وقال (عليه السلام): الْغِيبَةُ جُهْدُ الْعَاجزِ.                
وقال (عليه السلام): إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .                
وقال (عليه السلام): مَا لاِبْنِ آدَمَ وَالْفَخْرِ: أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ، وَآخِرُهُ جِيفَةٌ، و َلاَ يَرْزُقُ نَفْسَهُ، وَلاَ يَدفَعُ حَتْفَهُ.                
وقال (عليه السلام): يَهْلِكُ فِيَّ رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ مُفْرِطٌ، وَبَاهِتٌ مُفْتَر.                
وقال (عليه السلام): مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا.                
وقال (عليه السلام): اذْكُرُوا انْقِطَاعَ الَّلذَّاتِ، وَبَقَاءَ التَّبِعَاتِ.                
وقال (عليه السلام): مَا أَخَذَ اللهُ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُعَلِّمُوا.                

Search form

إرسال الی صدیق
عبقرية الجندي المجهول

زكي مبارك

أيها السادة

من طرائف ما اصطلح الناس عليه في العصر الحديث إقامة ضريح إليه المشغوفون يتقديس البطولة والأبطال ، وهوالذي يسمونه قبر الجندي المجهول، وذلك القبر يضم عظامًا لا يعرف صاحبها على التحقيق ، ولكنها في أذهان الناس رمز التضحية والإخلاص.

قد يكون ذلك الجندي أشجع الجنود ، وقد يكون أجبن الجنود، ولكنه في جميع حالاته أسعد الأموات ؛ لأن النار المقدسة تظل مشبوبة فوق قبره صباح مساء؛ ولأن قبره يظل كعبة تقدم إليها أطيب القرابين ، من الأزهار والرياحين ، فهو إن كان في حقيقة أمره من أشجع الجنود حمد الطالع السعيد الذي قضى بأن ينال حقه فيكون رمز الوقاء، وإن كان من الضعفاء الجبناء شكر الله على ستر حاله فأضافه إلى الشهداء.

وإقامة الضريح للجندي المجهول هي أعظم تعزية لأرواح الأبطال الذين جهلت أقدارهم  بعد الموت ، فكلهم يرجو أن يكون الصورة التي يتمثلها من يزور قبر الجندي المجهول ، وكلهم يرجو أن يكون له حظ من الذكرى ومن الدموع يوم يحج الناس إلى ذلك القبر في المواسم والأعياد.

ولكن حدثوني، أيها السادة ، كيف يكون شعور الروح، روح الجندي المعروف لا المهجول، حين يمر الناس على قبره فلا تلوح لهم من وجهه صورة، ولا يعترضهم من روحه مثال؟

كيف يكون شعور الروح ، روح القائد المغوار الذي يمر الناس على قبره ، فلا يذكرون كيف صارع النوائب وصاول الخطوب؟

حدثوني كيف يكون شعور ذلك الروح ، وكان في دنياه أرق من الزهر ، وأقسى من الزمان؟ ولو كان ذلك الروح يعرف أن عظامه دفنت في أرض موات لهان عليه خطب النسيان!

ولكنه يعرف أن عظامه دفنت في أرض تخرج أطيب الثمرات ، وتختال بمن يمشي فوقها من أقطاب الرجال، كيف يكون شعور ذلك الروح في تلك الأرض: الروح الذي اسمه «الشريف الرضي» في الوطن الذي اسمه «العراق»؟

ولكن مهلاً فلن ينسى الشريف الرضي بعد اليوم ، فستنشر ذكراه في جميع الأقطار العربية ، وسيذكر في أكثر اللغات الأجنبية، وسيحيا شعره على الألسنة والقلوب فيما سيأتي من الأجيال.

قد تسألون؟ وكيف تحكم على الشريف الرضي بالخمول وهو جد معروف؟

وأجيب بأن الشريف الرضي لقي في دنيا الأدب أعنف ضروب العقوق: فهو أفحل شاعر عرفته اللغة العربية ، وأعظم شاعر تنسم هواء العراق، ومع ذلك سكت عنه النقد الأدبي فلم يؤلف عنه كتاب ولا فصل جيد من كتاب ،ولو كان ديوان الشريف الرضي في لغة الفرنسيس أو الإنجليز أو الألمان لصنفت في شعره مئات المصنفات وأقيمت له عشرات التماثيل.

أليس من العجيب أن يطبع ديوان الشريف الرضي منذ ثلاثين سنة في وطن غير وطنه ، ثم لا يعاد طبعه بعد ذلك الحين؟!

أليس من العجيب أن لا يعرف قبر الشريف الرضي على التحقيق فيقام له ضريح في الكاظمية، مع أن مترجميه ينصون على أنه دفن في كربلاء؟

أليس من العجيب أن يسألنا الأستاذ علي الجارم بك المفتش الأول للغة العربية بوزارة المعارف المصرية عن المصدر الذي يرجع إليه في أبيات الشريف:

ولقد وقفت على ديارهم*****وطلولها بيد البلى نهب

فبكيت حتى ضج من لغبٍ*****نضوي ولج بعذليَ الركب

وتلفتت عيني فمذ خُفيت*****عني الطلول تلفت القلب

وأن يجزم بأنه لم يرها في ديوان الشريف مع أنها مثبتة في الديوان ، وكان ذلك دليلاً على أن الشريف منسيٌّ لا يعرف ديوانه رجل في منزلة الجارم وهو شاعر مجيد؟!

على أن هذه الأبيات لم يعرفها الأدباء؛ إلا لأنها اتصلت بحادثة وجدانية تناقلها المؤلفون ،ولولا ذلك لظلت مطمورة لا يرويها سامر ولا يتمثل بها خطيب.

قد يكون فيكم من ينكر أن يكون الشريف الرضي من الخاملين.

وأنا أيضًا أنكر ذلك الخمول.

ولكن حدثوني في أي ميدان كانت نباهة الشريف عند المؤلفين والناقدين.

لقد تكررت الإشارة إلى اسمه عند القدماء من المؤلفين بالعربية ، وعند المحدثين من المستشرقين الذين نوهوا باسمه في اللغات الأوروبية.

ولكن كيف وقع ذلك؟ لقد وقع في معرضين: الأول في التاريخ السياسي حين تحدث المؤرخون عن النضال بين الفاطميين في مصر والعباسيين في العراق، فقد حدثوا أن الشريف الرضي قال في التعريض بحكومة الخليفة القادر بالله:

ما مقامي على الهوان وعندي*****مقولٌ صارمٌ وأنف حميٌ

وإباءٌ محلقٌ بي عن الضيـ*****ـم كما راغ طائر وحشي

أيُّ عذر له إلى المجد إن ذل*****غلام في غمده المشرفيُّ

ألبس الذل في ديار الأعادي*****وبمصر الخليفة العلويُّ

من أبوه أبي ومولاه مولا*****ي إذا ضامني البعيد القصي

لفَّ عرقي بعرقه سيدا الناس*****جميعًا محمد وعليُّ

إن ذلي بذلك الجوعز*****وأوامي بذلك النقع ريُّ

قد يذل العزيز ما لم يشمر*****لانطلاق وقد يضام الأبيُّ

إن شرًّا علي إسراع عزمي*****في طلاب العلا وحظي بطيُّ

أرتضي بالأذى ولم يقف العز*****م قصورًأ ولم تعز الميُّ

تاركًا أسسرتي رجوعًا إلى حيـ*****ـث عذيري قد ورعيٌ وبيُّ

كالذي يخبط الظلام وقد أقـ*****ـمر من خلفه النهار المضيُّ

ولهذه الأبيات قصة أشار إليها ابن أبي الحديد، ولولا صلتها بالتاريخ السياسي لسكت عنها الكاتبون،  وللسبب عينه تحدث المؤرخون عن أبياته في خطاب القادر بالله:

عطفًا أمير المؤمنين فإننا*****في دوحة العلياء لا نتفرق

ما بيننا يوم الفخار تفاوت*****أبدًا كلانا في المعالي معرق

إلا الخلافة ميزتك فإنني*****أنا عاطل منها وأنت مطوق

أما المعرض الثاني الذي أثير فيه اسم الشريف الرضي، فهوالكلام عن صحة النسب ، نسب كتاب نهج البلاغة الذي جمع فيه الشريف ما أوثر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه – من الخطب والحكم والعهود ، فقد ارتاب بعض الناقدين في نسب ذلك الكتاب ورجحوا أنه من إنشاء الشريف .

والمقام لا يسمح بتحقيق هذه القضية ، وقد أشرت إليها في  كتاب  النثر الفني [١] فلا أعود إليها الآن ، وإنما كانت كذلك؛ لأن الكتاب منسوب إلى علي بن أبي طالب، وهو في جوهره يؤرخ أخطر المعارك القلمية والخطابية في العصر الإسلامي ، وتصحيحه أو تزييفه يعد من المواقف الحاسمة في ذلك التاريخ.

فتصوروا كيف يكون الحال لولم تشأ المقادير أن يقرن اسم الشريف الرضي باسم علي بن أبي طالب، تصوروا كيف كانت تحمل ذكراه، وهو كاتب مبدع لا يعرف التاريخ الأدبي له أثرًا في النثر الفني إلا حين يدعي أنه المنشىء لتلك الخطب والحكم والعهود.

كان من حظ الشريف الكاتب أن يقرن اسمه باسم علي بن أبي طالب، وإلا فحدثوني أين رسائله الطوال التي كانت تقع في ثلاثة مجلدات؟

تقولون: إن التاريخ تحامل على الشريف بسبب التشيع ، إن صح ذلك فحدثوني كيف سكت عنه أدباء مصر والشام والحجاز والمغرب والأندلس، وهم لا يعرفون العصبية ضد التشيع؟ بل حدثوني كيف سكت الشيعة أنفسهم عن رسائل ذلك الكاتب البليغ.

تقولون: أن للشريف الرضي قبة تزار بالكاظمية ؟

أهلًا وسهلًا، ولكن هل تعرفون لأي معنى يزورالناس قبته بالكاظمية؟

أعيذكم أن تقولوا: إنهم يزورونها باسم الأدب والبيان.

إنهم يزورونها لمعنى ديني صرف ، كما يزور المصريون قبة عمر بن الفارض، ولولا ما شاع وذاع من أن ابن الفارض من الأولياء لما عرف المصريون أن له ضريحًا يزار، وتلتمس به البركات وهل عرف المصريون قبر ابن هشام الأنصاري الذي رفع القاهرة مكانًا عليًّا، وجعل هامتها في النحو مساوية لهامة بغداد؟

هل عرف المصريون قبر ابن خلدون الذي يعد أشرف وأعلم من درسوا بالأزهر الشريف؟

هل عرف المصريون قبر القلقشندي الذي دان اللغة العربية بأفضل كتاب في تاريخ الإنشاء وهو«صبح الأعشى»؟

هل عرف المصريون قبر ابن منظور صاحب المعجم الباقي على الزمان، صاحب لسان العرب الذي ألفه وهو جالس على الحصير الممزق بحي الحسينية؟

وكيف تقولون: إن الشريف الرضي حمل بفضل التشيع وهو مذهب له قواعد وأصول، مع أن المجون كان من أسباب شهرة أبي نواس، ومع أن الزندقة كانت من أسباب شهرة أبي العلاء؟

أفي الحق أن الرجل لا يشتهر إلا أن أصبح على وفاق مع جميع الناس؟

أفي الحق أن الفضل وحده يسمو بالرحيل إلى أرفع الدرجات؟

إن قلتم ذلك فقد تحدثكم شواهد العصر الحاضر بضد ما تقولون، ألسنا في هذا العصر فرائس للتيارات الاجتماعية والسياسية؟

ما هي الأسباب التي قضت بشهرة محمد عبده وقاسم أمين؟

هل يعرف أحد اليوم أن محمد عبده كان في حقيقة أمره من العلماء المحققين ، الذين يدركون أسرار العلوم العقلية والنقلية؟ هيهات، إنه لا يعرف إلا بفضل نضاله الدموي في إصلاح المناهج الأزهرية والثورة العرابية ، ولو رفع هذان الحادثان من حياته لما عرف له تاريخ.

هل يفهم أحد اليوم أن قاسم أمين كان من أقطاب التشريع؟ هيهات هيات ، إنه لا يعرف إلا بفضل ثباته في الدعوة إلى السفور وحرب الحجاب.

آمنتم الآن بأن الشريف الرضي لم ينل الشهرة إلا بفضل المشكلات السياسية والدينية، ثم تسألون: ولكن كيف كُتب على الشريف الرضي أن يُرزأ في عالم الشعر بذلك الخمول؟

ونجيب بأن الأمر كان كذلك؛ لأن أدباء اللغة العربية ندر عندهم أن يكون الفن وحده هو مرجع النباهة والشهرة وبعد الصيت: فامرؤ القيس لم تكن شاعريته سبب شهرته ، ولولا انتقاله من أرض إلى أرض وموته مسمومًا في سبيل الثأر لأبيه لما ذكره الذاكرون، وطرفة بن العبد لم يسر ذكره إلا لموته قتيلًا وهو في سن العشرين ، وحسان لم يشتهر؛ إلا لأنه كان شاعر الرسول، والشاعر المقلق أبونواس لم تكن شاعريته سبب شهرته وإنما اشتهر بفضل اشتراكه وهو راغم في فتنة الأمين والمأمون، وأبو تمام لم يشتهر بفضل شاعريته؛ وإنما اشتهر لأنه سجل في شعره حادثة رجت الأرض وهي فتح عمورية ، والبحتري لم يشتهر بفضل شعره ، وإنما اشتهر؛ لأنه حضر مأساة دونها التاريخ: وهي شهوده قتل المتوكل والفتح بن خاقان، والمتنبي لم يكن شعره سبب شهرته ، وإنما اشتهر بفضل حادثتين ظاهرتين:الأولى: رحلته إلى مصر في سبيل المجد، والثانية: موته قتيلًا بالبيداء.

ولم يتفق للشريف الرضي شيء من ذلك، فقد كان يطلب الخلافة سرًّا لا علانية ، ولو تم له ما أراد من الملك لعرف الناس شاعريته وسطروا في الثناء عليه مئات التآليف، ولكنه مات ميتة عادية ، فلم يذكر الناس يوم موته إلا أنه رجل شريف ينبغي أن يدفن بجانب جده الحسين في كربلاء.

ولست بهذا أتجنّى على أسلافنا من أدباء اللغة العربية، وإنما أذكر حقائق مؤلمة كانت السبب الأصيل في انحراف الموازين.

فإن لم يكن ذلك صحيحًا فحدثوني عن المشهور من قصائد الشريف؟

أليست قصيدته في رثاء أبي إسحاق الصابي أشهر شعره؟ بلى ، هي كذلك ، فهل تعرفون أن تلك القصيدة لم تشتهر إلا بفضل ما اتصل بها من الشذوذ، إذ كانت في رجل صابئ يرثيه سيد شريف؟

فإن تخطيتهم هذه القصيدة لم تجدوا من يعرف عيون القصائد في ديوان ذلكم الشاعر العظيم.

أين من يعرف الدالية:

جري النسيم على ماء العناقيد*****وعللي بالأماني كل معمود

يا نفحة هزت الأحشاء شانقة*****فذكرت نفحات الخرد الغيد

أين من يعرف العينية:

منابت العشب لا حام ولا راع*****مضى الردى بطويل الرمح والباع

أين من يعرف اللامية:

أمل من مثانيها فهذا مقيلها*****وهذي مغاني دورهم وطلولها

ولو كان أسلافنا من أدباء اللغة العربية تستهويهم المعاني مجردة عن الحوادث الدامية لوجدوا في أشعار الشريف أوسع مجال: فسترون عنده كرائم الطيبات ، سترون أن ذلك الرجل عانى في حياته أعنف أزمات الوجدان ، سترون كيف كان الرجل يشغل أعظم وظيفة دينية وهي نقابة الأشراف، ثم يكون في الوقت نفسه أعظم شاعر يتغنى بالحب والجمال، سترون أن الشريف الرضي تفرد بوصف مواسم العيون والقلوب في الحجازيات، سترون أنه قال في الصداقة والأصدقاء ما لم يسبقه إليه سابق، وما يعسر أن يلحقه فيه لا حق، سترون أن كلمة (العلا) وكلمة (المعالي) لم يهتف بهما خاطر أشرف من ذلك الخاطر، ولم يلهج بهما لسان أفصح من ذلك اللسان، سترون أن العفاف لم يجد شاعرًا يجعله أظرف من الفسق وأعذب من المجون غير ذلك الشاعر العفيف الشريف ، سترون أن الأحباب الذاهبين لم يجدوا من يبكيهم بأندى من ذلك الدمع وأصدق من ذلك الفؤاد، سترون أن لئام الناس لم توسم جباههم وجنوبهم بميسهم أقوى وأعنف من قصائد ذلك الفاتك الصوال.

سترون أيها السادة أن الشريف الرضي كان شاعر القلب والعقل والذكاء ، سترون شاعر الإنسانية يفصح عما تعاني من شهوات وأهواء وآلام وأرزاء، وأمان وآمال.

سترون أنه يحس ما تحسون اليوم ، ويشعر بما تشعرون، مع أنه سبقكم إلى تنسم هواء العراق بنحو ألف سنة، وسيظل يشارك الناس في أحلامهم وأحقادهم آلاف السنين.

أفما كان في تلك الجوانب النفسية والذوقية والعقلية ما يلفت أنظار النقاد إلى ذلك ارجل لو كانوا يفهمون أقدار المعاني؟

ألم تكن هموم المجد في أشعار الشريف الرضي أولى بعناية النقاد من البحث عن شرقات المتنبي؟

ألم يكن الحرص على تدوين أوابده في نقد المجتمع أولى من الحرص على تدوين قصائد ابن الرومي في شتم الناس؟

ألم يكن فيهم من سمع الشريف وهو يصرخ فيقول:

أنا النضار الذي يُضنُّ به*****لوقلبتني يمين منتِقِد

ألم يكن فيهم من يدفعه التطلع إلى شكواه من طول الليل في بغداد؟ إذ يقول:

ليلي ببغداد لا أقرُّ به*****كأنني فيه ناظر الرمد

ينفر نومي كأن مقلته*****تشرج أجفانها على ضمد

أما كان فيهم من يسأل كيف ضجر الرجل من أهل بغداد؟ فقال يخاطب الثلج الذي رآه أهلها أول مرة في شهر ربيع الآخر سنة ٣٩٨:

أقول له وقد أمسى مكبًّا*****على الأٌطار يضعف أويزيد

وراءك فالخواطر باردات*****على الإحسان والأيدي جمود

وإنك لوتروم مزيد برد*****على برد لأعوزك المزيد

إن النقاد سكتوا عن ضجر الشريف من العراق ، ولكنهم لم يسكتوا عن ضجر المتنبي من مصر؛ لأن ضجر الشريف من العراق لم تشهره الحوادث، أما ضجر المتنبي من مصر فقد صحبته خطوب تحدث بها الركبان، فكان الرواة والنقاد لا يلتفون إلى الشعر إلا أن دقت من حوله الطبول.

ألا ترونهم يذكرون ما قال بشار في التعريض بخلفاء بني أمية ، ولا يذكرون ما قال الرضي في التعريض بخلفاء بني العباس؟

إنهم يذكرون أبيات بشار؛ لأنها جرت عليه القتل ، ولا يذكرون أبيات الرضي؛ لأنه خرج منها بعافية، وإلا فأي شعر أخطر من شعره وهويقول في التعريض بخلفاء بني العباس:

أما تحرك للأقدار نابضة*****أما يغير سلطان ولا ملك

قد هادن الدهر حتى لا قراع له*****وأطرق الخطب حتى ما به حرك

كل يفوت الرزايا أن يقعن به*****أما لأيدي المنايا فيهم درك

قد قصر الدهر عجزًا عن لحاقهم*****فأين أين ذميل الدهر والرتك [٢]

أخلت السبعة العليا طرائقها؟*****أم أخطأت نهجها أم سمر الفلك؟

لقد غفل النقاد عن المعاني الإنسانية والشخصية في أشعار الشريف الرضي، ولم يتحدثوا عن عيون القصائد في ديوان ذلك الشاعر القلل النظائر والأشباه، فهل ترونهم قيدوا ما في أشعاره من الحكم والأمثال؟ هل سمعتم أن أديبًا جاد من وقته بأسبوعين أوثلاثة أسابيع في الغوص على ما في ديوان الشريف من اللؤلؤ المكنون؟

أعيذكم أن تظنوا أن ذلك الشاعر خلا ديوانه من الأبيات النوادر التي تفصح عن بصره بخلائق المجتمع وسرائر الناس ، فقد أستطيع أن أجزم بأنه في هذه الناحية أشعر من المتنبي؛ لأن المتنبي كان يقصد إلى الحكمة قصدًا، ويتعمدها وهومتكلف، أما الرضي فكانت الحكمة تسبق إلى خاطره من فيض السجية والطبع، فيرسلها عفوًا بلا تصنع ولا اعتساف.

ما رأيكم في هذا البيت:

إذا قلَّ مالي قلَّ صحبي وإن نما*****فلي من جميع الناس أهل ومرحب

وهذا البيت:

يغر الفتى ما طال من حبل عمره*****وترخي المنايا برهة ثم تجذب

وهذا البيت:

وآمل أن تقي الأيام نفسي*****وفي جنبي لها ظفر وناب

وهذا البيت:

تفدي الفتى في عيشه ألسنٌ*****وما له من حتفه فاد

وهذا البيت:

كل حبس يهون عند الليالي*****بعد حبس الأرواح في الأجساد

وهذا البيت:

علامة العز أن حسدت به*****إن المعالي قرائن الحسد

وهذا البيت:

ينال الفتى من دهره قدر نفسه*****وتأتي على قدر الرجال المكايد [٣]

وهذا البيت:

يعرفك الاخوان كل بنفسه*****وخير أخ من عرَّفتك الشدائد

وهذا البيت:

ليس الغريب الذي تنأى الديار به*****إن الغريب قريب غير مودود

وهذا البيت:

ما الفقر عار وإن كشفتَ عورته*****وإنما العار مال غير محمود

وهذا البيت:

إذا بزني مالي عطاء تركته*****حميدًا وطالبت القواضب بالرد [٤]

وهذا البيت:

إذا الشمس غاضت كل عين صحيحة*****فكيف بها في هذه المقل الرُّمدِ

وهذا البيت:

كل جواد كاذب في الوعد*****وكل خل خائن في الود

وهذا البيت:

واهًا لنفس حُبست في جلدي*****إن الأسير غرض بالقد [٥]

وهذا البيت:

وعتاب الزمان مثل عتاب الـ*****ـعين تنهَى ودمعها بازدياد

وهذا البيت:

وما هذه الدنيا لنا بمطيعة*****وليس لخلق من مداراتها بد

وهذا البيت:

والمال أهون مطلبًا من أن أرى*****ضرعًا أرامي دونه وأداري

وهذا البيت:

نالوا على قدر الرجاء وإنما*****يروَى على قدر الأوام الصدي

وهذا البيت:

ما أنصف الفاسق في لحظه*****لما أرانا عفة العابد

وهذا البيت:

كنت أداوي كبدي*****لوتركوا لي كبدا  [٦]   

وهذا البيت:

وإن حديث النفس بالشيء دونه*****رمال النقا من عالج لشديد

وهذا البيت:

وجدوا وما جادوا ومحتقب*****للوم من أثرى ولم يجد

وهذا البيت:

أما كان فيكم مجملٌ أومجاملٌ*****إذا لم يكن فيكم أغر جواد

وهذا البيت:

ما مقامي على الجداول أرجو*****ها لِنَيْلِ وقد رأيت البحارا   [٧]

وهذا البيت:

إذا قيد الليل خطوالمنى*****مشى النوم مقلة الساهر

وهذا البيت:

لحا الله دهرًا كثير العدو*****حتى الظلام يعادي النهارا

وهذا البيت:

وكيف يتم في بلد صلاة*****وجل بقاعه قبل الفجور

وهذا البيت:

وما فخر العفيف الجسـ*****ـم إن فسقت سرائره

وهذا البيت:

من يعشق العز لا يرنو لغانية*****في رونق الصفوما يغني عن الكدر

وهذا البيت:

والليث لا ترهب الأقران طلعته*****حتى يصمم منه الناب والظفر

وهذا البيت:

ما كل نسل الفتى تزكو مغارسه*****قد يفجع العود بالأوراق والثمر

وهذا البيت:

كم حاطب خانه حبل فأقعصه***** ذلًّا وشر احبال الحية الذكر

وهذا البيت:

سالم تصاريف الزمان فمن يَرٌم*****حرب الزمان يعد قليل الناصر

وهذا البيت:

لو كان حفظ النفس ينفعنا*****كان الطبيب أحق بالعمر

وهذا البيت:

كل يوم نذم للدهر عهدًا*****خان فيه ونشتكي منه غدرًا

وهذا البيت:

إنما المرء كالقضيب تراه*****يكتسي الأخضر الرطيب ليعرى

وهذا البيت:

إذا تناءت بنا قلوب*****فلا تدانت بنا ديار

وهذا البيت:

ومن قيد الألفاظ عند نزاعها*****بقيد النهى أغنته عن طلب العذر

وهذا البيت:

والحر تنهضه إما شجاعته*****إلى المل وإما خشية العار

وهذا البيت:

وهل نافعي يوم أقضي صدى*****إذا صاب وادي قومي المطر  [٨]

وهذا البيت:

وليس كل ظلام دام غيهبه*****يسر خابطه أن يطلع القمر

وهذا البيت:

ما كل مثمرة تحلولذائقها*****إن السياط لها من مثلها ثمر [٩]

وهذا البيت:

وهبك اتقيت السهم من حيث يُتقى*****فمن لِيَدِ ترميك من حيث لا تدري

وهذين البيتين:

يقولون: نم في هدأة الدهر آمنًا*****فقلت:ومن لي أن يهادنني الدهر؟

هل الحرب إلا ما ترون نقيضة*****من العمر أوعدم من المال أوعسر

وهذا البيت:

وهل نافع يومًا وجدك راجل*****إذا قيل يوم الروع: إنك فارس؟

وهذين البيتين:

إن زدتهم فلقد نقصتهم*****إن الزيادة بالشغا نقص [١٠]

ومن المخازي عند لابسها*****ما لا تواري الأزر والقمصُ

وهذا البيت:

يقدم الباسل الأبي على الحيف*****وفيه الهوان نكوص

وهذا البيت:

وكيف وفور العرض والمال وافر*****ومن يخزن الأموال ينفق من العرض

وهذا البيت:

والسيف إن مر على هامة*****زوَّعها إن هولم يقطع

وهذا البيت:

ألا إن رمحًا لا يصول لنبعة*****وإن حسامًا لا يقدُّ قطيع  [١١]

وهذا البيت:

وبعض مقال القائلين مكذب*****وبعض وداد الأقربين خدوع

وهذا البيت:

ما لبث من يمسي مجازًا للردى*****ومعرج القدر المغذِّ المسرع

وهذا البيت:

راى بارقًا لم يروني وهو حاضر*****فكيف أرجي ريَّه وهو شاسع

وهذين البيتين:

الناس حولك غربان على جيف*****بُلْهٌ عن المجد إن طاروا وإن وقعوا

فما لنا فيهم إن أقبلوا طمع*****ولا عليهم إذا ما أدبروا جزع

وهذين البيتين:

يقولون: ماش الدهر من حيث ما مشى*****فكيف بماش يستقيم وأظلع؟

وما واثق بالدهر إلا كراقد*****على فضل ثوب الظل والظل يسرع

وهذا البيت:

لقد عاف أمواله من يجود*****وقد طلق النفس من يشجع

وهذا البيت:

بالجد لا بالمساعي يبلغ الشرف*****تمشي الجدود بأقوام وإن وقفوا

وهذا البيت:

ومن يشرب بصاف غير رنق*****يرد يومًا برنق غير صافي

وهذا البيت:

كأن الليالي كن آلين حلفة*****بأن لا يرى فيهن شمل مؤلف

وهذا البيت:

كيف يرجوالكثير من راضه الشو*****ق إلى أن رضي ببذل الطفيف

وهذا البيت:

وضيوف الهموم مذ كنَّ لا ينـ*****ـزلن إلا على العظيم الشريف

وهذا البيت:

والحظوظ البلهاء من ذي الليالي*****أنكحت بنت عامر من ثقيف  [١٢]

وهذا البيت:

إنما نلبس الدروع ثقالًا*****لرجوع إلى خفاف الشفوف

وهذا البيت:

إذا أنت فتشت القلوب وجدتها*****قلوب الأعادي في جسوم الأصادق

وهذا البيت:

وما جمعي الأموال إلا غنيمة*****لمن عاش بعدي واتهام لرازقي [١٣]

وهذا البيت:

كم لسان دنا إليك بقلب منافق

وهذا البيت:

ولا دار إلا سوف يجلي قطينها*****على نعق غربان الخطوب النواعق

وهذا البيت:

وما العيش إلا غمة وارتياحة*****ومفترق بعد الدنو وملتقى

وهذا البيت:

أراك تجزع للقوم الذين مضوا*****فهل أمنت على القوم الذين بقوا؟

وهذا البيت:

وإذا الحليم رمى بسر صديقه*****عمدًا فأولى بالوداد الأحمق

وهذا البيت:

كفى بقوم هجاء أن مادحهم*****يهدي الثناء إلى أعراضهم فرقا

وهذا البيت:

سابق فليس تنال أغـ*****ـراض المُنى  إلا  سباقًا

وهذا البيت:

وليس ينال الأمر إلا بحازم*****من القوم أحمى ميسمًا ثم ألصقا

وهذا البيت:

ولا تزرعوا القتاد فإنكم*****جديرون أن تدموا به وتشاكوا

وهذا البيت:

أبتغي عدل زمان قاسط [١٤]*****إنما الناس على دين الملك

وهذا البيت:

وللنفس عمن عجز الفتى وزماعه*****زمام إلى ما يشتهي وعقال

وهذا البيت:

ولا تسمعن من حاسد ما يقوله*****فأكثر أقوال العداة محال  [١٥]

وهذا البيت:

وليس يأتلف الإحسان في ملك*****حتى يؤلف بين القول والعمل

وهذا البيت:

كل حبيب أبدًا*****أيامه قلائل

وهذا البيت:

ومن دواء الداء إن*****ماطل كيٌّ عاجلُ

وهذا البيت:

وما طلب البذل من باخل*****بميسوره غير داء عضال

وهذا البيت:

وإن طراد النفس عما ترومه*****أشد عناء من طراد قبيل [١٦]

وهذا البيت:

وأول لؤم المرء لؤم أصوله*****وأول غدر المرء غدر خليل

وهذا البيت:

ألا إنما الدنيا إذا ما نظرتها*****بقلبك أم للبنين أكول [١٧]

وهذا البيت:

وإني رأيت غني الأنام*****إذا لم يكن ذا علاء مقلًّا

وهذا البيت:

النفس أدنى عدوأنت حاذره*****والقلب أعظم ما يبلى به الرجل

وهذه الأبيات:

عادة الزمان في كل يوم *****يتناءى خل وتبكي طلول

فالليالي عون عليك مع البيـ*****ـن كما ساعد الذوابل طول

هي دنيا إن واصلت ذا جفت هـ*****ـذا ملالًا كأنها عطبول

كل باك يبكى عليه وإن طا*****ل بقاء والثاكل المثكول

وهذا البيت:

نؤمل أن نروي من العيش والردى*****شروب لأعمار الرجال أكولُ

وهذا البيت:

وموت الفتى خير له من حياته*****إذا جاور الأيام وهو ذليل

وهذا البيت:

ومن مات لم يعلم وقد عانق الثرى*****بكاه خليل أم سلاه خليل

وهذا البيت:

نغالب ثم تغلبنا الليالي*****وكم يبقى الرمي على النبال

وهذا البيت:

سلي عن العيش أنَّا لا ندوم له*****وهوَّن الموت ما نلقى من العلل

وهذا البيت:

هل نافع نفسك أذللتها*****كرامة البيت وعز القبيل

وهذا البيت:

وسيان عندي من طواني على جوى*****يعذب قلبي أوطواني على دخل

وهذا البيت:

وكل فتى لا يطلب المجد أعزل*****وكل عزيز لا يجود ذليل

وهذا البيت:

وما المكرهون السمهرية في الطلى*****بأشجع ممن يكره المال في البذل

وهذه الأبيات:

اشتر العز بما بيـ*****ـع فما العز بغال

بالقصار الصفر إن شئـ*****ـت أوالسمر الطوال

ليس بالمغبون عقلًا*****من شرى عزًّا بمال

إنما يدخر الما*****ل لحاجات الرجل

والفتى من جعل الأمـ*****ـوال أثمان المعالي

وهذا البيت:

إذا ما نفع الجهل*****فإن الضائر العقل

وهذا البيت:

وما شرر تطاوح عن زناد*****بمفتقد إذا بقي الضرام [١٨]

وهذا البيت:

وكيف نوم المرء من تحته*****دون الكرى مضطرب الأرقم

وهذا البيت:

إذا العضو لم يؤلمك إلا قطعته*****على مضض لم تبق لحمًا ولا دمًا

وهذا البيت:

كالغيث يخلفه وبعضهم*****كالنار يخلفها الرماد المظلم

وهذا البيت:

أهبوا فقد تتيقظ*****الأجداد للقوم النيام

وهذا البيت:

ما الذنب للمزن جازتني مواطره*****وإنما الذنب للأرزاق والقسم

وهذا البيت:

إن من خاضت النواظر فيه*****لحر أن تخوضه الأقدام

وهذا البيت:

وما الليث من يُدلُّ بنفسه*****ويمضي إذا ما بادهته العظائم

وهذا البيت:

لا تصفحن عن المليم إذا جنى*****وإذا المضارب أمكنتك فصمِّم

وهذا البيت:

لا يذخر الضيغم من قوته*****ما يذخر النمل من المطعم

وهذا البيت:

قد يبلغ الرجل الجبان بما له*****ما ليس يبلغه الشجاع المعدم

وهذا البيت:

وقد يقدع المرء وإن كان ابن عم*****ويقطع العضوالكريم للألم

وهذا البيت:

وما كل ليث يغنم القوم زاده*****إذا خفقت تحت الظلام الضراغم

وهذا البيت:

تمضي الزمان ولا نحس كأنه*****ريح تمر ولا يشم نسيمها

وهذا البيت:

كم ذاهب أبكى النواظر مدة*****ومضى وطاب لمقلة تهويمها [١٩]

وهذا البيت:

ونلقى قبل لقيان المنايا*****رماح الداء تطعن في الجسوم

وهذا البيت:

فليت كريم قوم نال عرضي*****ولم يدنس بحمد [٢٠] من لئيم

وهذا البيت:

تملي المقادر أعمارًا وننسخها*****ويضرب الدهر أيامًا بأيام

وهذا البيت:

نصف عيش المرء نوم والذي*****يعقل العاقل منه كالحلم

وهذين البيتين:

والحر من حذوالهوا*****ن يزايل الأمر الجسيما

والضم أروح منه مط*****ـرور الظبا بلغ الصميما [٢١]

وهذا البيت:

وخاطر على الجلي خطار ابن حرة*****وإن زاحم الأمر العظيم فزاحم [٢٢]

وهذا البيت:

لا تصحبن دهرك إلا خائفًا*****فراق إلف ونبوا عن وطن

وهذين البيتين:

ومنظر كان بالسراء يضحكني*****يا قرب ما عاد بالضراء يبكيني

هيهات أغتر بالسلطان ثانية*****قد ضل ولاج أبواب السلاطين

وهذا البيت:

لا تأمنن عدوًّا لان جانبه*****خشونة الصل عقبى ذلك اللين

وهذا البيت:

لا تخلدن إلى أرض تهون بها*****بالدار دار وبالجيران جيران

وهذا البيت:

إذا الفتى كان في أفعاله شوه*****لم يغن أن قيل: إن الوجه حسان

وهذا البيت:

يا قوم إن طويل الحلم مفسدة*****وربما ضرب إبقاء وإحسان

وهذا البيت:

ما ينفع الماضين أن بقيت لهم*****خطط معمرة بعمر فان

وهذا البيت:

وما خير عين خبا نورها*****ويمنى يد جذ منها البنان

وهذا البيت:

وما كل أصل كريم العرو*****ق تأبى على الغمز عيدانه

وهذا البيت:

إذا منزل راب سكانه*****من الأرض حرم إيطانه

وهذا البيت:

وما الحب إلا فرقة بعد ألفة*****وإلا حذار بعد طول أمان

وهذا البيت:

إذا المرء لم يحفظ ذمامًا لقومه*****فأحج به أن لا يفي بضمان

وهذا البيت:

تعرفني بأنفسها الليالي*****وآنف أن أعرفها مكاني

وهذه الأبيات:

فكم صاحب تدمى علي بنانه*****ويظهر أن العز لثم بناني

يضم حشا البغضاء عند تغيبي*****ويجلوجبين الود حين يراني

مسحت بحلمي ضغنه عن جنانه*****فلما أبى مسحته بسناني

سبقت برميي قلبه فأصبته*****ولولم أصبه عاجلًا لرماني

وهذين البيتين:

أشكو النوائب ثم أشكر فعلها*****لعظيم ما ألقى من الخلان

وإذا أمنت من الزمان فلا تكن*****إلا على حذر من الإخوان

وهذا البيت:

وما تنفع المرء الشمال وحيدة*****إذا فارقتها بامنون يمين

وهذا البيت:

وسمعت أيامي ولم تسعني*****أفضل عنها وتضيق عني

وهذا البيت:

وليس على زهر الكواكب سبة*****إذا غض من أنوارها زبرقانها  [٢٣]

وهذا البيت:

أكرر في الإخوان عينًا صحيحة*****على أعين مرضى من الشنئان [٢٤]

وهذا البيت:

لا تجعلن دليل المرء صورته*****كم مخبر سمج عن منظر حسن

وهذا البيت:

ورب وفاح الوجه يحمل كفه*****أنامل لم يعرق بهن عنان

وهذين البيتين:

وشر الأذى ما جاء من غير حسبة*****وكيد المبادي دون كيد المداهن

وإن بلوغ الخوف من قلب خائف*****لدون بلوغ الخوف من قلب آمن

وهذين البيتين:

قصور الجد مع طول المساعي*****وقول السنا: لم ينجح فلان

أحب إلى من سعي هجين*****وإن بلغ العلا جد هجان [٢٥]

وهذين البيتين:

ومن عجب صدود الحظ عنا*****إلى المتعممين على الخزايا

أسف بمن يطير إلى المعالي*****وطار بمن يسف إلى الدنايا

وهذين البيتين:

وتفرق البعداء بعد مودة*****صعب فكيف تفرق القرباء

وخلائق الدنيا خلائق مومس*****للمنع آونة وللأعطاء

وهذا البيت:

إذا ما الحر أجدب في زمان*****فعفته له زاد وماء

وهذا البيت:

هيهات يا دنيا وبرقك صادق*****أرجو، فكيف إذًا وبرقك كاذب

وهذا البيت:

وأعظم ما ألاقي أن دهري*****يعد محاسني لي من ذنوبي

وهذا البيت:

وللحلم أوقات وللجهل مثلها*****ولكن أوقاتي إلى الحلم أقرب

وهذين البيتين:

تجاذبني يد الأيام نفسي*****ويوشك أن يكون لها الغلاب

وتغدر بي الأقارب والأداني*****فلا عجب إذا غدر الصحاب

وهذين البيتين:

فما لي طول الدهر أمشي كأنني*****لفضلي في هذا الزمان غريب

إذا قلت:قد علقت كفي بصاحب*****تعود عوادٍ بيننا وخطوب

فما رأيكم فيما سمعتم يا أدباء بغداد!

ألا ترون أن الثروة الشعرية كانت خليقة بعناية الدارسين والناقدين؟ ألا ترون أن الشريف كان أهلاُ لأن يتعقبه أحد النقاد فيدرس ما في شعره من الحكم والأمثال، ثم يبين ما فيها من المبتكر والمنقول؟ أما كان أهلًا لأن يشغل به النقاد فيقولون: إنه ابتكر كَيْت أوسرق زَيْت؟

لقد رأيناهم يتعقبون المتنبي فيردون حكمه وأمثاله إلى الأدب المأثور عن قدماء اليونان، فما بالهم سكتُوا عن الرضي ذلك السكوت؟

أتريدون الحق أيها الأدباء؟ الحق أن النقاد شغلوا أنفسهم بالمتنبي طاعة لبعض الرؤساء، ولم يشغلوا أنفسهم به حبًّا في الوقوف على أصائل المعاني. إن حقد الصاحب

بن عباد على المتنبي هو الذي وجَّه الشعراء إلى نقد شعره، وكان ذلك النقدر على ما فيه من ظلام الهوى والغرض أساس الشهرة التي تمتع بها المتنبي في الحياة وبعد الممات ، ولولا التحامل على التنبي في الحياة وعبد الممات ، ولولا التحامل على المتنبي لما وجد له أنصار يرفعون اسمه فوق الأسماء.

وقد حرم الشريف الرضي أسباب الشهرة من هذه الناحية ، فقد حمله التجمل والتعفف على هجر أبواب الملوك والوزراء ، فلم يكن يمدح حين  يمدح إلا عن حب أو مداراة ، ولم يره أحد يزاحم الشعراء والأدباء على أبواب السلاطين فكان من أثر ذلك أن قل حاسدوه والحاقدون عليه ، فلم يشق في ثلبه قلم ولا لسان، ولم يكن الأدب في تلك العصور يعرف الحياة إلا بفضل المماراة والضجيج.

أفلا ترون معي أيها السادة، أن الأدب كان حظه حظ التاريخ لا يُرفع فيه علم إلا بفضل الدماء؟

لقد ولي مصر في العهد الإسلامي كثير من المتحكمين، وكان كافور أقربهم إلى الأذهان؛ لأنه أزال الغشاوة عن أماني المتنبي، وتولى الوزارة في بغداد كثير من الرجال ، وكان أقربهم إلى الأذهان أقطاب البرامكة؛لأن سلطانهم ختم بالفجائع.

فيا ليت شعري متى يجيء العهد الذهبي الذي تسمو فيه الآراء بفضل ما فيها من قوة الصدق، لا بفضل من يحرسها من الجنود.

إن هذه البلية لا تزال تسيطر على العقول والأذواق، ففي عصرنا الحاضر نجد لأهل الأدب وسائل وأساليب لا تعرف المنطق ولا العدل،، وتلك الوسائل والأساليب ستصنع في الأدب الحديث أمثال ما صنعت الأساليب القديمة في الأدب القديم، وقد شكا النقاد في فرنسا هذه البلية ، إذ تبين لهم أن الكتاب والنقاد انقسموا إلى جماعات تتقارض التلطف والثناء، وهم يسمون ذلك بالكمارادري Camaraderie وتلك الكمارادري معروفة في مصر، ولعلها أيضًا معروفة في الشام والعراق.

وقد شكوت هذه البلية ، واتفق لي أن أكون من ضحاياها في كثير من الأحيان، وما شكوته أنا شكاه سواي ، فالنقاد اليوم يعرفون أصدقاءهم قبل سائر الناس، والجرائد والمجلات قد تعامل الكتاب والشعراء والمؤلفين وفقًأ لصلاتهم بمختلف الأحزاب.

أما بعد فقد بينت لكم بعض الأسباب التي قضت على الشريف الرضي بالخمول ، فهل تحبون أن أحدثكم كيف عرفت ذلك الشاعر العظيم؟

لا تظنوا أني تلقيت الإعجاب  به عن الأساتذة والأدباء، فقد كان أهل الأدب في عهد حداثتي  لا يختلفون إلا حول أبي تمام والبحتري والمتنبي من بين القدماء، وشوقي وحافظ من المحدثين ، ثم اتفق أن شرعت في سنة ١٩١٧ أؤلف كتاب «مدامع العشاق» فحملني ذلك على استقراء المأثور من الشعر الوجداني في مختلف العصور، وكانت فرصة ذهبية عرفت فيها الشريف الرضي شاعرالقلب والوجدان.

ومنذ ذلك اليوم وأنا أحدث الناس عن القائد المعروف لا الجندي المجهول، حتى أصبح له في مصر أشياع يقدمونه على سائر الشعراء وأصبحتم تسمعون رنين شعره من حنجرة «أم كلثوم».

وها نحن أولاء نعود فندعوأهل بغداد إلى إحياء ذكراه، ها نحن أولاء نعود فنتحدث عنه في المدينة السحرية التي عرف فيها كيف تندي الأزهار، وكيف تقعقع الرعود، وكيف تصطخب القلوب.

ها نحن أولاء نتحدث عنه في خشوع وقنوت، كما يتحدث المؤمن وهو في حرم المحراب.

فيا أيها الشريف: أنا في وطنك وفي ضيافتك، فارفع الحجب عن أسرار قلبك وسرائر عبقريتك، في إلى فهم روحك ظمأ لا ترويه دجلة، ولا يرويه النيل. وسلام عليك بين المصطفين الأبرار من أقطاب الشعراء...

-------------------------------------------------------------------------------
[١] . ج١ ص٩٦ و أشرت إليها بعد ذلك في كتاب (وحي بغداد) ص ٢٤٦ و ٢٤٧.
[٢] . الذميل: السير، والرتك: تقارب الخطر.
[٣] . في هذا البيت معنى يغاير قول المتنبي: على قدر أهل العزم تأتي العزائم*****وتأتي على قدر الكرام المكارم
[٤] . القواضب: السيوف القواطع.
[٥] . الغرض – بكسر الراء – المتضجر، والقد بالكسر: القيد.
[٦] . وقد رأيته في قصة غرامية فهل يكون ورد في شعر الشريف عن طريق الاقتباس؟
[٧] . وهو ينظر إلى قول المتنبي: ومن قصد البحر استقل السواقيا.
[٨] . هذا البيت ينظر إلى قول أبي فراس الحمداني: معللتي بالوصل و الموت دونه*****إذا مت ظمآنًا فلا نزل القطر
[٩] . اثمر: هنا هو العقد في أطراف السوط ، المراد أن من الثمار ما تعافه النفس و منها ما يجر إلى الهلاك.
[١٠] . الحكمة في الشطر الثاني. وللشريف شطرات كثيرة تجري مجرى الأمثال، ولكنا سكتنا عنها تجنبًا للإسهاب، فليراجعها في ديوانه من يشاء.
[١١] . القطيع: السوط.
[١٢] . لما ظهر ديوان زكي مبارك اعترض أدباء العراق على هذا البيت: لم تنسني فتنة الدنيا زينتها*****وما في شمائلك الغراء من فتن
وقالوا : لا توصف الشمائل بأنها غراء، و إنما توصف بأنها غر، وأطالوا الجدل في مجلة (أبواللو)، واشترك الأب أنستاس في الجدل ، وعارضنا معارضة طويلة في منزل الدكتور بشر فارس، والآن نرى الشريف يصف الحظوظ بأنها بلهاء لأبله، فلينقل العراقيون المعركة إلى شاعر العراق.
[١٣] . في الديوان «اتهامًا» بالنصب و هو تحريف و يظهر أن مصحح الديوان ظن أن خبر «ما» منصوب. و هو كذلك في غير هذا الموضع.
[١٤] . القاسط: الجائر.
[١٥] . المحال – بكسر الميم – المكر و الدهاء.
[١٦] . في الديوان (قتيل) وهو تحريف.
[١٧] . في الديوان (ثكول).
[١٨] . تأكل روعة الخيال في هذا البيت.
[١٩] . التهويم: النوم القليل.
[٢٠] . في الديوان (بذم) والذي أثبتنا أقوى من الوجهة الشعرية.
[٢١] . المطرور: المحدد، و الظبا: جمع ظبة وهي حد السيف أو السنان.
[٢٢] . الجلي: الأمر العظيم.
[٢٣] . الزبرهان: القمر.
[٢٤] . الشنئان: البغض.
[٢٥] . الهجين: اللئيم، و الهجان: الكريم ،والمراد: أن الخيبة مع السعي النبيل أشرف من الفوز مع السعي الخسيس ، فليست القيمة بالحظوظ، وإنما القيمة بصدق الجهاد . وهذا معنى نفيس لا يخطر على بال شاعر إلا إن كان في مثل هذا الشريف.

مقتبس من كتاب عبقرية الشريف الرضي – زكي مبارك

****************************