السؤال:
يروي صاحب كتاب ( نهج البلاغة ) ـ وهو كتاب معتمد عند الشيعة ـ أن عليًا رضي الله عنه استعفى من الخلافة وقال: «دعوني والتمسوا غيري»! وهذا يدل على بطلان مذهب الشيعة، إذ كيف يستعفي منها، وتنصيبه إمامًا وخليفة أمر فرض من الله لازم ـ عندكم ـ كان يطالب به ؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد
ج: قول ( وهو كتاب معتمد عند الشيعة ) فيه نحو من التدليس، لأن الاعتماد إن إريد به أننا نصحح كل ما فيه فهذا كذب لأننا لا ندعي صحة أي كتاب متدوال اليوم غير القرآن الكريم، أما إن إريد أنه صحيح النسبة لمؤلفه فما الفرق بينه وبين كثير من كتب الشيعة ؟! وما الفائدة بذكر ذلك مع بداهة أن صحة نسبة الكتاب للمؤلف لا تعني صحة ما فيه ! فالمعنى الأول هو ما أراده المشكل فهو تدليس.
وعلى هذا فإن ما ينقله الشريف الرضي –لا ما رواه! كما حسب المستشكل- يحتاج إلى اثبات سندي ولا يسلم به في كل كلمة كلمة، فقد تكون الخطبة كلها صحيحة إلا أنه قد وقع دس في بعض كلماتها أو جملها أو قد تم تغيير بعض ألفاظها، فلعل ( دعوني والتمسوا غيري ) مدسوسة في أول الخطبة ! وهذا الاحتمال لا يمكن تجاوزه إلا بالتدقيق في مصدر هذه الخطبة، والشريف الرضي رضي الله عنه لم يقتصر في جمع خطب أمير المؤمنين على كتب الشيعة بل كان يأخذها من كتب العامة أيضا فعلى هذا لا يمكن القول إن كتاب نهج البلاغة كتاب شيعي في كل خطبه بل إن بعضها سنية المصدر، وهذا ما يدعونا للتثبت في أية كلمة منسوبة للإمام عليه السلام في هذا الكتاب المبارك.
ومن جهة أخرى فإن كلمة ( دعوني والتمسوا غيري ) قد أجاب عنها علماء الطائفة وسأنقل هنا قولين أحدهما للمجلسي والآخر لشمس الدين عليهما الرحمة:
بحار الأنوار ج٣٢ص٣٥: " المخاطبون بهذا الخطاب هم الطالبون للبيعة بعد قتل عثمان، ولما كان الناس نسوا سيرة النبي واعتادوا بما عمل فيهم خلفاء الجور من تفضيل الرؤساء والأشراف لانتظام أمورهم وأكثرهم إنما نقموا على عثمان استبداده بالأموال كانوا يطمعون منه عليه السلام أن يفضلهم أيضا في العطاء والتشريف ولذا نكث طلحة والزبير في اليوم الثاني من بيعته ونقموا عليه التسوية في العطاء وقالوا آسيت بيننا وبين الأعاجم وكذلك عبد الله بن عمر وسعيد بن العاص ومروان وأضرابهم ولم يقبلوا ما قسم لهم فهؤلاء القوم لما طلبوا البيعة بعد قتل عثمان قال عليه السلام ( دعوني والتمسوا غيري ) إتماما للحجة عليهم وأعلمهم باستقبال أمور لها وجوه وألوان لا يصبرون عليها وإنه بعد البيعة لا يجيبهم إلى ما طمعوا فيه ولا يصغي إلى قول القائل وعتب العاتب بل يقيمهم على المحجة البيضاء ويسير فيهم بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله.... وليس الغرض ردعهم عن البيعة الواجبة بل إتمام للحجة وإبطال لما علم عليه السلام من ادعائهم الاكراه على البيعة كما فعل طلحة والزبير بعد النكث، مع أن المرء حريص على ما منع والطبع نافر عما سورع إلى إجابته...
ولا يخفى على اللبيب أنه بعد الاغماض عن الأدلة القاهرة والنصوص المتواترة لا فرق بين المذهبين في وجوب التأويل ولا يستقيم الحمل على ظاهره إلا على القول بأن إمامته عليه السلام كانت مرجوحة وأن كونه وزيرا أولى من كونه أميرا وهو ينافي القول بالتفضيل الذي قال به فإنه عليه السلام إذا كان أحق الإمامة وبطل تفضيل المفضول على ما هو الحق واختاره أيضا كيف يجوز للناس أن يعدلوا عنه إلى غيره وكيف يجوز له عليه السلام أن يأمر الناس بتركه والعدول عنه إلى غيره مع عدم ضرورة تدعو إلى ترك الإمامة، ومع وجود الضرورة كما جاز ترك الإمامة الواجبة بالدليل جاز ترك الإمامة المنصوص عليها فالتأويل واجب على التقديرين ولا نعلم أحدا قال بتفضيل غيره عليه ورجحان العدول إلى أحد سواه في ذلك الزمان.
على أن الظاهر للمتأمل في أجزاء الكلام حيث علل الامر بالتماس الغير باستقبال أمر لا تقوم له القلوب وتنكر المحجة وأنه إن أجابهم حملهم على الحق هو أن السبب في ذلك المانع دون عدم النص وأنه لم يكن متعينا للإمامة أو لم يكن أحق وأولى به ونحو ذلك ولعل الوجه في قوله عليه السلام ( لعلي أسمعكم وأطوعكم ) هو أنه إذا تولى الغير أمر الإمامة ولم تتم الشرائط في خلافته عليه السلام لم يكن ليعدل عن مقتضى التقية بخلاف سائر الناس حيث يجوز الخطأ عليهم. وأما قوله: (فأنا لكم وزيرا خير لكم مني أميرا) فلعل المراد بالخيرية فيه موافقة الغرض أو سهولة الحال في الدنيا فإنه عليه السلام على تقدير الإمامة وبسط اليد لا يجب عليه العمل بمحض الحق وهو يصعب على النفوس ولا يحصل به آمال الطامعين بخلاف ما إذا كان وزيرا فإن الوزير يشير بالرأي مع تجويز التأثير في الأمير وعدم الخوف ونحوه من شرايط الامر بالمعروف ولعل الأمير الذي يولونه الأمر يرى في كثير من الأمور ما يطابق آمال القوم ويوافق أطماعهم ولا يعمل بما يشير به الوزير فيكون وزارته أوفق لمقصود القوم فالحاصل أن ما قصدتموه من بيعتي لا يتم لكم ووزارتي أوفق لغرضكم والغرض إتمام الحجة كما عرفت".
وقال الشيخ محمد مهدي شمس الدين في دراسات في نهج البلاغة ص٢٠٥ – ٢٠٨:
"فأنت ترى أنه لم يأب الحكم لأنه لم يأنس من نفسه القوة عليه، وإنما أباه لأمر آخر: لقد كان يرى المجتمع الاسلامي وقد تردى في هوة من الفوارق الاجتماعية التي ازدادت اتساعا بسبب السياسة التي اتبعها ولاة عثمان مدة خلافته.
ولقد كان يرى التوجيهات الدينية العظيمة التي عمل النبي طيلة حياته على إرساء أصولها في المجتمع العربي قد فقدت فاعليتها في توجيه حياة الناس. وكان عليه السلام يعرف السبيل الذي يرد الأشياء إلى نصابها، فإنما صار الناس إلى واقعهم هذا لأنهم فقدوا الثقة بالقوة الحاكمة التي تهيمن عليهم. فقدوا الثقة بهذه القوة كناصر للمظلوم وخصم للظالم، فراحوا يسعون إلى إقرار حقوقهم وصيانتها بأنفسهم. وهكذا، رويدا رويدا انقطعت الصلة بينهم وبين الرموز المعنوية التي يجب أن تقود حياتهم.
والسبيل إلى تلافي هذا الفساد كله هو إشعار الناس أن حكما صحيحا يهيمن عليهم، لتعود إلى الناس ثقتهم الزائلة بحكامهم. ولكن شيئا كهذا لم يكن سهلا قريب المنال، فهناك طبقات ناشئة لا تسيغ مثل هذا، ولذلك فهي حرية أن تقف في وجه كل برنامج إصلاحي وكل محاولة تطهيرية، ولذلك أبى عليهم قبول الحكم، لأنه قدر - وقد أصاب - انه سيلاقي معارضة عنيفة من كل طبقة تجد صلاحها في أن يبقى الفساد على حاله.
لأجل هذا قال للجماهير يوم هرعت إليه تسأله أن يلي الحكم: ( دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمرا له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول، وإن الآفاق قد أغامت والمحجة قد تنكرت، واعلموا اني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل، وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزيرا خير لكم مني أميرا ) ولكن القوم أبوا عليه إلا أن يلي الحكم، وربما رأى عليه السلام انه إذا لم يستجب لهم فربما توثب على حكم المسلمين من لا يصلح له، فيزيد الفساد فسادا، ورجا أن يخرج بالناس من واقعهم الاجتماعي التعس الذي أحلتهم فيه اثنتا عشرة سنة مضت عليهم في خلافة عثمان، إلى واقع أنبل وأحفل بمعاني الاسلام، وهكذا استجاب لهم، فبويع خليفة للمسلمين.
ولقد دأب، بعد أن بويع، على بيان الهدف الذي ابتغى من وراء ولاية الحكم، وذلك بأن يكون في مركز يمكنه من أن يصلح ما يفتقر إلى الاصلاح من شؤون الناس، وأن يرفع عن المظلومين فادح ما رزحوا تحته من ظلم، فتراه يقول: (. أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنـز ) ".
فلا اشكال في هذا المقطع البتة وقد أجاب عنه علماؤنا منذ قديم الزمن كما نقل عنهم ابن أبي الحديد المعتزلي جوابهم عنه في كتابه شرح نهج البلاغة.
والحمد لله رب العالمين