض عني ، أما والله إن قاتلنا معك نطلب بدم الخليفة إن في النفس من ذلك ما فيها ، حيث نقاتل من تعلم سابقته وفضله وقرابته ، ولكنا أردنا هذه الدنيا فصالحه معاوية وعطف عليه [٥٣] .

فعمرو بن العاص يؤكد على أن غرض معاوية من الفتن التي أثارها هو حبّ الدنيا وعشق الملك والسلطة ، وهذا ما أشارإليه الإمام علي عليه السلام في خطبته بقوله : (( لكنهم حليت الدنيا في أعينهم ، وراقهم زبرجها)) .

والنتيجة أن كلّ مضامين الخطبة الشقشقية صحيحة ، ومثبتة في كتب القوم ، فلو تمكنوا من إنكارألفاظ الخطبة الشقشقية ، فلن يستطيعوا التخلّص من مضامينها المبثوثة في كتبهم .

تأويل ابن أبي الحديد المعتزلي :

حاول ابن أبي الحديد المعتزلي توجيه الخطبة الشقشقية بما يتلاءم مع ما يذهب إليه المعتزلة من إيمان وعدالة المتقدَّمين على أميرالمؤمنين عليه السلام ، وحمل مضامينها على مجرّد العتاب الأخوي لا على العداوة الحقيقية .

لذلك قال في شرحه : إنه لما كان أميرالمؤمنين عليه السلام هوالأفضل والأحق ، وعُدِل عنه إلى من لا يساويه في فضل ، ولا يوازيه في جهاد وعلم ، ولا يماثله في سؤود وشرف ، ساغ إطلاق هذه الألفاظ ، وإن كان من وُسِم بالخلافة قبله عدلاً تقيًّا ، وكانت بيعته بيعة صحيحة ، ألا ترى أن البلد قد يكون فيه فقيهان ، أحدهما أعلم من الآخر بطبقات كثيرة ، فيجعل السلطان الأنقص علماً منهما قاضياً ، فيتوجّد الأعلم ويتألم ، وينفث أحياناً بالشكوى ، ولا يكون ذلك طعناً في القاضي ولا تفسيقاً له ، ولا حكماً منه بأنه غيرصالح ، بل للعدول عن الأحق والأولى ! وهذا أمر مركوز في طباع البشر، ومجبول في أصل الغزيزة والفطرة فأصحابنا رحم الله لما أحسنوا الظن بالصحابة ، وحملوا ما وقع منهم على وجه الصواب ، وأنهم نظروا إلى مصلحة الإسلام ، وخافوا فتنة لا تقتصرعلى ذهاب الخلافة فقط ، بل وتفضي إلى ذهاب النبوة والملة ، فعدلوا عن الأفضل الأشرف الأحق ، إلى فاضل آخر دونه [٥٤] .

وما ذكره ابن أبي الحديد مرفوض بالجملة ؛ لعدة أمور:

أولاً : لو كان الأمرمجرد تظلّم لسلّمنا بما ادّعاه ابن أبي الحديد ، لكن الأمرتجاوز التظلم إلى ذكرمثالب القوم ومساوىء أعمالهم ، فاتهم الخليفة الأول بدفع النص وغصب حق غيره ، بدليل قوله : (( أرى تراثي نهبا)) ، واتهم الثاني بالفظاظة والجلافة ، واتهم الثالث بأنه وبنو أبيه أكلوا أموال الناس بالباطل ، فإما أن يكون أميرالمؤمنين عليه السلام صادقاً فيما قال فيكون حال الآخرین على خلاف ما يذهب إليه ابن أبي الحديد ، وإما أن يكون ما ذكره عليه السلام غيرصحيح ، فيكون قد اتهمهم بالباطل .

ثانياً: قاس ابن أبي الحديد تأويله لفقرات الخطبة الشقشقية بتأويل الإمامية للآیات التي ظاهرها مخالف لعصمة الأنبياء ، كقوله تعالى ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) (طه : ١٢١) ، وهذا قياس مع الفارق ؛ لأن تأويل معاشرالإمامية لظواهربعض الآیات إنما هو اعتماداً على أدلة عقلية ونقلية قطعية دلت على أن الأنبياء عليهم السلام لا يرتكبون المعاصي ، وإنما يفعلون خلاف الأولى ، فهذه هي معاصيهم آدم عليه السلام من هذا القبيل .

أما تأويل ابن أبي الحديد فهو مستند إلى ما أسماه (( حسن الظن بالصحابة)) ، وهذا الأمرلا دليل عليه ، ولا من العقل ، ولا من الشرع ، ولا من العرف ، وعليه فإنه لا يصلح لأن يكون قرينة نرفع من خلالها اليد عن ظهورالخطبة في الطعن في الخلفاء الثلاثة .

ثالثاً : العجب كل العجب من تناقض ابن أبي الحديد في شرحه لهذه الخطبة ، حيث نصّ على إرادة أميرالمؤمنين عليه السلام ثلب القوم باعترافه ، وفي المقابل ينكص على عقيبه ، فينفي أنه يريد انتقاصهم .

فهو الذي يقول في حق خلافة الأول : وأما قوله : (( يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير)) ، فيمكن أن يكون من باب الحقائق ، ويمكن أن يكون من باب المجازات والاستعارات ، أما الأول فإنه يعني به طول مدّة ولاية المتقدَّمين عليه فإنها يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، وأما الثاني فإنه يعني بذلك صعوبة تلك الأيام ، حتى إن الكبيرمن الناس يكاد يهرم لصعوبتها ، والصغير يشيب من أهوالها ، كقولهم : هذا أمر يشيب له الوليد وإن لم يشب على الحقيقة [٥٥] .

وهو الذي قال عند شرح كلام الأميرعليه السلام في حق عثمان : (( نافجاً حضنيه)) : رافعاً لهما ، والحضن : ما بين الإبط والكشح ، يقال للمتكبَّر: جاء نافجاً حضنيه ، ويقال لمن امتلأ بطنه طعاماً : جاء نافجاً حضنيه ، ومراده عليه السلام هذا الثاني ، والنثيل : الروث ، والمعتلف : موضع العلف ، يريد أن همَّه الأكل والرجيع ، وهذا من ممض الذم ، وأشد من قول الحطيئة الذي قيل إنه أهجى بيت للعرب :

دَعِ المكارِمَ لا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِها ***** واقْعُدْ فإنَكَ أنتَ الطاعُم الكَاسِي

والخضم : أكل بكل الفم ، وضدّه القضم ، وهوالأكل بأطراف الأسنان ، وقيل : الخضم أكل الشيء الرطب ، والقضم أكل الشيء اليابس ، والمراد على التفسيرين لا يختلف , وهم أنهم على قدر عظيمة من النهم وشدة الأكل وامتلاء الأفواه [٥٦].

فهل هذه الصفات تقال بنحو العتاب والتظلم في حق إنسان يرى أمير المؤمنين عليه السلام إيمانه وعدالته وحسن حكومته .

والخلاصة أن كل ما في الخطبة يدل على دلالة واضحة صريحة على أن أمير المؤمنين عليه السلام كان بصدد كشف الحقائق وتبيان الوقائع التي أدت الى إنحراف الأمة وانفراط عقد وحدتها .

-----------------------------------------------------------------------------------------
[١] . نهج البلاغة ١ / ٣٢ .
[٢] . صحيح البخاري ٤ / ١٩٩ .
[٣] . المصنف ٧ / ٤٨٥ .
[٤] . تاريخ الطبري ٢ / ٦٢١ .
[٥] . كذا ذكره هنا ، وقال قبل ذلك : وآخره معجمة ، وهو الصحيح ؛ لأنه صبيغ لا صبيع .
[٦] . الإصابة في معرفة الصحابة ٣ / ٣٧٠ .
[٧] . فتح الباري ١٣ / ٢٢٩ .
[٨] . الدرالمنثور ٢ / ٢٢٧ .
[٩] . مسند أحمد ٤ / ١١٥ .
[١٠] . سيرأعلام النبلاء ٤ / ٤٤٨ .
[١١] . تلخيص الحبير ٤ / ٢٨١ .
[١٢] . فتح الباري ٥ / ٥٤ .
[١٣] . المصنف ٣ / ٥٥٧ .
[١٤] . نفس المصدر٢ / ١٣٤ .
[١٥] . نفس المصدر ٢ / ١٣٥ .
[١٦] . الدَّفار: هي النتنة .
[١٧] . المبسوط ١ / ٢١٢ .
[١٨] . السنن الكبرى ٢ / ٢٢٧ . وعقب البيهقي على هذه الرواية بقوله : والآثارعن عمربن الخطاب في ذلك صحيحة .. كما الألباني صحَّح هذا الخبر في إرواء الغليل ٦ / ٢٠٤ ، وقال : وإسناده جيد ، رجاله كلهم ثقات ، غيرشيخ البيهقي وهو صدوق .
[١٩] . سنن ابن ماجة ١ / ٦٣٩ .
[٢٠] . طبقات ابن سعد ٨ / ٢٦٥ .
[٢١] . الجرح والتعديل ٤ / ٣٣٩ .
[٢٢] . المصنف ١٠ / ٤١٦ .
[٢٣] . شرح نهج البلاغة ١ / ٣٥ .
[٢٤] . نهج البلاغة ١ / ٣٥ .
[٢٥] . تاريخ الطبري ٣ / ٢٩٧ .
[٢٦] . تاريخ المدينة ٣ / ٩٣٠ .
[٢٧] . تاريخ أبي الفدا ١ / ١٦٦ .
[٢٨] . المصنف ٥ / ٤٧٧ .
[٢٩] . نهج البلاغة ١ / ٣٥ .
[٣٠] . الفتن والملاحم : ٧٧ .
[٣١] . المصنف ٨/ ٧٠٠ .
[٣٢] . السنن الكبرى ٥/ ١٣٧ .
[٣٣] . مسند أحمد ١ / ٦٣ . حسّنه شعيب الأنؤوط في تعليقه على المسند ، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة ١ / ٢١٠ .
[٣٤] . السنّة للخلاّل ٣٢٢ . وقد علق المحقّق على هذا الأثر بقوله : إسناده صحيح .
[٣٥] . السنّة للخلاّل : ٣٢٣ .
[٣٦] . سيرأعلام النبلاء ١ / ٣٤ ، وقد صحّح الخبر شعيب الأرنؤوط في الحاشية .
[٣٧] . سيرأعلام النبلاء ١ / ٣٤ .
[٣٨] . الإمامة والسياسة ١ / ٤٨ .
[٣٩] . المعجم الكبير١ / ٧٩ . وقد علق في مجمع الزوائد ٩ / ٩٥ على هذا الحديث بقوله : رجاله ثقات .
[٤٠] . معجم البلدان ٢ / ٢٦٢ .
[٤١] . نهج البلاغة ١ / ٣٦ .
[٤٢] . فضائل الصحابة ٢ / ٥٧٣ . وقد صحّح هذا الرواية محقق الكتاب الدكتور وصي الله عباس .
[٤٣] . السنّة للخلاّل ٢ / ٤١٧ .
[٤٤] . نهج البلاغة ١ / ٣٦ .
[٤٥] . المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٥٠ .
[٤٦] . المعجم الكبير ٤ / ١٧١ .
[٤٧] . المعجم الكبير ١٠/ ٩١ .
[٤٨] . المعجم الاوسط ٨/ ٢١٣ .
[٤٩] . نفس المصدر ٩ / ١٦٥ .
[٥٠] . مسند أبي يعلى ١ / ٣٩٧ .
[٥١] . نفس المصدر٣ / ١٩٤ .
[٥٢] . أحاديث يحتج بها الشيعة : ٥٦ .
[٥٣] . تاريخ الطبري ٣ / ٥٦٠ .
[٥٤] . شرح نهج البلاغة ١ / ١٥٧ .
[٥٥] . شرح نهج البلاغة ١ / ١٥٤ .
[٥٦] . شرح نهج البلاغة ١/ ١٩٧ .

إنتهى .

مقتبس من كتاب نهج البلاغة فوق الشبهات والتشكيكات – الشيخ أحمد سلمان

****************************