وقال (عليه السلام) : مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا .                
وقال (عليه السلام): مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا.                
وقال (عليه السلام): قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِير مَمْلُول مِنْهُ.                
وقال (عليه السلام) : مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا .                
وقال (عليه السلام): أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ اكْتِسَابِ الاْخْوَانِ، وَأَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ .                
وقال (عليه السلام): الدُّنْيَا خُلِقَتْ لِغَيْرِهَا، ولَمْ تُخْلَقْ لِنَفْسِهَا.                
وقال (عليه السلام): الْحِلْمُ وَالاَْنَاةُ تَوْأَمَانِ يُنْتِجُهُمَا عُلُوُّ الْهِمَّةِ.                

Search form

إرسال الی صدیق
رؤية في أسلوب نهج البلاغة – الأول

عزيز السيّد جاسم

إنّ النص في نهج البلاغة ـ كتاب الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام ـ يتمتع بسلطة فائقة، مُحكمة، نادرة. وهي تُحيل القارئ (والسامع) إلى أنموذج العلاقة بين الأفكار والأسلوب.
فثمة نص شَكلاني، قائم على إبداعية الشكل، وهو نص إنتاجي من عمل الفنان المبدع، إلاّ أنه يتمتع بمزاياه الفنية الخالصة، كشكل فني قويّ الاتّصاف، سواء بصورته التجريدية أو بصورته الرمزية، أو بكيفيّته التقليدية.
قد يكون النص، مثل اللوحة التي تُحاكي الطبيعة (أو الواقع)، أو أنه يكون أداة تعبير عن الذات، بكل استطاعات التعبير الممكنة. وعادة، يكون التعبير النثري متعرضاً للشد والجذب بين قُطبي الذات والموضوع، بما يُرافق ذلك من توسّعات لغوية، أو حشو، أو فجوات، أو نواقص.
وهو ـ أي التعبير النثري ـ في ملاحقته للأفكار، ينتهج طرائق وأساليب متباينة عادةً في درجة نجاحها، فهو أحياناً يصل إلى الأفكار، وأحياناً يتقدم عليها، أو يتخلف عنها، وهو ـ أحياناً ـ يتماسّ وإياها، قد يُعبّر عنها بصراحة أو بإيحاء، بوضوح تام أو بإيماء.
في بلاغة الإمام عليّ بن أبي طالب، أنموذج رفيع للنص المتطابق الذي يُجسّد سلطة الإمام عليّ بن أبي طالب على نفسه، تلك السلطة التي ينطلق منها في رؤية العالم الخارجي.
وتوضّح سيرة عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، أحسن توضيح، تلك الطبيعة الحقّانية الصادقة التي تتبلور في عرض المعاني ـ معانيه هو ـ وفي البلاغة البيانيّة له.
إنّ النص لديه ـ ينقل أفكاره بصدق تام. بمعنى أنه يعطي صورة للبلاغة، ذات ميزان دقيق، يستبعد كل بلاغة (بلاغية) تَسوحُ في جولات الأساليب، والشكليات المتغيرة.
إنّه حقاً، كان قادراً في فنونه البلاغية المبدعة، لكنه لم يندمج في ظاهرة البلاغة من أجل البلاغة، التي كانت الإطار لعملية إيصال الأفكار.
لقد كانت الأفكار تُوصَل على نحو فعّال، بتصعيدات بلاغيّة تثير الإعجاب، أي أن البلاغة كانت تتولّى وضع الإضافات فوق المعاني وحوالَيها، بالتعبير عن موهبة بلاغية معجبة، فثمة (معانٍ) تتخللها، وتحيط بها زَرْكشات لفظية، مُدلِّلة على القدرة البيانية، التي انتشرت شعراً ونثراً منذ العصر الجاهلي.
أما بلاغة الإمام عليّ عليه السّلام، فقد تبلورت في النص الذي يخرج من رحم اللغة مثل الوليد الجديد، وهو ـ في الوقت نفسه ـ يخرج من عالم الأفكار مثل الفكرة الجديدة الباهرة.
إنه يتناول مسائله الفكرية وكأنها تُولد تَواً. وكذلك هو في تناوله للمسائل الفكرية المتداولة (والمشتركة) وكأنها معطيات جديدة، ذلك لأن قدرته البلاغية ابتكارية، توليدية.
إنّ النص يُولد متكاملاً، في تأديته الوظيفية الخاصة به، رغم أنه يُبرهن ـ في حالات ثانية ـ عن جدارات أسلوبية.
لكنّ علياً عليه السّلام لم يكن (رغم ما أُوتي من مَيلٍ للدُّعابة ـ أحياناً) راغباً بأن يبتعد عن رسالته لحظة.
إنّ طغيان الجديّة كان من وَقْر المسؤولية الثابت.
وهو ـ في ذلك ـ كان متّسماً بالصدق التامّ، الذي يجب أن نرى فيه اختلافاً كبيراً عن أنواع أخرى من الصدق المرحلي، الموقت، وغير الثابت.
فثمة أوجه عديدة للصدق، كذلك هناك صدق في مناسبة، وعدمه في سواها. كان عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه صادقاً في جميع الأوجه والمناسبات، لأن أفكاره كانت تشقّ الطبقات الكثيفة، والزيادات، والتلافيف التي تحول بين الناس والحق.
النص عنده.. هو الفكرة والأداة معاً، هو المضمون والشكل، في اتّحادهما المتبادَلِ الإغناء، في إعطاء دلالات مؤكدة، كان الإمام عليّ يُظهر نفسه فيها من جانب، ويُحمّلها الطاقة التوصيلية (للوصول إلى الآخرين) من جانب آخر.
ويتضافر الجانبان في العملية الواحدة، التي تُكرّس صدق القضية، وتهيئ الآخرين للتجاوب مع الصدق.«فالنص ـ في نهج البلاغة ـ ليس قطعة بلاغية ذات جمال مجرد، بل هو وظيفة مُتقَنة، إنه ثمرة التزاوج الطبيعي بين البلاغة والأفكار»، والذي ترتّب عليه إنجاب أفكار جديدة، واستحداثات لغوية وبيانية جديدة.
من المؤكد أن النص الأدبي الذي يُصبح ـ بسبب أهميته ـ مستقلاً، قائماً بذاته، بعد تجاوز ظرفه، هو ـ في حقيقته ـ تعبير عن طبيعة صاحبه. فالنص هو الشخصية التي تنشئ عدة شخصيات أخرى، مجنّدة لمهماتها المحددة.
وتُعدّ الكلمات، في النص الأدبي، كائنات حية لم تُخلق عبثاً. وليس من الضرورة بمكان أن تكون إنتشاءات الكاتب الأسلوبية على صورته، من الناحية الظاهرية، لكن من الضروري للكاتب الحقيقي أن يكون العمق الفكري له ماثلاً في الحركة التحتية للنص.
فأبوتمام مثلاً: كان يُحرّك ألفاظه (كأنها رجال قد ركبوا خيولهم واستلأموا سلاحهم، وتأهّبوا للطِّراد)، والبحتري كان يُحرّك ألفاظه (وكأنها نساءٌ حِسان عليهنّ خلائل مُصَبّغات، وقد تحلّينَ بأصناف الحليّ) كما يقول ابن الأثير الموصلي، لكنّ أبا تمام كان حاضراً وراء الألفاظ والأشخاص، وكذلك البحتري، كُلاً بطبيعة الخاصة، وبخياراته الخفيّة أو الظاهرة.
كانت مقدرة أمير المؤمنين عليّ اللغوية، والبيانية، بالغة الفَراهة، غير أنه كان يريد إصابة المعنى دائماً، بسبب نظرته العميقة، وأفكاره الجمّة، التي كان يُصارع من أجل انتشارها. ونظراً إلى تعدد مناحي الثروة الفكرية، وغنى طبيعة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فإن النص جاء محمّلاً بالدلالات الغنية المُتنوعة، فهو قمّة تتويج العلاقة الحرة بين المعنى والمبنى.
• قال الشريف الرضي، في مقدمة نهج البلاغة:
«كان أمير المؤمنين عليّ مَشْرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومَولدها، ومنه ظهر مكنونها، وعنه أُخذت قوانينها، وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ، ومع ذلك فقد سبق وقصّروا، وتقدم وتأخّروا. وأمّا كلامه فهو البحر الذي لا يُساجَل، والجَمّ الذي لا يُحافَل [١]... ومن عجائبه التي انفرد بها، وأمن المشاركة فيها أن كلامه رضي الله عنه الوارد في الزهد والمواعظ والتذكير والزواجر إذا تأمله المتأمل، وفكّر فيه المتفكر، لم يعترضه الشك في أنه من كلام مَن لا حظَّ له في غير الزهادة، ولا شُغل له بغير العبادة، ولا يكاد يوقن بأنه كلامُ مَن ينغمس في الحرب مُصلِتاً سيفه فيقطُّ الرقاب، ويجدِّلُ الأبطال، ويعود به ينطُف دماً ويقطر مُهجاً» [٢].
• ويذكر الشيخ محمّد عبده في مقدمة شرح نهج البلاغة مثل ذلك، قائلاً:
«تصفّحتُ بعض صفحاته في مواضع مختلفات، فكان يُخيَّل لي في كل مقام أن حروباً شبّت، وغارات شُنّت، وأن للبلاغة دولة، والفصاحة صولة. وأن جحافل الخطابة، وكتائب الذَّرابة في عُقود النظام، وصفوف الانتظام، تُنافح بالصفيح الأبلج، والقويم الأملج، فما أنا إلاّ والحق منتصر، والباطل منكسر... وأن مدبّر تلك الرواية، وباسل تلك الصولة، هو حامل لوائها الغالب، أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب. فتارة كنتُ أجدني في عالم تعمره من المعاني أرواح عالية، في حُلل من العبارات الزاهية، تطوف على النفوس الزاكية، وتدنو من القلوب الصافية، توحي إليها رشادَها، وتقوّم منها مُرادها... وطوراً كانت تتكشف لي الجُمل عن وجوه باسرة، وأنياب كاشرة ، قد تحفّزتْ للوثاب، ثمّ انقضّت للاختلاب، فخلبت القلوب عن هواها، وأخذت الخواطر دون مرماها. وأحياناً كنت أشهد أن عقلاً نورانياً لا يشبه خَلْقاً جسدانياً فَصل عن الموكب الإلهي، واتصل بالروح الإنساني، فخلعه عن غاشيات الطبيعة، وسما به إلى الملكوت الأعلى».
وليس في أهل هذه اللغة إلاّ قائل بأن كلام الإمام عليّ هو أشرف الكلام، وأبلغه بعد كلام الله تعالى وكلام نبيّه، وأغزره مادة، وأرفعه أسلوباً.
ويشتمل (نهج البلاغة) على نحو ثلاث مئة رسالة، وخمس مئة حكمة. نَهَل من معينها الكتّاب، والأدباء، والمفكرون، والمتصوّفة، والعلماء، والزهّاد، والعارفون.
• وقد قال عبدالحميد الكاتب:
«حفظتُ سبعين خطبة من خطب الأصلع (يعني به الإمام عليّ بن أبي طالب) ففاضت ثمّ فاضت». وقيل له: ما الذي خرّجك في البلاغة ؟ قال: خُطب الأصلع [٣].
• وقال ابن نُباتة:
«حفظتُ من الخطابة كنزاً، لا يزيده الإنفاق إلاّ سعة: حفظت مائة فصل من مواعظ عليّ بن أبي طالب».
• وقال الشريف المرتضى:
«كان الحسن البصري بارعَ الفصاحة، بليغ المواعظ، كثير العلم، وجميع كلامه في الوعظ وذم الدنيا، وجُلّه مأخوذ لفظاً ومعنى، أو معنى دون لفظ، من كلام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فهو القدوة والغاية» [٤] .
• وقال الأستاذ حسن السندوبي:
(والظاهر أنه(أي عبدالله بن المُقفَّع) تخرّج في البلاغة على خُطب الإمام عليّ، ولذلك كان يقول: شربتُ من الخطب رِيّاً ولم أضبط لها رَويّاً، فلا هي نظاماً، وليس غيرها كلاماً) [٥].
وكما كان نهج البلاغة مصدراً كبيراً من مصادر البيان والبلاغة، كذلك هو مصدر للرياضة والتصوف في الإسلام. وهو إلى ذلك المَنجم الغنيّ بأصول التوحيد والفلسفة الإسلامية (علم الكلام)، التي أوسعها المتكلمون ـ بعد ذلك ـ بالشرح والتفسير، وأحد الروافد الكبيرة للفكر الإسلامي في جميع جوانبه الاجتماعية والأخلاقية والدينية وغيرها.
وهو كذلك سجلّ حافل بعناصر تأريخية واقعية، تمدّ الباحث والمؤرخ بالحقيقة الساخرة، ويمثل كذلك الكثير من الحقائق المذهبية، والتوحيد، وتنزيه الخالق، وصفاته، والعدل، والجبر والاختيار.. وما إلى ذلك [٦].
وليس نهج البلاغة (الكتاب الجامع لخطب الإمام عليّ بن أبي طالب ورسائله وأقواله، والذي أطلق عليه الشريف الرضي عنوانه)، أوّلَ جمع لتراث الإمام عليّ بن أبي طالب، فلقد حَظي كلام الإمام وخطبه بعناية العلماء، والأدباء، قبل عصر الرضي، فعكف فريق منهم على جمع شوارده، ونظم فرائده، حتّى تألفت من ذلك مجاميع كثيرة. كما عكف فريق آخر على حفظه والاستعانة به في كلامهم وخطبهم. وفريق ثالث ضمّنوا مؤلفاتهم الأدبية والتأريخية والأخلاقية، طائفةً كبيرة من كلامه. وكان ذلك كله هو المصدر الرئيسي الذي اختار الرضي منه هذا المجموع (نهج البلاغة)، وانتقى منه هذه الطرائف البيانية القيّمة [٧] .
وقد تجاوزت خُطبُه المتداولة بين أيدي الناس، إلى أكثر من أربعمائة خطبة.
• قال ابن واضح اليعقوبي المؤرخ المشهور المُتوفى سنة (٣٩٢هـ) في كتاب (مشاكلة الناس لزمانهم):
«وحفظ الناسُ عنه الخطب، فإنه خطب بأربعمائة خطبة، حُفِظتْ عنه، وهي التي تدور بين الناس، ويستعملونها في خطبهم».
• وقال المسعودي المتوفى سنة (٣٤٦هـ) في كتاب «مروج الذهب ـ الجزء الثاني»:
«والذي حفظ الناس من خطبه في سائر مقاماته، أربعمائة ونيّفٌ وثمانون خطبة، يوردها على البديهة، وتداول الناس ذلك عنه قولاً وعملا».
وقد أشرنا إلى أن هناك جماعة من العلماء والأدباء عكفوا على جمع كلام الإمام عليّ قبل أن يُخلَق الشريف الرضي. وقد ذهبت هذه المجموعات مع الزمن كما ذهب سواها من تراثنا العربي، وبقيت أسماؤها [٨].

خصوصية النص
إنّ القيمة الأساسية للنص، في خطب عليّ بن أبي طالب عليه السّلام ورسائله، ماثلة في حضور الإبداع النصّيّ في النشاط الفكري والكلامي له على المستويَين: الشفهي والتحريري. وتلك ميزة نادرة يتفرد بها عليّ بن أبي طالب بصورة ملموسة.
وهي مزيّة تجعله في المقدمة من جميع كتاب النصوص المبرَّزين، ذلك لأن أولئك الكتّاب، مثلهم مثل الرسامين والنحّاتين الذين يصنعون نماذجهم، بعد طول تأمل، وتخطيط، وممارسة، وبعد مراجعات نقدية متواترة، وصولاً إلى المحصلة الفنية النهائية، على صعيد العمل. وكان الإمام عليّ بن أبي طالب، بعفويته الثاقبة، يباشر عمله الإبداعي الفوري، فيأتي النص المرتجل، مثل النص المكتوب، آيةً في الإتقان والروعة. ومن الثابت، أن جريان خطب عليّ عليه السّلام، على نحوه الباهر، في طوله وقصره، هو دليل على الفعالية الخارقة لعقل مبدع، موهوب، هو السيّد المؤكد في عالم العقول.
لا يمكن أن تتوفر تلك الخصوصية لقوة النص في المخاطبة الارتجالية، وفي الكتابة، لشخص آخر ـ غير عليّ بن أبي طالب ـ الذي انطوت شخصيته على علوم وفنون وقدرات عظيمة، تتلاقح فيما بينها بجدليةٍ خِصبة.
ورغم أن الخطاب عند عليّ بن أبي طالب عليه السّلام خطاب سياسي، وفقهي، وتربوي، ووعظي، في إطار معرفي مُحكم، إلاّ أنه ذو سمة رياضية، ماثلة في بنية الخطاب الذي يتكامل نصاً مغنياً.
ولقد ارتكزت السمة الرياضية في البناء الأدبي للخطاب على دعامتين بارزتين:
الأولى: هي في صُلب بنية الخطاب وعلاقاته الداخلية .
والثانية: في خفاء المنهج، أي في تنظيم فضائه.
المقوّم الأول: هو المقوم النحوي، الذي يعصم الخطاب الأدبي من التحرر الإنساني، وبعض مظاهر اللانحوية، التي قد يستكين إليها الوصف الأدبي والحماسة، والارتجال، وخاصة في الخطاب الشفهي.
إنّ أساس الخطاب في فعالية الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام ـ من الناحية اللغوية ـ هو أساس نحوي، ذلك لأن علياً عليه السّلام هو واضع النحو العربي، في منطلقه الأول.
قال لأبي الأسود الدؤلي، حين أعرب عن ألمه من شيوع اللحن على اللسان العربي: اكتُبْ ما أُملي عليك. ثمّ أملى عليه أصول النحو العربي، ومنها أنّ كلام العرب يتركب من اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن معنىً ليس باسم ولا فعل. ثمّ أملى عليه أن الأشياء ثلاثة: ظاهر ومضمر وشيء ليس بظاهر ولا مضمر. وفي خاتمة التوجيهات قال الإمام عليّ: يا أبا السود، انحُ هذا النحو.
وهكذا أصبح عند العرب علم النحو.
من هنا، كان الأساس النحوي للنص في خطب الإمام عليّ بن أبي طالب، يُؤمّن القاعدة المادية لشبكة العلاقات الداخلية للنص، التي يرتكز عليها البناء البلاغي للنص.
ولا شك في أن تكامل الأساس النحوي والبناء البلاغي قائم ـ أصلاً ـ على المحور الفكري للنص، وهو محور المعاني والدلالات.
وإذ يستكمل الخطاب (العَلَوي) شروطه المادية ـ اللغوية، وجماع علاقاته الداخلية، فإنه يستكمل الوحدة القائمة بين نصّية النص ـ بمعناها الأدبي ـ والفضاء الروحي للنص. أي إنّ النص يتوفر له البعدان الرمزيان للأرض والسماء في وحدتهما التامة.
أما المقوّم المادي الثاني للنص، فهو المقوّم الرياضي الذي يُستدلُّ عليه استدلالاً، لأنه لا يعبّر على نحو مباشر، إلاّ بالنسبة إلى المتلقّي النابه.
إنّ الذهنية الرياضية النشطة، والمبادِهة لعليّ سلام الله عليه، تنعكس تأثيراتها على تعبيراته الأدبية، بصورة الإتقان المحكم لعرض الأفكار، وكذلك في تقديمه المتقن للبناء اللغوي والبلاغي للخطاب.
فالاتّساق الرياضي وارد في صلابة أفكاره، وفي عظمة منطقه، وبلاغته. ومردُّ ذلك ثابت في معرفته العلمية بالحساب؛ تلك المعرفة التي كانت تكشف عنها سرعة البديهة في الجواب عن معضلات معقدة في المواريث والأقضية.
وذاعت الفريضة المنبرية التي أفتى بها وهو على منبر الكوفة، حينما سُئل عن ميت ترك زوجة وأبوين وابنتين، فأجاب من فَوره: صار ثُمنها تُسعاً.
وشكت ـ مرّةً ـ امرأة أنّ أخاها مات عن ستمائة دينار ولم يُقسم لها من ميراثه غير دينار واحد، فقال لها بسرعة: لعله ترك زوجة وابنتين وأمّاً واثني عشر أخاً وأنتِ ؟ وكان الأمر كذلك.
فمعرفته بعلم الحساب كانت أكثر من معرفة فقيه يتصرف في معضلات المواريث، لأنه كان سريع الفطنة إلى طُرقه التي كانت تعد في ذلك الزمن ألعازاً تكدّ في حلها العقول [٩].

تعبيرية النص
إنّ الدلالة المشتركة للمفردات وللتعبيرات، والتي يشترك في قولها وفي فهمها جمهرة الناس، مثقفين وغير مثقفين، هي توكيد للتفاهم بين أفراد المجتمع وللتعبير عن حاجاتهم الأساسية.
وقد أشبعت الكلمات والتعبيرات المشتركة تداولاً منذ بدء استعمالها، فأصبح الوصول إلى المعنى من خلالها ممارسة اعتيادية، ولكنْ أساسية.
والفارق بين الكلام العادي، والأسلوب الأدبي، ليس فارقاً في الاستعمالات اللغوية فقط، بل هو فارق في دقة الاحتياز على المعاني، ومن ثمَّ التعبير عنها. فأُنيطت بالقدرة التعبيرية مسؤولية الإمساك بالمعاني والكشف عن الدلالات، وإحراز أكبر نجاح في مخاطبة الآخرين والوصول إلى أذهانهم ونفوسهم. ويتفاوت الكتّاب في مستويات الإبداع، وتبعاً لذلك تتفاوت النصوص في ما تملكه من طاقة تعبيرية، ومن جمالية أسلوبية.
قد انتقد ابن قتيبة في مقدمة( أدب الكاتب) أولئك الذين لم يعطوا الأسلوب حقّه، فقال:
«رأيت كثيراً من كتّاب أهل زماننا كسائر أهله قد استطابوا الدعة، واستوطأوا مراكب العجز، وأعفوا أنفسهم من كدّ النظر، وقلوبهم من تعب الفكر، حين نالوا الدَّرَك بغير سبب، وبلغوا البُغية بغير آلة».
وابن قتيبة مُحقّ، لأننا لا نريد من الأديب أن ينقل إلينا المعاني وحدها، فإن الغاية من الأدب ليست هي المعرفة وتقرير الحقائق، بل نريد نقل المعاني ممزوجة بشعور الأديب، باعثة لشعورنا، وهذا لا يتأتّى إلاّ إذا كان التعبير فنيّاً [١٠].
ويُلخص (الحوفي) عدة صفات في تعبير الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام هي [١١]:
١. تخيّر المفردات: بحيث تنسجم من الناحية الصوتية، فتجيء خفيفة على اللسان، لذيذة الوقع في الآذان، موافقة لحركات النفس، مطابقة للعاطفة التي أزجتها أو للفكرة التي أملتها. كقوله في كتاب إلى عمّاله على الخراج: «إنكم خُزّان الرعية، ووكلاء الأمة، وسفراء الأئمّة». وكقوله إلى معاوية: «لستَ بأمضى على الشك مني على اليقين»،
وقوله: «كلما أطلَّ عليكم مَنسِر من مناسِر أهل الشام أغلق كل رجل منكم بابه، وانجحر انجحار الضبّة في حجرها، والضَّبُع في وجارها». وقوله: «دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجَرْجَرتم جَرجْرَة الجَمل الأَسَرِّ، ثمّ خرج إليَّ منكم جنَيْد وتذاؤب ضعيف». وقوله: «من أبطأ به عمله، لم يُسرع به حسبه». وقوله: «إن تقوى الله دواءُ داء قلوبكم، وبَصَرُ عمى أفئدتكم، وشفاء مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم، وطهور دَنَس أنفسكم، وجلاء غشاء أبصاركم، وأمنُ فزع جأشكم، وضياء سواد ظُلمتكم».
٢. قوّة التعبير: إذ أجمع علماء البيان العربي على أن الكلام إذا كان لفظه غثّاً، ومعرضه رثّاً، كان مردوداً ولو احتوى على أجلّ معنى وأنبله، كما ذكر أبو هلال العسكري في (الصناعتين). وأجمعوا على أن الجزل القوي من الكلمات يستعمل في وصف الحروب، وفي قوارع التهديد والتخويف، وفي التنفيس عن الغضب والضيق وما شابه هذا.
وأما الرقيق منها، فإنه يستعمل في وصف الأشواق، وذكر أيّام الفراق، وفي استجلاب المودّات، واستدرار الاستعطاف وأشباه ذلك (كما ورد في المثل السائر لابن الأثير الموصلي).
ومن السهل أن نجد كثيراً مما يتصف بالقوة والجزالة والفخامة في خطب الإمام عليّ وفي رسائله، تعبيراً عن عواطفه وأفكاره التي تقتضي التعبير القوي الفخم الملائم لشدتها وقوتها وحرارتها [١٢].
ومن الأمثلة والنماذج قوله: «واللهِ لا أكون كالضَّبُع تنام على طول اللَّذم حتّى يصل إليها طالبها، ويَخْتِلها راصدها، ولكني أضرب بالمقبل على الحق المدبَر عنه، وبالسامع المطيع العاصي المريب أبداً، حتّى يأتي علَيّ يومي» [١٣]. وقوله: «ألا وإني لم أرَ كالجنة نام طالبها، ولا كالنار نام هاربُها. ألا وإنه من لم ينفعه الحق يضرّه الباطل، ومن لم يستقم به الهدى يجُرْ به الضلال. ألا وإنكم قد أُمِرتُم بالظَّعن، ودُللتم على الزاد، وإن أخوف ما أخاف عليكم اتّباع الهوى وطول الأمل». وقال في خطبة يخوِّف فيها أهل النهروان: «فأنا نذير لكم أن تصبحوا صرعى بأثناء هذا النهر، وبأهضام هذا الغائط، على غير بيّنة من ربكم، ولا سلطان مبين معكم، قد طوَّحت بكم الدار، واحتبلكم المقدار. وقد كنت نهيتكم عن هذه الحكومة، فأبيتم علَيَّ إباءَ المخالفين المنابذين، حتّى صرفتُ رأيي إلى هواكم، وأنتم معاشر إخفاء الهام، سفهاء الأحلام، ولم آتِ ـ لا أباً لكم ـ بُجراً، ولا أردتُ بكم ضُراً» [١٤].
وقوله من خطبة له عند مسيره إلى البصرة: «إن الله سبحانه بعث محمداً صلّى الله عليه وآله، وليس أحد من العربِ يقرأ كتاباً، ولا يدَّعي نبوّة، فساق الناس حتّى بوَّأهم محلَّتهم، وبلَّغهم منجاتهم، فاستقامت قناتهم، واطمأنت صفاتهم. أما والله إن كنتُ لفي ساقتها حتّى تولّت بحذافيرها ما عجزتُ ولا جبنتُ، وإن مسيري هذا لمثلها، فلأنْقُبَنّ الباطل حتّى يخرج الحق من جنبه. ما لي ولقريش ؟! والله لقد قاتلتهم كافرين، ولأقاتلنّهم مفتونين».
٣. سهولة التعبير: مثل قوله في كتاب إلى عبدالله بن عباس بعد مقتل محمّد بن أبي بكر: «فعند الله نحتسبه ولداً ناصحاً، وعاملاً كادحاً، وسيفاً قاطعاً، وركناً دافعاً. وقد كنت حثثت الناس على لحاقه، وأمرتهم بغيائه قبل الوَقْعه، ودعوتهم سراً وجهراً، وعوداً وبدءاً، فمنهم الآتي كارهاً، ومنهم المعتلّ كاذباً، ومنهم القاعد خاذلاً».

وقوله في رسالة إلى عمرو بن العاص قبل التحكيم: «أما بعد، فإن الدنيا مشغلة عن غيرها، ولن يصيب صاحبُها منها شيئاً إلاّ فتحت له حِرصاً يَزيده فيها رغبة، ولن يستغني صاحبها بما نال عمّا لم يبلُغْ، ومن وراء ذلك فراقُ ما جمع. والسعيد من وُعِظ بغيره، فلا تُحبط ـ أبا عبدالله ـ أجرك، ولا تُجارِ معاوية في باطله، والسلام». وقوله في خطبة له بعد أن بلغه مقتل محمّد بن أبي بكر: «اسمعوا قولي، وأطيعوا أمري، فوالله لئن أطعتموني لا تَغوون، وإن عصيتموني لا ترشدون. خذوا للحرب أُهْبَتها، وأعدّوا لها عُدَّتها، فقد شبَّت نارها... إلاّ إنه ليس أولياء الشيطان من أهل الطمع والمكر والجفاء بأولى في الجدَّ في غيِّهم وضلالتهم من أهل البِرّ والزهادة والإخبات في حقهم وطاعة ربهم. إني والله لو لقيتهم فرداً وهم مِلاءُ الأرض ما باليتُ ولا استوحشتُ، وإني من ضلالتهم التي هم فيها والهدى الذي نحن عليه لَعلى ثقة وبيّنة ويقين وبصيرة. فانفروا خفافاً وثقالاً، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون».
٤. قِصَر الفقرات: مثل قوله لما أغار النعمان بن بشير الأنصاري على عين التَّمر:
«مُنيتُ بمن لا يطيع إذا أمرت، ولا يجيب إذا دعوت. لا أباً لكم! ما تنتظرون بنصركم ربكم ؟ أما دينٌ يجمعكم، ولا حَمِيّة تُحمِشكم؟! أقوم فيكم مستصرخاً، وأُناديكم مُتَغوّثاً، فلا تسمعون لي قولاً، ولا تطيعون لي أمراً، حتّى تكشف الأمور عن عواقب المساءة، فما يُدرَك بكم ثأر، ولا يُبلَغ بكم مرام. دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم جرجرة الجمل الأسرّ، وتثاقلتم تثاقل النضْو الأْبَر...». وقوله: «فتداكّوا علَيّ تداكَّ الإبل الهِيم يوم وِردها، وقد أرسلها راعيها، وخُلعت مثانيها، حتّى ظننتُ أنهم قاتليَّ، أو بعضهم قاتل بعض لديَّ. قد قلّبت هذا الأمر بطنَه وظهره، حتّى منعني القوم، فما وجدتني يسعني إلاّ قتالهم أو الجحود بما جاء به محمّد صلّى الله عليه وآله، فكانت معالجة القتال أهون عليَّ من معالجة العقاب، ومَوْتاتُ الدنيا أهونَ عليَّ من مَوْتات الآخرة». وقوله في كتاب إلى أمراء جيوشه: «ألا وإنّ لكم عندي ألاّ أحتجز دونكم سراً إلاّ في حرب، ولا أطوي دونكم أمراً إلاّ في حُكم، ولا أُؤخّر لكم حقاً عن محله، ولا أقفُ به دون مقطعه، وأن تكونوا عندي في الحق سواء. فإذا فعلتُ ذلك وَجَبَت لله عليكم النعمة ولي عليكم الطاعة، وألا تنكصوا عن دعوة، ولا تُفرّطوا في صلاح، وأن تخوضوا الغمرات إلى الحق».
٥. كثرة الصيغ الإنشائية: وهي: «الأمر والنهي، والاستفهام، والترجي والتمني، والنداء والقسم والتعجب»، وهي: أقوى من الصِّيغ الخبرية تجديداً لنشاط السامعين، وأشد تنبيهاً وأكثر إيقاظاً، وأدعى إلى مطالبتهم بالمشاركة في القول وفي الحكم. وهي في الوقت نفسه أدق في تصوير مشاعر الخطيب وأفكاره، لأن أفكاره ومشاعره المتنوعة في حاجة إلى أساليب متغايرة تفصح عنها.
ثمّ إن مغايرة الأساليب تستتبع مغايرة في نبرات الصوت وفي الوقفة والإشارة وطريقة الإلقاء، وهذا كله عون على الوضوح من ناحية، وعلى التأثير في السامعين من ناحية [١٥].

------------------------------------------------------------
[١] . لا يُساجَل: لا يُكاثر. لا يُحافل: لا يُفاخر في حفل. ينطف: يقطر.
[٢] . الشريف الرضي: نهج البلاغة.
[٣] . الثعالبي: ثمار القلوب، مصادر نهج البلاغة.
[٤] . الشريف المرتضى: أمالي المرتضى.
[٥] . الجاحظ: البيان والتبيين ج ١. من الهامش في ترجمة عبدالله بن المقفع وتعليقه عليه.
[٦] . عبد الله حسين: مصادر نهج البلاغة.
[٧] . عبدالله حسين: مصادر نهج البلاغة.
[٨] . الدكتور أحمد محمّد الحوفي: بلاغة الإمام عليّ عليه السّلام. «والتوازن أو الموازنة بهذا المعنى أعم من السجع، لأن السجع ورود أجزاء الفاصلتين أو الفواصل على حرف واحد مثل القريب والحسيب والغريب، أما الموازنة بين أواخر الكلمات فهي مثل القريب والشهيد والجليل، فالوزن واحد والحرف الأخير مختلف» ـ المصدر نفسه.
[٩] . عباس محمود العقاد: عبقرية الإمام عليّ عليه السّلام.
[١٠] . الدكتور أحمد محمّد الحوفي: بلاغة الإمام عليّ عليه السّلام.
[١١] . آثرنا ـ هنا ـ تلخيص موضوع الدكتور الحوفي واختيار أهم النماذج التي وردت فيه.
[١٢] . الدكتور أحمد محمّد الحوفي: بلاغة الإمام عليّ عليه السّلام.
[١٣] . اللدم: صوت الحجر أو العصا تدقُّ بها الأرض دقاً هيّناً يصحبه قول الصائد عند حجر الضبع: خامري أم عامر، أي الزمي حجرك، فتنام، فيدخل إليها ويصيدها ـ المصدر.
[١٤] . الأهضام: جمع هضم على وزن نهر وهو المطمئن من الوادي. الغائط: ما سفل من الأرض. البجر: الداهية والأمر العظيم.
[١٥] . الدكتور أحمد محمّد الحوفي: بلاغة الإمام عليّ عليه السّلام.

يتبع ......

****************************