الشيخ أحمد سلمان
عدالة الصحابة :
رغم أن هذه المسألة ليست من أصول الدين ولا من فروعه ، وليست من أركان الإسلام ولا من أركان الإيمان ، إلا أنّ المخالفين يعطون لهذه المسألة التاريخية اهتماماً بالغاً ، بحيث جعلوها هي أسّ الاسلام الذي يتقوّم به ، وعمود الدين الذي يقوم عليه .
ومن هنا تناول البعض نصوصاً من كتاب (نهج البلاغة) واعتبرها شاهداً ودليلاً لما يعتقدونه من عدالة كل الصحابة ، ودليلاً على بطلان ما يذهب إليه الشيعة من عدالة بعضهم وعدم عدالة بعض الآخرین منهم .
١- مدح أميرالمؤمنين عليه السلام للصحابة :
قالوا: أنّ عليًّا عليه السلام مدح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله في كتاب (نهج البلاغة) كما في قوله : لقد رأيتُ أصحاب محمد صلى الله عليه وآله ، فما أرى أحداً يشبههم ، لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً ، وقد باتوا سُجدَّاً وقياماً ، يراوحون بين جباههم وخدودهم ، ويقفون على مثل الجمرمن ذكرمَعَادهم ، كأن بين أعينهم رُكَب المعزى من طول سجودهم ، إذا ذُكرالله هملت أعينهم حتى تبل جيوبهم ، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف ، خوفاً من العقاب ورجاء الثواب [١] .
والجواب على هذا :
أولاً : عقيدة الشيعة في الصحابة هي أن منهم الصالح ومنهم الطالح ، ومنهم المحق ومنهم المبطل ، فهم يرون أن ذلك المجتمع حاله كحال غيره من المجتمعات الأخرى ، ليس بشاذ عن سنن الله في خلقه ، وما يقوله المخالفون من عدالة الصحابة أجمعين أكتعين أبتعين غيرصحيح ولا دليل عليه ، بل هو مخالف للآیات القرآنیة والأحاديث النبوية والتاريخ الصحيح وسيرتهم القطعية .
فالشيعة لا يعتقدون انحراف كل الصحابة عن جادة الصواب ، بل غاية ما يقولونه هوأنهم ليسوا كلهم عدول ، بنحو سلب العموم لا عموم السلب ، ولذلك وردت روايات كثيرة في كتب الشيعة تبيّن حقيقة ما يقولونه في الصحابة ، مثل ما رواه الصدوق بسند صحيح عن هشام بن سالم ، عن أبي عبدالله عليه السلام ، قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله اثنی عشرألفاٌ : ثمانیة الآف من المدينة ، وألفان من مكة ، وألفان من الطلقاء ، ولم يُرَ فيهم قدري ولامرجي ولا حروري ولا معتزلي ، ولا صاحب رأي ، كانوا يبكون الليل والنهار ويقولون : أقبض أرواحنا من قبل أن نأكل خبزالخمير [٢].
ومن هنا نعلم أن هذه الخطبة لا تنافي ما يعتقده الشيعة في صحابة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ، إذ أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام بصدد مدح مجموعة منهم ، ولا يوجد أي دليل أو قرينة في الخطبة تدلّ على الاستغراق، بمعنى أنه يريد مدح كل فرد ممن يسمّون بالصحابة .
ثانياً : من يقرأ في كتاب (نهج البلاغة) يجد كثيراً من النصوص ظاهرة في عدم ارتضاء أميرالمؤمنين عليه السلام لجملة من الصحابة كما عليه الشيعة الإمامية أعلى الله برهانهم ، كما هوالحال في الخطبة الشقشقية التي تعرّض فيها لحال الخلفاء الثلاثة السابقين له ، وكذا ما تكشف عنه مكاتباته مع معاوية ، ومحاوراته مع طلحة والزبير، وغيرها من الموارد التي تعرّض فيها إلى بعض الصحابة بالنّقد والتضليل .
ثالثاً : العجيب من هؤلاء أنهم يأتون بالدّعوة ، ثم يثبتون نقيضها ، فقد ذكرنا سابقاً أنّ من جملة الطعونات التي رددنا عليها هي كون كتاب (نهج البلاغة) مشتمل على سبّ للصحابة كما نقلنا عن ذلك الذهبي ، بل إن كثيراً من الذين تعرّضوا لنهج البلاغة أثاروا هذه النقطة بخصوصها .
ومنهم : الدكتورسالوس الذي عدّد بعض المطاعن من النهج ، فقال : إنه ما يحيّر هذا الشك ويقويه ، وما اشتمل عليه هذا الكتاب من تعريض بالصحابة . [٣]
ومنهم : محب الدين الخطيب الذي قال : وهذان الأخوان تطوَّعا للزيادة على خطب أميرسيَّدنا علي بكل ما هو طارئ عليها وغريب منها ، ومن التعريض بإخوانه الصحابة ، وهو بريء عند الله عزَّوجل من كل ذلك ، وسيبرأ إليه من مقترفي هذا الإثم [٤] .
ومنهم : صالح الفوزان ، فإنه قال : وعندما لمحت العنوان ظنن أن الدكتو الحلو سيبيَّن حقيقة هذا الكتاب الذي اشتمل على كثيرمن دس الشيعة وأباطيلهم مما ينزَّه عنه أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، كسبّ الصحابة الكرام ، وأن الأمة ظلمت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله [٥] .
فمن نصدّق من هؤلاء ؟ هل نأخذ بقول الذين يدّعون أن نصوص النهج تثبت عدالة كلّ الصحابة كما يعتقد المخالفون ؟
أم نصدّق الذين اتّهموا كتاب النهج بأنه احتوى على سب ولعن وطعن في صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله ؟
قد يشكل البعض بأن ما ذكرناه ليس صحيحاً ، وأن الشيعة يكفَّرون كل الصحابة إلا نفراً قليلاً يعدّون على الأصابع كما روي عندهم أن الإمام الصادق عليه السلام قال : ارتد الناس إلا أربعة أو خمسة أو سبعة ؟!( [٦] .
والجواب : أنّ هذه الروايات صحيحة وثابتة ، لكن ليس كما فهمها المخالف من الشيعة يكفرون كل الصحابة ، بل المراد بالردة فيها هي الردّة اللغوية، بمعنى الرجوع عن الأمر،لا الردّة الشرعية بمعنى الخروج عند الدين .
والقرينة على هذا التوجيه موجودة في نفس تلك الروايات .
فقد روى الكشي بسند معتبرعن أبي بصير، عن أبي جعفرعليه السلام ، قال : جاء المهاجرون والأنصار وغيرهم بعد ذلك إلى علي عليه السلام ، فقالوا له : أنت والله أميرالمؤمنين ، وأنت والله أحق الناس وأولادهم بالنبي صلى الله عليه وآله ، هلم يدك نبايعك ، فوالله لنموتنَّ قُدّامك ! فقال علي عليه السلام : إن كنتم صادقين فاغدوا غداً عليَّ محلَّقين . فحلق علي عليه السلام ، وحلق سلمان ، وحلق مقداد ، وحلق أبوذر، ولم يحلق غيرهم ، ثم انصرفوا فجاؤوا مرة أخرى بعد ذلك ، فقالو له : أنت والله أميرالمؤمنين ، وأنت أحق الناس وأولادهم بالنبي صلى الله عليه وآله ، هلم يدك نبايعك . فحلفوا .
فقال : إن كنتم صادقين فاغدوا عليَّ محلّقين . فما حلق الإ هؤلاء الثلاثة . قلت : فما كان فيهم عمار؟ فقال : لا . قلت : فعمارمن أهل الرّدّة ؟ فقل : إن عماراً قد قاتل مع علي عليه السلام بعد [٧] .
فالرواية صريحة في أن الردّة المذكورة ليست خروجاً عن الدين والملّة ، بل هي رجوع عن بيعة مخصوصة لأميرالمؤمنين عليه السلام الذي أمرهم بأن يحضروا إليه في ساعة محددة حالقي الرؤوس حاملي السيوف .
وقد وردت رواية أخرى ذكرت في كتاب (الاختصاص) احتوت تفاصيل أخرى لهذه الحادثة ، وهي ما روي عن أبي بكر الحضرمي ، قال : قال أبو جعفرعليه السلام : ارتد الناس إلا ثلاثة نفر: سلمان ، وأبوذر، والمقداد . قال : فقلت : فعمار؟ فقال : قد كان جاض [٨] جيضة ، ثم رجع .
ثم قال : إن أردت الذي لم يشك ولم يدخله شيء فالمقداد ، فأما سلمان فإنه عرض في قلبه عارض ، أن عند ذا يعني أميرالمؤمنين عليه السلام اسم الله الأعظم ، لو تكلم به لأخذتهم الأرض وهو هكذا ، فُلَّبب ووُجئت في عنقه حتى تركت كالسلعة ، ومرَّ به أميرالمؤمنين عليه السلام ، فقال : يا أبا عبدالله هذا من ذاك بايع . فبايع ، وأما أبوذر فأمره أميرالمؤمنين عليه السلام بالسكوت ، ولم يكن تأخذه في الله لومة لائم ، فأبى إلا أن يتكلم ، فمر به عثمان فأمربه ، ثم أناب الناس بعد ، فكان أول من أناب : أبوساسان الأنصاري ، وأبوعمرة وفلان ، حتى عقد سبعة ، ولم يكن يعرف حق أميرالمؤمنين عليه السلام إلا هؤلاء السبعة [٩] .
فالرواية بينّت أنّ الردّة المقصودة هي النزول من الأعلى الى العالي أي من أعظم مسألة يتبوّءها المؤمن نتيجة معرفته بأميرالمؤمنين عليه السلام الى مرتبة أدنى منها ، ولذلك نجد أنه اعتبرما يعرض على القلب من شكوك ذنب .
فبالجمع بين الروايات نفهم أنّ المراد من الردّة في هذه الأخبارليست الردّة الشرعية التي يراد بها الخروج عن الإسلام والالتحاق بزمرة الكفر، بل المراد به المعنى اللغوي ، وهو الرجوع عن أمرالخلافة كما بُيَّن ذلك في بعض الروايات .
٢ – لله بلاء فلان :
قالوا: لقد مدح أميرالمؤمنين عليه السلام الخليفة الثاني مدحاً عظيماً لا يتّفق مع ما تقوله الشيعة فيه ، فقد قال في النهج : لله بلاء فلان ، فقد قوَّم الأود ، وداوى العمد ، خلَّف الفتنة ، وأقام السنة ، ذهب نقي الثوب ، قليل العيب ، أصاب خيرها ، وسبق شرَّها ، أدَّى إلى الله طاعته ، واتّقاه بحقه ، رحل وتركهم في طرق متشعّبة ، لا يهتدي فيها الضال ، ولا يستيقن المهتدي [١٠] .
وعلّق أحدهم على هذه الخطبة بقوله : هل يتناسب هذا الكلام مع ما يُذكرحول هذا الخليفة من سبّ وشتم ولعن ، وأنه غضب الخلافة عليًّا ؟ من نصدّق ؟ الذي عاصر وعاشر وأدرك زمانهم ، أم ذاك الذي تأخَّرعنهم ، فقام يفتري عليهم ؟ [١١] .
وقال آخر: لقد وصف الإمامُ عمرَ بن الخطّاب من الصفات بأعلى مراتبها ، وناهيك بها [١٢] .
والجواب على هذه الشبهة في نقاط :
الأولى : أن هذه الرواية لا يوجد فيها ذكر لعمربن الخطاب ، بل هي مبهمة ، إذ أن اللفظ الذي نقله الرضي قدس سره هو قوله : ((لله بلاء فلان)) ، ولم يذكرأسماء ، فمن يريد إسقاط هذه الخطبة على الخليفة الثاني عليه أن يقيم الدليل على ذلك .
وقد تمسّك البعض بأمرين لإثبات أن المقصود هو عمربن الخطاب ،هما :
الأمرالأول : هو ما ذكره ابن أبي الحديد المعتزلي من أنّه رأى لفظ : ((عمر)) في النسخة الأصلية بخط الشريف الرضي قدس سره ، قال : ((فلان)) المكنّى عنه عمربن الخطاب ، وقد وجدت النسخة التي بخط الرضي أبي الحسن جامع (نهج البلاغة) ، وتحت ((فلان)) ((عمر)) ، حدثني بذلك فخار بن معد الموسوي الأودي الشاعر[١٣] .
والجواب على هذا الاستدلال أن ما ذكره ابن أبي الحديد ليس بحجة ؛ لأنه الأسم الذي رآه هو مضافاً على الأصل وليس في الخطبة ، فربّما يكون اجتهاداً من أحدهم ، أو تزويراً متعمدّاً .
ثم إن تزوير كلمة أمربسيط ومتيسّر(إذ أن الخط لا يظهر في كلمة أو كلمتين ، فكيف شخَّص هذا الرجل أن كلمة ((عمر)) كُتبت بخط لشريف الرضي قدس سره ؟
الأمرالثاني : احتج ابن أبي الحديد بمضامين هذه الخطبة على أن المقصود بها عمر في معرض ردّه على ما ذكره القطب الراوندي قدس سره ، فقال : فأما الراوندي فإنه قال في الشرح : إنه عليه السلام مدح بعض أصحابه بحسن السيرة،وأن الفتنة هي التي وقعت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله من الاختيار والإثرة ،وهذا بعيد؛ لأن لفظ أميرالمؤمنين يشعرإشعاراً ظاهراً بأنه يمدح والياً ذا رعية وسيرة ، ألا تراه كيف يقول : ((فلقد قوَّم الأود، وداوى العمد، وأقام السُّنّة ،وخلف الفتنة )) ؟
وكيف يقول : (( أصاب خيرها ، وسبق شرها)) ؟ وكيف يقول (( أدى إلى الله طاعته )) ؟ وكيف يقول : (( رحل وتركهم في طرق متشعبة )) ؟ وهذا الضمير وهو والهاء والميم في قوله عليه السلام : ((وتركهم)) هل يصح أن يعود إلا إلى الرعايا ؟ وهل يسوغ أن يقال هذا الكلام لسوقه من عرض الناس ، وكل من مات قبل وفاة النبي صلى الله عليه وآله كان سوقه لا سلطان له ، لا يصح أن يحمل هذا الكلام على إرادة أحد من الذين قُتلوا أو ماتوا قبل وفاة النبي صلى الله عليه وآله ، كعثمان بن مظعون ، أو مصعب بن عمير، أو حمزة بن عبدالمطلب ، أوعبيدة بن الحارث ، وغيرهم من الناس،والتأويلات الباردة الغثّة لا تعجبني [١٤] .
والجواب على هذه أن ما ذكره ابن أبي الحديد المعتزلي لا يصلح أن يكون دليلاً ؛ لأن هذه الأمور قابلة للانطباق على عامة الناس ، فأي رجل يمكن أن يكون قد ((قوّم الأود)) أو(( أقام السنّة)) إذا أمربالمعروف ونهى عن المنكر، كما يمكن أن يوصف بأنه ((نقي الثوب)) إذا كان تقيًّا ورعاً ، وما ادّعاه من أن قوله : ((تركهم في طرق متشعّبة)) خاصّ بحاكم ورعيّته أيضاً غيرلازم ؛ لأن المؤمن الصالح إذا نأى بنفسه عن الدخول في الفتن والضلالات ، وكان يعيش بين من غرقوا في المعاصي والفتن ،فإنه إذا مات يمكن أن يوصف بأنه ترك أولئك في طرق متشعبة ومضى نقى الثوب .
ولو سلمنا بأن المراد هو أحد الولاة ، فلعل المراد به أحد من ولاهم أميرالمؤمنين من الصلحاء الذين ماتوا في حياته ، كمحمد بن أبي بكر أو مالك الأشتر،فلا يوجد أي دليل في كلام أميرالمؤمنين عليه السلام على أن المقصود من ((فلان)) في هذه الخطبة وعمربن الخطاب ،فلعله شخص آخر.
ولذلك وقع الاختلاف في تحديد المقصود بـ (( فلان)) على عدّة آراء:
١ – أبوبكربن أبي قحافة : ذهب إلى ذلك الشيخ ابن ميثم البحراني رحمه الله في شرحه على النهج ، قال : وأقول : إرادته لأبي بكر أشبه من إرادته لعمر؛ لما ذكره في خلافة عمر وذمّها في خطبته المعروفة بالشقشقية كما سبقت الإشارة إليه [١٥] .
٢ – عمربن الخطاب : وهذا ما تبنّاه ابن أبي الحديد كما قدّمنا ،وقد نقلنا عبارته فيما سبق .
٣ – بعض أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام : وهو ما ذهب اليه القطب الرواندي رحمه الله في شرحه للنهج : قال : مدح بعض أصحابه بحسن السيرة ، وأنه مات قبل الفتنة التي وقعت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله من الاختيار والإيثار [١٦] .
٤ – مالك الأشتر رضي الله عنه : وقد قرّب هذا الرأي السيد حبيب الله الخوئي في (منهاج البراعة) ،قال : فلابدّ من جعل المكنّى عنه شخصاً آخر له أهليّة الاتّصاف بهذه الأوصاف ،وعليه فلا يبعد أن يكون مراده عليه السلام هو مالك بن الحرث الأشتر، فلقد بالغ في مدحه وثنائه في غير واحد من كلماته [١٧] .
والنتيجة أن لا يمكن القطع بالمقصود بقوله عليه السلام : ((فلان)) أمام هذا الاختلاف الشديد الوارد في المقام .
الثانية : لو سلّمنا جدلاً بأن لمقصود من الخطبة هو عمربن الخطاب؛ فإنه بعد البحث في الكتب والمصادرالتاريخية وجدنا أنّ هذا الكلام هو من إنشاء أمرأة ، وليس من كلامه عليه السلام .
فقد روى الطبري في تاريخه عن المغيرة بن شعبة ، قال : لما مات عمر بكته ابنة أبي حثمة ، قالت : واعمراه ، أقام الأود ، وأبرأ العمد، أمات الفتن ، وأحيا السنن ، خرج نقي الثوب ،بريئاً من العيب . قال : وقال المغيرة بن شعبة : لما دُفن عمرأتيت عليًّا وأنا أحب أن أسمع منه في عمر شيئاً ، فخرج ينفض رأسه ولحيته ، وقد اغتسل وهو ملتحف بثوب ، لا يشك أن الأمريصيرإليه ، فقال : يرحم الله ابن الخطاب ، لقد صدقت ابنة أبي حثمة ، لقد ذهب بخيرها ، ونجا من شرّها ، أما والله ما قالت ، ولكن قُوّلت [١٨] .
وروى ابن شبة النميري عن عبدالله بن مالك بن عيينة الأزدي حليف بني مطلب ، قال : لما انصرفنا مع علي عليه السلام من جنازة عمر دخل فاغتسل ،ثم خرج إلينا فصمت ساعة ، ثم قال : لله بلاء نادبة عمر، لقد صدقت ابنة أبي خثمة حين قالت : وا عمراه ، أقام الأود ، وأبدأ العهد ، وا عمراه ، ذهب نقي الثوب ، قليل العيب ، وا عمراه أقام السنة ، وخلف الفتنة ، ثم قال : والله مادرت هذا ، ولكنها قُوّلته وصدقت ، والله لقد أثاب عمرخيرها ، وخلّف شرها ، ولقد نظرله صاحبه ، فسارعلى الطريقة ، ما استقامت ، ورحل الركب وتركهم في طرق متشعبة ، لا يدري الضال ، ولا يستقين المهتدي [١٩].
وروى ابن عساكرعن ابن بحينة ، قال : لما أصيب عمر قلت : والله لآتین عليًّا فلأ سمعنَّ مقالته .
فخرج من المغتسل ،فأطم ساعة ، فقال : لله نادبة عمرعاتكه وهي تقول : وا عمراه ، مات والله قليل العيب ، أقام العوج ، وأبرأ العمد ، وا عمراه ، ذهب والله بحظها ، ونجا من شرَّها ، وا عمرا ، وا عمراه ذهب والله بالسنة ، وأبقى الفتنة .
فقال علي : والله ما قالت ولكنها قُوّلت[٢٠] .
وهذه الروايات مضطربة اضطراباً شديداً ، وذلك لأمور:
١ – اختلفت في تحديد من هي النادبة ، ففي رواية الطبري سمّيت ببنت أبي حثمة ، وفي رواية ابن عساكراطلق عليها اسم عاتكة ، وهي بنت زيد بن عمر وزوجة عمربن الخطاب .
٢ – في رواية ابن عساكراكتفى الإمام بالتصريح بأنّها قُوّلت ، ولم يُمضِ ما قالته ، أما في بقية الروايات فقد أضيف مقطع آخر، وهو أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام صدّقها في ما قالته ، واختلف في المقدارالذي صدّقه من كلامها ، ففي رواية الطبري اكتفى بقولها : (( ذهب بخيرها ، ونجا من شرّها )) ، وفي رواية ابن شبّة اضافة أخرى ، وهي قوله : (( والله لقد أصاب عمرخيرها ، وخلّف شرها ، ولقد نظر له مصاحبه ، فسارعلى الطريقة ما استقامت ، ورحل الركب وتركهم في طرق متشعبة ، لا يدري الضال ، ولا يستيقن المهتدي )) ، وهذا ما يجعلنا نشكّ في هذه الزيادات ، إذ شتّان بين الأمرين.
٣ – رواية ابن عساكرمشعرة بأن أميرالمؤمنين عليه السلام كان حزيناً لقتل عمربن الخطاب ، فقد جاء فيها : ((فأطم ساعة ، فقال : لله نادبة عمرعاتكة)) ، أما رواية الطبري والنميري فإنها مشعرة بأنّه كان مرتاحاً من الذي حصل ، إذ جاء فيها : (( فخرج ينفض رأسه ولحيته وقد اغتسل وهو ملتحف بثوب )) ، فالاغتسال ولبس الثوب الجديد هو من علامات الفرح والسرور، وليس الحزن والحسرة ، خصوصاً وأن المغيرة فسّر هذه الفرحة بكونه عليه السلام يظن أن الأمرسيؤول إليه .
من هنا نعلم أن المقدارالمشترك في هذه الروايات هو أن إمرأة ندبت عمربن الخطاب ، وعلّق أميرالمؤمنين عليه السلام على كلامها بأنها قُوّلت ولم تقل ، أما ما زاد على هذا المقدارفلا يمكن الاعتماد عليه ؛ لاختلاف الروايات في هذه التفاصيل .
الثالثة : لو سلّمنا جدلاً بأنّ المقصود من (( فلان)) هوعمر بن الخطّاب ، وأن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قال هذا الكلام ، فإنّه لا يمكن الالتزام بظاهرهذا الرواية ، أي كون هذا الكلام خرج في مقام المدح للخليفة الثاني ؛ لمخالفته ما عُلِمَ بالقطع واليقين من أن علاقة أميرالمؤمنين عليه السلام بهذا الرجل لم تكن حسنة .
أما من كتب الشيعة فيكفينا نقل ما ورد في الخطبة الشقشقية المرويّة في نفس الكتاب ، حيث قال الإمام عليه السلام في حق عمر: فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخربعد وفاته ، لشدَّ ما تشطرا ضرعيها ، فصيَّرها في حوزة خشناء يغلظ كلامها ، ويخشن مسّها ، ويكثرالعثار فيها ، والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصعبة ، إن أشنق لها خرم ، وإن أسلس لها تقحم ، فمُنَيِ الناس لعمر الله بخبط وشماس ، وتلون واعتراض ، فصبرت على طول المدة وشدَّة المحنة [٢١] .
أما من كتب القوم فالنصوص أيضاً تدلّ على هذا المعنى ، مثل النصّ المروي في صحيح مسلم من عائشة أنها قالت في حديث طويل : فأرسل ( تعني عليًّا عليه السلام إلى أبي بكرأن أئتنا ولا يأتنا معك أحد كراهية محضرعمر بن الخطاب . فقال عمر لأبي بكر: والله لا تدخل عليهم وحدك . فقال أبوبكر: وما عساهم أن يفعلوا بي ؟ [٢٢] .
والرواية صريحة في أن أميرالمؤمنين عليه السلام كان لا يحب حضورعمربن الخطاب ، فكيف يمدحه بتلك الصفات العظيمة ؟!
ومنها : ما روي في صحيح مسلم عن عمربن الخطاب ، قال : فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله قال أبوبكر: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وآله، فجئتما تطلب ميراثك من ابن أخيك ، ويطلب هذا ميراث أمراته من أبيها ، فقال أبوبكر: قال رسول الله صلى الله عليه وآله (( ما نُورَث ، ما تركنا صدقة)) ، فرأيتماه كاذباً ، آثماً غادراً ، خائناً ، والله يعلم أنه لصادق ، بار، راشد ، تابع للحق ، ثم توفي أبوبكر، وأنا ولي رسول الله صلى الله عليه وآله ، وولي أبي بكر، فرأيتماني كاذباً آثماٌ ، غادراً ، خائناً ، والله يعلم أني لصادق ، بار راشد ، تابع للحق [٢٣] .
وقد روى ابن حبان في صحيحه هذه الرواية بوجه آخرعن عمربن الخطاب ، قال : ثم أقبل على علي والعباس ، قال : وأنتما تزعمان أنه كان فيها ظالماً فاجراً ؟ والله يعلم أنه صادق بار تابع للحق ، ثم وليتها بعد أبي بكرسنتين من إمارتي ، فعملت فيها بمثل ما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وأبوبكر، وأنتما تزعمان أني فيها ظالم فاجر؟ والله يعلم أني فيها صادق بار تابع للحق [٢٤] .
فهذا النص إقرار من عمربن الخطاب بأن أميرالمؤمنين عليه السلام كان يراه كاذباً ، آثماً ، غادراً ، خائناً ، ظالماً ، فاجراً !
فأين هذا المدح الذي يدّعيه القوم ؟
وقد يطرح هنا سؤال مهم : وهو أنّه لو سلّمنا بوجود المعارض المقتضي لرفع اليد عن ظاهرهذه الرواية ، فعلى أي وجه يحمل هذا النص ليتلائم مع ما يذهب إليه الشيعة الإمامية ؟
والجواب أنه يمكن حمل الرواية على عدّة وجوه :
الوجه الأول : ما نقله ابن أبي الحديد عن النقيب أبو جعفر يحيى العلوي من أن هذا الكلام : قاله في أمرعثمان ، أخرجه مخرج الذم له ، والتنقص لأعماله ، كما يُمدح الآن الأمیرالمیت فی أيام الحي بعده ، فيكون ذلك تعريضاً به [٢٥] .
وقد اعترض ابن أبي الحديد على هذا التوجيه بقوله : إنه لا يجوزالتعريض والاستزادة للحاضر بمدح الماضي ، إلا إذا كان ذلك المدح صدقاً لا يخالطه ريب ولا شبهة ، فإذا اعترف أميرالمؤمنين بأنه أقام السنة ، وذهب نقي الثوب ، قليل العيب ، وأنه أدى إلى الله طاعته ، واتقاه بحقه ، فهذا غاية ما يكون من المدح ، وفيه إبطال قول من طعن على عثمان بن عفان [٢٦] .
والقول الفصل أن هذا الوجه صحيح ، وما ذكره ابن أبي الحديد من إشكال غير وارد ؛ لأن التعريض قد يكون بما يعتقده المخالف ، بحيث تذكرما يعتقده الناس في الغائب ، لكي يترسَّخ في أذهانهم ، وليقارنوا بينه وبين الحاضر وإن كنتَ لا تعتقد بما يرونه ثابتاً للغائب .
وهذا ما فعله أميرالمؤمنين عليه السلام ، فذكره لما يظنّه الناس في عمرهو تنبيه لهم على أن عثمان لن يسير بالسيرة التي يرونها حميدة مستقيمة ، بل سرعان ما سينحرف عنها ، ولذلك فكلامه هو تهيئة لهم لما سيلاقونه من إمارة عثمان .
الوجه الثاني : هو ما ذكره فقيه أهل البيت الشيخ يوسف البحراني قدس سره في كتابه (سلاسل الحديد في تقييد ابن أبي الحديد) ، فإنه قال : إن هذا الكلام هنا إنما خرج مخرج الاستهالة والاستصلاح لمن كان معه من أولياء القوم ، وتأليف قلوبهم في ذلك القوم ، فلا حجّة فيه للخصم ، وما عارضه مما تقدّم ذكره [٢٧] .
فالشيخ رحمه الله يريد أن يقول : أنّ ذلك اليوم كان حرجاً بالنسبة للأمة الإسلامية ؛ لأنه سيحصل انتقال الخلافة من رجل إلى رجل آخر، ولهذا أراد أميرالمؤمنين عليه السلام تجنّب الاصطدام بالقول ، فقال هذه الكلمات تأليفاً له ، خصوصاً وأن الروايات المتقدمّة تنص على أنّ المغيرة بن شعبة جاء خصّيصاً ليسمع ما يقوله الإمام عليه السلام في عمربن الخطاب .
الوجه الثالث : وهو أن هذا الكلام وإن كان ظاهره المدح ، إلا أنه يراد به الذم كما هو معروف في علم البلاغة ، وكما هو مستعمل في النصوص القرآنیة والنبوية ، ومن ذلك قوله تعالى : ( ذُقْ إِنكَ أَنتَ ألعَزِيزُالكَرِيمُ) (الدخان :٤٩) ، فإنه ظاهر في المدح ، إلا أن الكلام إذا وُضع في ساقه وعلمنا أن قائله هم ملائكة العذاب ، وأن المخاطب به هو الكافر، والشيء المتذوَّق هو عذاب جهنّهم ، علمنا أنه لا يراد بهذه الآیة ظاهرها .
كذلك الأمر في هذه العبارة ، فإن الشواهد التاريخية تنفي أن يكون أميرالمؤمنين عليه السلام يمكن أن يمدح هذا الرجل ، وتفاصيل الحادثة تشعربهذا ، فإن المغيرة بن شعبة ذكرأنّ علي بن أبي طالب عليه السلام اغتسل ، وتلحّف بثوب ، وكل هذا من صفات الفرح وليس الحزن ، فعلمنا أن هذا الكلام هو كلام ظاهره المدح ، ولكن أريد به الذم .
------------------------------------------------------------------------------------
[١] . نهج البلاغة ١ / ١٩٠ .
[٢] . الخصال : ٦٣٩ .
[٣] . مع الاثني عشرية في الأصول والفروع ١ / ٢١٨ .
[٤] . تعليقه على المنتقى من منهاج الاعتدال : ٢٢ .
[٥] . البيان لأخطاء بعض الكتاب : ٩٠ .
[٦] . اختيارمعرفة الرجال : ٨ ، الاختصاص : ٦ ، الكافي ٨ / ٢٤٥ .
[٧] . اختيارمعرفة الرجال ١ / ٣٩ .
[٨] . جاض : مال وانحرف وحاد .
[٩] . الاختصاص : ١٠ .
[١٠] . نهج البلاغة ٢ / ٢٢٢ .
[١١] . قراءة راشدة في نهج البلاغة : ٥٣ .
[١٢] . تأملات في نهج البلاغة : ١٨ .
[١٣] . شرح نهج البلاغة ١٢ / ٤ .
[١٤] . شرح نهج البلاغة ١٢ / ٥ .
[١٥] . شرح ابن ميثم ٤ / ٩٧ .
[١٦] . منهاج البراعة ٢ / ٤٠٢ .
[١٧] . نفس المصدر١٤ / ٣٧٤ .
[١٨] . تاريخ الطبري ٣ / ٢٨٥ .
[١٩] . تاريخ المدينة ٣ / ٩٤١ .
[٢٠] . تاريخ مدينة دمشق ٤٤ / ٤٥٨ .
[٢١] . نهج البلاغة ١ / ٣٢ .
[٢٢] . صحيح مسلم ٥ / ١٥٤ .
[٢٣] . نفس المصدر ٥ / ١٥٢ .
[٢٤] . صحيح ابن حبان ١٤ / ٥٧٧ .
[٢٥] . شرح نهج البلاغة ١٢ / ٤ .
[٢٦] . نفس المصدر ١٢ / ٤ .
[٢٧] . سلاسل الحديد ١ / ١٦١ .
إنتهى .
مقتبس من كتاب نهج البلاغة فوق الشبهات والتشكيكات – الشيخ أحمد سلمان