الشيخ أحمد سلمان
كما قدّمنا سابقاً فقد احتوى كتاب (نهج البلاغة) على جملة من النصوص التي أرَّخت لمرحلة عصيبة من مراحل الأمة الإسلامية، وهي ما يسمّى بمرحلة (الفتنة الكبرى) التي بدأت من قتل عثمان بن عفان، وخُتمت بمقتل الإمام الحسين عليه السلام.
ولعلّ الاختلاف في قراءة أحداث هذه الحقبة الزمنيّة بالخصوص هوالذي جذّر الاختلاف الشيعي السُّنّي بحيث جعل للشيعة مواقف سلبية من بعض رموز أهل السنة، وكذلك الحال بالنسبة إلى أهل السنة الذين اتخذوا مواقف سلبية من بعض رموز الشيعة.
ومن هنا حاول البعض الاحتجاج بنصوص من كتاب (نهج البلاغة) لإثبات صحّة قراءتهم للأحداث التاريخية في تلك الفترة، ودحض وجهة النظر الشيعيّة.
أهل الشام :
حصر بعض المؤرّخين الخلاف العلوي الأموي في قضية دم عثمان، ونفوا أن يكون هناك خلاف عقدي أوحتّى ديني متجذّر ، بل كل ما حصل من قتال وسفك للدماء كان سببه الاختلاف في التعامل مع قتلة عثمان،واحتج أصحاب هذا الرأي بنصوص من كتاب (نهج البلاغة)، هي :
١- اسلام أهل الشام :
قالوا: إن عليًّا عليه السلام لم يكفِّر أهل الشام، بل كان يعتبرهم مسلمين مؤمنين موحِّدين، ويدل على ذلك قوله عليه السلام : وكان بدء أمرنا أنا التقينا والقوم من أهل الشام، والظاهر أن ربّنا واحد، ونبيّنا واحد، ودعوتنا في الإسلام واحدة، لا نستزيدهم في الإيمان بالله والتصديق برسوله صلى الله عليه وآله وسلم ولا يستزيدوننا ، الأمر واحد إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان، ونحن منه براء [١] .
والجواب على هذا الخبر:
أولاً : أن هذا الخبر خدش بعض العلماء في سنده، واحتمل كونه من روايات سيف بن عمر.
قال التستري : لم أقف على سند له، ولا يبعد كونه مثل سابقه من روايات سيف الموضوعة ، والطبري وإن لم ينقله لكن لا يبعد أخذ المصنّف له من أصل كتاب سيف [٢].
ثانياً : أن أميرالمؤمنين عليه السلام حكم على ظاهرهم بالإسلام، ولم يقطع بإسلامهم وشتّان بين الأمرين بين أن نقول : «فلان مسلم»، وبين أن نقول: «فلان ظاهره الإسلام».
ومن المعلوم أنه يكفي للحكم على أي شخص بأنه مسلم أن يشهد الشهادتين، ويقيم شرائع الإسلام، وحيث إن أهل الشام كانوا كذلك، فإن هذا الحكم يشملهم بحسب الظاهر، وأما واقعهم فالله أعلم به.
فمثلاً: في بدايات الإسلام كان المنافق عبد الله بن أبي بن سلول يدخل المساجد، ويصلّي مع الصحابة، ونجد أن أبا بكر كذلك، وكلاهما يطلق عليه مسلم، رغم أن الاول أجمع المسلمون على نفاقه وإبطانه الكفر ، والثاني هو عند المخالفين أفضل الخلق بعد الأنبياء، فالحكم على ظاهر رجل بالإسلام لا يعني أنه من أهل الإيمان.
ولذلك قال ابن أبي الحديد : «والظاهر أن ربنا واحد» كلام مَن لم يحكم لأهل صفين من جانب معاوية حكماً قاطعاً بالإسلام، بل قال : ظاهرهم الإسلام، ولا خلف بيننا وبينهم فيه، بل الخلف في دم عثمان [٣].
ثالثاً : هذا الكتاب الذي أرسله الإمام علي عليه السالم للأمصار هو من باب إقامة الحجّة على الكل، فمعاوية وشيعته يدّعون أن خلافهم هو فقط في خصوص دم عثمان ، وليس لهم طمع بحكم ولا ملك ولا خلافة، وإلزاماً لهم بما اعترفوا به ، بيّن أمير المؤمنين عليه السلام حقيقة الأمر، ووضّح للناس ضعف حجّتهم ، وخبث طويتهم ، بإصرارهم على المكابرة، وعدم إرادتهم أن يُحلّ الخلاف بالحوار والنقاش، فقال عليه السلام في نفس الكتاب : فقلنا : تعالوا نداوي ما لا يُدرك اليوم بإطفاء النائرة وتسكين العامة ، حتى يشتدّ الأمر ويستجمع ، فنقوى على وضع الحق مواضعه . فقالوا : بل نداويه بالمكابرة. فأبوا حتى جنحت الحرب ، وركدت، ووقدت نيرانها، وحمست [٤].
فرغم مجاراة أمير المؤمنين عليه السلام للقوم في ما ادعوه إلا أنهم أبوا إلا إيقاع الفتنة،والخروج على إمامهم المفترض الطاعة، وحمل السلاح في وجهه.
رابعاً : أن كل من قرأ التاريخ يعلم حقيقة العلاقة بين علي بن أبي طالب عليه السلام ومعاوية بن أبي سفيان، وسنذكر نماذج من الكتب المعتبرة عند المخالفين كي نكشف عن حقيقة هذا الأمر:
منها : أن الإمام عليًّا عليه السلام كان يدعوعلى معاوية بن أبي سفيان ويلعنه في قنوته، كما روى ذلك ابن أبي شيبة في مصنّفه بسنده عبد الرحمن بن مغفل، قال : صلّيت مع علي صلاة الغداة، قال : فقنت ، فقال في قنوته : اللهم عليك بمعاوية وأشياعه ، وعمرو بن العاص وأشياعه ، وأبا السلمي وأشياعه،وعبد الله بن قيس وأشياعه [٥].
وقال الطبري في تاريخه : وكان إذا صلى الغداة يقنت ، فيقول : اللهم العن معاوية، وعمراً ، وأبا الأعور السلمي، وحبيباً ، وعبد الرحمن بن خالد ، والضحاك بن قيس، والوليد . فبلغ ذلك معاوية، فكان إذا قنت لعن عليًّا ،وابن عباس ،والأشتر،وحسناً، وحسيناً [٦].
وقال ابن حزم الظاهري : ولا قنت عليُّ حتى حارب أهل الشام ، فكان يقنت في الصلوات كلهن، وكان معاوية يقنت أيضاً ، يدعو كل واحد منهما على صاحبه [٧].
ومنها : أن معاوية كان يسب أميرالمؤمنين عليه السلام ، بل سنّ سبّه ولعنه على منابر المسلمين بعد أن آلت الأمور إليه، وقد ثبت ذلك في الكتب المعتبرة، فقد روى ابن ماجة بسند صحيح عن سعد بن أبي وقال : قدم معاوية في بعض حجَّاته ، فدخل عليه سعد، فذكروا عليًّا فنال منه ، فغضب سعد وقال : تقول هذا لرجل سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «من كنتُ مولاه فعلي مولاه»، وسمعته يقول: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»، وسمعته يقول : «لأعطينَّ الراية اليوم رجلاً يحب الله ورسوله» [٨].
وروى أحمد في مسنده بسنده عن عبد الله بن ظالم المازني، قال : لما خرج معاوية من الكوفة استعمل المغيرة بن شعبة، قال: فأقام خطباء يقعون في علي [٩].
وروى الحاكم عن أبي عبد الله الجدلي، قال : دخلت على أم سلمة ، فقالت لي : أيُسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيكم؟ فقلت : معاذ الله ، أو سبحان الله ، أو كلمة نحوها. فقالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : من سبَّ عليًّا فقد سبّني [١٠].
ومنها : تربية معاوية بن أبي سفيان جيلاً كاملاً من الشاميين على النصب وعلى بغض أمير المؤمنين عليه السلام كما أقر الذهبي بذلك، حيث قال : وخلف معاوية خلق كثير يحبّونه، ويتغالون فيه، ويفضلونه، إما قد ملكهم بالكرم والحلم والعطاء، وإما قد وُلدوا في الشام على حبّه، وتربَّى أولادهم على ذلك ، وفيهم جماعة يسيرة من الصحابة، وعدد كثير من التابعين والفضلاء، وحاربوا معه أهل العراق، ونشؤوا على النصب، نعوذ بالله من الهوى [١١] .
ومنها : سعي معاوية لطمس كل ما يتعلق بأمير المؤمنين عليه السلام حتى كانت سُنّة من سنن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، كما روى ذلك الحاكم في المستدرك بسنده عن سعيد بن جبير، قال : كنا مع ابن عباس بعرفة، فقال لي : يا سعيد ما لي لا أسمع لاناس يلبّون؟! فقلت : يخافون من معاوية . قال : فخرج ابن عباس من فسطاطه ، فقال : لبّيك اللهم لبّيك. فإنهم قد تركوا السُّنّة من بغض علي [١٢].
فالخلاف بينهما كان أوسع من أن يكون مخصوصاً بدم عثمان بن عفان ، وما دم عثمان إلا ذريعة مكشوفة اتخذها معاوية للوصول للحكم فقط.
ويمكننا تلخيص كل ما ذكرناه في شاهد واحد ، وهو الحديث المعروف الذي أخرحه البخاري بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : ويح عمار تقتله الفئة الباغية، عمار يدعوهم إلى الله، ويدعونه إلى النار [١٣].
فهذا الأثر وضّح أن طريق أمير المؤمنين عليه السلام هو طريق الجنة والهداية، وطريق معاوية وأشياعه هو طريق النار والغواية، فهل يمكن أن يقول عاقل : إن الخلاف كان محصوراً في دم عثمان؟
٢- المنع عن سبّ أهل الشام :
قالوا : إن عليًّا عليه السلام منع أصحابه من سبّ ولعن أهل الشام، فإنه عليه السلام قال : إني أكره لكم أن تكونوا سبَّابين،ولكنكم لو وصفتم أعمالهم ، وذكرتم حالهم ، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر ، وقلتم مكان سبكم إياهم : اللهم احقن دماءنا ودماءهم ، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم ، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به [١٤].
وكلامه عليه السلام هذا يدل على إسلامهم بل إيمانهم؛ لأن في الفقه الشيعي حرمة السب واللعن مناطها المؤمن.
والجواب على هذا الإشكال :
أولاً : لم ينه أمير المؤمنين عليه السلام عن السب واللعن كما صوّر المشكل ، بل نهى أصحابه أن يكونوا سبّابين، وشتان بين الأمرين؛ إذ أنّ الإنسان مثلاً إذا كذب مرّة يقال له : كاذب، أما إذا كرّر الأمر عدة مرات بحيث صار دأبه الكذب ، قيل عنه حينها : كذّاب، وهكذا الحال بالنسبة لهذه الرواية، فالامام عليه السلام نهاهم أن يكونوا «سبّابين» بصيغة المبالغة، لا أن يسبوا أهل الشام من غير كثرة، أي نهاهم عن أن يكون دأبهم السب، لا عن مجرّد السب.
ثانياً : النهي هنا ليس نهياً تحريميًّا كما توهّم المشكل ، بل هو نهي إرشادي تنزيهي، ويستفاد هذا من قوله : «أكره» ، ومن قوله : «كان أصوب في الفعل»، فإتيانه بصيغة التفضيل : «أفعل» يستفاد منه أنّ كلا الأمرين كان صواباً، ولكن الأفضل والأكمل هو أن يذكروا مساوئ أعمالهم وقبائح أفعالهم.
ثالثاً : قد ذكرنا سابقاً عدّة نصوص تفيد أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يلعن معاوية وأعوانه وأشياعه، ويدعوعليهم في قنوته في كلّ صلاة يصلّيها، وقد ورد في النهج عدّة نصوص تعرّض فيها الإمام عليه السلام للشاميين ، ووصفهم بجملة من المثالب القبيحة، فقال : جفاة طغام ، وعبيد أقزام، جُمعوا من كل أوب ، وتلقطوا من كل شوب، ممن ينبغي أن يُفقَّه ويُؤدب ، ويُعلَّم ويُدرَّب، ويولى عليه، ويؤخذ على يديه، ليسوا من المهاجرين والأنصار، ولا من الذين تبوّأوا الدار، ألا وإن القوم اختاروا لأنفسهم أقرب القوم مما تكرهون [١٥].
وقد قال محمد عبده في شرح هذه الفقرة : الجفاة بضم الجيم : جمع جافٍ، أي غليظ فظ، والطغام كسحاب : أوغاد الناس، والعبيد كناية عن رديئي الأخلاق، والأقزام : جمع قَزَم بالتحريك أرذال الناس، جُمعوا من كل أوب : أي ناحية، والشوب : الخلط، كناية عن كونهم أخلاطاً ليسوا من صراحة النسب في شيء ممن ينبغي ، أي أنهم على جهل، فينبغي أن يُفقَّهوا ويؤدَّبوا ويُعلَّموا فرائضهم، ويمرَّنوا على العمل بها، وهم سفهاء الأحلام، فينبغي أن يولى عليهم ، أي يقام لهم الأولياء؛ ليلزموهم بمصالحهم ، ويعملوا لهم، ويأخذوا على أيديهم، فلا يبيحون لهم التصرّف من أنفسهم،وإلا جرّتهم إلى الضرر بالجهل والسفه [١٦].
رابعاً : العجيب أنّ هؤلاء دائماً يدندنون بأن السب واللعن محرّمان، وأنهما ليسا من أخلاق المسلمين، وفي نفس الوقت ينسبون هذه الأمور للنبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في أصح صحاحهم.
فقد ورد في صحيح مسلم عن عائشة، قالت : دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلان، فكلماه بشيء لا أدري ما هو، فأغضباه ، فلعنهما، وسبَّهما، فلما خرجا قلت : يا رسول الله من أصاب من الخير شيئاً ما أصابه هذان. قال : وما ذاك؟ قالت : قلت: لعنتَهما وسببتَهما. قال: أوما علمتِ ما شارطتُ عليه ربي ؟ قلت : اللهم إنما أنا بشر، فأي المسلمين لعنتُه أو سببتُه فاجعله له زكاة وأجراً [١٧].
فالنبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم يسب ويلعن غير المستحق ، ثم يبرّرون هذا الفعل القبيح بأنه يكون زكاةً وأجراً للمسبوب!
والأدهى والأمر ما ورد في مسند أحمد بن حنبل عن أبي بن كعب : أن رجلاً اعتزى بعزاء الجاهلية فأعضه، ولم يكنّه ، فنظر القوم إليه، فقال للقوم : إني قد أرى الذي في أنفسكم، أني لم أستطع إلا أن أقول هذا ، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرنا إذا سمعتم من يعتزى بعزاء الجاهلية فأعضوه ولا تكنوا [١٨].
وقد شرح ابن أثير في كتابه النهاية المراد الخبر، فقال : وفيه «من تعزّى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه، ولا تكنوا»، أي قولوا له : اعضض بأير أبيك «ولا تكنوا» عن الأير بالهن ، تنكيلاً له وتأديباً [١٩].
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي وصفه الله سبحانه بأنه على خلق عظيم يأمر الناس بأن يأتوا بأقبح الألفاظ وأفحش الكلمات في حق المسلمين، ثم يشكلون على الشيعة لعنهم لمن ثبت بالنقل الصحيح أنهم كانوا معول هدم في الإسلام منذ فجره!
فهذه الرواية لا دلالة فيها على إيمان أهل الشام، بل ولا على إسلامهم، ولسانها إرشادي لما هو أفضل وأكمل.
ذم الإمام عليه السلام لشيعته :
من جملة الأمور التي تمسّك بها خصوم الشيعة هي الذموم التي صدرت من أمير المؤمنين عليه السلام في حق أتباعه وأصحابه، وخصوصاً أهل الكوفة، فقالوا إن هذه النصوص يستفاد منها ذم الشيعة، وأنهم لم يكونوا من أتباع علي عليه السلام، وهذا كاشف عن أن الخلف يتبع السلف ، فالموجودون الآن من الشيعة هم على نهج أسلافهم، يدَّعون اتباع أهل البيت عليه السلام وهم منهم براء وقد حشد هؤلاء جملة من نصوص النهج.
منها : قوله عليه السلام : فيا عجباً والله يميت القلب ويجلب الهم، من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم ، وتفرّقكم عن حقّكم ، فقبحاً لكم وترحاً حين صرتم غرضاً يُرمى، يُغار عليكم ولا تغيرون ، وتٌغزَون ولا تَغزُون، ويُعصى الله وترضون، فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر، قلتم : «هذه حمارة القيظ، أمهلنا يسبخ عنا الحر»، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم : «هذه صبارة القر، أمهلنا ينسلخ عن البرد»، كل هذا فراراً من الحر والقر، فإذا كنتم من الحر والقر تفرون فإذاً أنتم والله من السيف أفر، يا أشباه الرجال ولا رجال، حلوم الأطفال ، وعقول ربات الحجال، لوددتُ أني لم أركم ولم أعرفكم، معرفة والله جرّت ندماً، وأعقبت سدماً ، قاتلكم الله، لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظاً، وجرعتموني نغب التهمام أنفاساً، وأفسدتم عليَّ رأيي بالعصيان والخذلان، حتى لقد قالت قريش : إن ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له بالحرب، لله أبوهم وهل أحد منهم أشد لها مراساً ، وأقدم فيها مقاماً مني، لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، وها أنا قد ذرفت على الستين ، ولكن لا رأي لمن لا يطاع [٢٠].
ومنها : قوله عليه السلام : مُنيتً بمن لا يطيع إذا أَمرت ، ولا يجيب إذا دعوت ، لا أبا لكم ، ما تنتظرون بنصركم ربكم، أما دين يجمعكم ، ولا تطيعون لي أمراً، حتى تكشف الأمور عن عواقف المساءة ، فما يُدرَك بكم ثار، ولا يُبلَغ بكم مرام، دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم جرجة الجمل الأسر، وتثاقلتم تثاقل النضو الأدبر، ثم خرج إلى منكم جنيد متذائب ضعيف، كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون [٢١] .
ومنها : قوله عليه السلام : أما بعد يا أهل العراق، فإنما أنتم كالمرأة الحامل، حملت فلما أتمت أملصت ، ومات قيّمها، وطال تأيّمها، وورثها أبعدها، أما والله ما أتيتكم اختياراً، ولكن جئت إليكم سوقاً، ولقد بلغني أنكم تقولون : «علي يكذب»، قاتلكم الله ، فعلى من أكذب ؟ أعلى الله؟ فأنا أول من آمن به، أم على نبيه؟ فأنا أول من صدَّقه، كلا والله ، ولكنها لهجة غبتم عنها ولم تكونوا من أهلها ، ويل أمه كيلاً بغير ثمن لوكان له وعاء، ولتعلمن نبأه بعد حين [٢٢].
وغيرها من النصوص الكثيرة التي تحوي هذا المضمون، والتي اتخذها المخالف دليلاً على ما ذكرناه.
والجواب عليها :
أولاً : أن خطاب أمير المؤمنين عليه السلام كان لخصوص الموجودين معه في ذلك الوقت، وليس لكل النّاس، أي كما يقال : كان خطابه بنحوالقضية الخارجية لا الحقيقية فالذين وُصفوا بهذه الأوصاف هم خصوص الذين كانوا معه في جيشه ودولته، وهذا لا يشمل الشيعة الذين وُلدوا بعد ذلك ولوكان، الأمر كذلك لحمّلنا أهل مكة اليوم وزر تكذيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أوائل دعوته، ولحمّلنا أهل الطائف ذنب مهاجمة سلفهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما ذهب إليهم يدعوهم للإسلام.
ثانياً : هذه الخطب موجّهة لجيشه من أهل الكوفة في ذلك العصر ، وهؤلاء لم يكونوا جيشاً عقائديًّا، أي أنهم لم يكونوا شيعة إمامية كما هم عليه اليوم، بل كانوا خليطاً من الشيعة وهم قلة، وغيرهم من الذين يقاتلون لاعتقادهم بأن عليًّا عليه السلام خليفة المسلمين الذي يجب على الناس طاعته، مع قبائل يقاتلون لأجل الحلف، وآخرين يقاتلون لأجل المال والدنيا.
ولإثبات ما قلناه نأتي بشاهدين :
١- روى الشيخ الكليني في الكافي الشريف بسند معتبر عن سليم بن قيس الهلالي، قال : خطب أمير المؤمنين عليه السلام، فحمد الله وأثنى عليه، ثم صلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم،ثم قال : ألا إن أخوف ما أخاف عليكم خلتان : اتباع الهوى ، وطول الأمل ، أما اتباع الهوى فيصد عن الحق ، وأما طول الأمل فينسي الآخرة ، ألا إن الدنيا قد ترحّلت مدبرة، وإن الآخرة قد ترحّلت مقبلة ، ولكن واحدة بَنُون...
إلى أن قال : ثم أقبل بوجهه وحوله ناس من أهل بيته وخاصّته وشيعته ، فقال : قد عملت الولاة قبلي أعمالاً، خالفوا فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متعمِّدين لخلافه ، ناقضين لعهده، مغيِّرين لسُنّته، ولو حملت الناس على تركها وحوَّلتها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتفرَّق عني جندي ، حتى أبقى وحدي، أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب الله عزَّ وجل وسُنّة رسول الله [٢٣].
ويستفاد من هذا النص عدّة أمور :
منها : أن أتباع أمير المؤمنين عليه السلام لم يكونوا كلهم شيعة له.
ومنها : أن خلّص اتباعه هم قلة قليلة، وليسوا أكثرية جيشه.
ومنها : أنه كان يتقي مخالفيه الذين كانوا معه في جيشه درءاً للمفاسد المترتبة عن تفرقهم عنه.
٢- اعترف ابن تيمية الحرّاني بهذه الحقيقة، فقال : ولم يُتّهم أحد من الشيعة الأولى بتفضيل علي على أبي بكر وعمر، بل كانت عامة الشيعة الأولى الذين يحبّون عليًّا يفضّلون عليه أبا بكر وعمر، لكن كان فيهم طائفة ترجّحه على عثمان، وكان الناس في الفتنة صاروا شيعتين : شيعة عثمانية ،وشيعة علوية، وليس كل من قاتل مع علي كان يفضِّله على عثمان، بل كان كثير منهم يفضَّل عثمان عليه كما هو قول سائر أهل السنة [٢٤].
فهذا اعتراف صريح من ابن تيمية بأن جيش علي بن أبي طالب عليه السلام كان من أهل السنة كما ذكر، وليس من الشيعة الإمامية المعروفين اليوم، وعليه فهذه الذموم الموجودة في (نهج البلاغة) إنما هي منصبة على جيشه السُّنّي الذي يطيع الإمام عليًّا باعتباره خليفة بايعه الناس، فوجب له السمع والطاعة ، لا باعتباره إماماً معصوماً منصوصاً عليه من الله سبحانه.
ثالثاً : نجد في (نهج البلاغة) وفي غيره من الكتب نصوصاً صريحة في مدح أهل الكوفة والثناء عليهم ، مثل قوله عليه السلام : وجزاكم الله من أهل مصر عن أهل بيت نبيّكم أحسن ما يجزي العاملين بطاعته والشاكرين لنعمته ، فقد سمعتم وأطعتم ، ودُعيتم فأَجبتم [٢٥].
ومنها : قوله : (ومن كتاب له عليه السلام إلى أهل الكوفة عند مسيره من المدينة إلى البصرة) : من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة جبهة الأنصار، وسنام العرب. أما بعد فإني أخبركم عن أمر عثمان حتى يكون سمعه كعيانه [٢٦] .
ومنها : ما ورد في الكافي : عن حنان بن سدير، عن أبيه قال : دخلت أنا وأبي وجدّي وعمّي حمّاماً بالمدينة، فإذا رجل في بيت المسلخ، فقال لنا : ممن القوم؟ فقلنا : من أهل العراق ، فقال : وأي العراق؟ قلنا : كوفِيّون ، فقال : مرحباً بكم يا أهل الكوفة ، أنتم الشعار دون الدّثار [٢٧].
رابعاً : إذا كان هؤلاء الذي ذمّهم الأمير عليه السلام هم من الشيعة فأين كان أهل السنة إذن؟ فالشيعة وقفوا في صفّ علي عليه السلام، وحاربوا معه حروبه كلها، ولكنهم قصّروا في نصرته كما فهم المشكل من النصوص، لكن أهل السنة لم يقفوا معه، ولم يساندوه ،بل وقفوا مع جيش خصمه وعادوه ، فإذا كان الأمر كذلك فجرمهم أعظم وأقبح من جرم من قيل فيهم : إنهم شيعة؛ لأن المخالفين رفعوا السلاح في وجه أمير المؤمنين عليه السلام، أما الشيعة فغاية ما صدر منهم هو تقصيرهم في النصرة.
وقد قال فيهم عليه السلام : كنتم جند المرأة، وأتباع البهيمة، رغا فأجبتم، وعقر فهربتم، أخلاقكم دقاق ، وعهدكم شقاق، ودينكم نفاق، وماؤكم زعاق، والمقيم بين أظهركم مرتهن بذنبه، والشاخص عنكم متدارك برحمة من ربه [٢٨] .
فالنصوص التي احتج بها القوم لا علاقة لها بالشيعة من قريب ولا من بعيد، بل هي بصدد ذم مجموعة من النّاس عاصروا أمير المؤمنين عليه السلام، ولا يُعلم ولاؤهم له فضلاً عن تشيّعهم.
[١] . نهج البلاغة ٣/١١٤.
[٢] . بهج الصباغة ٩/٣٤٨.
[٣] . شرح نهج البلاغة ١٧/١٤٢.
[٤] . نهج البلاغة ٣/١١٤.
[٥] . المصنف ٢/٢١٦.
[٦] . تاريخ الطبري ٤/٥٢.
[٧] . المحلى ٤/١٤٥.
[٨] . سنن ابن ماجه ١/٤٥، صحّحه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ١/٢٦.
[٩] . مسند أحمد بن حنبل ١/١٨٩، وقد حسنه الشيخ أحمد شاكر.
[١٠] . المستدرك على الصحيحين ٣/١٢١، وعلق عليه بقوله : هذا حديث صحيح الإسناد.
[١١] . سير أعلام النبلاء ٣/١٢٨.
[١٢] . المستدرك على الصحيحين ١/٤٦٤، علق عليه الحاكم بقوله : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي في التخليص،والألباني في تعليقه على سنن النسائي ٢/٦٣١.
[١٣] . صحيح البخاري ٣/٢٠٧.
[١٤] . نهج البلاغة ٢/١٨٥.
[١٥] . نهج البلاغة ٢/٢٣٠.
[١٦] . نهج البلاغة ٢/٢٣٠.
[١٧] . صحيح مسلم ٨/٢٤.
[١٨] . مسند أحمد بن حنبل ٥/١٣٦، وقد صحَّح هذا الخبر شعيب الأرنؤوط في نفس المصدر ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٣/٣،والألباني في الأدب المفرد . ١١٤.
[١٩] . النهاية في غريب الحديث ٣/٢٥٢.
[٢٠] . نهج البلاغة ١/٦٩.
[٢١] . نفس المصدر ١/٩٠.
[٢٢] . نهج البلاغة ١/١١٨.
[٢٣] . الكافي ٨/٥٨.
[٢٤] . منهاج السنة ٤/١٣٢.
[٢٥] . نهج البلاغة ٣/٣.
[٢٦] . نهج البلاغة ٣/٢.
[٢٧] . الكالفي ٦/٤٩٨.
[٢٨] . نفس المصدر ١/٤٥.
منقول من كتاب نهج البلاغة فوق الشبهات والتشكيكات - الشيح أحمد سلمان