وقال (عليه السلام): الدُّنْيَا خُلِقَتْ لِغَيْرِهَا، ولَمْ تُخْلَقْ لِنَفْسِهَا.                
وقال (عليه السلام):مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا.                
وقال (عليه السلام): مَا لاِبْنِ آدَمَ وَالْفَخْرِ: أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ، وَآخِرُهُ جِيفَةٌ، و َلاَ يَرْزُقُ نَفْسَهُ، وَلاَ يَدفَعُ حَتْفَهُ.                
وقال (عليه السلام): يَهْلِكُ فِيَّ رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ مُفْرِطٌ، وَبَاهِتٌ مُفْتَر.                
وقال (عليه السلام): الرِّزْقُ رِزْقَانِ: طَالِبٌ، وَمَطْلُوبٌ، فَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا طَلَبَهُ الْمَوْتُ حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنْهَا،مَنْ طَلَبَ الاْخِرَةَ طَلَبَتْهُ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رِزْقَهُ مِنْهَا.                
وقال (عليه السلام): مَا أَخَذَ اللهُ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُعَلِّمُوا.                
وقال (عليه السلام): قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِير مَمْلُول مِنْهُ.                

Search form

إرسال الی صدیق
طعونات في نهج البلاغة – الثالث

الشيخ أحمد سلمان

وقد نقل ابن النديم نموذجا عن هذه المكتبات التي تلفت وضاعت كتبها ، فقال : كان بمدينة الحديثة رجل يقال له محمد بن الحسين ويعرف بابن بي بعرة ، جمّاعة للكتب ، له خزانة لم أر لأحد مثلها كثرة ، تحتوي على قطعة من الكتب الغريبة في النحو واللغة والأدب ، والكتب القديمة ، فلقيت هذا الرجل دفعات فآنس بي ، وكان نفورا ضنينا بما عنده وخائفا من بني حمدان ؛ فاخرج إلى قمطرا كبيرا فيه ثلثمائة رطل جلود فلجان وصكاك وقرطاس مصر وورق صيني وورق تهامي وجلود ادم وورق خراساني فيها تعليقات عن العرب وقصائد مفردات من أشعارهم ، وشئ من النحو والحكايات والأخبار والأسمار والأنساب وغيرذلك من علوم العرب وغيرهم ؛ وذكر ان رجلا من أهل الكوفة ، ذهب عني اسمه ، كان مستهترا بجمع الخطوط القديمة ، وانه لما حضرته الوفاة خصه بذلك لصداقة كانت بينهما وأفضال من محمد بن الحسين عليه ومجانسة بالمذهب فإنه كان شيعيا ، فرأيتها وقلبتها فرأيت عجبا ، الا ان الزمان قد أخلقها وعمل فيها عملا أدرسها وأحرفها ، وكان على كل جزء أو ورقة أو مدرج ، توقيع بخطوط العلماء واحدا إثر واحد، يذكر فيه خط من هو، وتحت كل توقيع ، توقيع آخر خمسة وستة من شهادات العلماء على خطوط بعض لبعض ، ورأيت في جملتها مصحفا بخط بن أبي الهياج صاحب علي عليه السلام ثم وصل هذا المصحف إلى أبي عبدالله ابن حاني رحمه الله ، ورأيت فيها بخطوط الأئمة من الحسن والى الحسين عليهما السلام ، ورأيت عدة أمانات وعهود بخط أميرالمؤمنين عليه السلام وبخط غيره من كتاب النبي عليه السلام [١] .

وقد طبع مؤخرا كتاب تحت عنوان ( نزهة الأبصار ومحاسن الآثار) لأحد علماء أهل السنة والجماعة [٢] المتقدمين عن الشريف الرضي رضى الله عنه ، ذكر فيه جملة من روايات ( نهج البلاغة) التي لم يعرف لها مصدرغيره .

إذن من هنا نعلم أن الشريف الرضي رضي الله عنه قد اطلع على كتب كثيرة لم تصل إلينا واعتمد عليها في جمع ( نهج البلاغة) ، وهذا ما يفسَّر خلو الكتب المتداولة الآن بین أيدينا من بعض خطب النهج .

وقد أنصف أحد علماء السنة وهو امتيازعلي عرشي الحنفي [٣] حين قال : وليس يخاف على أبناء العلم والمولعين به أن معظم محتويات (نهج البلاغة) توجد في كتب المتقدَّمين ، ولو لم يذكرها الشريف الرضي ، ولو لم يّعْرُ بغداد ما عراها من الدمارعلى يد التتر، ولو بقيت خزانة الكتب الثمينة التي أحرقها الجهلاء لعثرنا على مرجع كل مقولة مندرجة في نهج البلاغة [٤] .

بقي الكلام في نقطة أخيرة ، وهي : لو قيل : إن ما ذكرناه آنفاً لا يدل إلا على براءة ساحة (الشريف الرضي) من الوضع والتقوّل على أميرالمؤمنين عليه السلام ، لكن هذا لا يثبت صحّة ما أخرجه في كتابه هذا ؛ وذلك لأنه يجب علينا مراجعة أسانيد روايات النهج رواية رواية وخطبة خطبة ؛ للتأكد من صحّتها وإثبات حجّيتها ، وهذا دون إثباته خرط القتاد ؛ لأنه قد ذكرنا أن جملة من روايات النهج لا أسانيد لها ، بل لا مصدر لها سوى الكتاب المختلف فيه !

فكيف نثبت اعتبارالكتاب ، وصحة ما فيه ما فقدان الأسانيد ؟

والجواب حول هذا الإشكال يكون في نقاط :

الاولى : أن السند ليس الطريق الوحيد لإثبات صحّة صدورالخبر، بل هناك عدة طرق أخرى اتفق عليها العقلاء قبل علماء الحديث أنه من خلالها نثبت صحة الصدور، منها :

١ - الشهرة : وهو أن يشتهر الخبر بين الناس ، ويشيع  بحيث يطمئن الإنسان بصحة صدوره ، وقد نصَّ علماء الحديث والرجال عند السنة والشيعة أنه أذا اشتهرالخبر بين العلماء ، وتلقوه بالقبول دون طعن أوغمز، فإنه يُحكم بصحّته ولو لم يكن له سند صحيح .

قال الحافظ السيوطي : كذا ما اعتضد بتلقي العلماء له بالقبول ، قال بعضهم : يحكم للحديث بالصحة إذا تلقاه الناس بالقبول وإن لم يكن له إسناد صحيح [٥] .

وقال القاسمي : الصحيح لغيره هو ما صُحَّح لأمرأجنبي عنه ، إذ لم يشتمل عن صفات القبول على أعلاها كالحسن ، فإنه إذا روي من غير وجه ، ارتقى بما عضده من درجة الحسن إلى منزلة الصحة ، وكذا ما اعتضد بتلقي العلماء له بالقبول ، فإنه يحكم له بالصحة ، وإن لم يكن له إسناد صحيح [٦] .

وقال ابن قيم الجوزية : هذا الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد ، ولكن لما تلقتها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها [٧] .

وكلام هؤلاء واضح وصريح ، وهو أنه قد يُستغنى أصلاً عن الإسناد إذا تُلقَي الحديث بالقبول بين الناس .

الأعظم من هذا أن ابن حجرالعسقلاني أميرالمؤمنين في الحديث كما يحلو لبعضهم تسميته ذكر أن الحديث الذي تلقته العامة بالقبول دون أن يكون له سند صحيح ، هو حجة ، بل قد يكون ناسخاً لكتاب الله !

قال في النكت : من جملة صفات القبول التي لم يتعرَّض لها شيخنا : أن يتفق العلماء على العمل بمدلول حديث ، فإنه يقبل حتى يجب العلمل به ، وقد صرَّح بذلك جماعة من أئمة الأصول ، ومن أمثلته : قول الشافعي رضى الله عنه : وما قلت من أنه إذا غير طعم الماء وريحه ولونه ، ويروى عن النبي من وجه لا يثبت أهل الحديث مثله ، ولكنه قول العامة لا أعلم بينهم فيه خلاف ، وقال في حديث لا وصية للوارث : لا يثبته أهل العلم بالحديث ، ولكن العامة تلقته بالقبول ، وعملوا به حتى جعلوه ناسخاً لآیة الوصية للوارث [٨] .

ووافقه على هذه القاعدة السخاوي ، حيث قال : وكذا إذا تلقت الأمة الضعيف بالقبول يعمل به على الصحيح حتى إنه ينزَّل منزلة المتواتر في أنه ينسخ المقطوع به ، ولهذا قال الشافعي رحمه الله في حيث : (( لا وصية )) : إنه لا يثبته أهل الحديث ، ولكن العامة تلقته بالقبول ، وعملوا به حتى جعلوه ناسخاً لآیة الوصية له [٩] .

وهذه القاعدة الجلية قد طبَّقها الأميرالصنعاني على أحد نصوص النهج كما في كتابه سبل الاسلام ، حيث قال : ولأميرالمؤمنين علي عليه السلام في عَهْدٍ عَهِدَه إلى الأشتر لما ولي مصر فيه عدة مصالح وآداب ومواعظ وحكم ، وهو معروف في النهج ، لم أنقله لشهرته [١٠] .

فكما اعتمد المخالفون هذه في إثبات جملة من أحكامهم الشرعية ، بل نسخوا به آیة قرآنیة ذكرابن حجرالعسقلاني ، فيلزمهم تطبيق هذه القاعدة على (نهج البلاغة) أيضاً ، وإلا يكون الأمر كيل بمكيالين واتباع للهوى .

٢ – المضمون : وهو أن ينظر في متن الرواية ، ويقيَّم مضمونها ، فإن كان مما يليق نسبته لقائله كانت هذه قرينة على صحة النسبة إليه ، وإن كان العكس فإنه يُضرب به عرض الجدار.

ولذلك نجد أن ابن القيم تعرَّض إلى دراسة المتن في أكثرمن مورد من كتابه المنار في الصحيح والضعيف :

منها : قوله : أن يكون كلامه لا يشبه كلام الأنبياء فضلاً عن كلام رسول الله الذي هو وحي يوحى كما قال الله تعالى : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ ألهَوَى (*) إن هُوَإلَّا وَحىٌ يُوحَى) أي وما نطقه إلا وحي يوحى ، فيكون الحديث مما لا يشبه الوحي ، بل لا يشبه كلام الصحابة [١١] .

ومنها : قوله : ومنها ركاكة ألفاظ الحديث وسماجتها بحيث يمجّها السمع ، ويدفعها الطبع ، ويسمج معناها للفطن [١٢] .

فكما أن سوء سبك المضمون ودناءته على الوضع والكذب ، فإن حسن السبك وعلو المضمون يدل على صحة نسبته وثبوت صدوره ، وهذا المنهج يمكن تطبيقه على نهج البلاغة لإثبات اعتباره .

ويكفينا في هذا المقام إعادة ذكر شهادة الشيخ محمود شكري الآلوسي السلفي الذي قال في مدح الكتاب : هذا كتاب (نهج البلاغة) قد استودع من خطب الإمام علي بن أبي طالب سلام الله عليه ما هو قبس من نور الكلام الإلهي وشمس تضيء بفصاحة المنطق النبوي [١٣] .

فهذا الرجل المشهود له بالتضلّع في الأدب ولغة العرب يشهد بضرس قاطع أن كتاب (نهج البلاغة) احتوى كلاماً فوق مستوى كلام عامة البشر، بل هو على حسب تعبيره قبس من نورالكلام الإلهي !

الثانية : هو أن المخالفون قد نصّوا أن السند يطلب فقط في الحلال والحرام ، وفي الأمورالتي لها دخالة في العقيدة والفقه ، أما الأمورالأخرى فلا يشترط فيها سند أصلاً !

ولهذا قال الخطيب البغدادي : وأما أخبارالصالحين وحكايات الزهاد والمتعبَّدين ومواعظ البلغاء وحكم الأدباء فالأسانيد زينة لها ، وليست شرطاً في تأديتها [١٤] .

وقال السخاوي : وهذا التساهل والتشديد منقول عن ابن مهدي عبد الرحمن وغيرواحد من الأئمة كأحمد بن حنبل وابن معين وابن المبار والسفيانين ، بحيث عقد أبو أحمد بن عدي في مقدمة كامله والخطيب في كفايته لذلك باباً ، وقال ابن عبد البر: أحاديث الفضائل لا تحتاج فيها إلى من يحتج به ، وقال الحاكم : سمعت أبا زكريا الغبري يقول : الخبر إذا ورد لم يحرم حلالاً ولم يحل حراماً ولم يوجب حكماً ، وكان في ترغيب أو ترهيب ، أغمض عنه ، وتسهل في رواته [١٥] .

وقال الصنعاني : الأحاديث الواهية جَّوزوا – أي أئمة الحديث – التساهل فيه ، وروايته من غير بيان لِضعفه إذا كان وارداً في غيرالأحكام ، وذلك كالفضائل والقصص والوعظ وسائر فنون الترغيب والترهيب [١٦] .

ولو رجعنا إلى كتاب (نهج البلاغة) نجد أن جلَّه هو مواعظ وحكم وسير وفضائل وترغيب وترهيب ، ونادراً ما يذكر فيه حلال وحرام أو مسألة عقائدية يتوقف إثباتها على نهج البلاغة .

فلا ندري لماذا قواعدهم تتوقف وتعطل عندما تصل النوبة إلى نهج البلاغة وكلمات أميرالمؤمنين عليه السلام ؟!

علماً أنهم لو انحصر الإثبات على صحة السند للزم من ذلك تنازلهم على جملة من الأمورالمسلمة عندهم ، والتي تكاد تكون مقطوعاً بها عندهم ، مثل تسمية عمر بن الخطاب بالفاروق ، وحديث العشرة المبشَّرين بالجنة ، بل لا يبقى عندهم تفسيرللقرآن بالمأثور أصلاً !

نقل الزركشي في البرهان بسنده : عن أحمد بن حنبل قال : ثلاث كتب ليس لها أصول : المغازي والملاحم والتفسير..

قال المحقَّقون من أصحابه : ومراده أن الغالب أنها ليس لها أسانيد صحاح متصلة [١٧] .

واعترف ابن تيمية بهذه الحقيقة ، فقال : فالمقصود أن المنقولات التي يحتاج إليها في الدين قد نصب الله الأدلة على بيان ما فيها من صحيح وغيره ، ومعلوم أن المنقول في التفسيرأكثره كالمنقول في المغازي والملاحم ، ولهذا قال الإمام أحمد : ثلاثة أمور ليس لها إسناد : التفسير، والملاحم ، والمغازي [١٨] .

فلماذا باؤكم تجر وباؤنا لا تجر؟!

وقد ذكر جوابنا هذا السيّد محسن الأمين قدس سره في أعيان الشيعة بقوله : ليس ( نهج البلاغة) مرجعاً للأحكام الشرعية حتى نبحث عن أسانيده ونوصله إلى علي (ص) ، إنما هو منتخب من كلامه في المواعظ والنصائح وأنواع ما يعتمده الخطباء من مقاصدهم ، ولم يكن غرض جامعه الإ جمع قسم من الكلام السابق في ميدان الفصاحة والبلاغة على حد ما جمع غيره من كلام الفصحاء والبلغاء الجاهليين والإسلاميين الصحابة وغيرهم بسند وبغير سند ،ولم نراكم تعترضون على أحد في نقله لخطبة أو كلام بدون سند وهو في الكتب يفوق

 الحد الاعلى (نهج البلاغة) ، ليس هذا إلا لشيء في النفس ، مع أن جل ما فيه مروي بالأسانيد في الكتب المشهورة المتداولة [١٩] .

الثالثة : نختم ردّنا على هذا الإشكال بقولنا : إن ما أشكلوه على النهج من سقوط أسانيده لا يلزم منه وضع الكتاب ، بل غاية ما يلزم هو أن الفقرات التي لا يوجد لها سند البتة لا تكون حجة ولا عبرة به ، ومن هنا نعلم أن ما ذكروه هو مجرد غربال استخدموا ليحجبوا به نور كلمات (نهج البلاغة) .

وإلا فلماذا إذا وصل الأمر إلى (نهج البلاغة) طُبّقت فيه كل قواعد الحديث ، وأُعلمت فيه كل مصطلحات الدراية ، وكل مباني علم الرجال ؟!

فلو لم يكن في نفوس القوم شيء حول تراث أميرالمؤمنين عليه السلام فلماذا يحارب كتاب لا يشتمل إلا على أخلاقيات ومواعظ وحكم وترغيب وترهيب ؟

الشبهة الرابعة : رواية الرضي قدس سره :

من جملة الأمورالتي أشكلت على كتاب (نهج البلاغة) أن الذي تولى جمعه وروايته هو الشريف الرضي قدس سره ، وهذا الرجل قد أجمع الخاصة والعامة على أنه شيعي جلد ، فكيف تقبل روايته وهذا حاله ؟

ولذلك قال الدكتور سالوس : وإذا ثبت أن هذا الكتاب للشريف الرضي كم سيأتي فإن هذا الشاعر رافضي جلد ،لا يُحتج  بروايته كم هو معلوم من ترجمته ،وهذا يعني أن نهج البلاغة لو كان مسنداً عن طريقه فلا يجوز الاحتجاج بما جاء فيه ، فلو كان مسنداً فليس بحجة ، فما بالك إذا خلا تماماً عن الإسناد ؟ [٢٠] .

جئتمونا بأي حجة فلن نقبل منكم كتاب (نهج البلاغة) ، شاء من شاء، وأبى من أبى،وهذا التعصب الأعمى الممقوت الذي دمَّر هذه الأمة ، وقطّع أوصالها على مرّ السنين .

إن هذه الكلمات تدل على جهل صاحبها بعلم الحديث والرجال عند أهل السنة والجماعة ، إذ أنّ علماء هذه الصنعة قد نصوا على أنّ فساد المعتقد لا يصر بصدق الراوي ، فتجوزالرواية عندهم عن الرافضي الجلد كما عَبَرالسالوس، وعن الخارجي،وعن المعتزلي،وعن القدري، وغيرهم .

ولهذا قال الذهبي في السَّيّر: هذه مسألة كبيرة ، وهي القدري والمعتزلي والجهمي والرافضي إذا عُلِمَ صدقه في الحديث وتقواه ، ولم يكن داعياً إلى بدعته ، فالذي عليه أكثرالعلماء قبول روايته والعمل بحديثه ، وتردَّدوا في الداعية ، هل يؤخذ عنه ؟ فذهب كثير من الحفاظ إلى تجنب حديثه وهجرانه ، وقال بعضهم : إذا علمنا صدقه ؟ فجميع تصرفاته أئمة الحديث تؤذن بأن المبتدع إذا لم تبح بدعته خروجه عن دائرة الإسلام ، ولم تبح دمه ، فإن قبول ما وراه سائغ ، وهذه المسألة لم تتبرهن لي كما ينبغي ، الذي اتضح لي منها أن من دخل في بدعة ، ولم يُعَدّ من رؤوسها ، ولا أمعن فيها ، يُقبَل حديثه [٢١] .

وقال المعلمي اليماني : وقد وثَّق أئمة الحديث جماعة من المبتدعة ، واحتجوا بأحاديثهم ، وأخرجوها في الصَّحاح ، ومن تتبَّع رواياتهم وجد فيها كثيراً مما يوافق ظاهره بدعهم ، وأهل العلم يتأوّلون تلك الأحاديث ، غير طاعنين فيها ببدعة راويها ، ولا في راويها بروايته لها [٢٢] .

ولو راجعنا كتب الحديث لوجدنا أن كلام المعلمي دقيق جدًّا ، إذ أن صحاح القوم تعج بروايات المبتدعة على حد تعبيرهم .

فقد روى البخاري عن عمران بن حطان ، وهو من رؤوس الخوارج ومن دعاتهم ، بل من المغالين في بغض أميرالمؤمنين عليه السلام ، وقد ذكر ابن حجر في فتح الباري بقوله : عمران بن حطان السدوسي الشاعرالمشهور، كان يرى رأي الخوارج .

قال أبوالعباس المبرد : كان عمران رأس القعدية من الصفرية ، وخطيبهم وشاعرهم . انتهى . والقعدية : قوم من الخوارج كانوا يقولون بقولهم ، ولا يرون الخروج ، بل يزيَّنونه ، وكان عمران داعية إلى مذهبه ، وهو الذي رثى عبدالرحمن بن ملجم قاتل علي عليه السلام بتلك الأبيات السائرة [٢٣] .

والأبيات التي أشارلها ابن حجر هي التي ذكرها في كتابه (الإصابة في معرفة الصحابة) ، وهي قوله :

يا ضربةً مِنْ تقيًّ ما أرادَ بها ***** إلا ليبلُغَ مِنْ ذي العرشِ رِضوانا

إني لأذكُره يوماً فأحسبُه ***** أوفى البريِة عندَ الله ميزانا [٢٤]

وقد كفانا مؤونة الرّد على هذا النصب والبغض أحد العشراء الذي عارض هذه الأبيات بقوله :

 يا ضربةً مِنْ شقيًّ ما أرادَ بها ***** إلا ليهدمَ مِنْ ذي العرش بُنيانا

إني لأذكرُه يوماً فألعنهُ دِيْناً ***** وألعنُ عمرانَ بنَ حطانا

وردّ عليه آخر بقوله :

یاضربةً مِنْ غدور صار ضاربُها ***** أشقى البريِة عندَ اللهِ إنسانا

إذا تفكَّرت فيه ظَلْتُ ألعنُه ***** وألعنُ الكلبَ عمرانَ بنَ حطانا

ورغم هذ النصب الواضح والانحراف الجلي فإن البخاري روى عن هذا الرجل في صحيحه الذي يعتبرعند القوم أصح الكتب بعد كتاب الله .

وروى البخاري أيضاً عن عباد بن يعقوب الرواجني ، وهو من رؤوس الشيعة ومن دعاتهم ، وقد ذكره ابن حجر في مقدمة الفتح قائلاً : عباد بن يعقوب الرواجني الكوفي أبوسعيد ، رافضي مشهور، إلا أنه كان صدوقاً ، وثّقة أبوحاتم ، وقال الحاكم : كان ابن خزيمة إذا حدَّث عنه يقول : (( حدَّثنا الثقة في روايته المتهم في رأيه : عباد بن يعقوب )) ، وقال ابن حبان : كان رافضيًّا داعية ، وقال صالح بن محمد : كان يشتم عثمان [٢٥] .

أما مسلم فصحيحه لا يخلو أيضاً من رواة مبتدعة على حدَّ تعبيرهم ، فقد روى عن عدي بن ثابت ، وهو من كبارالشيعة ، بل من علمائهم ، وقد ترجم له الذهبي في ميزان الاعتدال ، فقال : عدي بن ثابت عالم الشيعة وصادقهم وقاصّهم وإمام مسجدهم [٢٦] .

وروى أيضاً عن أبان بن تغلب فقيه الشيعة وعالمهم ، وقد أجمع الكل على تشيعه ، ولذلك ترجم له الذهبي في الميزان بقوله : أبان بن تغلب الكوفي شيعي جلد ، لكنه صدوق ، فلنا صدقه وعليه بدعته [٢٧] .

ولو أردنا سرد أسماء (الرافضة) الذين روى عنهم أصحاب الصحاح والسنن لاحتجنا إلى مجلد كامل لاستقصاء كل الأسماء ، وقد أجاد الشيخ محمد جعفرالطبسي بتأليفه كتاباً في هذا الموضوع ، أسماه : (رجال الشيعة في أسانيد السنة) ، جمع فيه رواة الشيعة في الكتب الستة .

بقي هنا أمر واحد لابد من الإشارة إليه من باب إنصاف الرجل ، وهو أنه قد يتمسك البعض بالقول الشائع على الألسن ، وهو أن بعض أئمة الحديث قد فصلوا في رواية المبتدع ، فردّوا رواية اداعية ، أو ما يقوي بها بدعته ، وقبلوا رواية ما سواه .

قال الخطيب البغدادي في الكفاية : وقال كثير من العلماء : يُقبل أخبارغيرالدعاة من أهل الأهواء ، فأما الدعاة فلا يحتج بأخبارهم ، وممن ذهب إلى ذلك أبوعبدالله أحمد بن محمد بن حنبل [٢٨].

والجواب على هذا :

أولاً : أن هذا الرأي وإن نصَّ عليه بعضهم إلا أنه لم يلتزم به كبارالحفاظ وأئمة الحديث ،وقد ذكرنا أمثلة من الصحيحين ، فكيف بالكتب التي هي دونها ؟

ثانياً : هذا الرأي مبتدع مجعول ، ولا دليل عليه لامن العقل ولا من النقل ، بل هو مجرد اتباع للهوى ، وقد صرَّح العلماء أن أول من قال بهذا التفصيل هو الجوزجاني .

قال السخاوي في فتح المغيث : قال شيخنا : إنه قد نص على هذا القيد في المسألة الحافظ أبوإسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني شيخ النسائي ، فقال في مقدمة كتابه في الجرح والتعديل : ومنهم زائغ عن الحق صدوق اللهجة ، قد جرى في الناس حديثه ، لكنه مخذول في بدعته ، مأمون في روايته ، فهؤلاء ليس فيهم حيلة إلا أن يؤخذ من حديثهم ما يُعرف ، وليس بمنكر، إذا لم تقو به بدعتهم فيتهمونه بذلك [٢٩] .

وقد نصَّ أحد أئمة الحديث المعاصرين الذي أُطلق عليه (ذهبي العصر) وهو المعلمي اليماني عن سبب جعل الجوزجاني لهذه القاعدة ، فقال : والجوزجاني فيه نَصْب ، وهو مولع بالطعن في المتشيَّعين كما مر، ويظهر أنه إنما يرمي بكلامه هذا إليهم ، فإن في الكوفيين المنسوبين إلى التشيع جماعة أجلة اتفق أئمة السنة على توثيقهم ، وحسن الثناء عليهم ، وقبول روايتهم ، وتفضيلهم على كثيرمن الثقات الذين لم يُنسبوا إلى التشيع ، حتى قيل لشعبة : حدثنا عن ثقات أصحاب ، فقال : إن حدثتكم عن ثقات أصحابي فإنما أحدثكم عن نفر يسير من هذه الشيعة ، الحكم بن عتيبة ، وسلمة بن كهيل ،وحبيب بن أبي ثابت ، ومنصور.

راجع تراجم هؤلاء في تهذيب التهذيب ، فكأن الجوزجاني لما علم أنه لا سبيل إلى الطعن في هؤلاء وأمثالهم مطلقاً حاول أن يتخلّص مما يكرهه من مروياتهم ، وهو ما يتعلق بفضائل أهل البيت [٣٠] .

إذن هذه القاعدة التي كثيراً ما يتبجَّح بها البعض هي من وضع ناصبي للتخلص من مرويات أهل البيت عليهم السلام وطمس آثارهم ، والدكتور السالوس يسيرعلى هذا النهج الناصبي بشهادة علمائهم في محاولة لتسقيط كتاب ( نهج البلاغة) .

ثالثاً : لو قبلنا هذه القاعدة وعملنا بها لكان أول شيء يُرَدّ هي نفس القاعدة ؛ وذلك أن مفاد هذا المبنى الرجالي أن المبتدع الداعية ترد روايته ودرايته ، خصوصاً إذا كان هذا الأمريقوّي بدعته ، وهذ الرجل المسمّى بالجوزجاني مبتدع ، إذا أن الكل شهد على أنه ناصبي منحرف عن علي عليه السلام ، وقد نقلنا شهادة المعلمي اليماني بذلك ، ومضيف عليه ما نقله ابن حجرالعسقلاني  قال في تهذيب التهذيب : وقال ابن حبان في الثقات : كان حروري المذهب ، ولم يكن بداعية ، وكان صلباً في السنة ، حافظاً للحديث ، إلا أنه من صلابته ربما كان يتعدّى طوره.

وقال ابن عدي : كان شديد الميل إلى مذهب أهل دمشق في الميل على علي ؛

وقال السلمي عن الدارقطني بعد أن ذكر توثيقه : لكن فيه انحراف عن علي ، اجتمع على بابه أصحاب الحديث ، فأخرجت جارية له فروجة لتذبحها ، فلم تجد من يذبحها ، فقال : سبحان الله ، فروجة لا يوجد من يذبحها ، وعلي يذبح في ضحوة نيَّفاً وعشرين ألف مسلم .

قلت : وكتابه في الضعفاء يوضح مقالته ، ورأيت في نسخة من كتاب ابن حبان : حَريْزيُّ المذهب ، وهو يفتح الحاء المهملة ، وكسرالراء ، وبعد الياء زاي ، نسبةً إلى حريز بن عثمان المعروف بالنصب ، وكلام ابن عدي يؤيَّد هذا [٣١] .

ومن هنا نقول : إن هذا القاعدة جاء بها المبتدع الجوزجاني لنصرة مذهبه وتقوية بدعته ، فهي مردودة عليه ، ومحكوم ببطلانها .

فلا يبقى وجه للإشكال مع بطلان ما ذهب إليه السالوس ، وبإضافة ما قدمناه في أول الكتاب من إجماع الأمة على وثاقة وعدالة وجلالة الشريف الرضي قدس سره .

----------------------------------------------------------------------------------------
[١] . الفهرست ٤٦ .
[٢] . المقصود هو علي بن مهدي المامطيري الطبري (٣٦٠ هـ) ترجم له السبكي في طبقات الشافعية الكبرى ٣ / ٤٦٦ : تلميذ الشيخ أبي الحسن الأشعري صحبه بالبصرة وأخذ عنه وكان من المبرزين في علم الكلام والقوامين بتحقيقه وله كتاب تأويل الأحاديث المشكلات الواردات في الصفات وكان مفتنا في أصناف العلوم ؛ قال أبوعبدالله الحسين بن أحمد بن الحسين الأسدي كان شيخنا وأستاذنا أبوالحسن علي بن مهدي الطبري الفقيه مصنفا للكتب في أنواع العلوم مفتنا حافظا للفقه والكلام والتفاسير والمعاني وأيام العرب فصيحا مبارزا في النظر ما شوهد في أيامه مثله .
[٣] . من كبار محققي الهند ، كان مديراً لمكتبة رضا الشهيرة في مدينة رامفور، قام بفهرسة مخطوطاتها ، واطلَّع على النوادرالموجودة فيها، فكتب مقالاتٍ وأبحاثاً في التعريف بها ودراستها في المجلاَّت العلميَّة باللُّغة الأُردية ، واشتهر في الأوساط العلميَّة في البلاد العربية بعدما حقَّق (تفسيرسفيان الثَّوري)، وغيره من النوادر، توفي سنة ١٩٨١ م .
[٤] . استناد نهج البلاغة : ٢٠ .
[٥] . تدريب الراوي ١ / ٦٧ .
[٦] . قواعد التحديث ١ / ٨٠ .
[٧] . أعلام الموقعين ١ / ٢٠٢ .
[٨] . النكت على مقدمة ابن الصلاح : ٤٩٥ .
[٩] . فتح المغيث ١ / ٢٨٩ .
[١٠] . سبل السلام ٤ / ١١٩ .
[١١] . المنارالمنيف : ٦٢ .
[١٢] . المنارالمنيف : ٩٩ .
[١٣] . بلوغ الارب ٣ / ١٨٠ .
[١٤] . الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ٢ / ٢١٣ .
[١٥] . فتح المغيث ١ / ٢٨٨ .
[١٦] . توضيح الأفكار٢ / ٢٣٨ .
[١٧] . البرهان ٢ / ١٥٣ .
[١٨] . مجموع الفتاوى ١٣ / ٣٤٧ .
[١٩] . أعيان الشيعة ١ / ٧٩ .
[٢٠] . مع الشيعة الاثني عشرية ١ / ٢١٧ .
[٢١] . سير أعلام النبلاء ٧ / ١٥٤ .
[٢٢] . التنكيل ١ / ٥٠ .
[٢٣] . فتح الباري ١ / ٥٧٧ .
[٢٤] . الإصابة ٥ / ٢٣٢ .
[٢٥] . فتح الباري ١ / ٥٥١ .
[٢٦] . ميزان الاعتدال ٣ / ٦١ .
[٢٧] . نفس المصدر ١ / ١١٨ .
[٢٨] . الكفاية في علم الرواية ١٤٩ .
[٢٩] . فتح المغيث ١ / ٣٣١ .
[٣٠] . التنكيل ١ / ١٢٤ .
[٣١] . تهذيب التهذيب ١ / ١٥٩ .

يتبع .....

****************************