اهتم المسلمون على مرّ التاريخ بكتاب (نهج البلاغة) ، وكتبوا عليه شروحاً وتعليقات ومستدركات تعد بالعشرات، بل أصبح كتاب (نهج البلاغة) ومتعلقاته مكتبة كاملة.
وقد نقل السيّد عبد الزهراء الخطيب عن الشيخ كاشف الغطاء أنه قال: وقفنا حتى اليوم أي سنة ١٣٦٠ هـ على ستّة وستين شرحاً ما عدا الشروح الخاصة بخطب مخصوصة، وهي لا تقلّ على تسعين شرحاً، ويروي بعض العلماء بالتأليف والأداب أن شروح النهج قد بلغت المائتين [١].
ونحن هنا لسنا بصدد تعداد شروح النهج واستقصائها؛ لأن أغلبها حبيس المكتبات ، ولا يزال أغلبها مخطوطات لم تر النور بعد ، بل نريد ذكر أهم الشروح المتداولة التي يستفيد منها الباحث في مطالعته لكتاب (نهج البلاغة).
معارج نهج البلاغة للبيهقي:
من أقدم شروح (نهج البلاغة) المتوفّرة الآن ، إلا أنه لم يشتهر بين الناس ، وبقي متداولاً في دائرة ضيقة حتى إنه خفي على ابن أبي الحديد، ولم يطلع عليه ، ولذلك قال في شرحه: ولم يشرح هذا الكتاب قبلي فيما أعلمه إلا واحد ، وهو سعيد بن هبة الله بن الحسن الفقه المعروف بالقطب الراوندي ، وكان من فقهاء الإمامية [٢].
أما مؤلّفه فهو أبوالحسن علي بن أبي القاسم زيد بن أميرك الأنصاري البيهقي، من ذرية خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين رَضي عنه الله ، ولد سنة ٤٩٩ هـ، وتوفي سنة ٥٦٥ هـ ببيهق، وصرّح هو في كتابه أنه فرغ من شرحه على النهج في الثالث عشر من جمادى سنة ٥٥٢ هـ [٣].
وقد ترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء [٤] ، والآغا بزرك الطهراني في كتاب الذريعة [٥] بترجمة مطولة، فمن شاء الاطلاع فليراجع هناك.
ويتميّز هذا الشرح بعدة أمور:
الأول: أنه من أقدم الشروح، وبالتالي ستكون نسخته من أضبط النسخ وأصحها؛ لقرب عهدها بعصر الشريف الرضي ، خصوصاً وأن المصنف نصّ في أول كتابه على سنده للكتاب ، فقال: قرأت كتاب (نهج البلاغة) على الإمام الزاهد الحسن بن يعقوب بن أحمد القاري ، وهو وأبوه في ملك (فَلَك) الأدب قمران، وفي حدايق الورع ثمران، في شهور سنة ست عشرة وخمسمائة، وخطَّه شاهد لي بذلك، والكتاب سماع له عن الشيخ جعفر الدوريستي المحدّث الفقيه ، والكتاب بأسره سماع لي عن والدي الإمام أبي القاسم زيد بن محمد البيهقي، وله إجازة عن الشيخ جعفر الدوريستي، وخطَّ الشَيخ جعفر شاهد عدل بذلك ، وبعض الكتاب أيضاً سماع لي عن رجال لي، رحمة الله عليهم، والرّواية الصحيحة في هذا الكتاب رواية إلى الأغرّ محمد بن همام البغدادي تلميذ الرّضي ، وكان عالماً بأخبار أمير المؤمنين عليه السلام [٦].
الثاني: أن المصنّف حاول جمع جملة من العلوم في كتابه، فتعرّض إلى مطالب كلامية ، وفقهية، وعقدية ، وتاريخية، وحاول أن يعطي الكتاب حقّه، ولذلك صرَّح في خاتمة كتابه بقوله: شرحتُ هذا الكتاب على مبلغ وسعي وإمكاني، وأوردت في هذا الشرح من العلوم: علم الفقه، وعلم أصول الفقه، وعلوم غرايب الأخبار ، وعلوم التواريخ ، وعلوم الإشارة، والأيّام للعرب ، وعلوم نوادر اللغة، وعلوم الكلام، وعلوم الطب، وعلوم الهيئة والحساب، وعلوم الأخلاق، وعلوم الموازين، موازين النحو وغيره، وعلوم أمثال العرب، وعلوم مقامات الأولياء، وعلوم أثالوجيا وجومطريا ، لا على موجب النقل والحكاية، بل على قضايا البحث المستقصى والدراية ، فمن أراد الزيادة وما اختار الاستفادة، وله رتبة الإفادة، فهو من الذين أحسنوا بالحسنى وزيادة [٧].
لكن الذي يلاحظ عليه أنه اكتفى بالإشارة، ولم يستوف الشرح، وكأنه يخاطب مجموعة من العلماء المتخصِّصين، فالشرح في مجمله نخبوي، وليس لعامة الناس ، فالفائدة منه محدودة.
منهاج البراعة للراوندي:
من المصنّفات القديمة في شرح كتاب (نهج البلاغة)، وصاحبه هو قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي من كبار علماء الإمامية وفقهائهم ، مجمع على فضله وعدله، ولذلك قال العلامة الأميني قدس سره فيه: قطب الدين أبوالحسين سعد بن هبة الله بن الحسن بن عيسى الراوندي، إمام من أئمة المذهب، وعين من عيون الطائفة، وأوحدي من أستاذة الفقه والحديث ، وعبقري من رجالات العلم والأدب، لا يلحق شأنه في مآثره الجمّة، ولا يُشق له غبار في فضايله ومساعيه المشكورة ، وخدماته الدينية، وأعماله البارعه ، وكتبه القيمة [٨].
وقد ذكر الشيخ الأميني تاريخ وفاته، فقال: توفي المترجم القطب السعيد ضحوة يوم الأربعاء الرابع عشر من شوال سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة كما في إجازات البحار ص ١٥ نقلاً عن خط شيخنا الشهيد الأول ، وفي لسان الميزان نقلاً عن تاريخ الري لابن بابويه: أنه توفي في ثالث عشر شوال، وقبره في الصحن الجديد من الحضرة الفاطمية بقم المشرفة [٩].
وقد اعتبر ابن أبي الحديد شرح الراوندي من أقدم الشروح على كتاب (نهج البلاغة)، ولذلك كان كثيراً ما ينقل عنه، ويناقش آراءه.
ويتميز هذا الشرح بأمرين:
الأول: أنه قريب عهد بالشريف الرضي مما يجعلنا نثق أكثر بضبط النسخة واعتبارها ، وقد ذكر أيضاً الراوندي سنده في مقدمة كتابه ، فقال : أخبرنا السيد أبوالصمصام ذوالفقار بن محمد بن معبد الحسني ، قال: أخبرنا الشيخ أبوعبد الله محمد بن علي الحلواني، قال الرضي: أخبرنا الشيخ أبوجعفر محمد بن علي بن المحسن الحلبي، قال: أخبرنا الشيخ أبوجعفر الطوسي، قال السيد الرضي رضي الله عنه وأرضاه [١٠].
وكما ترون أن الواسطة بينه وبين الشريف الرضي رحمه الله رجلين لا أكثر.
الثاني: أن هذا الشارح كان معروفاً بأنه جامع للفنون كلها ، فهو فقيه، ومتكلّم، ومحدِّث، ومؤرِّخ، وأديب، وشاعر ، فلم يترك علماً إلا ونجد له بصمة فيه، وهذا ما يجعل شرحه أكثر جامعية من غيره؛ لتضلعه في كل هذه الفنون.
وقد أكثر ابن أبي الحديد من مناقشة قطب الدين الرواندي ، ونقد أفكاره ، وتسخيف آرائه، حتى ظن البعض أن الكتاب لا قيمة له، ولا أرى سبباً لهذه الحملة التي شنّها المعتزلي على منهاج البراعة سوى الحسد الذي يحمله قلبه على ثلاث وسبعين وخمسمائة كما في إجازات البحار ص١٥ نقلاً عن خط شيخنا الشهيد الأول ، وفي لسان الميزان نقلاً عن تاريخ الري لابن بابويه: أنه توفي في ثالث عشر شوال، وقبره في الصحن الجديد من الحضرة الفاطمية بقم المشرفة [١١].
وقد اعتبر ابن أبي الحديد شرح الراوندي من أقدم الشروح على كتاب (نهج البلاغة)، ولذلك كان كثيراً ما ينقل عنه ، ويناقش آراءه.
ويتميز هذا الشرح بأمرين:
الأول: أنه قريب عهد بالشريف الرضي مما يجعلانا نثق أكثر بضبط النسخة واعتبارها ، وقد ذكر ايضاً الراوندي سنده في مقدمة كتابه ، فقال: أخبرنا السيد أبوالصمصام ذوالفقار بن محمد بن معبد الحسني ، قال: أخبرنا الشيخ أبوعبد الله محمد بن علي الحلواني، قال: أخبرنا الشيخ أبوجعفر الطوسي ، قال السيد الرضي رضي الله عنه وأرضاه [١٢].
وكما ترون أن الواسطة بينه وبين الشريف الرضي رجلين لا أكثر.
الثاني: أن هذا الشارح كان معروفاً بأنه جامع للفنون كلها ، فهوفقيه ، ومتكلّم ، ومحدِّث ، ومؤرِّخ ، وأديب، وشاعر ، فلم يترك علماً إلا ونجد له بصمة فيه ، وهذا ما يجعل شرحه أكثر جامعية من غيره ؛ لتضلعه في كل هذه الفنون.
وقد أكثر ابن أبي الحديد من مناقشة قطب الدين الرواندي، ونقد أفكاره، وتسخيف آرائه، حتى ظن البعض أن الكتاب لا قيمة له، ولا أرى سبباً لهذه الحملة التي شنّها المعتزلي على منهاج البراعة سوى الحسد الذي يحمله قلبه على العلامة قطب الدين الرواندي.
شرح ابن أبي الحديد المعتزلي:
يعتبر هذا الشرح من أشهر الشروح على الاطلاق، حيث انتشر وشاع بين الناس، بحيث يتصوَّر البعض أنه لا شرح لنهج البلاغة سوى شرح ابن أبي الحديد ؛ لكثرة ما يُحتج بأقواله، ويستدل بكلامه في الكتب والمصنّفات ، ولعل السبب في هذه الشهرة هوأن هذا الرجل لا يتديَّن بمذهب الإمامية، ولا ينتحل التشيع، فلهذا كثر تداول كتابه من باب الاحتجاج على المخالفين وإلزامهم بكلامه.
لكن ظهر مؤخَّراً من يحاول نسبة ابن ابي الحديد للشيعة، وينافح لتأكيد إماميته، وأنه رافضي جلد، لا يُحتج بكلامه ، حتى التبس ذلك على بعض الناس ، فصدَّقوا هذه الدعوة ، وقد قال قائلهم : يُكثر صاحب المراجعات من الاحتجاج بكثير من نصوصه على أنه من المصادر السنية التي يحتج بها علينا ، وهذا من الكذب؛ فإن ابن أبي الحديد رافضي [١٣].
وقال آخر : وليس عجيبًا من ابن أبي الحديد منح (نهج البلاغة) هذا الوصف ، وسخاؤه به ؛ لأنه شيعي ، والشيعة يقولون : « إن كلام علي فوق كلام المخلوق ، ودون كلام الخالق »، فجعلوا كلامه فوق كلام الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين [١٤].
ولهذا سنقف وقفة مطولة مع هذا الرجل ؛ لنعلم حقيقة مذهبه وصحّة ما نسبوه إليه من عقائد.
من هو ابن أبي الحديد؟
هوعز الدين عبد الحميد بن هبة الله المدائني المعتزلي ، كان أديباً ، شاعراً، متكلِّماً، مقرَّباً من بلاط العباسيين في ذلك الوقت ، وقد ترجم له أرباب التاريخ في كتبهم ، نذكر منهم :
١ – الصفدي في الوافي بالوفيات: قال: عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن أبي الحديد عز الدين أبوحامد المدائني المعتزلي ، الفقيه ، الشاعر ، أخو موفق الدين ، وُلد سنة ست وثمانين وخمس مائة ، وتوفي سنة خمس وخمسين وست مائة ، وهو معدود في أعيان الشعراء ، وله ديوان مشهور ، روى عنه الدمياطي، ومن تصانيفه: (الفلك الدائر على المثل السائر)، صنَّفه في ثلاثة عشر يوما [١٥].
٢- الذهبي في تاريخ الإسلام: قال: عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن أبي الحديد عز الدين أبوحامد المدائني، المعتزلي، الفقيه، الشاعر ، الأديب ، أخو الموفق، وُلِد سنة ست وثمانين وخمسمائة ، روى بالإجازة عن عبد الله بن أبي المجد الحربي، وهو معدود في أعيان الشعراء كأخيه ، وله ديوان مشهور، وهو من شيوخ الدمياطي وغيره، بل الصواب موت الأخوين في سنة ست وخمسين [١٦].
هل ابن أبي الحديد شيعي؟
كما ذكرنا سابقاً حاول بعض المعاصرين إلصاق التشيّع بابن أبي الحديد ، ولعل أول من نسب إليه ذلك هو ابن كثير ، حيث قال في (البداية والنهاية) : عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين أبوحامد بن أبي الحديد عز الدين المدائني ، الكاتب الشاعر المطبق الشيعي الغالي، له شرح (نهج البلاغة) في عشرين مجلداً ، وُلد بالمدائن سنة ست وثمانين وخمسمائة ، ثم صار إلى بغداد ، فكان أحد الكُتّاب والشعراء بالديوان الخليفي ، وكان حظيًّا عند الوزير ابن العلقمي، لما بينهما من المناسبة والمقاربة والمشابهة في التشيّع والأدب والفضيلة، وقد أورد له ابن الساعي أشياء كثيرة من مدائحه وأشعاره الفائقة الرائقة ، وكان أكثر فضيلة وأدباً من أخيه أبي المعالي موفق الدين بن هبة الله ، وإن كان الآخر فاضلاً بارعاً أيضاً، وقد ماتا في هذه السنة رحمهما الله تعالى [١٧].
وكلام ابن كثير مردود من عدة وجوه نوردها تباعاً:
الأول : لم يأت ابن كثير بدليل على مدَّعاه ، بل غاية ما ساقه هوعلاقة ابن أبي الحديد بابن العلقمي الشيعي، ولعمري متى كانت صحبة الشيعي تدل على التشيّع ، فإن كان الأمر كذلك فيجب على ابن كثير الحكم بتسنن ابن العلقمي ؛ لأن هذا الرجل كان من المقرَّبين من خلفاء بني العباس الذين أجمع الكلّ أنهم كانوا على غير مذهب الشيعة.
الثاني: أن ابن كثير قد انفرد بهذه الدعوى، وإلا فكل من ترجم لابن أبي الحديد قبل ابن كثير نسبه للاعتزال، ويكفينا في هذا الصدد ذكر كلام الذهبي الذي يعتبر أكثر تضلّعا في التاريخ منه ، فقد قال في (سير أعلام النبلاء) في ترجمة الموفق أخي ابن أبي الحديد: مات في وسط سنة ست وخمسين ، فرثاه أخوه عز الدين عبد الحميد ، ثم مات بعده بقليل في العام ، وكانا من كبار الفضلاء وأرباب الكلام والنظم والنثر والبلاغة ، والموفق أحسنهما عقيدة، فإن العز معتزلي، أجارنا الله [١٨].
الثالث: الطريق الصحيح لمعرفة عقيدة الشخص هو البحث في كلماته ، فهو أعلم بنفسه من غيره، ومن استقرأ تصريحات ابن أبي الحديد جزم يقيناً أنه معتزلي حتى النخاع، بل مغالٍ في الاعتزال.
فقد قال في مقدمة شرحه على النهج: وقدَّم المفضول على الأفضل لمصلحة اقتضاها التكليف ، واختص الأفضل من جلائل المآثر ونفائس المفاخر بما يعظم عن التشبيه ، ويجل عن التكييف [١٩].
وهو الذي يقول في أول الكتاب تحت باب أسماه: (القول فيما يذهب إليه أصحابنا المعتزلة في الإمامة والتفضيل والبغاة والخوارج ) : اتفق شيوخنا كافة المتقدِّمون منهم والمتأخرون ، والبصريون والبغداديون ، على أن بيعة أبي بكر الصدِّيق بيعة صحيحة شرعية ، وأنها لم تكن عن نصٍّ ، وأما كانت بالاختيار الذي ثبت بالإجماع وبغير الإجماع كونه طريق إلى الإمامة [٢٠].
وهذا الكلام نصّ منه في كونه معتزليًّا ، ولا أظن عاقلاً يقول أن شيعيًّا يعتقد بصحة بيعة الأول ويسمّيه بالصدَّيق!
وهو الذي يقول أيضاً: وتزعم الشيعة أنه خوطب في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأمير المؤمنين ، خاطبه بذلك جلة المهاجرين والأنصار، ولم يثبت ذلك في أخبار المحدِّثين ، إلا أنهم قد رووا ما يعطي هذا المعنى وإن لم يكن اللفظ بعينه [٢١].
وقد قال عند حديثه عن مولد أمير المؤمنين عليه السلام: واختلف في مولد علي عليه السلام أين كان؟ فكثير من الشيعة يزعمون أنه ولد في الكعبة ، والمحدِّثون لا يعترفون بذلك ، ويزعمون أن المولود في الكعبة حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي [٢٢].
وقال عند شرحه الخطبة الشقشقية : أما الإمامية من الشيعة فتجري هذه الألفاظ على ظواهرها ، وتذهب إلى أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم نصّ على أمير المؤمنين عليه السلام ، وأنّه غُصِبَ حقّه، وأما أصحابنا فلهم أن يقولوا.. [٢٣]
فها هو يأتي بآراء مسلّمة للشيعة لا يختلفون فيها ، ويردّها ، ويتبنى آراء المعتزلة فيها ، فأي دليل أوضح من هذا ؟
بل إنه كثيراً ما يطعن في الشيعة بطعون عظيمة، ومن ذلك قوله: وأعلم أن أصل الأكاذيب في أحاديث الفضائل كان من جهة الشيعة ، فإنهم وضعوا في مبدأ الأمر أحاديث مختلفة في صاحبهم ، حملهم على وضعها عداوة خصومهم ، نحو حديث (السطل) ، وحديث (الرمانة) ، وحديث غزوة البئر التي كان فيها الشياطين، وتُعرَف كما زعموا (بذات العلم) ، وحديث غسل سلمان الفارسي ، وطي الأرض، حديث الجمجمة ، ونحو ذلك [٢٤].
والنتيجة أن كل من اطلع على هذا الشرح يجزم بما لا شك فيه أن ابن أبي الحديث كان معتزليًّا ، وأنه أبعد ما يكون عن الشيعة الإمامية.
الرابع: كل من اطلع على كلمات علماء الشيعة يرى أنهم جازمون بأن ابن أبي الحديد لم يكن شيعيًّا ، وسنورد بعض الكلمات التي تكفي لدفع هذا التوهم:
الشيخ الحر العاملي : قال في كتابه (الجواهر السنية): وروى الشيخ العالم عز الدين عبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي أصولاً الحنفي فروعاً في كتابه شرح (نهج البلاغة) عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم... [٢٥].
الشيخ يوسف البحراني : صنّف كتاباً أسماه (سلاسل الحديد في تقييد ابن أبي الحديد)، تعرض فيه إلى الموارد التي ردَّ فيها ابن أبي الحديد على الشيعة، ونقض عليه بردود قوية وبعبارات قاسية، منها قوله: فانظر إلى هذا الشارح الضال التايه في أودية الضلالة كيف يدَّعي في غير مقام ما تقدَّم أن عثمان من أهل الجنة، ومن جملة العشرة المبشرة، وينقل هنا عن عمار مثل هذا الكلام المنادي عليه بالدمار ، وقد عرفت آنفاً ما نقلوه في حق عمار من الأخبار [٢٦].
وقال في مورد آخر: إن الشيعة بحمد الله تعالى لكونهم على الحق الواضح المبين ، قد أوضح الله لهم الحجة على ألسنة المخالفين ، كما سيظهر لك من أخباره المنقولة ، وليته كان مع نقله لهذه الأخبار يميِّز فيها بين الغث والسمين ، والعاطل والثمين ، ويجري فيها على جادة الإنصاف ، ويتجنَّب الضلال والاعتساف، ولكنه يغمض عينه عما اشتملت عليه من المناكير الظاهر عاراً وشناراً المعلنة بالقدح في أئمته جهاراً، فمثله كمثل الحمار يحمل أسفاراً [٢٧].
السيد هاشم البحراني رحمه الله : ألّف كتاباً أسماه (سلاسل الحديد في تقييد أهل التقليد) ردّ على جملة من الأمور التي ذكرها ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة ، ونسبه في أكثر من مورد إلى التعصب والعناد.
منها قوله: وهذا الحمل أبعد ابن الحديد عن الحق كبعد ما بين السماء إلى الأرض، إذ لا موجب لهذا الحمل إلا التعصب والحمية المذهبية للمذهب الاعتزالي ، إذ لا كتاب ولا سُنّة، ولا إجماع على صحّة حمله ، بل من نظر في شرحه للنهج رأى الحق عياناً لأمير المؤمنين عليه السلام بالبراهين القطعية التي ذكرها في الشرح ، كما ستقف عليه إن شاء الله ؛ وإنما ذكرت هذا الفصل لئلا يظن ظان أن ابن أبي الحديد إمامي المذهب إذا رأى ما نقلناه عنه في الشرح ، مما ذكره في النصوص الدالة أن عليًّا عليه السلام أمير المؤمنين هو الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومما ذكره في فضله عليه السلام وفضل أهل البيت عليه السلام ، وذكره روايات تدل على الطعن على من تقدم على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وأتباعهم كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى ، فهو معتزلي المذهب لا شك في ذلك ولا ريب، ومن لاحظ شرحه رأى ذلك عياناٌ [٢٨].
ومنها قوله: ما يكفي ابن أبي الحديد وأصحابه ما ذكره ورواه في منازعة أمير المؤمنين عليه السلام وتظلّمه ، وغير ذلك مما ذكره ابن أبي الحديد ها هنا سابقاً ، حيث قال : فإن هذا الخبر وغيره من الأخبار المستفيضة تدل على أنه قد كاشفهم ، هتك القناع بينه وبينهم ، إلى آخر ما تقدم من كلامه ، فكيف يقول عقيب هذا الحديث الأخير من قول شيوخه البغداديين أن الإمامة كانت لعلي عليه السلام إن رغب فيها ونازع عليها ، فأي رغبة أظهر وأبين وأعظم مما ظهرت في هذا الحديث لمن تأمّله بأدنى تأمّل، وهل هذا إلا تعصب من ابن أبي الحديد على مذهبه الاعتزالي ، واعترافه بالحق وإنكاره إياه ، فماذا بعد الحق إلا الضلال [٢٩].
الشيخ محمد طه نجف رحمة الله قال: لو أوقف خصوم أمير المؤمنين عليه السلام بين يدي الله ما استطاعوا أن يعتذروا عن أنفسهم كما اعتذر عنهم ابن أبي الحديد [٣٠].
السيد عبد الزهراء الخطيب رحمة الله قال: هذا ويعد ابن أبي الحديد من خصوم الشيعة وأشد مناوئيهم رغم ما يُظهر من حبِّه لعلي عليه السلام وإظهار تفضيله [٣١].
فبعد هذه الأقوال المتضافرة، هل هناك من يجرؤ ويقول: إن ابن أبي الحديد المعتزلي من الشيعة الإمامية؟! ولكن ربما يورد هنا علينا إشكال وهو أن بعض علماء الشيعة قد صرّحوا بأنّ هذا الرجل من الشيعة ، مثل آغا بزرك الطهراني [٣٢]، والسيد الخونساري [٣٣]، والمجلسي الأول [٣٤]، وغيرهم.
والجواب: أن كل هؤلاء لم يثبتوا أن ابن أبي الحديد كان شيعيًّا بالمعنى الأخص، أي أنه من الشيعة الإمامية ، بل أثبتوا له التشيّع بالمعنى الأعم ، وهو محبّة أمير المؤمنين عليه السلام، وتقديمه على من سبقه من الحُكَّام.
وهذه الصفة قد أطلقها جملة من علماء العامة على بعض الصحابة والتابعين وأئمة الحديث.
منهم: الصحابي الجليل أبوالطفيل, قال الذهبي فيه: واسم أبي الطفيل: عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمرو الليثي الكناني الحجازي الشيعي ، كان من شيعة الإمام علي ، مولده بعد الهجرة، رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في حجة الوداع وهو يستلم الركن بمحجنة ، ثم يقبل المحجن [٣٥].
بل قيل فيه: إن البخاري ترك حديثه لإفراطه في التشيع كما ذكر ذلك الخطيب البغدادي ، حيث قال: وسُئل لم ترك البخاري حديث أبي الطفيل عامر بن واثلة؟ قال: لأنه كان يفرط في التشيّع [٣٦].
ومنهم: الصحابي الجليل حجر بن عدي, حيث نصًّ الذهبي على تشيّعه ، فقال : وكان شريفاً ، أميراً ، مطاعاً، أمَّاراً بالمعروف، مقدماً على الإنكار، من شيعة علي ، شهد صفين أميراً، وكان ذا صلاح وتعبّد [٣٧].
ومنهم: أبوالأسود الدؤلي, فقد قال فيه الذهبي: قاتل أبوالأسود يوم الجمل مع علي بن أبي طالب، وكان من وجوه الشيعة ، ومن أكملهم عقلاً ورأياً [٣٨].
ومنهم: الحافظ النسائي, قال الذهبي في السير: ولم يكن أحد في رأس الثلاث مئة أحفظ من النسائي، هو أحذق بالحديث وعلله ورجاله من مسلم، ومن أبي داود، ومن ابي عيسى، وهو جار في مضمار البخاري، وأبي زرعة، إلا أن فيه قليل تشيع ، وانحراف عن خصوم الإمام علي ، كمعاوية وعمرو، والله يسامحه [٣٩].
ومنهم: الحاكم النيسابوري, قال الذهبي في السير: عن ابن طاهر: أنه سأل أبا إسماعيل عبد الله بن محمد الهروي، عن أبي عبد الله الحاكم، فقال : ثقة في الحديث ، رافضي خبيث ؛ قلت – أي الذهبي - : كلا ليس هو رافضيًّا ، بلى يتشيع [٤٠].
والأمثلة على ذلك كثيرة جدًّا من كتب المخالفين ، وقد أتقن المجلسي الأول (قدس سره) وصفه حين نسبه إلى فرقة التفضيلية [٤١]، أي غاية ما عندهم من التشيّع هو تفضيل أمير المؤمنين عليه السلام على غيره من الصحابة.
وهذا ما يجعلنا نجزم ونقطع أن نسبة الرجل إلى التشيع ليست إلا محاولة من الخصوم للتهرّب من إلزامهم بكلامه.
القيمة العلمية لشرح ابن أبي الحديد :
يعتبر شرح ابن أبي الحديد المعتزلي من أشهر شروح النهج وأكثرها تداولاً بين الناس ، ولهذا الشرح عدة إيجابيات نذكر منها:
الأول: أن صاحب هذا الشرح ليس بشيعي المذهب كما بيّنا في البحث السابق، وهذا يدل على ما تبوأه كتاب (نهج البلاغة) من المكانة المهمة بين المسلمين باختلاف مذاهبهم ، حيث تعاهدوه بالرعاية والعناية والشرح.
الثاني: اجتهد هذا الرحل في نقل كثير من الحوادث التاريخية المهمة التي أغفلها غيره، حتّى عدّ كتابه موسوعة كاملة أرّخت تلك الفترة الزمنية التي تبدأ من فجر الإسلام إلى سقوط الدولة العباسية ودخول التتار إلى بغداد، مما يجعل من الكتاب مرجعاً مهمًّا جدًّا ، خصوصاً مع قدمه الزمني ومعاصرته لبعض الأحداث المهمّة.
الثالث: ضمّن ابن أبي الحديد في شرحه بعض المتون المهمة والكتب المفقودة في عصرنا الحالي، ككتاب (السقيفة) لأحمد بن عبد العزيز الجوهري، وكتاب (وقعة الجمل) لأبي مخنف ، وأجزاء غير موجودة من كتاب (الموفقيات) للزبير بن بكار، وغيرها من المتون التاريخية المهمة.
الرابع: هذا الرجل يعتبر من الأدباء المتضلعين في اللغة والشعر ، وقد استغل هذا الجانب في إبراز عظمة (نهج البلاغة) ، وإظهار الجانب الجمالي في عبارات أمير المؤمنين عليه السلام ، التي هي بحق دون كلام الخالق، فوق كلام المخلوقين.
الخامس: طرح المصنف أهم الآراء الاعتزالية في شرحه على النهج، وناقش الشيعة الإمامية ، لاسيما القطب الراوندي رحمه الله ، مما خلق سجالاً علميًّا لطيفاً أثرى الساحتين ، فمن يتصفحح شرحه يجد مناقشة لعقيدة الشيعة في الصفات وعقيدتهم في الإمامة ، ونقداً لقراءتهم لبعض الأحداث التاريخية.
شرح ابن ميثم البحراني:
يأتي هذا الشرح في المرتبة الثانية في الشهرة بعد كتاب ابن أبي الحديد المعتزلي، وقد كُتب الشرحان في نفس الفترة الزمنية تقريباً ، إذ أن ابن ميثم البحراني رحمه الله توفي في سنة ٦٧٩ هـ، وابن أبي الحديد توفي في سنة ٦٥٦ هـ.
وقد ترجم علماؤنا لابن ميثم رحمه الله في كتبهم ، وذكروا ما حازه من المناقب والمفاخر ، ونحن نكتفي بنقل ما ذكره المحدِّث القمي في (الكنى والألقاب)، فإنه قال: كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني ، العالم الرباني، والفيلسوف المتبحر المحقق، والحكيم المتأله المدقق، جامع المعقول والمنقول، أستاذ القضلاء الفحول، صاحب الشروح على نهج البلاغة، يروي عن المحقق نصير الدين الطوسي، والشيخ كمال الدين علي بن سليمان البحراني ، ويروي عنه آية الله العلامة ، والسيد عبد الكريم بن طاووس .
قيل: إن الخواجة نصير الدين الطوسي تلمذ على كمال الدين ميثم في الفقه، وتلمذ كمال الدين على الخواجة في الحكمة، توفي سنة ٦٧٩، وقبره في هلتا من قرى ماحوز، وحكي عن بعض العلماء: أن ميثم حيثما وجد فهو بكسر الميم إلا ميثم البحراني فإنه بفتح الميم، والله تعالى العالم، وكتب الشيخ سليمان البحراني رسالة في أحواله سماها : (السلافة البهية) [٤٢].
ويتميَّز شرحه على النهج بعدّة أمور، نذكر منها:
الأول : أنه ذكر في كتابه مقدّمة فريدة جمع فيها بين علم المنطق والأصول والفلسفة والبلاغة، بحيث تكاد تكون منهاجاً يستطيع الباحث من خلالها قراءة النهج، والوصول إلى دقائق معانيه وحقائق مفرداته.
الثاني : أطنب الشارح في المسائل الكلامية ، بحيث يكاد يكون الكتاب متناً عقائديًّا متكاملاً، فنجده بحث كل ما يتعلق بالتوحيد ، من إثبات للصانع ، وبيان حقيقة الصفات ، وعرّج على كيفية إثبات النبوات ، ثم بسط الكلام في الإمامة، وفي مقامات الآل، وبالخصوص أميرالمؤمنين عليه السلام، بحيث يعرج بالإنسان من الملك إلى الملكوت ، ويجعله يغوص في عوالم المعرفة والمقامات.
الثالث: أتقن المصنّف شرح مواعظ أمير المؤمنين عليه السلام وخطبه الترغيبية الترهيبية، ممّا يجعلك تحسّ أنك أمام متن عرفانيّ، يعلمك أسس التخلية والتحلية والتجلية ، ويربِّيك على المشارطة والمراقبة والمحاسبة والمعاقبة.
منهاج البراعة:
وهو شرح السيد حبيب الله الخوئي، يعتبر هذا الشرح من أوسع الشروح على كتاب (نهج البلاغة)، إذ أنه طُبع مؤخَّرا في أكثر من عشرين مجلداً.
وقد ترجم له أحد أقاربه في مقدمة الكتاب بترجمة مطولة، ملخَّصها أن الشارح هو العلَّامة المؤيد المسدّد المتبحِّر الأديب الحاج مير حبيب الله بن السّيد محمّد الملقب بأمين الرعايا ابن السّيد هاشم بن السيّد عبد الحسين رضوان الله عليهم أجمعين ، وُلد سنة ١٢٦١ هـ في بلدة خوي من بلاد آذربايجان ، وغادرها إلى النجف الأشرف وعمره ٢٥ عاماً للدراسة ، وهناك ألف عدّة رسائل وكتب في الفقه والأصول والنحو وسائر العلوم الحوزوية، توفي سنة ١٣٢٤ هـ بطهران ، ودُفن في مشهد السيد عبد العظيم الحسني قدس سره.
وقد ذكر السّيد الخوئي قدس سره قصّة تأليفه لهذه الدرة الثمينة، فقال : حدثني والدي رحمه الله وكان قد أدرك صاحب (منهاج البراعة) في أواخر أيامه، قال: كان السبب في تأليف هذا الشرح أن السيد محمد المعروف بأمين الرعايا كان من ذوي الجاه والثراء، وكان يملك أرضاً واسعة، فوقع نزاع بينه وبين رجل على أرض ، وطلب ذلك الرجل من أمين الرعايا أن يكون الحكم بينهما ولده السيد حبيب صاحب الشرح المذكور ، وكان السيد حبيب يومئذ من أكابر العلماء وأفاضلهم، وله منزلته ومكانته بين الناس ، فترافعا إليه فتنصّل من الحكم بينهما باعتبار أن والده طرف بالقضية ، فأصرّا عليه ، فحكم للرجل على أبيه ، فغضب لذلك ، وجعل يقوم في مجالس الناس وحشودهم فيصف ولده بالعصقوق، وقلة التدين ، حتى أسقط من أعين الناس وقلّ احترامهم له، وأعرضوا عنه فقرَّر السيد أن يذهب إلى ضيعة له وأن يعتزل الناس كليًّا ، فاعتزل هناك ، واشتغل بتأليف الشرح المذكور ، حتى وافاه الأجل قبل إتمامه [٤٣].
ويمتاز هذا الشرح بعدّة أمور، نذكر منها:
الأول: ذكر المصنّف مقدمة مهمة في علم البلاغة تصلح أن تكون كتاباً مستقلاً في هذا الفن يناطح كتب السكاكي والجرجاني والتفتازاني.
الثاني: أكثر في كتابه من التطبيقات البلاغية محاولاً إظهار حقيقة (نهج البلاغة) وإبراز الكنوز الأدبية التي يحتويها هذا السفر القيم، ولعله ترسّم خطى عبد القاهر الجرجاني والزمخشري في كشفهما النقاب عن إعجاز القرآن الكريم.
بهج الصباغة:
هذا الشرح وإن كان غير مشهور بين النّاس إلا أنه يعتبر من أهم شرح نهج البلاغة على الإطلاق، وأكثرها فائدة، وأعظمها قيمة، ولعلّ خفاؤه على البعض سببه قرب عهد مصنِّفه، إذ أن غالب الناس أولعوا بالقديم، فصاروا ينظرون بكل ازدراء للجديد ظنّاً منهم أنّ اللاحق لن يأتي بشيء جديد غفل عنه السابق، والحال أن مقتضى القاعدة العقلائية تقول: إن نتاج اللاحق أكمل من السابق؛ وذلك لأن هذا الأخير يكون مطلعا على ما اطلع عليه السابق وزيادة.
وهذا الشرح يتميز بأمور:
الأول: مصنّف هذا الشرح هو آية الله المحقق الشيخ محمد تقي التستري قدس سره، وهو من فقهاء الإمامية ومن كبار المحقّقين المدقّقين ، ويكفيك الاطلاع على كتابه (قاموس الرجال) لتعلم أنه فارس هذا الميدان، وقد اعتبر بعض العلماء كتابه من أفضل الكتب التي صنفت في هذا العلم [٤٤].
الثاني : استنفذ الشارح كل طاقاته قي جمع الشواهد على مضامين النهج، وحاول إثبات تواتر هذه المضامين من كتب الخاصة والعامة، فلا تجد نصّا من نصوص النهج إلا وقد أتبعه الشيخ التستري رحمه الله بعشرات النصوص الأخرى المبثوثة في الكتب ممّا لا يدع مجالاً للشك بصحّة صدور النصّ.
الثالث: عُرف المصنّف بجرأته في النقد، ولذلك نجده في كتابه (الأخبار الدخيلة) قد طعن في أمور ربما تكون مسلّمة عند البعض مما أثار سخطاً عليه ، أيضاً نجده في هذا الكتاب قد تعرّض لنقد الشريف الرضي قدس سره ومنهجه في انتقاء الأحاديث والخطب، ومن راجع مقدمة هذا الكتاب رأى النقد اللاذع.
الرابع: أن الشيخ التستري رحمه الله عدل عن تبويب الكتاب الذي اعتمده الشريف الرضي قدس سره ، واستحدث تبويباً جديداً للكتاب معتمداً على تصنيف مضامين الكتاب بحسب موضوعاته ، مما يسهِّل على الباحث إيجاد النصّ المناسب في أسرع وقت.
شرح محمد عبده:
تكمن أهميّة هذا الشرح في مصنّفه ، إذ أن هذا الرجل يعتبر من كبار رجال أهل السنّة والجماعة في عصره، فقد كان مفتياً للديار المصرية من سنة ١٨٩٩ م إلى وفاته سنة ١٩٠٥ م، وكان شرحه على هذا الكتاب بداية إلى انفتاح ثقافي بين السنّة والشيعة في ذلك العصر.
ولعلّ الميزة الأهم في هذا الكتاب أنّه يعتبر اعترافاً من أعلى منصب ديني عند أهل السنة في عصر محمد عبده بصحّة نسبة كتاب (نهج البلاغة) لأمير المؤمنين وسيد الموحدين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وردّ على مزاعم المذكورين سابقاً من أنه موضوع.
ولذلك فقد لاقى هذا الشرح هجمة شرسة من بعض المتعصّبين، وحاولوا إسقاط الكتاب والمؤلّف، لكونه يعطي شريعة لهذا الكتاب، وعلى سبيل المثال نذكر ما قاله الدكتور زيد العيص: وليس بمستغرب أن يصدر هذا الافتراء عن الشريف المرتضى ، إنما المستهجن موقف الشيخ محمد عبده الذي قام بشرح ألفاظ هذا الكتاب ، وكان يمر بالعبارات التي تذم الشيخين والصحابة ، والنصوص التي توحي بأن عليًّا يعلم الغيب ، وغيرها من النصوص المستنكرة ، دون أن يعلّق بكلمة واحدة ، وكأنها مسلّمات عنده [٤٥].
أما نفس الشرح فإنه كان مقتضباً جدّا، بحيث لم يتوسع في تبيان مطالب الكتاب ، بل الأمير أشبه بالتعليقة على النهج، وقد ركّز الشيخ محمد عبده على شرح الألفاظ الصعبة والعبارات المغلقة، وقلما يتعرض إلى مسألة عقدية أو تاريخية في شرحه.
ولا يخفى على القارئ العزيز أنه لم يكن القصد مما ذكر سابقاً هو حصر جميع الشروح وتقييمها ، بل كان الغرض هو إعطاء فكرة عامة للباحث حول الشروح المتداولة في هذه الأيام، وإلا فإن شروح نهج البلاغة اكثر مما ذكرنا بكثير، وقد أحصاها الشيخ حسين الجمعة العاملي في كتاب أسماه: (شروح نهج البلاغة) ، فمن شاء التوسّع فعليه مراجعة هذا الكتاب للوقوف على كل الكتب المتعلّقة بنهج البلاغة من شروح واستدراكات وحواشي وغيرها.