وقال (عليه السلام): مَا لاِبْنِ آدَمَ وَالْفَخْرِ: أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ، وَآخِرُهُ جِيفَةٌ، و َلاَ يَرْزُقُ نَفْسَهُ، وَلاَ يَدفَعُ حَتْفَهُ.                
وقال (عليه السلام): إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .                
وقال (عليه السلام): الرِّزْقُ رِزْقَانِ: طَالِبٌ، وَمَطْلُوبٌ، فَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا طَلَبَهُ الْمَوْتُ حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنْهَا،مَنْ طَلَبَ الاْخِرَةَ طَلَبَتْهُ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رِزْقَهُ مِنْهَا.                
وقال (عليه السلام): الْغِيبَةُ جُهْدُ الْعَاجزِ.                
وقال (عليه السلام): إِذَا وَصَلَتْ إِليْكُمْ أَطْرَافُ النِّعَمِ فَلاَ تُنْفِرُوا أَقْصَاهَا بِقِلَّةِ الشُّكْرِ .                
وقال (عليه السلام): قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِير مَمْلُول مِنْهُ .                
وقال (عليه السلام): زُهْدُكَ فِي رَاغِب فِيكَ نُقْصَانُ حَظّ، وَرَغْبَتُكَ فِي زَاهِد فِيكَ ذُلُّ نَفْس.                

Search form

إرسال الی صدیق
في رحاب نهج البلاغة (التّاريخ في مجال الفكر) – الثالث

إسلام الموسوي

وقد كان هذا الصّراع يبدو للمراقب بوجوه متنوعة :
١ - الصّراع القبلي :
فقد نشطت الرّوح القبلية والقيم القبلية، وعادت إلى الظهور فارضة منطقها في رسم خريطة العلاقات الإجتماعية والسّياسيّة داخل المجتمع، وكان ظهور الرّوح القبلية نتيجة لجملة من الأخطاء الّتي ارتكبت في عهد إدارة الخليفة الثالث عثمان بن عفان. وكانت أخطاء في السّياسة، وفي الإدارة، وفي التنظيم الإقتصادي، وفي التّوجيه الثقافي العام.
ويبدو أنّ هذه الرّوح القبلية قد سبّبت تخريباً واسع النطاق داخل المجتمع العراقي، ونرجح أنّ معاوية بن أبي سفيان كان يستغلّها للإمعان في تصديع وحدة مجتمع العراق.
ويبدا أنّ هذه الرّوح القبلية الّتي كان يذكّيها أصحاب المصالح الخاصة قد أفلحت إلى حدّ بعيد في تمزيق وحدة المجتمع، وإشاعة روح الشكّ والضغينة بين فئاته السّياسيّة، وداخل كلّ فئة أيضاً. يصوّر لنا ذلك نصّ في إحدى خطب الإمام يحذّر ويؤنّب فيه مجتمعه، قال:
«قدِ اصطلحتُم على الغِلِّ فيما بينكُم [١] ونبت المرعى على دِفِنكُم [٢] . وتصافيتُم على حُبِّ الآمالِ. وتعاديتُم فِي كسبِ الأموالِ. لقد استهام بِكُمُ الخبث [٣]، وتاه بِكُمُ الغُرورُ [٤]، واللهُ المُستعانُ على نفسِي وأنفُسِكُم» [٥] .

وقد روى ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة ما يصور التخريب والتمزيق اللّذين كانت تحدثهما هذه الرّوح القبلية، قال:
«وقيل أنّ أصل هذه العصبية وهذه الخطبة أنّ أهل الكوفة كانوا قد فسدوا في آخر خلافة أمير المؤمنين، وكانوا قبائل في الكوفة، فكان الرجل يخرج من منازل قبيلته فيمر بمنازل قبيلة أخرى، فينادي باسم قبيلته: يا للنّخع! مثلاً، أو يالكندة نداء عالياً يقصد به الفتنة وإثارة الشّر، فيتألّب عليه فتيان القبيلة الّتي مرّ عليها، فينادون: يالتميم! ويالربيعة! ويقبلون إلى ذلك الصائح فيضربونه، فيمضي إلى قبيلته فيستصرخها، فتسلّ السّيوف وتثور الفتن، ولا يكون لها أصل في الحقيقة إلا تعرّض الفتيان بعضهم ببعض» [٦].
وما لا يرى ابن أبي الحديد له أصلاً نرى له أصلاً في دسائس معاوية أو عملائه الّذين نقدّر أنَّهم يشجّعون أمثال هذه الممارسات القبليّة، ويمدّونها بمزيد من أسباب الإثارة والهياج ليزيدوا مجتمع العراق إنهاكاً وتمزّقاً. وكذلك نرى لها أصلاً في سياسات رؤساء القبائل الّذين كان نهج عليّ السّياسيّ يهدّد سلطانهم ونفوذهم، فكانوا يشجّعون العامّة والبسطاء على أمثال هذه الممارسات ليثبّتوا سلطانهم على قبائلهم.
٢ - الصّراع العنصري :
لقد كان مجتمع العراق، كغيره من بلاد الإسلام في ذلك الحين، يضمّ مجموعات كبرى من المسلمين غير العرب الّذين أدّى التّوسّع في الفتوح خارج شبه الجزيرة العربية إلى احتلال بلادهم في إيران ومستعمرات الإمبراطوريّة البيزنطيّة (مصر وسوريا، وغيرهما)، ومن ثم أدّى إلى دخول كثير منهم في الإسلام.
وقد كان هؤلاء - من الناحية النظرية - يتمتعون بحقوق مساوية لحقوق المسلمين العرب كما يتحملون واجبات مساوية. لقد ضمن لهم الإسلام مركزاً حقوقياً مساوياً تماماً للمسلمين العرب، ولكنهم كانوا من الناحية الواقعية يعانون من التمييز العنصري بسبب انطلاق الرّوح القبلية والعصبية العربية.
وقد ألغى الإمام علي فور تسلّمه السلطة جميع مظاهر التّمييز العنصري والعصبية العنصرية الّتي كان يعاني منها، بشكل أو بآخر، المسلمون غير العرب.
وقد أثار ذلك ردود فعل سلبيّة عند زعماء القبائل، فاحتجوا على التسوية في العطاء بينهم وبين الموالي (المسلمين غير العرب)، واندفعوا ينصحون الإمام عليّاً قائلين:
«يا أمير المؤمنين، أعطِ هذه الأموال، وفضل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم، واستمل من تخاف خلافه من النّاس» [٧] .
وكان هؤلاء ينظرون في نصيحتهم هذه وينطلقون في نظريتهم السّياسيّة هذه من التجربة الّتي كان يقوم بها معاوية بن أبي سفيان.
ولكنّ الإمام علياً كان ينطلق في ممارسته السّياسيّة من قاعدة أخرى، فأجابهم قائلاً:
«أتأمُرُونِّي أن أطلُب النَّصر بِالجورِ فِيمن وليتُ عليهِ ؟!! واللهِ لا أطُورُ [٨] بهِ ما سمر سمِير [٩]، وما أمَّ نجم فِي السَّماء نجماً» [١٠] .
وتشتمل الخطبة القاصعة على عدّة شواهد تدلّ على أنّ ما كان يثير في نفس الإمام قلقاً عميقاً ليس الصّراع القبلي المستفحل وحده، بل الصّراع العنصري أيضاً.
هذا الصراع بوجهيه - القبليّ والعنصريّ - كان، بالإضافة إلى أنّه آفة في ذاته، يؤدّي إلى توليد آفات أخرى :
١ - يعمّق ويرسّخ الواقع الإجتماعي القبلي والتكوين الإجتماعي القبلي للمجتمع في الثقافة العامّة، والبنية النّفسية للفرد، وبذلك يحول دون تطوّر التركيب الإجتماعي من طور القبلية الّتي تقسم المجتمع إلى وحدات تقوم على علاقة الدّم إلى طور التّوحد على أساس العقيدة والشّريعة والمؤسسات والمصالح المشتركة، وهو يؤدّي بالتّالي إلى أن يكون معوّقاً حضارياً أيضاً يجمّد المجتمع في حالة التخلف على صعيد المؤسسات والإنجازات التنظيمية.
٢ - يزيد ويعزّز سلطة رؤساء القبائل على قواعدهم القبلية، فيؤثر ذلك على فاعلية أجهزة السّلطة المركزية ويضعفها.
٣ - يؤثر على تلاحم المجتمع - وهو في حالة حرب مع القوى الخارجة على الشّرعية في الشام، ومع الخوارج.
٤ - يعزّز إمكانات تسلل معاوية بن أبي سفيان إلى داخل التكوينات السياسية في مجتمع العراق، وهي القبائل.
وننتقل الآن إلى عرض الشّواهد من الخطبة القاصعة [١١].
بيّن الإمام أوّلاً أنّ الكبرياء من صفات اللّه تعالى. ومن ثمّ فليس للناس أن يتكبّر بعضهم على بعض.
ثم عرض، ثانياً، لكبرياء أبليس، وتعصّبه ضدّ آدم مفتخراً بأصله، وذكّر بأن كبرياء إبليس كانت كارثة عليه إذ قضت على منزلته العالية.
ثم قرن الإمام بين كبرياء إبليس وكبرياء البشر على بعضهم، واعتبر المتكبرين أتباعاً لإبليس في هذا الخُلق الذميم:
«صدَّقهُ بهِ أبناء الحمِيَّةِ [١٢] ، وإخوانُ العصبيّةِ، وفرُسانُ الكِبرِ والجاهِليَّةِ، حتَّى إذا انقادت لهُ الجامِحَةُ مِنكُم [١٣]، واستحكمتِ الطَّماعِيّةُ مِنهُ فيكُم – فنجمتِ [١٤] الحالُ مِن السِّرِّ الخفِيِّ إلى الأمر الجلِيِّ - استفحل سُلطانُهُ عليكُم [١٥]. فأصبحتُم أعظم في دينِكُم حرجاً [١٦]، وأوروى فِي دُنياكُم قدحاً [١٧] مِن الّذين أصبحتُم لهُم مُناصِبينَ وعليهِم مُتألِّبينَ».
وهكذا بيّن لهم الإمام أن الشرّ والفساد النّاشئين عن العصبيّة، والصّراع النّاتج منها لا يقتصر تأثيرها على الجانب الديني والإيماني فقط، وإنّما يتعدى ذلك إلى التّأثير على الوضع الحياتي الدّنيوي، لهذه العصبيّة (أورى في دُنياكم قدحاً) من هؤلاء الّذين تخافون منهم على امتيازاتكم المادّيّة فتتعصبون ضدّهم.
ثم أثار الإمام في أذهانهم ذكرى تاريخية يعرفونها من القرآن، هي قصة ابني آدم:
«ولا تكُونُوا كالمُتكبِّرِ على ابنِ أمِّهِ من غيرِ ما فضلٍ جعلهُ اللهُ فيه سِوى ما ألحقتِ العظمةُ بِنفسِهِ مِن عداوةِ الحسدِ، وقدحتِ الحميّةُ في قلبه من نارِ الغضب، ونفخ الشيطانُ في أنفِهِ من ريحِ الكِبرِ الّذي أعقبهُ اللهُ بهِ النَّدامةَ، وألزمهُ آثام القاتِلين إلى يومِ القيامةِ».
ثم يعود الإمام إلى تأنيب سامعيه على ما هم عليه من روح قبلية، وتعصب عنصري ذميم، مبيناً لهم أنّ هذه الآفة الخطيرة الوبيلة قد ابتليت بها الأمم الماضية وذاقت مرارتها:
«ألا وقد أمعنتُم في البغي [١٨]، وأفسدتُم في الأرضِ، مُصارحةً للّه بالمُناصبةِ [١٩]، ومُبارزةً للِمؤمنينَ بِالمُحاربةِ (يقصد بالمؤمنين أولئك الّذين توجّه ضدهم العصبيّة) فاللّه اللّه في كِبرِ الحمِيَّةِ، وفخر الجاهليَّةِ، فإنَّه ملاقِحُ الشَّنآنِ [٢٠] ومنافخُ الشيطانِ، الّتي خدعَ بِها الأُمم الماضِية والقُرُون الخالِية [٢١]. أمراً تشابهتِ القُلُوبُ فيه، وتتابعتِ القُرونُ عليهِ، وكِبراً تضايقتِ الصُّدُورُ بهِ».
ثم يوجّه الأنظار بصورة مباشرة إلى القيادات الّتي تغذّي هذه الآفة، وتؤجّج نارها وهم زعماء القبائل:
«ألا فالحذر الحذر مِن طاعةِ ساداتِكُم، الّذين تكبَّرُوا عن حسبِهِم وترفَّعُوا فوق نسبِهِم... فإنَّهُم قواعِدُ أساسِ العصبِيَّةِ، ودعائمُ أركانِ الفِتنةِ، وسُيُوف اعتِزاءِ [٢٢] الجاهِلية. فاتقُوا اللّه ولا تكُونُوا لِنِعمِهِ عليكُم أضداداً، ولا لفضلِهِ عِندكُم حُسَّاداً، ولا تُطيعُوا الأدعياء الَّذِينَ شربتُم بصفوكُم كدرهُم [٢٣]، وخلطتُم بصحَّتكُم مرضهُم، وأدخلتُم في حقِّكُم باطِلهُم، وهُم أساسُ الفُسُوقِ وأحلاسُ العُقُوقِ...» [٢٤].
ثم يعود الإمام إلى التنظير بالتاريخ، مذكّراً بالنهايات الفاجعة للأُمم والشعوب الّتي فتكت بها آفة التّعصب والتّناحر، مقابلاً ذلك بالنهج النبوي الإنساني البعيد عن الكبر:
«فاعتبِرُوا بِما أصابَ الأُمم المُستكبِرين مِن قبِلكُم مِن بأسِ اللّهِ وصولاتِهِ، ووقائعِهِ ومثُلاتِهِ [٢٥] واتّعِظُوا بِمثاوي [٢٦] خُدُودهِمِ ومصارع جُنُبوبِهِم... فلو رخَّص اللّه في الكِبر لأحدٍ مِن عِبادِهِ لرخّص فيه لِخاصَّةِ أنبيائهِ... ولقد دخل مُوسى بنُ عِمران ومعهُ أخُوهُ هارُون - عليهِما السّلام - على فِرعون وعليهِما مدارعُ الصُّوفِ [٢٧]، وبِأيديهِما العِصِيُّ، فشرطا لهُ - إن أسلم - بقاءَ مُلكِهِ، ودوام عِزّهِ، فقالَ: (ألا تعجبُون مِن هذينِ يشرِطانِ لي دوامَ العِزِّ وبقاء المُلكِ، وهُما بِما ترونَ مِن حالِ الفقرِ والذُّلِ)».
ويستمرّ الإمام في التّنظير التّاريخيّ، داعياً مستمعيه إلى فحص المواقف التاريخيّة الّتي مرّت على الأمم السّابقة، وتجنّب الإختيارات والتّجارب الّتي أدّت إلى الإنحطاط والإنهيار، واختيار المسلكيّة الّتي ثبت بالتّجربة صلاحها:
«...واحذرُوا ما نزلَ بِالاُممِ قبلكُم مِن المثُلاتِ بِسُوءِ الأفعالِ وذميمِ الأعمال. فتذكّرُوا في الخير والشَّرِّ أحوالهُم، واحذرُوا أن تُكُونُوا أمثالهُم. فإذا تفكَّرتُم في تفاوُتِ حاليِهم، فالزمُوا كُلَّ أمرٍ لزِمتِ العِزَّةُ بهِ شأنهُم، وزاحتِ الأعداءُ لهُ عنهُم [٢٨] . ومُدَّتِ العافيةُ بهِ عليهِم، وانقادتِ النعمةُ لهُ معهُم، ووصلَتِ الكرامةُ عليهِ حبلهُم، مِن الإجتنابِ لِلفُرقةِ، واللُّزُوم للأُلفةِ، والتَّحاضِّ عليها [٢٩]، والتَّواصي بِها.
«واجتنبُوا كُلَّ أمرٍ كسر فِقرتهُم [٣٠]، وأوهنَ مِنّتهُم [٣١] مِن تضاغُن القُلوبِ [٣٢] ، وتشاحُن الصُّدورِ، وتدابُرِ النُّفُوسِ وتخاذُلِ الأيدي...» [٣٣].
ويستمر الإمام في تنظيره التاريخي بتقديم أمثلة محددة من حياة الإسرائيليين والعرب، بعدما كان في تنظيره السّابق يذكر الأمم بشكل عام، دون أن يخصّ بالذّكر أمة بعينها:
«...وتدبَّرُوا أحوال الماضِين مِن المُؤمِنينَ قبلكُم: كيف كانُوا في حالِ التّمحِيص [٣٤] والبلاءِ. ألم يكُونُوا أثقلَ الخلائقِ أعباءً، وأجهد العِبادِ بلاءً [٣٥] وأضيق أهلِ الدُّنيا حالاً. اتخذتهُم الفراعِنةُ عبيداً فسامُوهُم سُوء العذابِ، وجرَّعُوهُمُ المُرار [٣٦]، فلم تبرحِ الحالُ بِهم في ذُلِّ الهلكةِ وقهرِ الغلبةِ...
حتَّى إذا رأى اللّه سُبحانهُ جدّ الصَّبر منهُم على الأذى في محبَّتهِ [٣٧]، والإحتمالَ للمكرُوه من خوفِهِ، جعلَ لهُم في مضايقِ البلاءِ فرجاً، فأبدَلهُمُ العِزَّ مكان الذُّلِّ، والأمنَ مكان الخوف، فصاروا مُلوكاً حُكّاماً، وأئمَّةً أعلاماً... فانظُرُوا كيفَ كانُوا حيثُ كانتِ الأَمْلاءُ مجتمِعةً [٣٨]، والأهواء مُؤتلِفةً، والقُلُوبُ مُعتدِلةً، والأيدى مُترادفِةً [٣٩]، والسُّيوفُ مُتناحِرةً، والبصائرُ نافِذةً [٤٠]، والعزائمُ واحِدةً، ألم يكُونُوا أرباباً في أقطارِ الأرضين، ومُلُوكاً على رِقابِ العالَمِينَ».
«فانظُرُوا إلى ما صارُوا إليه في آخرِ أمُورِهم، حين وقعتِ الفُرقَةُ وتشتَّتتِ الألفةُ، واختلفتِ الكلِمةُ والأفئدَةُ، وتشعَّبُوا مُختلِفين، وتفرَّقُوا مُتحارِبين، قد خلع اللّه عنهُم لِباس كرامتِهِ. وسلبهُم غضارَة نِعمتِهِ [٤١]، وبقي قصصُ أخبارِهِم فِيكُم عِبراً لِلمعُتبرين مِنكُم».
«فاعتبِروا بحالِ ولدِ إسماعيل وبني إسحاق وبني إسرائيل عليهِمُ السلامُ، فما أشدَّ اعتِدالَ الأحوالِ [٤٢] وأقربَ اشتِباه الأمثالِ».
«تأمَّلُوا أمرهُم فِي حالِ تشتُّتهِم وتفرُّقهم ليالِي كانت الأكاسرةُ والقياصِرةُ أرباباً لهُم. يختارُونهم عن ريفِ الآفاق [٤٣]، وبحرِ العِراقِ [٤٤] وخُضرةِ الدُّنيا، إلى منابتِ الشِّيح ومهافِي الرِّيح [٤٥]، ونَكد المَعاشِ [٤٦] فتركُوهُم عالةً مساكِينَ، إخوانَ دبرٍ ووبرِ [٤٧]، أذلَّ الاممِ داراً، وأجدبهُم قراراً، لا يأووُن إلى جناحِ دعوةٍ يعتصِمُون بها، ولا إلى ظِلِّ ألفةٍ يعتمدُون على عِزِّها، فالأحوالُ مُضطرِبة، والأيدي مُختلفة، والكثرةُ متفرقة، في بلاءِ أزلٍ [٤٨] وأطباقِ جهل[٤٩]، من بناتٍ موؤودةٍ، وأصنام معبُودةٍ، وأرحامٍ مقطُوعة، وغاراتٍ مشنُونةٍ».
«فانظُروا إلى مواقِعِ نعمِ اللهِ عليهِم حينَ بعثَ إليهِم رسُولاً، فعقدَ بمِلِّتهِ طاعتهُم، وجمع على دعوتهِ أُلفتهُم كيف نشرتِ النِّعمةُ عليهم جناحَ كرامتِها، وأسالت لهُم جداول نعيمها. والتفَّتِ المِلَّةُ بهم في عوائد بركتِها، فأصبحُوا في نعمتها غرقين [٥٠] وفي خُضرةِ عيشِها فكهين [٥١] قد تربَّعتِ الأمُورُ بهم [٥٢] في ظلِّ سُلطانٍ قاهرٍ وآوتهُمُ الحالُ إلى كنفِ عزٍّ غالبٍ [٥٣]. وتعطَّفتِ الأمُورُ عليهم في ذُرى ملكٍ ثابتٍ [٥٤] فهُم حُكّام على العالمين، ومُلُوك في أطرافِ الأرضين. يملِكُون الأمُور على من كان يملِكُها عليهم، ويُمضُون الأحكام فيمن كان يُمضِيها فيهم، لا تُغمزُ لهم قناة، ولا تُقرعُ لهم صفاة [٥٥]...»
«وإنَّ عندكُمُ الأمثالُ من بأسِ اللّه وقوارعهِ، وأيَّامهِ ووقائعهِ [٥٦]، فلا تستبطئُوا وعيدهُ جهلاً بِأخذهِ وتهاوُناً ببطشهِ، ويأساً من بأسِهِ فإنَّ اللّه سُبحانهُ لم يلعنِ القرن الماضي بين أيديكُم إلا لتركِهم الأمرَ بالمعرُوف والنّهي عن المُنكرِ، فلعن اللّه السُّفهاء لرُكُوب المعاصي، والحُلماءَ لتركِ التناهي» [٥٧].
٥ - المعروف والمنكر والأكثرية الصّامتة
من فرائض الإسلام الكبرى فريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.
وقد ورد تشريع هذه الفريضة في الكتاب الكريم والسّنّة الشّريفة في عدة نصوص دالّة على وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر على جميع المسلمين بنحو الواجب الكفائي [٥٨].
كما وردت نصوص أخرى كثيرة في الكتاب والسّنّة، منها ما يشتمل على بيان الشّروط التي يتنجز بها وجوب هذه الفريضة على المسلم. ومنها ما يضيء الجوانب السّياسية والإجتماعية لهذه الفريضة، كما يوضح المبدأ الفكري الإسلامي العام الّذي ينبثق منه هذا التّشريع، دلّ على وجوب هذه الفريضة من الكتاب الكريم قوله تعالى:
«ولتكُن مِنكُم أُمَّة يدعُون إلى الخيرِ ويأمُرُون بِالمعرُوفِ وينهون عن المُنكرِ، أُولئك هُمُ المُفلحُون» [٥٩].
فقد دلّت هذه الآية على وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر من جهة دلالة لام الأمر في «ولتكن» على الوجوب.
كما أنّ ظاهرها أنّ الواجب هنا كفائي لا عيني، لأن مفاد الأمر تعلّق بأن تكون في المسلمين أُمّة تأمر وتنهى، لا بجميعهم على نحو العينيّة الإستغراقيّة وعليه فإذا قامت جماعة منهم بهذا الواجب سقط الوجوب عن بقيّة المكلّفين كما هو الشّأن في الواجب الكفائي.
ولم يحدّد في القرآن والسّنّة عدد مخصوص لأفراد هذه الأمّة، فيراعى في عدد الأفراد القائمين بالواجب مقدار الوفاء بالحاجة.
وقد جعل اللّه تعالى في كتابه الكريم وعي هذه الفريضة، وأدائها حين يدعو وضع المجتمع إلى ذلك، من صفات المؤمنين الصّالحين، فقال تعالى:
«والمُؤمِنُون والمُؤمِناتُ بعضُهُم أولياءُ بعضٍ يأمُرُون بِالمعرُوفِ، وينهون عن المُنكرِ، ويُقيمُون الصَّلاةَ وُيؤتُون الزَّكاة ويُطيعُون اللّه ورسُولهُ اُولئك سيرحمُهُمُ اللّه إن اللّه عزيز حكيم» [٦٠].
فقد دلّت الآية المباركة على تضامن المؤمنين بعضهم مع بعض في عمل الخير والبرّ والتقوى، وأنّهم جميعاً من جنود هذه الفريضة حين يدعوهم الواجب إليها.
وسياق الآية الكريمة دالّ على وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، من حيث أن بقيّة ما ورد في الآية كلّه من الواجبات المعلومة في الشريعة (الصّلاة، والزّكاة، وطاعة اللّه ورسوله) [٦١]، وإن لم تكن الدّلالة السّياقيّة من الدّلالات الّتي لها حجيّة في استظهار الأحكام الشّرعية.
وكما ورد مدح المؤمنين والمؤمنات - كأفراد - في الآية الآنفة، فقد ورد في آية أخرى مدح المسلمين كافّة - كأمّة ومجتمع - من حيث وعيهم لهذه الفريضة وعملهم بها، وتلك هي قوله تعالى:
«كُنتُم خير أُمَّةٍ أُخرِجت لِلناسِ تأمُرُون بِالمعرُوفِ وتنهون عن المُنكرِ، وتُؤمنُون بِاللّه» [٦٢].
وقد مدح اللّه في كتابه الكريم المسلمين من أهل الكتاب، أتباع الأنبياء السّابقين قبل بعثة النّبيّ محمّد (ص) بوعيهم لهذه الفريضة والعمل بها، ممّا يكشف عن أنّها فريضة عريقة في الإسلام منذ أقدم عصوره وصيغهِ، وأنّها قد كانت فريضة ثابتة في جميع مراحله التّشريعيّة الّتي جاء بها أنبياء اللّه تعالى جيلاً بعد جيل. قال تعالى:
«ليسُوا سواءً مِن أهلِ الكتابِ أُمَّة قائمة يتلُون آياتِ اللهِ آناء الليلِ وهُم يسجُدُون. يُؤمنُون بِاللّه واليوم الآخرِ، ويأمُرُون بِالمعرُوف وينهون عن المُنكرِ، ويُسارعُون في الخيراتِ وأُولئك مِن الصّالحين» [٦٣].
وقد كان إحياء هذه الفريضة، وجعلها إحدى هواجس المجتمع من شواغل الإمام الدّائمة. وقد تناولها في خطبه وكلامه - كما تعكس لنا ذلك النّماذج الّتي اشتمل عليها نهج البلاغة - من زوايا كثيرة:
تناولها كقضيّة فكريّة لا بدّ أن توعى لتغني الشّخصية الواعية، وباعتبارها قضية تشريعية تدعو الأمّة والأفراد إلى العمل.
ومن هذين المنظورين عالجها بعدة أساليب.
لقد أعطاها منزلة عظيمة، تستحقها بلا شك، بين سائر الفرائض الشرعيّة، فجعلها إحدى شعب الجهاد الأربع :
«..والجهادُ منها - من دعائمِ الإيمانِ - على أربعِ شُعبٍ: على الأمرِ بالمعرُوف والنَّهي عن المُنكرِ، والصِّدقِ في المواطن، وشنآن الفاسقينَ، فمن أمرَ بالمعرُوفِ شدَّ ظُهُور المؤمنين، ومن نهى عن المُنكرِ أرغم أنُوف الكافرين ومن صدق في المواطن قضى ما عليه، ومن شنِئ الفاسِقِين وغضِب للّه غضِب اللّهُ لهُ وأرضاهُ يوم القيامةِ» [٦٤].
وجعل الإمام هذه الفريضة، في كلام له آخر، تتقدم على أعمال البرّ كلّها، فقال:
«...وما أعمالُ البِرِّ كُلُّها، والجهادُ في سبيلِ اللّه عندَ الأمرِ بالمعرُوفِ والنَّهي عنِ المُنكرِ إلا كنفثةٍ [٦٥] في بحرٍ لُجِّيٍّ...» [٦٦].
ومن السّهل علينا أن نفهم الوجه في تقدّم هذه الفريضة على غيرها إذا لاحظنا أنّ أعمال البرّ تأتي في الرّتبة بعد استقامة المجتمع وصلاحه المبدئي - الشّرعي والأخلاقي - وأنّ الجهاد لا يكون ناجعاً إلا إذا قام به جيش عقائدي، وهذه كلّها تتفرع من الوعي المجتمعي للشريعة والأخلاق، ومن الحد الأدنى للإلتزام المسلكي بهما.
في بعض كلماته بيّن الإمام جانباً من الأسباب الموجبة لهذا التّشريع، فقال:
«فرضَ اللّهُ... والأمرَ بالمعرُوفِ مصلحةً للعوامِّ، والنَّهي عن المُنكرِ ردعاً للسُّفهاءِ» [٦٧].
فعامّة النّاس الّذين قد يقعون في إثم ترك الواجبات لأنّهم لا يعرفونها على وجهها أو يجهلونها، يمكّنهم الأمر بالمعروف من التعلّم والتفقّه، بالإضافة إلى أولئك الّذين يقعون في إثم ترك الواجب وهم يعرفون الواجب والحرام حيث يردّهم الأمر بالمعروف إلى جادّة الصّواب والإستقامة، كما يرد إليها السّفهاء الّذين يتجاوزون في لهوهم وعبثهم حدود اللّه.
وللأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر مراتب متدرجة من الأدنى إلى الأعلى، فهي فريضة مرنة تستجيب للحالات المتنوعة، وللأوضاء المختلفة. فربّ إنسان تنفع في ردعه الكلمة، وربّ إنسان لا ينفع في شأنه إلا العنف.
ولكلّ حالة طريقة أمرها ونهيها الّتي يقدّرها الآمر والنّاهي العارف، ويتصرّف بقدرها فلا يتجاوزها إلى ما فوقها حيث لا تدعو الحاجة إليه، ولا ينحطّ بها إلى ما دونها حيث لا يؤثّر ذلك في ردع السّفيه عن غيّه وحمله على الإستقامة والصّلاح.
وثمّة حالات من الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر لا بدّ فيها من القتال، وهذه حالات تحتاج إلى أن يقود عملية الأمر والنهي فيها الحاكم العادل. وفي هذه الحالات الخطيرة جدّاً لا يجوز لآحاد الناس أو جماعاتهم أن يقوموا بها دون قيادة حاكم شرعي عادل.
وإذا كانت مراتب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر تتدرج صاعدة من الإنكار بالقلب إلى الإنكار باللّسان إلى الإنكار باليد، وللإنكار باللّسان درجات، وللإنكار باليد درجات...
وإذا كانت الحالات العادية للأمر والنّهي تتفاوت في خطورتها وأهميتها بما يستدعي هذه المرتبة من الإنكار أو تلك...
فإنّ الحالات الكبرى الّتي لا بدّ فيها من تدخل الحاكم العادل والأمّة كلّها قد تبلغ درجة من الخطورة لا بدّ فيها من الإنكار بالقلب واللّسان وأقصى حالات الإنكار باليد - أعني القتال.
وهذا هو ما كان يواجهه المجتمع الإسلامي في عهد الإمام عليه السّلام، متمثلاً تارة في ناكثي البيعة الّذين خرجوا على الشرعيّة واعتدوا على مدينة البصرة، ولم تفلح دعوته لهم بالحسنى في عودتهم إلى الطاعة واضطروه إلى أن يخوض ضدّهم معركة الجمل في البصرة. أو المتمردين على الشرعية في الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان الّذي رفض جميع الصيغ السّياسيّة الّتي عرضها عليه الإمام ليعود من خلالها إلى الشرعية.

أو المارقين الخوارج على الشّرعيّة والّذين رفضوا كلّ عروض السّلام الّتي قُدِّمت لهم، وأصروا على الفتنة ومارسوا الإرهاب ضدّ الفلاحين والآمنين والأطفال والنّساء...
في هذه الحالات وأمثالها على المسلم المستقيم أن يبرأ من الإنحراف في قلبه، وأن يدينه علناً بلسانه، وأن ينخرط في أيّ حركة يقودها الحاكم العادل لتقويم الإنحراف بالقوة إذا اقتضى الأمر ذلك.
قال عليه السلام، فيما يبدو أنه تقسيم لمواقف النّاس الّذين كان يقودهم من المنكر المبدئي الخطير الّذي كان يهدّد المجتمع الإسلامي كلّه في استقراره، وتقدمه، ووحدة بنيه:
«فمِنهُمُ المُنكرُ للمُنكرِ بيدِهِ ولسانهِ وقلبهِ، فذلك المُستكمِلُ لِخصالِ الخيرِ. ومنهُمُ المُنكِرُ بِلسانهِ وقلبهِ والتَّاركُ بيدهِ فَذلِكَ مُتمسِّك بخصلتين من خصالِ الخيرِ ومُضيع خصلةً، ومنهُم المُنكِرُ بقلبهِ والتَّاركُ بيدهِ ولسانهِ فذلِكَ الَّذي ضيَّع أشرفَ الخصْلَتين من الثَّلاثِ وتمسَّك بِواحدةٍ. ومنهُم تارك لإنكارِ المُنكرِ بلسانهِ وقلبهِ ويدهِ فذلِك ميِّتُ الأحياءِ» [٦٨].
ونلاحظ أنّ الإمام سمّى التّارك، في هذه الحالة الخطيرة، لجميع مراتب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر «ميّت الأحياء» ونفهم صدى هذا الوصف إذا لاحظنا أنّ إنساناً لا يستشعر الأخطار المحدقة بمجتمعه، ولا يستجيب لها أيّ استجابة، حتى أقل الإستجابات شأناً وأهونها تأثيراً، وأقلها مؤونةً وهي الإنكار بالقلب الّذي يقتضيه مقاطعة المنكر واعتزال أهله - أنّ إنساناً كهذا بمنزلة الجثة الّتي لا تستجيب لأيّ مثير، لأنّها خالية من الحياة الّتي تشعر وتستجيب.

--------------------------------------------------------------------
[١] . الغل: الحقد، اتفقتم على تمكين الحقد في نفوسكم.
[٢] . الدّفن: جمع دفنة، ما يتجمد ويتلبد من الضابط وردت الماشية، ينبت عليه العشب ونبتت المرعى عليه: استر بظواهر النفاق الإجتماعي فيبدو ظاهره سليماً أخضر وواقعه بشع منفر. شهروا أحقادهم الّتي يسترونها بالنفاق فيما بينهم بهذه القذارة الّتي يسترها العشب فتبدو جملة تخدع بظاهرها وهي في الواقع قذرة نجسة.
[٣] . استهام بكم: تعلق بكم الشيطان فأغواكم.
[٤] . الغرور: ما يسبّب الإنخداع.
[٥] . نهج البلاغة - رقم الخطبة - ١٣٣.
[٦] . ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة ج ١٣ ص ١٦٧ - ١٦٨.
[٧] . ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة.
[٨] . أطور به: من طار يطور، بمعنى: حام حول الشّيء، وقاربه، يعني: لا أقارب الجور فيمن ولّيت عليه.
[٩] . ما سمر سمير: يعني مدى الدّهر.
[١٠] . نهج البلاغة - رقم النص ١٢٦. ما أمّ نجم فِي السماء.. يعني مدى الدّهر. في هذا الموضوع راجع كتابنا (دراسات في نهج البلاغة) الطبعة الثانية، فصل (المجتمعات والطبقات الإجتماعيّة) وكتابنا (ثورة الحسين)، الطبعة الخامسة - ص ١٠١ - ١٧٢.
[١١] . نهج البلاغة - رقم الخطبة: ١٩٢.
[١٢] . الحميّة: الأنفة والغضب.
[١٣] . الجامحة: من جموح الفرس - أراد أنّ الفئة الّتي لم تطع إبليس وجمحت عنه عادت فأطاعته واتّبعت سبيله في الكبرياء. أو أنّ الفئة الّتي جمحت عن الشرع انقادت إلى إبليس.
[١٤] . نجم: ظهر. أي أنّ العصبية بعدما كانت خفية في النّفوس ظهرت في ممارسات علنية.
[١٥] . استفحل: قوي واشتدّ وصار فحلاً.
[١٦] . الحرج: لغة في الحرج - بفتح الرّاء - وهو الإثم . يريد: إنّكم بطاعتكم لإبليس أصبحتم أعظم إثماً في دينكم. ورواية النّسخة المتداولة من النهج (فأصبح)، ولا يستقيم المعنى عليها، ورواية ابن أبي الحديد في شرحه (فأصبحتم) وقد اعتمدناها لأنّها أوفق بالمعنى.
[١٧] . أورى: اشد قدحاً وتوليداً للنار. كناية عن تخريب دنياهم بالفتن والقلاقل.
[١٨] . أمعنتم في البغي: بالغتم فيه، من أمعن في الأرض، أي ذهب فيها بعيداً.
[١٩] . مصارحة للّه..: أي مكاشفة يعني الإعلان بالمعاصي، وعدم التستر في شأن العصبيّة والتكبر الجاهلي.
[٢٠] . ملاقح جمع ملقح، وهو المصدر من لقحت: والشّنآن: البغض يريد أنّ الكبر والفخر الجاهلي مكان البغضاء والحقد ومثارهما.
[٢١] . منافخ الشيطان: جمع منفخ، مصدر من نفخ: يعني أن الكبر والفخر هما المكان الّذي ينفخ فيه الشّيطان من نفس الإنسان فيدفعها إلى الشّر والجريمة.
[٢٢] . اعتزاء الجاهلية: الإعتزاء هو الإنتساب، أي أنّهم يفتخرون بأنسابهم وآبائهم، كقولهم: يا لفلان، أو: يا لآل فلان.
[٢٣] . المراد من هذه الجملة وما بعدها أنّ هؤلاء الزعماء يفسدون بنزعاتهم الشرّيرة حياتكم وإيمانكم وطهارة نفوسكم.
[٢٤] . الأحلاس: جمع حلس. وهو كساء رقيق يكون على ظهر البعير ملازماً له، فقيل لكلّ ملازم أمر: هو حلس ذلك الأمر. فهؤلاء المغدون من رؤساء القبائل ملازمون للعقوق والتنكر لنعم اللّه ولأحكام الشرع وقواعد الأخلاق.
[٢٥] . المثلات والوقائع: يقصد بهما عقوبات اللّه الّتي استحقوها نتيجة لإنحرافاتهم.
[٢٦] . المثوى: المنزل. مواضع حدودهم بعد الموت على التراب، ومصارع جنوبهم: مواقعها بعد الموت على التّراب.
[٢٧] . مدارع الصّوف: جمع مدرعة - بكسر الميم - وهي كالكساء.
[٢٨] . زاحت: بعدت. وله: لأجله، يعني: الزموا كل أمر خافتهم الأعداء بسببه.
[٢٩] . التحاض، صيغة تفاعل من الحض بمعنى الحث والترغيب، يعني أن يحث بعضكم بعضاً على الإتحاد والتعاون.
[٣٠] . الفقرة: واحدة فقر الظهر. ويقال لمن اصابته مصيبة شديدة: قد كسرت فِقرته. يعني اجتنبوا كلّ ما أضعف الأمم السّابقة وسبب لها الإنحطاط.
[٣١] . المنة: القوة، ومعنى الجملة كسابقتها.
[٣٢] . تضاغن القلوب وتشاحن الصّدور بمعنى واحد: تبادل البغضاء بين فئات المجتمع.
[٣٣] . تخاذل الأيدي: ألا ينصر الناس بعضهم بعضاً ولا يتعاونون في حالات الخطر.
[٣٤] . التّمحيص: التّطهير والتّصفية.
[٣٥] . أجهد العباد: أكثرهم تعباً.
[٣٦] . المرار: شجر مر في الأصل، كناية عمّا أصابهم من العذاب والهوان على أيدي الفراعنة.
[٣٧] . رأى اللّه منهم جد الصّبر، أي أشد الصّبر.
[٣٨] . الأملاء: الجماعات، الواحد: ملأ، يريد اتحاد الفئات الإجتماعية وتعاونها.
[٣٩] . مترادفة: متعاونة.
[٤٠] . البصائر نافذة: الإرادة عازمة جازمة غير متردّدة للعلم بحقيقة الموقف أو الشّيء.
[٤١] . الغضارة: النّعمة اللّينة الطّيّبة.
[٤٢] . ما أشدّ اعتدال الأحوال: ما أشبه الأشياء بعضها ببعض.
[٤٣] . الرّيف: الأرض ذات الخصب والزرع، والجمع أرياف.
[٤٤] . بحر العراق: دجلة والفرات. قال ابن أبي الحديد: ١٣ : ١٧٣«أمّا الأكاسرة فطردوهم عن بحر العراق، وأمّا القياصرة فطردوهم عن ريف الآفاق أي عن الشّام وما فيه من المرعى والمنتجع».
[٤٥] . يقصد البادية الخالية مِن الزّرع والمياه والعمران.
[٤٦] . نكد المعاش: قلّته، وصعوبة الحصول عليه، وخشونته.
[٤٧] . عالة: فقراء (دبر ووبر) دبر البعير عقرة القتب. والوبر للبعير بمنزلة الصّوف للضأن. يريد أنّهم كانوا عالة فقراء يمثل البعير ثروتهم، ومرضه شغلهم الشاغل.
[٤٨] . الأزل: الضّيق والشّدّة، يريد بلاء شديداً شغلهم عن كلّ شيء.
[٤٩] . أطباق، جمع طبق. أي جهل متراكم بعضه فوق بعض.
[٥٠] . غرقين: من الغرق، مبالغة في وصف ما هم فيه من النعمة.
[٥١] . فكهين: بمعنى ناعمين.
[٥٢] . تربّعت الأمور بهم، أي أقامت، من: ربع بالمكان أي أقام فيه، يعني استقرار أحوالهم السّياسيّة والمعيشيّة.
[٥٣] . آوتهم الحال: ضمتهم وأنزلتهم، والكنف: الجانب.
[٥٤] . تعطّفت.. كناية عن السّعادة والإقبال، يقال: تعطّف الدّهر على فلان، أي أقبل حظّه وسعادته، والذّرى الأعالي، جمع ذروة، كناية عن عزّهم وقوّتهم وامتناعهم.
[٥٥] . لا تغمز.. لا تقرع.. مثل يضرب لمن لا يجترأ عليه لعزته وقوته.
[٥٦] . الأمثال هي ما ورد في القرآن بما قصّه اللّه تعالى من أحوال الأمم القديمة وكيف نزلت بها الكوارث نتيجة لممارساتها المنحرفة.
[٥٧] . التّناهي مصدر تناهى القوم عن كذا، أي نهى بعضهم بعضاً. يقول: لعن اللّه الماضين من قبلكم لأنّ سفهاءهم ارتكبوا المعصية. وحلماءهم لم ينهوهم عنها وهذا من قوله تعالى في شأن بني إسرائيل (كانُوا لا يتناهَونَ عن مُنكرٍ فعلُوهُ لبِئسَ ما كانُوا يفعلونَ) سورء المائدة / ٧٩.
[٥٨] . من جملة تقسيمات الواجب عند علماء أُصول الفقه تقسيمه إلى واجب عيني وواجب كفائي. ويعنون بالواجب العيني ما يتعلق بكلّ مُكلَّف ولا يسقط عن أحد من المكلّفين بفعل غيره. ويعنون بالواجب الكفائي ما يطلب فيه وجود الفعل من أيّ مكلّف كان، فهو يجب على جميع المكلّفين ولكن يكتفى بفعل بعضهم فيسقط عن الآخرين. نعم إذا تركه جميع المكلّفين فالجميع مذنبون. وأمثلة الواجب الكفائي كثيرة في الشّريعة منها تجهيز الميّت والصّلاة عليه، ومنها الحِرَف والصّناعات والمِهَن الّتي يتوقف عليها انتظام شؤون حياة النّاس ومنها الإجتهاد في الشّريعة، ومنها الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.
[٥٩] . سورة آل عِمران (مدنيّة - ٣) الآية: ١٠٤.
[٦٠] . سورة التّوبة (مدنيّة - ٩) الآية: ٧١.
[٦١] . ربّما يكون المراد من طاعة اللّه ورسوله، بعد ذكر الأمر والنّهي والصّلاة والزّكاة - الطاعة في الشّأن السّياسي، فلا يكون من ذكر العامّ بعد الخاص.
[٦٢] . سورة آل عِمران (مدنيّة - ٣) الآية: ١١٠.
[٦٣] . سورة آل عِمران (مدنيّة - ٣) الآية: ١١٣ - ١١٤.
[٦٤] . نهج البلاغة - باب الحكم - رقم النّص: ٣١.
[٦٥] . النفثة - كالنّفخة لفظاً ومعنى بزيادة ما يمازج النفس من الريق عند النّفخ.
[٦٦] . نهج البلاغة - باب الحكم - رقم النّص: ٣٧٤.
[٦٧] . نهج البلاغة - باب الحكم - رقم النص: ٢٥٢.
[٦٨] . نهج البلاغة - باب الحكم - رقم النص: ٣٧٤.

يتبع .....

****************************