وردت شبهات حول «نهج البلاغة» ومطاويه من قبل جماعة من العلماء قديما وحديثا، وهذه الشبهات صدرت منهم عن العصبية وعدم الاطلاع عن حقيقة الأمر، ونحن نذكر هنا كلمات المخالفين وعقائدهم حول «النهج».
أول من فتح باب الاعتراض وشك في انتساب خطب «النهج» الى أميرالمؤمنين- عليه السلام- هوابن خلكان في كتاب «وفيات الاعيان» واخطأ أيضا في نسبة الكتاب الى السيد المرتضى وتبعه في ذلك الذهبي وابن حجر وغيرهما.
قال ابن خلكان في ترجمة الشريف المرتضى:
وقد اختلف الناس في كتاب «نهج البلاغة» المجموع من كلام الامام علي بن أبي طالب- رضي اللّه عنه- هل هوجمعه أم جمع اخيه الرضي، وقد قيل انه ليس من كلام علي، وإنما الذي جمعه نسبه اليه هوالذي وضعه واللّه اعلم.
هذا كلام ابن خلكان فيعلم منه بالصراحة انه ما رأى «النهج» وكذا ساير مؤلفات السيد الرضي، لأن من عرف حياة السيد الرضي وآثاره علم أن «نهج البلاغة» من تأليفاته لا تأليف أخيه المرتضى، لان السيد الرضي في موارد كثيرة من «نهج البلاغة»، يقول في ترجمة بعض الكلمات، قال الرضي كذا وهذا واضح لمن يعرف «نهج البلاغة».
يظهر من كلام ابن خلكان أنه لم يقطع بان «نهج البلاغة» لم يكن من كلام علي وانما نسبه الى قيل. ومعلوم ان هذا ليس معتقده، وفي آخر كلامه خلص نفسه وقال: واللّه أعلم، يعني هذا الكتاب ورد مورد اختلاف، واللّه يعلم حقيقة الامر.
قال الذهبي:
علي بن الحسين الموسوي الشريف المرتضى المعتزلي صاحب التصانيف مات سنة ٤٣٠ عن ثمانين سنة، وهوالمتهم بوضع كتاب «نهج البلاغة»، وله مشاركة قوية في العلوم. ومن طالع كتابه «نهج البلاغة» جزم بانه مكذوب على أمير المؤمنين- رضي اللّه عنه.
يظهر أيضا من كلمات الذهبي انه لم يراجع «نهج البلاغة» والّا لم ينسبه الى السيد المرتضى، والا عجب من الذهبي كيف أتهم المرتضى- رضوان اللّه عليه- وكذا أخوه الرضي في كلام ابن حجر يكون متهما بوضع «نهج البلاغة»، ونسبته الى الامام أمير المؤمنين- عليه السلام- ولوطالعا «نهج البلاغة»، وتعمقا فيه لما صدر منهما هذا الافتراء على الشريفين المرتضى والرضي. وهما- رضوان اللّه عليهما- في مقام عال من القداسة والديانة والعلم والفضيلة.
نعم أن الذهبي رأى في «نهج البلاغة» بعض الكلمات التي القاها أمير المؤمنين- عليه السلام- على أصحابه مثل الخطبة الشقشقية وأمثالها، ورأى أن هذه الالفاظ مخالفة لما يعتقده، فلهذه حمل علي السيد المرتضى- رضوان اللّه عليه- بانه وضع هذه الخطبة ونسبها الى أمير المؤمنين، ونحن نذكر هنا اسناد الخطبة الشقشقية في الكتب التي ألفت قبل الرضي مؤلف «نهج البلاغة»:
١- إبراهيم بن محمد الثقفي الكوفي المتوفي سنة ٢٨٣، ذكر هذه الخطبة في كتاب «الغارات».
٢- عبد اللّه بن محمود الكعبي البلخي المعتزلي المتوفي سنة ٣١٩، وذكر الخطبة في كتابه.
٣- أبوعلي محمد بن عبد الوهاب الجبائي البصري المتوفي سنة ٣٠٣، روى هذه الخطبة.
٤- محمد بن عبد الرحمن أبوجعفر بن قبة الرازي المتكلم الشيعي تلميذ أبي القاسم البلخي روى في كتابه الخطبة الشقيقة.
٥- أبوجعفر محمد بن علي بن الحسين القمي المشهور بالشيخ الصدوق المتوفي سنة ٣٨١، روى هذه الخطبة في كتابه «معاني الاخبار وعلل الشرائع».
٦- أبوعبد اللّه محمد بن النعمان استاذ السيد الرضي روى هذه الخطبة في كتاب «الارشاد».
قال ابن أبي الحديد في شرحه على «النهج»:
حدثني شيخي أبوالخيرمصدق بن شبيب الواسطي في سنة ثلاث وستمائة قال: قرأت على الشيخ ابي محمد عبد اللّه بن أحمد المعروف بأبن الخشاب، وكان صاحب دعابة وهزل قال فقلت له: أتقول انها منحولة، فقال لا واللّه، واني لأعلم أنها كلامه، كلما أعلم أنك مصدق.
قال فقلت له: إنّ كثيرا من الناس يقولون انها من كلام الرضي- رحمه اللّه تعالى- فقال: أنّى للرضي ولغير الرضي هذا النفس وهذا الاسلوب. وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور، وما يقع مع هذا الكلام في خل ولا خمر.
ثم قال: واللّه وقفت على هذه الخطبة في كتب صنفت، قبل أن يخلق النقيب ابوأحمد والد الرضي.
قال الاستاذ العرشي:
إن أكثر الخطب عرضة للنقد والايراد في «نهج البلاغة» هي الخطبة المعروفة بالشقشقية ذكر فيها أمير المؤمنين تاريخ الخلافة، وشكا بأن أولي الامر أعرضوا عنه، مع أنه أحق الناس بالخلافة.
لكنه اصطبر على هذا العدوان حتى أصر عليه الناس مرة رابعة، بان يتحمل اعباء الخلافة، بيد أنه خالفه بعض الناس بعد البيعة ونشبت الحرب بين المسلمين، فلولم يكن أنصاره، ولولم يأمر اللّه بنصرة المظلوم لطوى كشحه عن الخلافة.
فظهر بما نقلناه، أن هذه الخطبة نقلها الحفاظ والمحدثون في كتبهم قبل أن يولد الرضي، وكذلك سائر الخطب والرسائل، ومن أراد الاطلاع فليراجع مصادر نهج البلاغة للعلامة السيد عبد الزهراء الحسيني، واستناد نهج البلاغة للاستاذ امتياز علي العرشي الهندي- رحمه اللّه.
من كتاب أعلام نهج البلاغة السرخسي