د. فارس عزيز مسلم
من خلال قراءة كتاب "المستويات الجمالية في نهج البلاغة (دراسة في شعرية النثر)"(*) ، يتضح أنهُ ينطوي على مباحث رئيسةٍ يمكن من خلالها استخلاص بحث آخر وأشمل واكثر مغايرةٍ يمكن أن يحمل عنوان "خصائص الأسلوب في نهج البلاغة"، وسأحاول تناول ذلك بشيء من التفصيل بعد مقدّمةٍ عن "الأسلوب".
الأسلوب :
الأسلوب في أبسط تعريفاته، وفي أعمقها، هو " طريقة المنشئ في التعبير عن عواطفه وأخيلته وأفكاره" [١] ، و"مهما تعدّدت التعريفات وتنوّعت، يمكننا القول إن الأسلوب في الفن: يُقصد به الطريقة في إظهار العمل الفني إلى الوجود" [٢] ، " ولا يتّضح الأسلوب إلاّ في أنموذج واسع من قصائد وخطب ونصوص" [٣] ، فهو يتطلّب الامتداد. وقد نقول إن الامتداد يستدعي الأسلوب، والأسلوب – في أحد معانيه في اللغة – هو " كُلّ طريقٍ مُمتد" [٤] .
* السمة الأسلوبية :
يمكن تحديد السمة الأسلوبية في نصٍّ واحد ، أوفي مجموعة نصوص بما يأتي :
١. الاختيار :
وفي أحد تعريفاته هو "محصلة مجموعة من الاختيارات المقصودة بين عناصر اللغة القابلة للتبادل" [٥] .
٢. الانحراف :
يُوصف الأسلوب – هنا – بأنّه "كل ما ليس شائعاً ولا عادياً ولا مُطابقاً للمعيار العام المألوف" [٦] ، فإذا كان، الاختيار، يمثّل المستوى المثالي للغة في الأداء، فإن الانحراف يمثّلها في مستواها الإبداعي "الذي يعتمد على اختراق هذه المثالية وانتهاكها" [٧] .
والمُلاحظ أن "الخروج على الطرق المُتعارفة في التعبير مُعيب اجتماعياً، ولكنّه مقبول، إذا كان له غرض فني، ولذلك لا يُقِدمُ عليه إلاّ أديب مُتمكّن" [٨] ، فاللغة الشعرية – من خلال الانحراف – تتوخّى "تحقيق أكبر قدر من الإثارة الجمالية" [٩] عند المتلقّي.
٣. التكرار :
إن (الاختيار) و(الانحراف) كليهما لا يُشكّل سمة أسلوبية ، إلاّ بـ(التكرار ) والانتظام عبر الورود في النص أو في مجموعة النصوص، فالظاهرة النحوية أو البلاغية أو غيرها لا تُمثّل ملمحاً أسلوبياً ، إلاّ إذا " أخذت صفة الانتظام" [١٠] ، أو التواتر في النصوص الأدبية ، إذ أنّ " الملمح الوارد مرّة واحدة لا يُشكّل سمةً أسلوبية" [١١]، لكنّها تتجلّى بالتكرار بإيقاع مُحدّد، فيُصبح حينئذ سمة أسلوبية. وهنا يأتي دور الباحث، إذ "يحتاج تمييز سمة متواترة إلى أُذن مرهفة ومراقبة حاذقة" [١٢] .
المستوى الإيقاعي
* التكرار :
يقول الباحث نوفل أبو رغيف في كتابه أن التكرار يلقى أهمية وعناية ظاهرة "في خطب نهج البلاغة" [١٣] ، فهو – إذن – سمة أسلوبية في (نهج البلاغة)، وهو "من أساليب البلاغة والفصاحة" [١٤] ، وهو سمة أساسية في الشعر المعاصر" [١٥] ، وقد عُدّت بعض صوره "لوناً من ألوان التجديد" [١٦] .
وللتكرار عدّة أغراض، أولها "التأكيد" [١٧] ، وله وظيفة إيقاعية هي تحقيق"التناسق الإيقاعي" [١٨] في الكلام.
وعلى هذا فالتكرار قد أدّى – في نهج البلاغة – دوراً كبيراً في "إيجاد تنغيم موسيقي يعمل على شدّ الوظيفة السمعية، للتحوّل من خلالها إلى التعرّف على الأبعاد الدلالية" [١٩].
* التضاد [ الطباق ] :
ويرى نوفل أبو رغيف إن التضاد يمثّل " نسقاً بارزاً في تشكيلات الإيقاع التي يحفل بها نهج البلاغة" [٢٠] .
والتضاد أو (الطباق) من الفنون البلاغية المهمّة في الشعر، اعتمده شعراء العربية الكبار، ومنهم (أبو تمام) الذي اعتمد "اعتماداً يكادُ يكون كاملاً على هذه الأداة" [٢١] .
ومنهم، أيضاً، (أبو الطيّب المتنبّي) فقد كان "لا يعدل عنه ولا يكاد يعدل به أداةً فنية أخرى. فالطباق "ركن مهم في العبارة، لا يُستغنى عنها" [٢٢] .
ويمتاز (الطباق) بأنه يولّد (كهرباء) النص الأدبي، بشحنه بقيم موجبة وسالبة، تتولّد منها معانٍ كثيرة، وتخلق منها الحركة [٢٣] .
ومن خلال (الطباق) يمكن خلق المصطلح البلاغي المسمّى (العكس)، وهو "أن تعكس الكلام فتجعل في الجزء الأخير منه ما جعلته في الجزء الأول" [٢٤].
ومن أمثلة ذلك في نهج البلاغة قول الإمام علي (ع): "الوفاء لأهل الغدر غدر عند الله، والغدر بأهل الغدر وفاء عند الله" [٢٥] .
* الجناس أو [ التجنيس ] :
الجناس أو التجنيس أهمية إيقاعية دلالية في الشعر العربي، إذ إن "أسلوب التجنيس يُكسب الكلام حُسناً ويعود على المعنى بالتمكين في ذهن السامع، فهو من صميم البلاغة ومقاصدها التي تُؤمُّ " [٢٦]، وقد عدّه (ابن المعتز) الباب الثاني من "البديع" [٢٧] .
ويتواشج ( الجناس ) مع ( السجع ) في " نهج البلاغة " [٢٨].
وهذا يُشبه تماماً مجيء ( قوافي الشعر ) متجانسة في بعض الأشعار أو القصائد ، فيزيد الإيقاع تناسقاً وتناسباً .
ويمكن القول إن ( التكرار ) و ( التضاد ) و ( الجناس ) قد شكّلت الموسيقى الداخلية للنص الأدبي في ( نهج البلاغة ) باعتبار هذه الفنون البلاغية من مُشكّلات الموسيقى الداخلية [٢٩] في الشعر أولاً، وفي النثر أيضاً، لكنها في الشعر تترافق مع (الوزن) و (القافية) أو ما يُسمّى بـ (الموسيقى الخارجية).
أما في النثر فهي تنفرد لوحدها إيقاعياً ، وهذا ممّا يزيد في أهميتها وفعاليتها. كما اشار مؤلف المستويات الجمالية.
الأساليب الإنشائية
* الاستفهام :
ويعدّ "من أبرز صور ظاهرة التحوّل في الوظيفة في لغة نهج البلاغة، كما يشير الباحث أبو رغيف" [٣٠].
والاستفهام هو "طلب الفهم، أي طلب العلم بشيء لم يكن معلوماً، بوساطة أداة من أدواته" [٣١]. وقد "يخرج الاستفهام عن معناه الأصلي – وهو طلب العلم بشيء لم يكن معلوماً من قبل – إلى أغراض كثيرة " [٣٢].
وقد تحوّل – الاستفهام – في (نهج البلاغة) من "وظيفته الحقيقية التي تبحث عن إجابة إلى وظيفة تستند إليه بوصفه وسيلة بلاغية يمكن استعمالها على غير الوجه الذي وُضعت من أجله لمنح اللغة هوية استثنائية تنأى بها عن الجمود والعلمية والمنطق الصرف " [٣٣]. والاستفهام في – الشعر – يلعب دوراً كبيراً في إثارة المتلقي، فالشاعر أو (الخطيب) يسأل لكنّه لا يقدّم جواباً، وهذا لا " يعني أنه لا يفكّر أو لا يعرف الإجابة بل، العكس ربما، فإن كون الشعر سؤالاً يعني أنه يترك أفق البحث والمعرفة مفتوحاً، وأنه لا يقدّم يقيناً، فالسؤال هو الفكر، لأنه قلق وشك ، أما الجواب فنوع من التوقّف عن البحث والتدبر والتفكّر، لأنه اطمئنان ويقين . السؤال بتعبير آخر، هو الذي يدفع إلى مزيدٍ من الفكر " .[٣٤] وهنا تكمن أهمية (الاستفهام) في كونه المثير والمحفّز للمتلقي والمؤثّر فيه.
* الطلب :
كثيرا ما يترادف ( الأمر ) و ( النهي ) في نصٍّ واحد في نهج البلاغة، فمثلاً عندما يخاطب به الإمام علي (ع) ابنه محمد بن الحنفية لمّا أعطاه الراية يوم الجمل قائلاً:
" تزول الجبال ولا تزل ، عضّ على ناجذك ، أعر الله جمجمتك، تِد في الأرض قدمك ، ارمِ ببصرك أقصى القوم وغُضّ بصرك ، وأعلم أن النصر من عند الله سبحانه " [٣٥].
ففي هذا النص يتقدّم النهي (لا تزل) الذي هو جملة إنشائية على الإخبار (تزول الجبال)، وهذا ما خلق طرافة وجدّة في التعبير زادت من قوته وتأثيره وأثره على المخاطب .
وفي هذا النص أيضاً ، تزيد أفعال الأمر على أفعال النهي ، فإذا كان ألأمر يطلب القيام بشيء أو بفعل ، فإن النهي يطلب القيام بضدّه ، فهما متعاكسان في الجهة ، ويمتاز ألأمر بأنه " لا يدل على زمن يتلبّس فيه الفاعل بالفعل ، فهو مجرّد صيغة يُطلب بها الفعل من الفاعل " [٣٦].
فالأمر " ليس فعلاً حقيقياً ، إذ لا يدل عل حدث بقدر ما يدلّ – في الأصل – على طلب القيام بحدث " [٣٧]، أي إنه ليس واقعياً ، بل هو أقرب إلى التصوّر والتخيّل ، ممّا يفسح المجال للمنشئ أن يعبّر عمّا يتصوّر أو يتخيّل دون أن يتقيّد بواقعة حقيقية ، وهذا أقرب إلى الشعرية التي مثلت بؤرة البحث في نثر علي بن ابي طالب كشفاً عن مستوياتها الجمالية.
الأساليب التركيبية
* التقديم والتأخير :
للتقديم والتأخير خطورة في النثر تزيد على خطورته في حقل الشعر، لأن الشعر يحكمه الوزن وتتحكّم فيه القافية، على حين أن النثر متحرر من هذين القيدين، لذلك عدّ بعض اللغويين (التقديم والتأخير) من ضرورات الشعر [٣٨]، ويعدّ (التقديم والتأخير) وسيلة من وسائل التعرّف على الانزياح " عن القاعدة التي تمس ترتيب الكلمات" [٣٩]، ولعل هذه الظاهرة التركيبية " من أكثر الظواهر التركيبية بروزاً في الإفصاح عن الجهد المبذول من قبل المبدع للانحراف باللغة عن مسار الجمود والاعتياد المألوف الذي لا يخرج اللغة إلى حيّز المغايرة والجمال ممّا يعرف نقدياً بشعرية كسر النظام أو خرقه توصلاً إلى خلق خلخلة في بنية التوقّع الجمالية " [٤٠]، والعلّة في ذلك " أن التقديم والتأخير يحققان أهدافاً جمالية قد لايحققها الالتزام بالرتبة العادية للعبارة " [٤١].
وإذا كان (التقديم والتأخير) سمتين أسلوبيتين في (نهج البلاغة)، فهذا يعني أن الغرض الجمالي هو المقصود من وراء هذه التقنيات وبالتالي فإن (الشعرية) تتحقق على نطاق أوسع وبمستوىً أعلى يجعل منها ظاهرة جليّة في منظومة الظواهر التي اشار اليها الباحث في نهج البلاغة.
* الإيجاز :
ومن بين تعريفاته العديدة يمكن عرضه على أنه "وضع المعاني الكثيرة في ألفاظ أقل منها" [٤٢]، ويبقى الإيجاز "الركيزة الرئيسية في عملية التحوّل بالكم من مستوى التعبير العادي إلى المستوى الاستثنائي الذي يمنحهُ صفة الجمال ويجعله قادراً على استيعاب القراءة البحثية والنقدية على سبيل التأويل من أجل تشخيص قوانين تلك النصوص التي يمكن أن توصف بالاستثنائية أو الشعرية " [٤٣].
ولا ينبغي أن ننسى مبدأً أساسياً في (قصيدة النثر)، وهو " أن قصيدة النثر الحديثة موجزة على الدوام" [٤٤]،ففي الإيجاز تتكشّف الشعرية وتتوحّد أنغام الكلمات لتؤلّف موسيقى العبارة الموجزة .
وقد استرعى إيجاز عبارات الإمام علي (ع) انتباه علماء البيان وكبار الأدباء، وأولهم، (الجاحظ)، إذ علّق على قول الإمام علي (ع): "قيمة كلّ امرئٍ ما يُحسنهُ " قائلاً:-
"فلو لم نقف من هذا الكتاب إلاّ على هذه الكلمة لوجدناها شافيةً كافيةً ومجزِئةً مُعفية ، بل لوجدناها فاضلةً عن الكفاية ، وغير مقصّرة عن الغاية" [٤٥].
ويرتبط ( الإيجاز ) بـ( الحذف ) برابطة دلالية ، فقد جُبلت ( اللغة العربية ) على الحذف بسبب ميلها إلى "الإيجاز" [٤٦]. والحذف " باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى به ترك الذكر ، أفصح من الذكر ، والصمت عن الإفادة ، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق ، وأتمّ ما تكون بياناً إذا لم تُبن" [٤٧] .
والحذف مما " يمكن ملاحظته في المستوى التركيبي للغة النهج على صعيد واضح" [٤٨]. تمكن الباحث نوفل أبو رغيف من رصده وإبرازه وخوضه في اقتناصات واستدلالات قدمت ما يؤكد المعنى الآنف بشكل مستفيض.
المستوى الدلالي
* التناص :
التناص هو " العلاقة (العلاقات) الحاصلة بين أحد النصوص ونصوص أخرى يُستشهد بها ، يُعيد كتابتها ، يمتصها ، يوسعها ، أو بصفة عامة ، يقوم بتحويلها" [٤٩].
وأهم نص يتناص معه (نهج البلاغة) هو (القرآن الكريم) ، فكلام الإمام علي (ع) " من حيث المضامين ، يكاد يكون تناصاً كاملاً ، في أكثره مع القرآن الكريم" [٥٠]، وهو " لأمر طبيعي، لأن الإمام علياً (عليه السلام) كان من حملة القرآن، وأوّل من جمع القرآن، فهو (ع) القرآن الناطق.
* الاستعارة :
أكد البلاغيون العرب قدرة الاستعارة على صياغة الكلام البليغ المؤثّر، فالاستعارة " أوكد في النفس من الحقيقة ، وتفعل في النفوس ما لا تفعله الحقيقة" [٥١].
أما الشعر الذي يخلو من الاستعارة " فإنه في الغالب ليس بشعر " [٥٢]، وهذا يدل على أن " الصور الشعرية – بمفهومها القديم – قفزت إلى المرتبة الأولى بعد أن كانت موسيقى الشعر تحظى بتلك المرتبة عند كثير من النقاد العرب القدامى" [٥٣].
فالاستعارة " من أبرز صور البيان العربي ، وأروع مشاهد التصوير الفني" [٥٤].
وإذا علمنا أن " الظاهرة الاستعارية تحتل المساحة الأكبر في المهيمنات الأسلوبية في النهج" [٥٥] ، وعلمنا أن الاستعارة " تشكّل قلب العملية الشعرية " [٥٦]، تبيّن لنا ما تمتاز به نصوص (نهج البلاغة) من شعرية عالية، ومن علوّ شاعرية يمسك بزمامها سيد البلاغة العربية.
الخاتمة
يمكن لهذا البحث السريع وبناءاً على ما تقدم، أن يخلص إلى النتائج الآتية:
١.إن كتاب (المستويات الجمالية في نهج البلاغة) يحتوي في داخله مضامين عدّة، من أبرزها وجود خصائص أسلوبية في نهج البلاغة، استطاع الباحث الكشف عنها وإبرازها بجهد واضح وكفاءة بحثية.
٢.حاول البحث إبراز الخصائص الأسلوبية في (نهج البلاغة) بشكل مستقل وفرزها عن غيرها من الظواهر العامة والمختلطة.
٣.تدل الخصائص الأسلوبية المتضافرة في (نهج البلاغة) على أن مُنشئ هذه النصوص (واحد)، أو أن لغة الكتاب على تعدد اشكالها وأجناسها تعود لمنشئ واحد، وهذا دليل أسلوبي على صحة نسبة الكتاب إلى الإمام علـي(ع)، كما دافع الباحث عن ذلك واثبته على طول مسيرة المستويات التي عكست شعرية النشر في تراث الامام علي بن ابي طالب.