وقال (عليه السلام): الغِنَى والْفَقْرُ بَعْدَ الْعَرْضِ عَلَى اللهِ.                
وقال (عليه السلام): اذْكُرُوا انْقِطَاعَ الَّلذَّاتِ، وَبَقَاءَ التَّبِعَاتِ.                
وقال (عليه السلام): رُبَّ مَفْتُون بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِ.                
وقال (عليه السلام): إِذَا وَصَلَتْ إِليْكُمْ أَطْرَافُ النِّعَمِ فَلاَ تُنْفِرُوا أَقْصَاهَا بِقِلَّةِ الشُّكْرِ .                
وقال (عليه السلام): إذَا كَانَ في رَجُل خَلَّةٌ رَائِعَةٌ فَانْتَظِرْ أَخَوَاتِهَا.                
وقال (عليه السلام): إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .                
وقال (عليه السلام): أَشَدُّ الذُّنُوبِ مَا اسْتَخَفَّ بِهِ صَاحِبُهُ.                

Search form

إرسال الی صدیق
عناصر القياس وتفاعلات النص دراسة في أقيسة الخطاب (الخطبة الغراء أنموذجا) – الأول

المدرس المساعد : إسلام فاروق عيسى

الكلية الاسلامية الجامعة – النجف الاشرف

المقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد :

فإن البحث يرصد جوانب من التفوق في نص الخطبة الغراء للامام علي بن ابي طالب عليه السلام وقد حاول الوقوف عند ارهاصاته الابداعية التي عبرت حدود المعهود من النصوص المقروءة .

انضوت الدراسة على تطبيق أقسام القياس المنطقي , البرهان ، والجدل ، والخطابة ، والشعر ، والمغالطة ) بوصفها عناصر معيارية تقاس بها جودة النص والبحث امتداد لنصوص سبقته كان أولها اطروحة ( بنية النص القراني ) للدكتورة ابتسام المدني تلتها رسالة مستويات العدول والتخييل في شعرابي والبحتري) للباحثة وهي جزء من متطلبات نيل درجة الماجستير في النقد الأدبي .

إن البحث يحاول تجاوز النمطية التي ما انفكت تطحن النتاجات النقدية برحى واحدة ، وتدور في اطار واحد يخضع للدراسات الغربية .

إن البحث لا يرمي الى اقصاء الحداثة أو نفي أهمية النقد الحديث بل هو يجرب الخوض في مضمار التطبيق بدلا من اللهاث خلف الدراسات التنظيرية ، وما أحوجنا إلى مثله لإنقاذ ما تبقى من ذاكرتنا المسلوبة وتراثنا المهمل .

قسم البحث على عناوين تعبر عن عناوين الخطبة الغراء للامام علي (ع) وهي صفات الله ، والوصية بالتقوى ،والتنفير من الدنيا ،والتذكير بضروب النعم ،ثم صفة خلق الانسان تلا ذلك نتائج البحث وقائمة المصادر .

وأخيرا فإن هذا البحث لا يعدو كونه محاولة أرجو أن تحقق شيئا من الفائدة .

إسلام فاروق عيسى

تمهيد

لا شك ان اي دراسة في هذا العالم ، مهما حاول القائمون عليها من استيفاء عناصر الابداع والتميز ،تظل عاجزة قاصرة وهي في حضرة جهبذ البلاغة والفصاحة ، يعسوب الحكمة والمنطق ، برهان العقول  والحجة التي تفتأ افحام المجادلين ، بمصاديق الاستدلال ، وعيون الاذعان ،اميرالمؤمنين ووصي رسول رب العالمين علي بن ابي طالب ((عليه السلام )) .

وقد حاولت هذه الدراسة القاء الضوء على مساحة من مساحات الابداع العقلي في نهج البلاغة متمثلة بالخطبة ((الغراء )) او الخطبة ((العجيبة)) كما يسميها البعض .

ولما كانت الدراسات النقدية والبلاغية قد انصهرت في بوتقة الدراسات والمناهج الغربية ، اصبحت الحاجة ملحة الى استقراء دراسات وبحوث مختلفة ، مع الاعتراف والتاكيد على اهمية تلك الدراسات بوصفها رؤًى آتت أكلها وأغنت الادب والنقد العربي .

وحريٌ بنا ان نذكر ان المناهج النقدية الحديثة قد تعددت، وتبعاً لذلك فقد تعددت أساليب (تحليل الخطاب الأدبي) بتعدد هذه المناهج التي تختلف في منطلقاتها ومفاهيمها ومصطلحاتها.‏

وإذا كانت (البنيوية) قد انطلقت في النصف الثاني من القرن العشرين فملأت الدنيا وشغلت الناس، فإنها بدأت بالتراجع منذ إضرابات الطلاب الراديكالية في فرنسا عام ١٩٦٨، مما جعل البنيويين يعيدون النظر في مواقفهم ومنهجهم الذي خرجت من رحمه مناهج نقدية عديدة كالأسلوبية، والسيميائية، والتفكيكية، فضلا عن  الألسنية، التي هي عماد هذه المناهج النقدية جميعاً.‏

بيد أن كثيراً من نقادنا آمن فيما بعد، بالبنيوية، وبغيرها من المذاهب النقدية الحداثوية الوافدة، فاعتمدها في عمله النقدي، في تحليل النصوص الشعرية والسردية وقد عمد الكثير من نقادنا الى المزاوجة ، في ممارساتهم النقدية، بين أكثر من منهج نقدي، كما فعل الغذامي في جمعه بين البنيوية والتشريحية، وكمال أبو ديب في جمعه بين البنيوية والتفكيكية، وعبد الملك مرتاض في جمعه بين البنيوية والتقليدية.‏ [١]

وترهص دراسة الخطبة ((الغراء)) على وفق القياس المنطقي ، لمعطى نقدي يحاول النهوض بآلية جديدة في تحليل النص ، في ضوء الصناعات الخمس بإجراء أقسامها  المتمثلة بـ : البرهان ، والجدل ، والخطابة ، والشعر والمغالطة ، بوصفها معايير نقدية ، يخضع لأقيستها النص الادبي ، ليكشف عن قضاياها ونتائجها .

فيمكن رصد آراء الفلاسفة المسلمين في الصناعات منهجا ، لتحليل النصوص ولاسيما الأدبية منها ، وبذلك يفتح باب واسع لدراسة التراث الأدبي العربي  . [٢]

وقد أصلت الدكتورة المدني  لهذا المنهج ، فاعتمدت الاستدلال المنطقي في تحليل بنية النص القراني ، وكان القياس احد مباحثها ، وأشارت خلاصة بحثها الى امكانية تطبيق تلك الاسس على النصوص الادبية المختلفة ، فكلما زادت المضامين التخييلية كان النص الى الشعر اقرب ، حيث يمثل التخييل وغايته الاذعان جوهر الشعر في راي المناطقة ، وكلما ازدادت فيه المضامين التصديقية كان الى البرهان اقرب .

كما أكدت الدكتورة المدني على تأصيل مصطلح العدول في الاشارة الى التراكيب التي تخرج عن وضعها الراتب بوصفه الاكثر دقة في التعبيرعن تلك التراكيب  من كلمة مجاز التي تشير الى احد اقسام البلاغة [٣] .

وقد افدت من هذا المنهج في دراسة الشعر ، ضمن رسالتي : مستويات العدول والتخييل في امثلة من شعر ابي تمام والبحتري – دراسة اجرائية في ضوء الصناعات الخمس -  وخلصت الى امكانية توظيف الصناعات في نقد النصوص الشعرية .  فليس الشعر بالوزن والقافية وحسب ، بل بما يحمل من تخييلات تؤثر في المتلقي ، فتذعن له النفس.

  يمتاز النص في الخطبة الغراء ، بألفاظه الفصيحة ، ومعانيه العميقة ، التي يحس القارئ معها انه يسبر في أغوار من عوالم شتى ، تموج بألوان البلاغة وفنون القول المعبرة عن حقائق كونية وخلقية واخرى تخييلية تشد الاذهان الى لوحات لا ترسمها الا عبقرية فذة ونظرة في تلك الاقوال تحيل على تراكيب من نوع فريد ، تستشعر فرادتها في تعالقاتها العجيبة ومدلولاتها المتناغمة مع قضاياها . وبما ان النظم يخضع لقواعد فان خروجه عنها يعد تعقيدا  [٤].

ومن ذلك المجاز فهو : انحراف عن الاستعمال المعتاد للغة ، سواء كان ذلك باستعمال الكلمة في غير ما وضعت له ، أو تعليقها بما لا ينبغي أن تعلق به في النظام المألوف [٥] .

ومن المنطقي أن يتغير المفهوم بتغير توزيع المفردات على وفق الضوابط النحوية وبما أن التعالق لا يقتصر على الترابطية، الجامعة بين المفاهيم المستشفة والمفردات المكونة لها  صار النص قابلا لحمل مفاهيم كثيرة بمفردات قليلة [٦] .

 (( وبما أن المجاز يخرج الكلمات من حدودها الحقيقية ، فإن العلاقات التي يقيمها بينها وبين الواقع ، إنما هي علاقات احتمالية – يتعدد بها المعنى ، مما يولد اختلافا في الفهم ، يؤدي إلى اختلاف في الرأي وفي التقويم  )) [٧]  .

ولكن لا يمكن لنص أن يخلو تماما من العدول مهما كان علميا ، ولا يخلو تماما من الحقيقة مهما كان شعريا لأنه (( متى تعرى الشعر من الألفاظ الحقيقية المستولية كان رمزا ولغزا )) [٨] وجاء التعبير عن اللغة المحافظة على مستواها العادي بـ(( الحقيقية )) و((المستولية)) و(( الأهلية)) على وفق اصطلاحات الفلاسفة المسلمين ، إذا لم تتجاوز الدلالة الوضعية إلى الدلالة الإيحائية [٩] ويرى أفلاطون إن الدال signifier كلمة في اللغة ، والمدلول signified هو الشيء الموجود في العالم ، ويمثله الدال أو يشير إليه أو يحدده ، فالكلمات إشارات إلى الأشياء [١٠] "وهذا يعني أن الدوال سواء كانت بهيأة مفردات أو سياقات تركيبية ، لها شكل ومضمون ويمثل الشكل صورة المفردة أو التركيب ، أما المضمون فيمثل الكنه المراد إيصاله إلى الذهن المتلقي ". [١١]

ومثال ذلك (( انتزع الحياة بسيف من نحاس )) و (( عندما قطع بكأس متين من نحاس ...)) وكلا العبارتين عدل بتركيبها لأن ((انتزع )) هاهنا معناها (( قطع)) و((قطع)) معناها (( انتزع )) وكلا القولين يدلان على تصرم الأجل أو ( الموت) [١٢] ، "فالمثال يوضح أن صورة النزع هي القطع ، أما المدلول الذي دلت عليه الصورة فهو (الموت) إذ إن الشكل مرتبط بالمضمون إلا أنه قد يتخذ هيأة مغايرة إذا عدل باستعماله أو بإسناده عن الأصول الوضعية .

وتأسيسا على ذلك فقد يكشف الاستدلال القياسي عن لغة عدولية ثرة ،ولكن المضمون يحمل قضية تصديقية (برهانية ، خطابية ، جدلية ، وسفسطائية ) ، مما يقودنا إلى الاقتناع بإمكانية ورود نصوص موزونة مقفاة تحمل إحدى تلك المضامين ، مع إن لغتها شعرية " [١٣] فـ (( إذا كانت محاكاة الشيء بغيره تحرك النفس وهو كاذب فلا عجب أن تكون صفة الشيء على ما هو عليه تحرك النفس وهو صادق بل ذلك أوجب  لكن الناس أطوع للتخييل منهم إلى التصديق وكثير منهم إذا سمع التصديقات استكرهها وهرب منها .

وللمحاكاة شيء ،من التعجيب ليس للصدق [...] والقول الصادق إذا حرف عن العادة وألحق به شيء تستأنس به النفس . فربما أفاد التصديق والتخييل معا . وربما شغل التخييل عن الالتفات إلى التصديق والشعور به )) [١٤] .

ويرى عبد القاهر الجرجاني أنه:(( صريح معنى ليس للشعر في جوهره وذاته نصيب )) [١٥] .

"وهذا ما يؤيده  المناطقة فجوهر الشعر التخييل لا التصديق. " [١٦] .

وانطلاقا من الافكار المطروحة آنفا يحاول البحث قياس أقوال الامام علي بن ابي طالب ( ع ) على وفق معايير الاستدلال المنطقي وصولا إلى مضامينها التصديقية واللاتصديقية .

يقول (ع) في صفة الله تعالى : (الحمد لله الذي علا بحوله ودنا بطوله ، مانح كل  غنيمة  وفضل ، وكاشف كل عظيمة وأزل ، أحمده على عواطف كرمه ، وسوابغ نعمه ، وأؤمن به أولا باديا ، واستهديه قريبا هاديا ، واستعينه قاهرا قادرا ، وأتوكل عليه كافيا ناصرا ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله لإنفاذ أمره وإنهاء عذره ، وتقديم نذره) .

يستشرف النص الزاوية المثلى لاستغراق الانسان في حيثيات الكون ، ويعالج التجاذبات القائمة بين القيم العليا والمادة ، تستشعر أولى حالات الإفلات من المحور المادي في المقدمة التي سرعان ما تسبر في عمق الوجود تستكنه الأوصاف الكاملة لذلك العلو اللامتناهي ، قدرة هائلة تطوي عوالم وأكوان من الخلق العجيب بقبضة واحدة ، ومقاربة خاطفة كفيلة بتأصيل الفارق بين المخلوق البشري والقدرة الالهية ، يبدو معها ذلك المخلوق أضأل من ذرة تتقاذفها عواصف من الرمل ، إنه اعتراف صريح بالتفوق الذي ما بعده تفوق وخضوع ما بعده خضوع لتلك القدرة ويلحظ أن مرسل النص عمد إلى إظهار الحيز المتسق بالمطلق في تعريفه بالصفات الإلهية ، في جدلية واضحة بين الوصف والقدرة ( العلو ، الدنو ، القرب ) ( علا بحوله ودنا بطوله ) ثم قال ( واستهديه قريبا هاديا ) تزحف كلماته بالذاكرة إلى ما قبل الزمان والمكان ، تستنطق روحها ووجودها ، عهد قديم وحب دفين ما لبثت أقواله تدق على خواطرها بفأس من حديد ، تجنح بالعقول إلى عالم الأزل ، هناك حيث كان العقد الأكبر بين الله والإنسان ، إنه يؤكد استحقاق الذات المقدسة للحمد ويقف عند صفاتها العظيمة ، يضعها في اتساقات معبرة ، والتلازم بين تلك الصفات من ( العلو والدنو ) في آن واحد يستحضر أقطاب ( المنح والكشف ) تجاذبا مع تلك الصفات المتضادة في انسيابية مدهشة ( ما نح كل غنيمة وفضل وكاشف كل عظيمة وأزل ) فالعلو الملازم للجبروت متعالق مع الفضل وكشف الضر ، مما استوجب الحمد وتلك قضية بديهية ، لم تنفرط  عنها قوة اليقينات التي وشجت العلاقة بينها وبين الكينونة الإلهية المرتفعة بسلطة الإيجاد.

وقد امتاز النص في بيان صفات الله تعالى ، باعتماده مقدمات التصديق البرهانية ، وانصهرت بمجموعها في ست قضايا ، برهنت على أهلية المعبود بالعبادة بالنظر إلى مقدماته التصديقية ، مرتكزة على محاور : (القوة والإيجاد والعطاء والقدرة القاهرة ).

وقد أفيد منها في الإقناع بأهمية التوكل على الله تعالى وإقراره (ع) بألوهية الله جل وعلا ، ونبوة محمد (ص) ومن استقصاء المعاني الواردة في النص والنظر في مدلولاتها يمكن استخلاص النتائج الآتية :  

(١) القوة العالية بسلطة الإيجاد القريبة ذات العطاء والإحسان أهل للحمد (بديهيات) .

(٢) الله هو القوة العالية بسلطة الايجاد ذات العطاء والإحسان (يقينيات) .

(٣) الله أهل للحمد (برهان) .

وأما على صعيد المفردات ، فحد الحقيقة  كل كلمة أفيد بها ما وضعت له  في اصل الاصطلاح الذي وقع التخاطب به ، ويدخل في ذلك الحقيقة اللغوية والعرفية والشرعية،  وعلى صعيد  الجمل فكل جملة وضعتها على ان الحكم المضاد بها على ماهو عليه في العقل وواقع موقعه فهي حقيقية ، كقولنا : خلق الله العالم . [١٧]

وعلى صعيد التراكيب يبدأ نص الخطبة بحمد الله عزّ وجل قائلا : الحمد لله الذي علا بحوله:  والحمد مصدر معرف بـ (أل ) ، أما للعهد فيستلزم إذ ذاك الأحمدة كلها ، أو لتعريف الجنس ، فيدل على استغراق الاحمدة كلها بالمطابقة . [١٨]

والتعالق بين (حمد) ولفظ الجلالة (الله) مستول فلكينونة الحمد رب فعلي او اله حقيقي، هو الله جل وعلا.

وقوله (الذي علا بحوله) فيه تعالق العلو بالحول بوساطة حرف الجر(الباء) عدولي لان العلو لا حول له على جهة الصدق   , ودنا بطوله : الترابط بين (الدنو) و(الطول) لا يراد به المعنى الواقع ضمن المفهوم التصديقي للدنو : الاقتراب [١٩] والطول: الفضل والنعمة [٢٠] فالله جل وعلا لا يدنو دنوا حقيقيا لأنه وجود لا ينطبق عليه ما على سائر الموجودات الادنى ، ويلحظ ان الرابط الذي حمل العدول بين المعنيين في التركيب حرف الجر ( الباء) مانح كل غنيمة وفضل : المنح مدلول معنوي لا توابع ترتبط به مجردة كانت او غير مجردة ، واتساق الغنيمة والفضل بالمنح يخرج بالتركيب عن سياقه التصديقي ، وجاءت (كل)  معبرة عن استيفاء المعنى العام للمنح المثبت في صفات الله جل وعلا لمعنيي الفضل والغنم فالفضل بأكمله وأعلى مراتبه في منح الله سبحانه وتعالى ، والغنم بكليته واستيلائه في ذلك المنح .

وكاشف كل عظيمة وأزل : ( أزل ) : الضيق والشدة  [٢١] ارتبط اسم الفاعل (كاشف ) بـ (عظيمة) و(ازل) وهو ارتباط معدول به لانتفاء حيازة المعاني على دلالة حقيقية واقعة في التركيب .

حيث لا يوضع الكشف في بوتقة الازاحة التصديقية لانه كنه مجرد وكذا (العظم )و(الازل) .

أحمده على عواطف كرمه وسوابغ نعمه : ( السوابغ ) : التامة والواسعة [٢٢] اتساق الحمد بالعواطف اظهارا وبسوابغ اضمارا معدول به ، وينهض العدول على التوازي بين كنه الحمد واكناه العواطف والسوابغ حيث ليس من ارتكاز حقيقي يجمعهما .

ويشير التعاضد بين العواطف والكرم والسوابغ والنعم الى استقرار التركيبين في قلب الانزياح .

وأومن به اولا باديا : الاولية تلازم البدء بديهة فكل اول هو بدء وكذا القضية عكسا فكل بدء أول ، وهذا التلازم حقيقي يشغل من القياس جانبا تصديقيا ، اما تعالق الايمان بهذه القضية فهو تعالق معدول به لا يقع في دائرة الحقيقة ، لأن الايمان كنه معنوي مرتبط بقناعات المرسل التي تعد بدورها امرا مجردا .

 وأستهديه قريبا هاديا : (استهدي ) صيغة طلب على زنة ( استفعل) ، وارتباط الفاعل في جملة (استهديه) بضمير المفعول (الهاء) يحيل على محور عدولي يستند الى مفهوم طلب الهداية من الله تعالى واتساق هذا المفهوم بالقرب والهدى بوصفهما صفتين من صفات الله تعالى معدول به، فلا تطلبان على جهة الصدق الواقع . 

 وأستعينه قاهرا قادرا: الاعانة تطلب من الله تعالى لانه مالك القدرة والقهر وهما صفتان توجب لمالكهما حيازة المنعة والسلطة النافذة .

والتعالق بين الاستعانة والقهر والقدرة معدول به لان الطلب غير حائز على كيان التصديق .

 وأتوكل عليه كافيا ناصرا : (الوكيل ) من صفاته جل شأنه وارتباط التوكل بالضمير الهاء العائد على الذات المقدسة معدول به لانه قضية معنوية لا يصدق تعاضدها بالله تعالى حقيقة وجاء الارتباط بينهما بحرف الجر (على) .

والوكيل يقتضي امتلاكه الكفاية والنصرة والا لا يصح التوكل عليه وأشهد أن محمدا – صلى الله عليه وآله- عبده ورسوله : الشهادة هنا قلبية قائمة على الاعتقاد بعبودية (محمد) ورسالته والتواشج بين الشهادة وبينهما عدولي ، حيث تنأى بالتركيب عن التصديق الى تساوق انزياحي ثابت .

أرسله لإنفاذ أمره : يخلق التركيب علاقة عدولية بين الارسال الذي مصدره الذات المقدسة والعلة المساق اليها رسول الله (ص) وهي مد الامر الالهي نفوذا في الحياة لاقرارالالوهية واثبات السلطة التي تقيم الموازين وتحق الحق .

وإنهاء عذره : بما ان الرسول (ص) خاتم المرسلين فان مبعثه يشكل نهاية الحجج الالهية لعباده وختامها لاستيفائه تعاليم الدين ، وتشكل هذه القضية العلة الثانية لارسال الرسول (ص) وتعلق النهاية بالعذر معدول به .

 وتقديم نذره : العلة الثالثة لارسال محمد (ص) وتتمثل بعرض النذر اي التحذير من  مغبة الانصراف عن هذا الدين وتعاليم الله سبحانه وتعالى ، والنذر لا تقدم على جهة الصدق لذا فالتعالق معدول به .

الوصية بالتقوى

(أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي ضرب  الأمثال ووقت لكم الآجال ، وألبسكم الرياش ، وأرفغ لكم المعاش ، وأحاط بكم الإحصاء ، وأرصد لكم الجزاء ، وآثركم بالنعم السوابغ والرفد الروافغ وأنذركم بالحجج البوالغ ، فأحصاكم عددا ووظف لكم مددا ، في قرار خبرة ودار عبرة أنتم مختبرون فيها ومحاسبون عليها) .

يتشاكل هذا المقطع مع سابقه ، بل هو انعكاس لحالة الإغراق في القيم العليا  أشار إليها في مطلع النص ، يستحضر أهم ركائز الحياة التي تصهر فيها جل عوامل الرقي والتقدم (تقوى الله) وصية من عايش النبوة وذاب في أحضان الرسالة ، ولعلها كلمة ترددت في أنحاء خطبه كـ (أيقونة) تحمل في طياتها مئات الأسرار ، ينبثق من مغاليقها مفاتح النجاة .

فالإمام يضع (التقوى) في صلب النهوض بالواقع الانساني .

للوهلة الأولى  قد يتسلل مفهوم التقوى إلى ذهنية المتلقي ، بوصفه ذلك النمط من العلاقة الشكلية مع الذات الإلهية ، وأقول الشكلية لأن التقوى في مفهوم البعض تنحصر في بعض العبادات المعروفة كالصلاة والصيام والقيام ، أما في نظر الإمام فإن مفهومها يستوعب العمل لا مجرد العبادات يقول (ع) عندما سئل عن صفات المتقين :

(( منطقهم الصواب ، ملبسهم الاقتصاد [...] عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم [...] وأجسادهم نحيفة وأنفسهم عفيفة [...] لا يرضون من أعمالهم القليل ، ولا يستكثرون الكثير ، فهم لأنفسهم متهمون ، ومن أعمالهم مشفقون ، إذا زكي أحد منهم خاف مما يقال له ، فيقول  أنا  أعلم بنفسي من غيري ، وربي أعلم بي مني بنفسي ، اللهم لا تؤاخذني بما يقولون واجعلني أفضل مما يظنون ، واغفر لي ما لا يعلمون [...] فمن علامة أحدهم أنك ترى له قوة في دين ، وحزما في لين ، وإيمانا في يقين وحرصا في علم ، وعلما في حلم وقصدا في غنى [...] وطلبا في حلال ، ونشاطا في هدى وتحرجا عن طمع [...] يعترف بالحق قبل أن يشهد عليه ، لا يضيع ما استحفظ ، ولا ينسى ما ذكر [...] ولا ينابز بالألقاب [...] وإن بغي عليه صبر حتى يكون الله هو الذي ينتقم له [...] بعده عمن تباعد عنه زهد ونزاهة ، ودنوه ممن دنا منه لين ورحمة ، ليس بتباعده بكبر ولاعظمة ، ولا دنوه بمكر وخديعة )) [٢٣] .

ويفتح النص آفاقا تكسر القرائن الراتبة ، ليزيح الستار عن أهم مقومات النظام الحياتي الذي من شأنه إجراء معالجات خطيرة في جسد المجتمع الانساني على اختلاف انتماءاته وتوجهاته ، يحمل في جوهره نظاما معرفيا متكاملا عن نشوء الأفراد في مجتمع صحي .

ونظرة فاحصة تحيل على اعتناق النص لأسباب هيأت له إفراغ ذلك المخزون من الإمكانات التي منحتها الإرادة الإلهية لضمان حصول نوع خاص من التجاوب بين الانسان وتقوى الله تعالى ، فإقامة الحجج بإرساله الأنبياء وتوافر الأسباب المادية ( الرياش ) ( المعاش ) والأسباب المعنوية من المدد المنقضية والاختبارات التي من شأنها شحذ الهمم لخلق روح العمل والتنافس المشروع بين الناس كل ذلك يصهر في المسلمات من الأمور .

 فجعل الآجال لوقت مقدر ، ووسع على الناس احوالهم بما منحهم من سعة العيش وخصوبته  وجعل الاحصاء والعد كالحائط المدار عليهم ، لانهم لا يبعدون منه ولا يخرجون عنه . [٢٤] 

وقد شيد التفاعل بين المسلمات والمقبولات لمتن خطابي ، هضم عناصر التصديق التي ولدت نسقا اقناعيا ، عبر عن علاقة التلازم التي فرضتها القوة الايجادية بين الانسان ومفهوم التقوى .

ولما كان الله تعالى قد فرض تلك العلاقة التلازمية ، كان من مقتضيات الحكمة أن يهيئ عوامل التمكين ، بخلق تلك الاسباب التي اوجدت توازنات منطقية ، بين الوصية والقدرة الانسانية ( ألبسكم الرياش وأرفغ لكم المعاش ) .

ومما تقدم نصل إلى النتائج الاتية :

(١) تهيأة الله تعالى أسباب التقوى تجعل الانسان ملزما بها (مسلمات) .

(٢) أسباب التقوى مهيأة للانسان (مقبولات) .

(٣) الانسان ملزم بالتقوى (خطابة) .

وانعطافا إلى الزوايا التركيبية يشار إلى الاتي : قوله (ع) (أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي ضرب الأمثال) : الوصية ذات علاقة انزياحية بتقوى الله ، انتقلت بالتركيب الى مرتبة العدول ، فليس من بؤرة مستولية تجمع الكنهين ، و(عباد الله) المشار اليهم  بالوصية غير منضوين تحتها انضواء تركيببا مستوليا اما الضرب فلا يدل دلالة حقيقية على الامثال والجامع الاتساقي بينهما خرج عن حيزٍ شكّل خرقاً لقواعد التصديق القياسي .

 ووقّت لكم الآجال : الزمن مرتهن الآجال المنقضية ، ويمثل انبعاثا تواتريا مخيلا  ويصنع فلسفة مفادها ذوبان الحياة في ابعاده المنصرمة ، وقد شكل عاملا أساسيا في المضي بالبشرية نزوعا نحو عالم يعج بالتغيرات التي تخضع لسيفه الحاد .

والتواشج بين الفعل (وقت) الذي يمثل الارادة الالهية والآجال التي خلقت في رحم الزمن يمثل عدولا تركيبيا ، والتعالق بين (وقت) و(الكاف) معدول به أسس على رابط ضمهما الى بعض تمثل بحرف (اللام) .

 وألبسكم الرياش  : فعل الالباس غير مدرج في  قالب التصديق ، واتساقه بالرياش معدول به  .

والعلاقة بين (اللبس) و(الرياش) علاقة الجزء بالكل. فالرياش نوع من اللباس [٢٥] .

وأرفغ لكم المعاش  : يشير الاتساق التركيبي الى عدول عن المستوى الحقيقي ، لان الفعل ( ارفغ) الذي يعود ضميره الغائب (هو) على الذات المقدسة لا يضع صورة الترابط الاتساقي بوساطة حرف الجر (اللام) ضمن التصديق انما اقتضت الارادة الالهية أن تسبب الاسباب التي توصل الى سعة الرزق مما يحقق عدولا تركيبيا .

وأحاط بكم الاحصاء: ومن مشيئته جل وعلا ان جعل احصاء الاعمال والعلم بها عملا كالسور لا تنفذون منه ولا تتعدونه . [٢٦] 

وقد رسم التواثق التركيبي بين الفعل ( احاط) والضمير الكاف بوساطة حرف الجر (اللام ) عدولا عن الخط التصديقي لأن الاحاطة ليست حقيقية .

وأرصد لكم الجزاء : وأعد الجزاء فلا محيص عنه [٢٧] والتركيب الذي جمع الفعل أرصد والكاف بوساطة اللام معدول به ، وأصل التركيب وأرصد الجزاء لكم .

 وآثركم بالنعم السوابغ والرفد  الروافغ : اضافة الفعل (آثر) الى النعم بوساطة حرف الجر اللام معدول به ، وكذا اضافة النعم للسوابغ والرفد للروافغ ، لأن الايثار قضية معنوية .

وأنذركم بالحجج البوالغ : حقق التركيب انزياحا اتساقيا وقد استكمل بحرف الجر ( اللام) ، والتركيب انشطر عن الجانب التصديقي ، لاستفراغ الرابط التركيبي الجامع بين الانذار الذي يمثل كنها مجردا والحجج البوالغ التي تمثل بؤرة مساوية لبؤرة الانذار .

  فأحصاكم عددا: الاحصاء يستكمل العدد مكونا تركيبا خرج بالاتساق من مستوى مستول الى اخر عدولي .

(ووظف لكم مددا): استنهاض التوظيف جاء لبيان ضرورة التنبه الى ضيق المدة وانقضاء الاجل ، وقد مهد الرابط التركيبي بين التوظيف والمدد الذي يتمثل بحرف الجر(اللام)  لخروج التواشج عن وضعه الراتب . 

في قرار خبرة  ودار عبرة : يوضح التركيب استقرارا انزياحيا يستبعد فيه اي ولوج في  التصديق لان الخبرة لاقرار لها على جهة الصدق والعبرة لا دار لها على جهة الحقيقة .

 أنتم مختبرون فيها ومحاسبون عليها: عدل بالتركيب عن وضعه الراتب استيفاء لابعاد انزياحية ألقت بظلالها على التواثق بين ضمير المخاطبين (انتم) واسم المفعول ( مختبرون) لأن الاختبار والحساب انما يقع ضمن عوالم تبتعد عن العالم التصديقي ، فهي منسوجة ضمنها بأسلوب مختلف عن ما اعتادت القدرة البشرية على الاحاطة به الا انها تستيقنه بنوازع عقيدية محضة ، مع اختلاف الازمان المفترضة تصديقا فالاختبار في الحياة الدنيا والحساب في الحياة الاخرة .

التنفير من الدنيا

(فإن الدنيا رنق مشربها ردغ مشرعها يونق منظرها ، ويوبق مخبرها . غرور حائل ، وضوء آفل ، وظل زائل ، وسناد مائل ، حتى إذا أنس نافرها ، واطمأن ناكرها ، قمصت بأرجلها ، وقنصت بأحبلها ، وأقصدت بأسهمها ، وأعلقت المرء أوهاق المنية قائدة له إلى ضنك المضجع ، ووحشة المرجع ، ومعاينة المحل ، وثواب العمل ، وكذلك الخلف بعقب السلف ، لا تقلع المنية اختراما ، ولايرعوي الباقون اجتراما ، يحتذون مثالا ، ويمضون أرسالا ، إلى غاية الانتهاء ، وصيور الفناء) .

تستيقظ النفس البشرية على حب الدنيا تنبش في أعماقها وتلهث خلف شطآنها ، تستقى من رحيقها ما يمد وجودها تشبثا وتعانقا بزينتها وزخرفها ، ثم لا يجد الإنسان بعد ذلك العناق مع المغريات والملذات إلا نفادا وقصورا عن مواصلة المسير ، في دروبها التي ما تفتأ استنزاف طاقته وصهر قوته في بوتقة الفناء والزوال فما لحظة بريقها وعطائها إلا لحظة الشروع التنازلي لوجود الإنسان .

مازال النص ينفتح على ردهات الاقناع يسترسل في عرض حججه ، ويستوسق البدائل معبرا عن طلاقة فكرية تشكل مهيمنا واضحا في أبعاد الصورة الابداعية فإن الدنيا عيشها كدر ، وإن كان منظرها يعجب الناظرين ، ومتاعها يغر فلا بد لكل مكلف أن يعلم الموضع الذي يحل به بعد الموت فيعلم مصيره أما الجنة أو النار [٢٨] الحياة الدنيا مسمى معلوم ضمن خاصية التحول (غرور حائل ، وضوء آفل) انضوت توصيفاتها على متوالية تنبيهية ، عبر انصهار حيثياتها في تلك الخاصية المتغيرة ، كالوحش الرابض ينتظر اطمئنان فريسته لينقض عليها ، أو القناص الماهر يقصدها بسهمه ويقنصها بحبله ، فلا ينفك جرا حتى يضمن رقودها في مستحوذ قرارها .

(حتى إذا أنس نافرها واطمأن ناكرها ، قمصت بأرجلها ، وقنصت بأحبلها ، وأقصدت بأسهمها ، وأعلقت المرء أوهاق المنية قائدة له إلى ضنك المضجع ، ووحشة المرجع ) وقد قيض النص المقدمات المشهورة ليدعم البناء الخطابي ، مستنهضا قضية يدركها ناموس الخليقة ، التي عرفت بالتجربة الممتدة من بدء نشوئها النفور مما يعود عليها بالهلاك والفناء ، ولما كان محور الحياة في الدنيا قائما على مآلات نافدة ، حصلت القناعة بأن الدنيا دار فناء مما يعزز مفهوم النفور منها .

فان الدنيا عيشها كدر ، وان كان منظرها يعجب الناظرين ، ومتاعها يغر فلابد لكل مكلف ان يعلم الموضع الذي يحل به المكلف بعد الموت فيعلم مصيره أما الجنة او النار [٢٩] .

وقد قيض النص المقدمات المشهورة ليدعم البناء الخطابي ، مستنهضا قضية يدركها ناموس الخليقة ، التي عرفت بالتجربة الممتدة من بدء نشوئها النفور مما يعود عليها بالهلاك والفناء ، ولما كان محور الحياة في الدنيا قائما على مآلات نافدة ، حصلت القناعة بأن الدنيا دار فناء مما يعزز مفهوم النفور منها ومما سبق نصل إلى الآتي :

(١) كل ما يودي الى الفناء ينفر منه (مشهورات) .

(٢) الدنيا تودي الى الفناء (مشهورات) .

(٣) الدنيا ينفر منها (خطابة) .

 فإن الدنيا رنق مشربها: ( رنق ) : كدر[٣٠] تأخذ العبارة من التركيب تعالقا يجمع الدنيا برنق المشرب ، وهو اجتماع يعوم الحقيقي من التواشجات التركيبية ، ويسبر غورا في العدول ، انه يقابل بين الدنيا وعين الماء التي كدر ماؤها ، وحمل التركيب عدولا آخر عندما تقدمت الصفة المشبهة ( رنق) على مشربها وحقها التأخر مما شكل خرقا لقواعد التأليف الاتساقي .

ردغ مشرعها: ردغ : وقع في [٣١] حقق التركيب عدولا عن وضعه الراتب لتقدم الخبر(ردغ ) على (مشرعها ) ، فضلا عن الاسناد بينهما والمتصل بالدنيا لايمثل الا انزياحا تركيبيا نظرا لما يحمل التركيب من تقابل بين الدنيا وعين الماء المملوءة بالطين والوحل .

 يونق منظرها : يونق : يعجب [٣٢] .

اضافة (الهاء) العائدة على الدنيا الى (منظر) معدول به فالدنيا لا منظر لها على جهة الصدق ، مما يعني ان اضافة الفعل ( يونق ) الى ( منظرها) معدول كذلك ، فان لم يكن لها منظر كيف يمكن ان يعجب الرائين ؟ .

 ويوبق  مخبرها:يهلك [٣٣] المَخْبَر لا يُهلك ضمن الحد الحقيقي لذا فإن التركيب عدل به عن حده المستولي .

غرور حائل :اتساق معدول به لاختلاف الكنهين عن بعضهما .الغرور حالة تخص النفس البشرية سحب معناها الى الدنيا تمثيلا لها بالزيف حيث ينمو الغرور موهما الانسان بالكمال فينساق خلف سرابه وهكذا الدنيا انه يمثل الدنيا بكل مافيها بذلك الغرور الذي يعتري الانسان والذي سرعان ما يتهاوى امام متغيرات الحياة ومنقلباتها التي لا تثبت على حال .

 وضوء آفل: تركيب مستول لأن الضوء يأفل على جهة الصدق مثل ضوء الشمس والنجم وضوء المصباح اما إسناد التركيب إلى الدنيا نزوعا الى المقابلة بين الصورتين (الدنيا ) و (الضوء الآفل) فقد عدل به عن الوضع الراتب .

 وظل زائل : اسناد مستول يمثل حقيقة فيزيائية واقعة وهي زوال الظل بزوال الضوء.

 وسناد مائل : اسناد مستول لايراد به غير المعنى الظاهر حتى إذا أنس نافرها: ارتباط  مستول , واطمأن ناكرها: ارتباط مستول , قمصت بأرجلها: قمص : يحيل التعالق بين الفعل ( قمص) و(أرجلها) بوساطة حرف الجر (الباء) على انزياح التركيب عن وضعه الراتب حيث لا ارجل للدنيا لتقمص بها.

 وقنصت بأحبلها : الاتساق بين الفعل (قنص) و(أحبل) بوساطة حرف الجر (اللام) مستول ، و إاضافة (الهاء) الى (احبل) معدول به لأن الدنيا لاحبال لها على جهة الصدق .

 وأقصدت  بأسهمها : الاقصاد بالسهم يحافظ ضمن التركيب على الوضع الراتب اما اضافة (الهاء) الى (اسهمها) معدول به لأن الدنيا لاسهام لها تصديقا.

 وأعلقت المرء أوهاق المنية: التواثق بين الفعل ( اعلق) و(المرء ) معدول به فالاعلاق هنا ليس حقيقيا ، والاتساق بين (أوهاق ) و(المنية) معدول به قائدة له الى ضنك المضجع : تقود الدنيا الانسان الى سوء العاقبة الذي من علاماته ضيق المضجع وهي قضية غيبية تشير اليها الشريعة .

والمرسل هنا يرسم صورة تركيبية معدولا بها فهو يجسد المجردات حين يسند فعل القيادة الى الدنيا .

ووحشة المرجع ومعاينة المحل : العبارة تحمل تواصلا مع العبارة التي سبقتها حيث تعرض صورة الدنيا وهي تقود الى وحشة المرجع ومعاينة المحل والتعالق بين (وحشة ) و(المرجع) و(معاينة ) و(المحل) معدول به .

 وثواب العمل : في التركيب استمرارية عدولية تأثرية بفعل القيادة الذي حملته العبارة الاولى والتي تسند الى الدنيا ، تلوح الى الطريق الاخر بعد ان اشارت الى ما يؤدي الى ضيق المضجع تشير الى ما يؤدي الى جزيل الثواب .

وكذلك الخلف بعقب السلف : التركيب يخرج عن مستوى الاستيلاء ، يشير الى تعاقب الاجيال في محيط واحد لا يختلفون فيه عن بعضهم البعض ، ويشكل العقب في الاتساق بؤرة التحول التي ادت الى جنوح التركيب عن وضعه الراتب .

لا تقلع المنية اختراما: المنية كنه مجرد سيق اليه مفهوم تأثر بفعل معين حيث لا يكون الاقلاع عن الشيء الا ردة فعل لمؤثر ، ولكن اختراما اضفت حركة مستمرة لا توقف فيها .

 ولايرعوي الباقون اجتراما: تركيب مستول , يحتذون مثالا: تركيب معدول به فالمثال لا يحتذى حقيقة.

 ويمضون أرسالا : اشارة الى ماسبق من فكرة التعاقب فالناس يمضون ويخلفهم غيرهم جماعات تلو الاخرى وقد حافظ التركيب على وضعه الراتب ،الى غاية الانتهاء وصيُّور الفناء : التركيب معدول به لان فعل المضي لا يحدد بمكان معين بل هو الموت الذي وقته ومكانه وانما عرض التركيب انتهاء مضي هؤلاء الى غاية الانتهاء وصيور الفناء كأنهما حقيقتان معلومتان وتلك قضية غير واردة تصديقا.

بعد الموت البعث

(حتى إذا تصرمت الأمور ، وتقضت الدهور وأزف النشور . أخرجهم من ضرائح القبور ، وأوكار الطيور ، وأوجرة السباع ، ومطارح المهالك ، سراعا إلى أمره مهطعين إلى معاده رعيلا صموتا قياما صفوفا ، ينفذهم البصر ويسمعهم الداعي عليهم لبوس الاستكانة وضرع الاستسلام والذلة قد ضلت الحبل وانقطع الأمل وهوت الأفئدة كاظمة وخشعت الأصوات  مهينمة ، وألجم العرق وعظم الشفق ، وأرعدت الأسماع لزبرة الداعي إلى فصل الخطاب ، ومقايضة الجزاء ونكال العقاب ونوال الثواب ) .

تنبيه الخلق

(عباد مخلوقون اقتدارا ، ومربوبون اقتسارا ، ومقبوضون احتضارا ، ومضمنون أجداثا ، وكائنون رفاتا ، ومبعوثون أفرادا ، ومدينون جزاء ، ومميزون حسابا ، قد أمهلوا في طلب المخرج ، وهدوا سبيل المنهج ، وعمروا مهل المستعتب ، وكشفت عنهم سدف الريب ، وخلوا لمضمار الجياد ، وروّية الارتياد ،وأناة المقتبس ، في مدة الأجل ومضطرب الَمهْل) .

يتعاطى فنار النص مع جزئيات القضايا المطروحة بتواتر واضح ، فبعد أن أصل في الاذهان لزوم التقوى والنفور من الدنيا الزائلة يسلط الضوء على ما تؤول إليه الأحوال ، فما الناس في هذه الحياة إلا مسافرون يعبرون جادة رغباتهم مثقلين بأعباء الراحة ، ويظهر المضمون نوعين من الأمكنة :لمكان الفاني : وهو ما يشكل عالم فناء البشر بعد انتقالهم من الحياة الى الموت ، والمكان السرمدي : وهو آخر مراتب الانتقال من الموت إلى البعث والحساب ولم يعمد مرسل النص إلى توضيح طبيعة المكان وأبعاده وترك لمخيلة المتلقي استنهاض ما تستوعب من صور .

لا تقلع المنية : لاتكف ، والاخترام : اذهاب الانفس واستئصالهم ، ويمضون ارسالا : القطيع من الابل او الغنم ، وصيور الامور آخره وما يؤول اليه .

وقد شكل التناسج بين المسلمات واليقينيات بؤرة خطابية مثلت امتدادا لاسترسال النص في المحور الاقناعي .

واعتماد عناصر (الموت ، البعث ، الحساب) بوصفها بؤر جذبِ ، تضيء النص ، فتضعه امام الحقيقة المجردة ، بالنظر الى كونها مما تخشاه النفس البشرية وتضعف في مواجهته لما فيه من استلاب الملذات وذهاب المغريات في لحظة تتوقف فيها القوى وترتهن الذاكرة الانسانية فيها ذاهلة عن استرجاعها قضيةً تبعث السرور ، بل لا تبدو الا في صورة مهيمنات مزيفة سرعان ما تتلاشى امام لحظة الانتقال من الحياة الى الموت ثم إلى عالم تجهله الذاكرة .

والنتائج القياسية تحيل على الاتي :

(١) الموت والبعث والحساب توجب انتباه الخلق الى ما غاب عنهم (مسلمات) .

(٢) لكن الخلق يموتون ويبعثون ويحاسبون (يقينيات) .

(٣) وجب على الخلق التنبه الى ما غاب عنهم (خطابة) .

أما التراكيب فيرصد قوله : عباد مخلوقون اقتدارا : التركيب مستول يعبر عن حقيقة الخلق ، التي لا يتيه عنها العاقل لأنها كانت نتاج القدرة الإلهية التي لا يدانيها شيء .  ومربوبون اقتسارا: تركيب مستول فلا يقع تحت قدرة احد من البشر رفض ربوبية الله جل وعلا لأن المشيئة اقتضت ذلك ، سواء قبل الانسان بذلك ام لم يقبل .

ومرد ذلك هو العقد المبرم بين الله سبحانه والانسان ، قبل خلق الخلق .

يقول تعالى : (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا  أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ) [٣٤] .

  ومقبوضون احتضارا: تركيب مستول ، لأن الاحتضار يسبق خطف الروح . ومضمنون أجداثا وكائنون رفاتا : تركيب مستول ، وتلك حقيقة اخرى ظاهرة للعيان ، فبعد الموت القبر مثوى الرفات .

 ومبعوثون أفرادا : تركيب مستول , لم يعاني كسرا لضوابط التصديق .

ومدينون جزاء  : عدل بالتركيب فالدَّينُ ليس حقيقيا انما مرتبط بقضايا معنوية تمس العقيدة، حيث كانت الدنيا بما فيها من متاع وحياة دَيناً يُسدَد بعد حين .

ومميزون حسابا : التمييز هنا يتبع العمل وبذلك يختلف الحساب من انسان الى آخر فمن الناس (الصالحون) وأولئك أهل الجنة ومن الناس (الطالحون) وأولئك أهل النار ، وبما انها قضية غيبية فإن الترابط بين التمييز والحساب معدول به.

 قد أمهلوا في طلب المخرج :الفعل (امهل) مرتبط بالمصدر (طلب)ارتباطا مستوليا , ويعبر الزمن في الدنيا عن مدة تواجد الانسان حيا فيها أي عمره المكتوب له وهي تساوي المهلة التي يختبر فيها .

 وهدوا سبيل المنهج  : اضافة الفعل (هدوا) الى (سبيل) ينتج تواؤما انزياحيا لأن الهداية قضية غير مدركة حسا وقد اضيفت الى (سبيل المنهج) وهو مفهوم غير تصديقي .

وعمروا مهل المستعتب : اقتران عدولي نسجه التركيب بين الفعل (عمروا) و(مهل المستعتب ) يقضي بتمازج زمنين الاول عمر الانسان والثاني مهلة البقاء التي تتضمن مدة الاختبار في الحياة الدنيا .

 وكشفت عنهم سدف الريب : الكشف في التركيب مضاف الى الهاء العائدة على مجموع الناس وقد حقق الترابط عدولا عن وضعه الراتب وتعالقه بـ(سدف الريب) معدول به لانه لم يكشف على جهة الصدق .

  وخلوا لمضمار الجياد: التواثق بين الفعل (خلوا )و(مضمار الجياد) شغل حيزا عدوليا اذ ليس من مضمار حقيقي يتسابق فيه الناس انما عبر بهذا التعبير ليشكل افقا تقابليا مع صيرورة الحياة التي يتنافس فيها وصولا الى الغايات المزمعة .

ومضطرب المهل: استقر التركيب في بوتقة الانزياح محققا تواصلا واضحا مع جملة التراكيب التي سبقته .

----------------------------------------------------------------------------
[١] . تحليل الخطاب الادبي ( محمد عزام ) : ٩-١.
[٢] . بنية النص القراني : أ- ب
[٣] . بنية النص القراني : ٥
   [٤] . ينظر : بنية اللغة الشعرية : ١.٣
[٥] . ينظر : نظرية البنائية في النقد الأدبي : ٣٧.
[٦] . ينظر: بنية النص القرآني :١١٦
[٧] . الشعرية العربية ( أدونيس )  : ٧٥
[٨] . ينظر تلخيص كتاب أرسطو لابن رشد ضمن كتاب فن الشعر لأرسطو طاليس :٢٣٨
[٩] . ينظر : م. ن ٢٣٨
[١٠] . ينظر: علم الدلالة :٢٣
[١١] . مستويات العدول والتخييل (رسالة ماجستير ) : ٢
[١٢] . ينظر: فن الشعر(لأرسطو) :٥٨
   [١٣] . مستويات العدول والتخييل ( رسالة ماجستير ) : ٢
[١٤] . فن الشعر من كتاب الشفاء المنشور ضمن كتاب في الشعر:١٦٢
[١٥] . ينظر :أسرار البلاغة : ٢٦٥
[١٦] . مستويات العدول والتخييل (رسالة ماجستير ) : ٣
[١٧] . مقدمة شرح نهج البلاغة ( البحراني ) : ٩٣
[١٨] . ينظر : البحر المحيط : سورة الفاتحة
[١٩] . ينظر : المعجم الوسيط : مادة ( د ن ا )
[٢٠] . ينظر : م.ن : مادة ( ط ا ل )
[٢١] . معجم الوسيط : مادة ( أ ز ل )
[٢٢] . م.ن : مادة ( س ب غ )
[٢٣] . نهج البلاغة : ٣٥٢
[٢٤] . ينظر شرح نهج البلاغة
[٢٥] . ينظر : أساس البلاغة : مادة ( ر ي ش )
[٢٦] . شرح نهج البلاغة (محمد عبده : ١١١ (هامش)
[٢٧] . م.ن: ١١١
[٢٨] . م.ن : ١١١
[٢٩] . م.ن
[٣٠] . ينظر : أساس البلاغة : مادة ( ر ن ق )
[٣١] . ينظر : أساس البلاغة : مادة ( ر د غ )
[٣٢] . ينظر : لسان العرب :مادة ( و ، ن ، ق )
[٣٣] . ينظر : م.ن : مادة ( و  ب  ق  )
[٣٤] . سورة الاعراف : اية : ١٧٢
     ينظر ترجمة الباحثة بتصرف
the merck manual of diagnosis and therapy   the ivis vegulates the light entering the eye by adjusting the size of its central opening the pupil the visual image is focused on the retina, the fovea centralis being the area of sharpest visual acuity    

يتبع ....

****************************