وقال (عليه السلام): زُهْدُكَ فِي رَاغِب فِيكَ نُقْصَانُ حَظّ، وَرَغْبَتُكَ فِي زَاهِد فِيكَ ذُلُّ نَفْس.                
وقال (عليه السلام): اذْكُرُوا انْقِطَاعَ الَّلذَّاتِ، وَبَقَاءَ التَّبِعَاتِ.                
وقال (عليه السلام) : مَنْ كَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ هَانَتْ عَلَيْهِ شَهْوَتُهُ .                
وقال (عليه السلام) : مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا .                
وقال (عليه السلام): الغِنَى والْفَقْرُ بَعْدَ الْعَرْضِ عَلَى اللهِ.                
وقال (عليه السلام): اذْكُرُوا انْقِطَاعَ الَّلذَّاتِ، وَبَقَاءَ التَّبِعَاتِ.                
وقال (عليه السلام): لاَ خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ، كَمَا أنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ.                

Search form

إرسال الی صدیق
قـــــراءة في وثيقة العهد ومسائل أخرى من متطلبات البحث عن المفاهيم القانونية في نهج البلاغة

الباحث: حميد علي خان

طوبى لتلك البقعة المباركة ، تغفو على هضبة ، لتحتضن رفاة علي ، تتنشقُ عبقهُ كل صباح ، فيتحول الرأي عندها إلى أشعاع ...

المقدمة

كلفتُ من أساتذة أجلاء ، أن اعد بحثاً عن المفاهيم القانونية في نهج البلاغة ، تأملت ملياً فيما كلفت به ، فتمنيت ان اكون بمستواه فهل سأكون ؟

 لقد اعترتني الحيرة ، كيف ابدأ ، وبم انتهي ؟ وإنا أتحدث عن جانب خطير من جوانب الشخصية الأعلى مثلاً ، في الحياة وفي التاريخ .. فاضطررت ان استنجد بوعي مما سأقول ، من واقع ما كنت يوماً بعيداً عنه ومن وحي والهام تلك الشخصية ، وما تركته لنا وللعالم من تراث أعجز القلم واعيى اللسان والذاكرة فان وفقت في ذلك فهذا ما تمنيته وان لم أصب فحسبي ما حاولت ، تقرباً لشخص الامام القائد ، والإنسان .. الذي لم يدع جانباً من جوانب الحياة إلا وترك له حيزاً من فكرة وعطاءه..

 ولكن ، دعوني ابتعد عن الأساليب المتكررة لا تبع خطى فلسفتي في فهم الأشياء وتفسيرها بالشكل الذي يرضي قناعتي ويحدد رغباتي ومواقفي ..

وما سأقوله ليس كفراً ...

فانا أجد الانسان، أي إنسان ، يكاد ان يكون نبياً.. فان لم يكن كذلك فهو انسان !! والنبي والانسان كلاهما يسلكان الطريق ذاته نحو الله.. غير ان النبي ، سيلاقي الذات العليه، هاشا باشا، مبتسماً فرحاً بما أوتي ، لانه من أهل الدار وهو اعلم من رفيقه بمسالك السماء ، ومناطق الضيافة ، فيها.. بينما قد يمكث الإنسان طويلاً عند أبواب السماوات قبل ان يؤذن له بالولوج ، وقد لايؤذن له أبداً .. فتذهب نفسه على ذلك حسرات ..

 ولكن ، إذا كان الإنسان ، هو من يقول للشمس قفي حتى أكمل صلاتي ، وهو بوعي تام مما يعتقد ويقول ، وإيمان أيضاً ، مثلما تكون مواطن الأقداس هي الأخرى ، على إيمان حتماً ، وعقيدة كذلك دون ان يخامرها ادني شك بصدق ذلك الإيمان.. وإذا كان الرجل ، هو من كرمته الملائكة في أحد ، يوم هتف صائح منها في السماوات العُلا ، ان لافتى الا هو ، ولا سيف الا سيفه واذا كان ذلك الرجل هو من قال له محمد النبي أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، الا انه لانبي من بعدي* .. فلا بد أن يكون ذلك الرجل ، وصي النبي ، هو انت ..واذا كان ذلك الرجل هو من قال له محمد ، انت باب مدينة العلم ، فاكيد ان النبي يعي ما يقول وان ما قال ذلك الا بامر من الله ، وتوفيق منه ..

واذا كان ذلك الرجل هو من قال عنه عمر بن الخطاب ان الله قد خلق ملائكة من نور وجهك .. هو أنت حتماً .. ومن قال عنه عمر (لايفتين أحد في المسجد وانت فيه) فهو أنت ولا أحد سواك..

ولا بارك الله في معضلة لا تحكم فيها .. ولولاك لهلك عمر ..

الم تكن انت من ولاه الله في كتابه ،(( انما وليكم الله ورسوله والذين امنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ))(صدق الله العلي العظيم) وحيث ان بحثي هذا ، محصور في ايضاح المفاهيم القانونية في نهج البلاغة ، ما يحتم عليّ ان اركز النظر بما يتعلق بالنطاق الذي اشرت اليه اذ يجب حينئذ مراعاة التسلسل المنطقي والتاريخي لتلك المفاهيم بما ضمه نهج البلاغة من صور واضحة لمتطلبات البحث ، وقد اكون مرغماً ان اخرج على النص احياناً بطرح رؤى ربما لم ترد في سياقات النهج وهو ما يعني ، التطبيق العملي لتعزيز العمق الانساني ذي الصلة بمفردات قانونية وقضائية مارسها الامام ، حتى اللحظات الاخيرة من حياته .. وهو يشدد على وجوب عدم تجاوز القصاص حتى من الجاني الذي فلق رأسه .. بل يؤكد على المحافظة على شكل آدمية الانسان اثناء تنفيذ العقوبة ، تطبيقاً لذلك المبدأ .. وبقواعد تناولتها القوانين العقابية والتنظيمية الحديثة ، باقل تشديد.. من خلال ذلك يتضح ان الامام قد كفل كل الضمانات القانونية اللازمة التي سيتمتع بها المتهم او الجاني او المتنازع قضاءاً ، او المدعي بالحق الشخصي او المسؤول مدنياً ، او جزائياً او المدعي بالحق المدني او أي طالب حق لدى الغير مع ضمانه بالمقابل لحق الدفاع المشروع عن النفس وعن المال وعن العرض .. مثلما له الحق في الدفاع عن نفسه امام القضاء بالطرق التي يقتضيها الموقف..

كفل الامام ذلك ، سواء عندما يعرض الامر امامه كقاض عادل ، او عندما يكون هو المسؤول عن نزاهة القضاء واستقامته ، كولي لامر المسلمين .. فكل ما اشرت اليه ، مدعوم بما يقابله من نصوص في نهج البلاغة وشروحها ، مع ما يقابله من نصوص اخرى في القوانين الوضعية الحديثة ..

 ومن نصوص النهج ، استوحيت الكثير الكثير من المبادئ القانونية الصرفة ، والمبادئ ذات الصلة بالقانون والقضاء وضمان سلامة تطبيقها تطبيقاً سليماً ..وصحيحاً ، والتي ورد الكثير منها مطعماً بمفردات لم تكن معروفة بصيغها الحالية والتي يمكن تصنيفها بالات:-

  • المفاهيم القانونية ذات الصلة بحقوق الانسان.
  • المفاهيم القانونية في القضاء..
  • مبادئ العدالة في التطبيق .. ومبدأ الفصل بين الشهود.
  • عدم تجاوز حق الدفاع ، وعدم تجاوز القصاص.
  • مبدأ استقلال القضاء .

لقد أسس الامام لتمتين دعائم الحق والعدل من خلال تلك المبادئ وتعزيزها والعمل بمضامينها مستخدماً في ذلك الطرق العلمية والفسلجية والنظريات الرياضية في مراحل التحقيق والفصل في المنازعات المدنية القائمة بين المتخاصمين او تلك المتعلقة بالقسم الجنائي كجرائم الدم مثلاً.. او حتى الجرائم المعروفة انذاك تبعاً لبساطة المجتمع وعدم تلوثه بالعقد اللاحقة... ولا يفوتني ان اذكر ، ان ذلك الفكر الخلاق الذي اغنى العقول والقلوب ، لم يبخل بعطاءه على احد ، حتى مع من اختلفوا معه في الرأي او الاتجاه ، او الهدف والمسار.. واجد من نافلة القول ان اذكر اني استعنت بكتابة البحث بعدد كبير من المصادر مع مراعاتي للتنوع الفكري فيها دون حصرها في نطاق محدد.. ولعل اختياري لعنوان البحث وهو (قراءة في وثيقة العهد ومسائل اخرى ) ليس لأن تلك الوثيقة ستكون المدخل الواسع لاي باحث تهمه الكتابة عن التراث الخالد للامام علي وحسب ، وانما لانها حقاً تزخر بكل ما يحتاجه البحث من عجائب الفكر الانساني الوقاد الذي يمس شغاف القلوب دائماً وأبداً ..

والله الموفق ..

الفصل الأول

المفاهيم القانونية ذات الصلة بحقوق الإنسان

أية عظمة تلك المتفجرة من ثنايا الضمير وخلايا الوجدان ، واي منهج حياة ، سبق زمنه بعصور حتى عجز أهل ذلك العصر ان يستوعبوا شيئاً من فكر وتراث وحضارة لا زالت حبيسة الثرى الذي ضم رفاة ذلك العظيم الذي رقى على مدارك قومه فلم يفهموه ، ليس لانهم قليلوا الفهم والادراك ، بل لأنه سبق عصره مما استعصى على أهل زمانه فهمه ، الا من اراد عن عمد ان يسيء له حتى في عدم الفهم.. وحيث ان الصدى الانساني الذي يحددنا فيه منهج البحث وعنوانه يلزمنا ان نعود ادراجنا لذلك المفهوم ، الذي يتركز من حيث السياق المطلوب وهو بعض ما تضمنته وثيقة العهد والمحددة في وصية الامام لمالك الاشتر وما يهمنا من هو الات :-

المبحث الاول

حقوق الانسان ذات الصلة بالمبادئ القانونية والقضائية التي تضمها تلك الوثيقة

فهو عندما يقول ( واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ) فانه يجسد اسمى المعاني الانسانية لاحترام الطبيعة البشرية للانسان وآدميته ، فيحمل تلك الصورة من الوصية الكثير من المشاعر والعواطف المشفوعة بالرحمة والمودة والوداعة وهو ايضا تحديد لما يجب ان تكون عليه العلاقة بين الحاكم والمحكوم حيث يتبلور من خلال تلك  الصورة مدى الرقي الاخلاقي لمقولة الامام تلك التي توضح الجانب الديمقراطي لادارة الدولة وتسير شؤون الرعية بشكل هادئ وشفاف يضمن لجميع مواطني البلاد الحياة الامنة المستقرة والكريمة .. فيمزج بين دستورية الحكم ويحدد الطبيعة السياسية في كيفية ادارة الدولة .. وعندما يكمل الامام مبدأه السابق يحذر الوالي المعين حديثاً من التعدي على الحريات العامة وكيفية الادارة للاقاليم الواقعة تحت حكمه والتي تدار بطريقة فيدرالية بتعبير حرفي حيث يحمل ذلك التحذير محمل التهديد والوعيد من خلال قوله (ولا تكن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم) ..

 وهنا تتحد صور قانونية اكثر تطوراً في ايجاز تلك المفاهيم ووضعها بين يدي المتلقي سواء كان آمراً او مأموراً فتبرز من خلال ذلك النقاط التالية:-

  • إلزام الولاة بإتباع نظام قانوني اكثر انفتاحاً على الشعوب المحكومة من خلال نبذ التسلط والقهر والتضييق مما يعتبر منعاً لديكتاتورية الوالي من خلال قول الامام (ولا تقولن اني مؤمر آمر فأطاع..) فهو بهذا يرسم شكل الحكم الذي يرى وجوب اتباعه في البلد الخاضع لحكمه كدولة غير مركزية الطابع بفعل سعة الدولة وبعد الأقاليم عن حكومة المركز..

ب- والعفو هو تصرف قانوني يلزم الإمام واليه في الإقليم التابع للدولة ان يراعي إحكامه فيه بل انه اوجب ذلك التصرف نظراً لمقتضيات حقوق الناس (وكونهم عرضة للوقوع في الخطأ والزلل) ولمصلحة الدولة والمجتمع على حد سواء..

   جـ- حرية التصرف بالحق العام .. واعتقد ان قصد الإمام في مقولته (يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ) (فأعطهم من عفوك وصفحك..) وهو ما أشرت إليه في الفقرة السابقة هو ان الوالي يمتلك القدرة والقرار لاستعمال ذلك المبدأ في اهدار العقوبات التي أشار إليها الإمام حصرياً .. والناشئة من التصرفات المشار إليها في النص..

    ولعل ذلك الرأي ينسحب إلى قرارات وإجراءات جادة بالنسبة لحق الدولة أو الولاية كحق عام من الممكن التصرف فيه بقرارات وأوامر يشبه إلى حد ما بقوانين العفو التي تلجأ إليها الدول في الوقت الحاضر..

 ولكن ، ارى من الجدير بالاشارة الى ان الامام بتوجيه الوالي يحصر ذلك العفو بامور الحق العام فقط وليس الى سواه من الجرائم الواقعة على الاشخاص .. فان ذلك ليس من شأن الوالي .. والا اعتبر ذلك خرقاً لحقوق الانسان واخلالاً بسلامة القضاء..

المبحث الثاني

حقوق الانسان من منطلق بحت

حقوق الانسان من خلال التطبيق الفعلي لقول الامام (فأنهم صنفان ، اما اخ لك في الدين ، واما نظير لك في الخلق)..

 ان هذا التحول العجيب والمذهل من صورة لاخرى مختلفة اختلافاً كلياً عما اعقبها او ما كان قد سبق ، دون ان يخل ذلك التحول والتنقل بمجريات السياق او وحدة وجمالية النص.. رغم ان جميع ذلك هو نسيج لوحة واحدة ،مما يجعل النص كله في حالة اعجاز ابداعي مثير ،  وبعض تلك الاثارة تكمن في المزج المحكم بين حالتين ، القانون كقواعد آمرة ، وحقوق الانسان ، مع أمكانية ارتباطهما مجدداً ، بما يشبه التوائم الحتمي والمتلازم الذي يصعب معه الفصل بينهما..

ومن هنا أقول ان ما اورده الامام في هذا السياق لم يتكرر على مدى العهود التي تلت حكمه رغم التطور الطبيعي وارتقاء الفكر البشري.. كما لم يكن امتداداً لما سبق الا من خلال التزامات وادبيات الدين الجديد .. من أوامر ونواهي .. ولم يحصل مقارب لهذا البناء العظيم لا في ظل مبادئ الثورة الفرنسية ولا عند قيام هيئة الامم المتحدة في اربعينيات القرن الماضي..

لقد ضمن الامام ، بهذا النص مفاهيما انسانية غاية في الرقي الاخلاقي والجمالي ، الفني والانساني الذي يفرض وجوده وهيمنته ليكون منهجاً خلاقاً للمساواة بين ابناء الجنس البشري دون تمييز ، فالذين يفرق بينهم الدين الذي يعتقدونه ، تجمع بينهم الطبيعة الخلقية للبشر وبما ان الناس متشابهون او متطابقون في الخلقة بتطابق الحواس عندهم او في مكونات الجسم البشري الخارجية وهم بتطابقهم هذا يجدون لدى الامام حيزاً عظيماً يجعل كل عرق منهم له على الاخر ، الحقوق ذاتها ، فتسقط لديه الاختلافات الاخرى كالجنس واللون والدين والقومية..

ولست مغالياً اذا قلت ان كل القوانين او المنظمات الحديثة في العالم ، أو الانظمة التي تعني بحقوق الانسان ، وان تعددت فانها لم تصل الى تحديد مفهوم جامع مانع يحاكي قول الامام الذي اختصر فيه كل المفردات الانسانية بكلمات قليلة غاية في الروعة..

ولاشك اني درست بتعمق القانون الدولي العام والخاص فما وجدت مفهوماً اكثر احاطة وتأثيراً من نظرة الامام الى احترام الذات الانسانية ايا كان موقعها في العالم..

انها حقاً اسمى تعبير عن حقوق الانسان.. ومن الغريب، فانا لم أجد في بعض الشروح التي راجعتها اية اشارة لهذه الصورة ، فعلى سبيل المثال اجد ان ابن ابي الحديد المعتزلي رغم اسهابه في شرح الوثيقة كاملة ، لم يتطرق ال هذا الجزء منها..

المبحث الثالث

مفاهيم دستورية

القانون الدستوري ليس غائباً البتة عن فكر الامام القائد .. بل نجد ان نهج البلاغة يزخر بصور رائعة وملامح دستورية كثيرة من خلال استقراء نصوصه .. على درجة عالية من الوضوح والثبات ، فمركز الدولة هو العراق وعاصمتها هي الكوفة ، والبلاد واسعة مترامية الاطراف ومتباعدة جداً ، والمواصلات فيها تكاد تقتصر على طرق القوافل وهي قليلة ومحدودة وبالشكل الذي يجعلها عرضة للاخطار المتعددة اذا استثنينا خطر تعرضها للاغارة من قطاع الطرق واللصوص او الاعداء المارقين على حد سواء.. اذن فتلك الاقاليم لايمكن حكمها والسيطرة عليها مركزياً ، وبالتالي فانها تخضع لسيطرة الوالي كلياً مما يجعل عمله ، وسلطاته ، تكاد ان تكون مطلقه .. فلا رقابة عليه ولا وسيلة تحد من تلك الصلاحيات الا من خلال ما يحسه الوالي من رقابة الهية ان كان مؤمناً متديناً ، او ما يصله من توجيهات الحكومة المركزية..

 اما عند الامام فالامر مختلف كليا ً، فهو عندما يولى احدهم يضع له نظاماً مكتوباً على شكل وصية او عهد او خطاب ، في اغلب الاحيان وبالشكل الذي يستحيل معه على ذلك الوالي الخروج عليه.. بل كثيراً ما يسبق الوالي الى ولايته ، خطاب آخر محرراً الى اهل البلد المولى عليهم ، مبيناً فيه ما للوالي من حقوق وما له او عليه من واجبات .. تتضمن تلك الوثائق المكتوبة منهاجاً دستورياً يضمن حقوق الجميع الحاكم والمحكوم معاً..

غير ان كل الصور او معظمها الواردة في نهج البلاغة والذي لم يكن مقصوراً على وثيقة العهد وحسب ، وان كانت منهاج عمل وحياة وحكم وقانون لخص فيها الامام نظريته الدستورية بشكل واسع دون ان تخلو العهود والوصايا والخطب والرسائل الاخرى من اشارة واضحة لتوجهات الامام وحرصه على ضمان حقوق الناس في الاقاليم التي يولي عليها فيضع الوالي امام جملة من المبادئ التي تصلح وتتفق مع نظريته الدستورية لتسيير شؤون الرعية دون اكراه او تضييق..

وان من تلك التعليمات والقيود التي يلزم بها واليه ، على مصر من الامصار ، ما يجعلنا قاصرين تماماً عن التصور الحر لدينا عما يريده الامام وكيفية تمكننا من ملاحقته ، او ادراك حدوده ما يرسخ لدينا العجز عن تفسير رؤيته لادارة الاقاليم.. وقبل ان تختلط لدينا التصورات ومن واقع كوننا قد نضطر لاستعادة النصوص والاستنجاد بها بشكل مكرر، لان من النصوص ما يصلح ان يستخدم لاكثر من موضع واكثر من غرض لتداخل الرؤى لدينا ووضوحها لدى الامام ومن زاوية من يحاول الاستنجاد بما يجده من مصادر مستعيناً على ذلك بمفردات لا يرقى الى فهمها بشكل سليم على امل ان يوجز المفاهيم التي طرحها الامام على ولاته او مايريده منهم بشكل محدد وملزم وكمايلي:-

  • أ- عدم أظهار الابهة والتجبر والغلضة اثناء تسلم الوالي مهام عمله في الاقليم الذي انتدب لتوليه..

 (اشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم) وقد سبقت الاشارة لهذا المبدأ    عن تناوله في مفهوم حقوق الانسان .. و (املك هواك وشح بنفسك عما لايحل لك) .

  ب- التأكيد على مكارم الاخلاق / عدم مجالسة الفاسقين ومصاحبتهم / وحب احباب الله واحترامهم والبعد عن الغضب / وعدم الجلوس في الاسواق.

  • انصاف المظلوم من الظالم حتى وان كان من خاصة اهله او من ذوي قرباه او من لهم هوى لديه..
  • الاستماع لمطالب الناس والاصغاء لهم ، وتبادل المشورة معهم والتأني في أي اجراء بحقهم الا بعد التأكد من صحته (فان الساعي غاش حتى وان تشبه بالناصحين)

     مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات ..

  •   عدم استيزار من كان وزيراً لحاكم  ظالم سبقه..
  • أ- تشكيل مجلس استشاري من العلماء والحكماء وذوي الخبرة لتقديم المشورة في الحالات التي تتطلب ذلك ، وبما يعود بالنفع العام على الرعية .. (وأمرهم شورى بينهم) .

  ب- اختيار المتعلمين الثقاة والمؤتمنين لديوان الحكومة .. والابتعاد عن المحسوبية والمنسوبية في الوظائف العامة .. التي يستعين بها الوالي على ادارة الاقليم..

   جـ- اكرام من يستحق بحسن اداءه وولاءه ووضوح رغبته في صلاح امور الرعية وجعل اولئك الاقرب الى الوالي .. لاعانته في عمله ..

  د- والافراد في الفقرتين ( ب وج) قد يوصفون في عصرنا كأعضاء لمجلسين نيابيين هما النواب والشيوخ ، او غير ذلك من التسميات ..

٦- الاغاثة عند حصول الكوارث بغية التخفيف من المعاناة الانسانية للمناطق المنكوبة ، ما يعني استخدام جزء من المال العام في الازمات .

٧- توجيه جزء من خزينة الدولة لاغراض الاصلاح الزراعي والتنمية البشرية.. .

٨- حماية التجارة الداخلية والخارجية ومحاربة الفساد فيها والاحتكار او التحكم بالاسعار..

٩- الاهتمام بالجيش والشرطة ، لحماية الاقليم وتعزيز أمنة وسلامة ابناءه ..

١٠- الحريات العامة :

     أ- الناس احرار لايجوز استعبادهم طبقاً لقول الامام (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً)

    ب- الاتصال بالناس والتواضع لهم وعدم الانعزال عنهم والوقوف معهم في الازمات..

١١- يجب على الوالي ان لا يستأثر بمال او حال، او منفعة هي ليست له ، انما الناس فيها شركاء ..

   (اياك والاستئثار بما الناس اسوة)

١٢- حماية ذوي الحاجة ، والمعوزين ورعاية اليتم .. وبحكم قصورنا عن ادراك منهج الامام وعجزنا عن الالمام به كلياً وحتى جزئياً ربما ، كما اشرت الى ذلك سابقاً ، وحيث ان ما ذكرناه هو نقطة من بحره المحيط فقد وجدت من الافضل ، ولاسعاف المتتبع للبحث لاجل محاولة تعزيز وضوح الفكرة لديه ، ان ادرج بعض النصوص الدستورية او القريبة الصلة بالدستور وكما يلي :-

  • وان تكونوا عندي في الحق سواء ..
  • اشقى الرعاة من شقيت به رعيته ..
  • لكل ذي رمق قوت ، ولكل حبة أكل .
  • لا تبغِ على أهل القبلة ( المسلمين) ولا تظلم اهل (الذمة) المسيحيين .
  • لا يضاموا ولا يظلموا ولا ينقصن حق من حقوقهم ( من عهده الى نصارى نجران)
  • لا صواب لمن ترك المشورة
  • انما انا رجل منكم ، لي مالكم وعليّ ما عليكم ..( اسلوب ديموقراطي في تداول الحكم)
  • وقد اذنت لك ان تكون من أمرك على ما بدى لك ..
  • قلوب الرعية خزائن راعيها ، فما اودعها من عدل او جور ، وجده فيها ..
  • فبايعاني على هذا الامر ، ولو ابيا لم اكرههما او اكره غيرهما .. (يعني بذلك طلحة والزبير)..
  • اتكرهوني ان اطلب النصر بالجور في من وليت عليه والله ، لا اطور به ما ام نجم في السماء نجماً..
  • اياك والاستئثار بما الناس فيه اسوة .
  • فلا تكفوا عن مقالة بحق او مشورة بعدل فاني لست في نفسي بفوق ان أخطيء..
  • ولا تقاتلن الخوارج من بعدي .. فليس من طلب الحق فأخطاه ، كمن طلب الباطل فادركه..
  • الذليل عندي عزيز حتى أخذ الحق له ، والعزيز عندي ذليل حتى اخذ الحق منه..
  • اذا اتاك كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك حتى يأتي من يقبضه منك ..
  • الغالب بالشر مغلوب.
  • حط عهدك بالوفاء ، ولا تغدرن بذمتك ، ولا تخيسن بعهدك ولا تختلن عدوك .. ولا تقوين سلطانك بسفك دم حرام ..
  • لا تدفعن صلحاً دعاك اليه عدوك ولله فيه رضا .. فان في الصلح دعة لجنودك وراحة من همومك وامناً لبلادك..
  • والواجب عليك ان تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة او سنة فاضلة ، فتجتهد لنفسك في اتباع ما عهدت اليك في عهدي هذا واستوثقت عند تسرع نفسك على هواها ..
  • واجعل لهم قسماً من بيت المال وقسماً من الغلات في كل بلد ، فان الذي للاقصى منهم مثل الذي للادنى وكل قد استرعيت حقه .

(مكافحة البطالة ومساعدة العاجزين)

  • علامة الايمان ان تؤثر الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك..
  • وتفقد امور من لا يصل اليك منهم فان هؤلاء من الرعية ، احوج الى الانصاف من غيرهم..

الفصل الثاني

المبحث الأول

القضاء والقانون

لاشك ان القران الكريم هو المصدر الرئيس لكل القوانين الاسلامية التي اعتمدت بعد ان بزغ فجر الاسلام وشعت تعاليم محمد ...

مثلما هو المصدر الرئيس لكل السلطات القائمة في الدولة الاسلامية ..

وحيث ان ما يعنينا هنا هو القواعد القانونية التي ترسم شكل القضاء وكيفية سريانه واقامته فنجد ان العنوانين يتوائمان ...

من هنا يجب ان نحدد نظرتنا الى ما يتعلق بنهج البلاغة ، او خصوصية الامام في وضع مرادفات بديلة من وحي الشريعة للتفاسير والرؤى والاوامر وفق منظوره هو ، وما يتبعها من قواعد وحدود ، فالقران الكريم جاء باحكام واضحة ، اذ جعل لكل فعل ما يقابله من رد فعل ، الذي هو العقاب الذي تستلزمه طبيعة ذلك الفعل او جسامته او تأثيره في المجتمع الاسلامي ، او أمنه ، او سلامة افراده في قواعد عامة ، حدد فيها الجرائم المعروفة في بدء تكون الدولة وكيفية معالجة الافعال الناتجة عنها .. وازالة وتقليل الاثار السلبية التي نشأت عن وقوعها وحدد نطاق العمل بمواجهة تلك الافعال سواءاً للحاضر المعاش او المستقبل القادم للامم والشعوب التي تلي .. أٍٍٍستناداً لقاعدة ان الاسلام دين مناسب لكل الازمنة والامكنة ... وبالتالي فان الامام ، سيلتزم حتماً بما ورد في القران من نصوص عقابية او تنظيميه ، ما يحتمل الاجتهاد منها وما لا يحتمل ... الا انه يختلف عن جميع المسلمين في التفسير والشرح والتأويل وحتى في النطق بالحكم بدليل انه كان الفيصل في معظم القضايا التي استعصت ولجأ اليه فيها الخلفاء الذين سبقوه ، فعندما يوصي باقامة الحدود فانه يستند الى القران في الفصل والتطبيق والتنفيذ ، مسبوقة بطبيعة الحال بجانب تطبيقي في التحقيق للتأكد من ثبوت  التهم او عدمه...

فاذا ما حصلت شبهة في الدليل ، عندها ستهدر التهمة ، فيسقط الحد تبعا ًلذلك ..

والا لزم التنفيذ ، الا اذا تنازل صاحب الحق عن حقه ، بمقابل (الديه) او بلا مقابل .. وهذا الامر تناولته القوانين العقابية ايضاً تحت مبدأ (الشك يفسر لمصلحة المتهم)..

أي ان (الحدود تدرأ بالشبهات) ، حسب القاعدة الاسلامية ...

اما مبدأ القصاص فهو مبدأ قانوني ورد في القران من خلال الاية الكريمة (ولكم في القصاص حياة يا أولي الالباب) وبالتالي فان الحكومة الاسلامية تقوم بانزال العقاب بالمجرم المدان استناداً لهذا النص ، فالقصاص يعني في الاسلام (العين بالعين والسن بالسن) وبالتالي فان عقوبة الاعدام بالنسبة لمن يرتكب جريمة القتل هي امر واقع لابد منه الا اذا تنازل من ذوي القتيل من يملك حق التنازل ، مقابل (دية مسلمة الى اهله) او حتى بدون مقابل .. لكن هذا المبدأ القانوني لا يجد مرادفاً له في القوانين العقابية الحديثة فلا الديه و لا التعويض ، يسقط العقوبة ، ولا يؤدي التنازل الواقع من قبل المدعين بالحق الشخصي الا الى تخفيف العقوبة ، او ابدالها في اضيق الاحوال ..

اما المبدأ الاخر الذي اعتمده الاسلام ووجد له حيزاً واسعاً في نهج البلاغة وفكر الامام علي هو ان (لاتزر وازرة وزر اخرى) ان هذا النص القراني الرفيع لم نجد ما يشابهه في القوانين والشرائع التي سبقته بشكل واضح ومؤدى ذلك النص هو تحريم العقاب الجماعي بتعدي الفعل المنسوب للمتهم الى غيره ، أي ان المسؤول جزائياً عن فعل حرمته الشريعة لا يتعداه الى سواه من ذويه او اقاربه ، او قبيلته ... يقابل ذلك قول القوانين الوضعية ان كل انسان مسؤول عما ينسب اليه من افعال او اقوال قد تشكل جريمة ، دون ان تتعدى حدود تلك المسؤولية للغير.. المتهم بريء حتى يثبت العكس وبظل مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات .. أي لا جريمة ولا عقوبة الا بنص ..

وهناك امر اخر ، عجزت القوانين الوضعية الحديثة السيطرة عليه او تقييده ، هو عدم انتزاع اقرار المتهم بالضغط والاكراه والتهديد ، بينما نجده حاسماً في الشريعة ، واصدق مثل على ذلك ، ان الامام علي يعتبر ان أي اقرار او اعتراف بجرم يحصل بالاكراه او ينتزع بالتهديد والتخويف لا يعتبر اقراراً ، ولا يقام بموجبه الحد ، من ذلك انه وجد لدى الخليفة عمر بن الخطاب امرأة جلبت له ، واعترفت بذنبها فامر باقامة الحد عليها بالرجم ، فسأله علي ، ما قصة هذه المرأة ، فاجابه عمر ، فجرت واعترفت ، فقال له علي لعلك اخفتها او انتهرتها ، فقال عمر : نعم

فقال له الامام:

من قيدت او حبست او انتهرت فلا اقرار له

فخلى عمر سبيل المرأة قائلاً :

عجزت النساء ان تلد مثل علي ابن ابي طالب ... لولاه لهلكت ...

يقابل ذلك نصوص في اغلب قوانين اصول المحاكمات الجزائية في العالم ومنها العراق ، تحرم استعمال طرق القسر والاكراه والتهديد لأنتزاع الاقرار من المتهم وان ذلك الاقرار يعتبر لاغياً .. وان ذلك الاكراه اذا ما ثبت ممارسته من قبل السلطة التحقيقية يسقط التهمة عن المتهم .. مالم يكن هناك دليل اخر ..

ومن بين الاف الكنوز التي تركها لنا الامام القائد والتي يستحيل الاتيان بها جميعاً في هذا البحث المقتضب هناك وقائع في غاية الروعة والرقي ، الذي لا يرقى اليه جمال نصي اخر ، خصوصاً اذا ما تعلق الامر بفعل منسوب للخليفة نفسه ، بعد تحديد الوصف القانوني ، اذ حصل ان ارسل الخليفة عمر الى امرأة يستدعيها اليه بغية تعزيرها (تعنيفها) وكانت حامل فارتعبت فسقط جنينها ومات وتحير عمر في وضع المرأة فأشار عليه اصحابه من انه غير مسؤول عما حصل للمرأة وعندما أصر عمر ان يستفتى علياً في ذلك ، الزمه الامام بوجوب دفع (دية القتل الخطأ)

اشار القانون العراقي الى ذلك في المادة (٤) من قانون العقوبات ووضع له احكاماً ..

هناك مبدأ اخر ، ورد في الشريعة وفي القانون الوضعي ايضاً ، هو جناية العجماء ، أي الافعال التي تحصل تجاه الانسان من الحيوانات الداجنة ومدى حدود المسؤولية المتحصلة منها..

فالاسلام يقول ان (جنايات العجماء جبار) أي لا جريمة لفعل الحيوانات المدجنة ، وتكون الجريمة مهدورة ، الا ان القانون الاسلامي وضع لذلك قيوداً وحدود ، خصوصاً ما ورد منها عن الامام، ورأيه فيها ، فهو يرى ان هناك صورتين لتلك الحوادث فاذا كانت البهائم تحت سيطرة مالكها وادى فعلها الى موت شخص او اصابته او احدثت اضراراً في ملك الغير فيلزم بالتعويض عنها .. اما اذا افلتت منه ولم يسيطر عليها ووقع الفعل تبعاً لذلك فلا جريرة عليه من فعلها ..

وبسوى ذلك فلا جريمة ولا عقاب ...

وهناك اوجه تشابه لجناية العجماء بين الشريعة والقانون الوضعي ..

ومن تطبيقات ذلك عند الامام ان فرساً افلت من صاحبه فضرب رجلاً فقتله ، فأخذ ذوي المقتول صاحب الفرس الى الامام وهو في اليمن واقاموا البينة لديه ، فابطل دم القتيل* ، ووصل حكمه الى النبي فاقره ، واعتبره صحيحاً ..

ومن خلال ما سبق ، يتضح ان هناك تداخلاً وتناغماً بين القضاء والقانون وهناك قواسم مشتركة بينهما فهما متلازمان مع بعضهما واحدهما يكمل الاخر الامر الذي يصعب فيه الفصل بينهما ... كما ان هناك اوجه تشابه واوجه اختلاف ، وقد حاولت ان اضع اطاراً مقبولاً مستعيناً بتراث من دور الامام في توضيح الجوانب العملية في التطبيق واسلوب العمل والتنفيذ.

وقد ورد في الكتب ان اول انتداب في القضاء للامام علي ان كلف بمهمة القضاء في اليمن ولم يكن قد مارس القضاء ، فقال للنبي ، يا رسول الله اني ما ادري ما القضاء ، فضرب النبي بيده صدر علي وقال ، اللهم اهد قلبه ، وسدد لسانه ..

يقول الامام (فما ساورني الشك بعدها في القضاء بين اثنين) ..

المبحث الثاني

العدل في القضاء

علي بن ابي طالب اعلم امتي واقضاها فيما اختلفوا فيه من بعدي ..

اقضى امتي واعلمها .. علي

النبي (ص)

١. الناس عندنا في الحق اسوة ..

   لو وقف امام علي شخصان احدهما عربي مسلم والاخر يهودي وليس عربي ، ماذا تكون نظرته لاي منهما وان كان له هوى ، فهل سيتبع هواه ، ام سيحكم بالعدل وبالحق ؟ ..

    يقول الامام : والله لو ان الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت ، ما كان لهما عندي هوادة ولا ضفراً مني بارادة ، حتى اخذ الحق منهما .. (من رسالة له لاحد ولاته)

٢. مبدأ الثواب والعقاب :

   ان كنت صادقاً كافيناك...

   وان كنت كاذباً عاقبناك ...

٣. العدل في سعة ، ومن ضاق عليه الحق ، فالجور عليه أضيق .

   لايطمع القوي في باطله .

   ولاييأس الضعيف من عدله

قال عنه ضرار في مجلس معاوية : يقول فصلاً ويحكم عدلاً .. يتفجر العلم من جوانبه   وتنطق الحكمة من نواحيه .

٤. صوت محمد النبي ..

    عدل علي مساوٍ لعدل النبي ..

    يدي ويد علي في العدل سواء

    علي أقضى المسلمين

٥. سئل ابن عباس مرة اين علمك من علم علي ...

   فقال : كنسبة قطرة من المطر الى بحر المحيط

٦. عمر بن الخطاب :

    لابارك الله في معضلة لاتحكم فيها ياأبا الحسن ..

    لايفتينَ أحد في المسجد وعلي حاضر ...

    لولا علي لهلك عمر ...

٧. لاظالم ولا مظلوم ..

أ- لم كنيتني امام خصمي

ب- لا تسار احداً في مجلسك

ج- لا تقضين وانت غضبان

* قاضى يهودي الامام عن حق زعمه ، فقام القاضي وقال لعلي قم يا أبا الحسن وقف بجنب خصمك فبان الامتعاض على وجه الامام ، وبعد انفضاض المجلس سأله القاضي ، ان كان مستاءاً فرد عليه الامام ، لم كنيتني امام خصمي ..

فلأن الكناية تعظيم له وتمييز ، اعتبرها الامام ثلماً للعدل عند القاضي.

* لا تسار احداً في مجلسك لان في هذه المسارة ما يشعر احد المتخاصمين بان للقاضي هوى في خصمه .. ومثل هذا الشعور يؤذي الاطمئنان الى المساواة...

* اذا غضبت فقم ، ولا تقضين وانت غضبان .. (كأن) الامام يقول لواليه ان غضبك سيبعدك عن الصواب وسيثلم العدل لديك..

   ان المبادئ الثلاثة اعلاه تكاد تخلو منها القوانين الوضعية الحديثة رغم اهميتها وخصوصاً قوانين المرافعات المدنية التي تعنى بذلك رغم الاهمية الا من بعض الاجراءات الفردية التي يقوم بها بعض القضاة ، او الحدود الضيقة في القوانين ..

  من ذلك على سبيل الحصر ، عدم جواز القضاء بين اثنين اذا كان احدهما اباً او ابناً او اخاً او صهراً للقاضي .. وما ينطبق على قانون المرافعات المدنية ، ينطبق على قانون اصول المحاكمات الجزائية ايضاً ..

وعليّ ، هو اول من فرق بين الشهود ، الامر الذي يسهل على القاضي ، معرفة الحقيقة ، سواء بأختلافهم او بأتفاقهم وتطابق شهاداتهم .. او تناقضها ..

كما انه اول من طبق ذلك المبدأ القانوني الكبير ... كذلك الامر بالنسبة الى تأكيده على ان لكل انسان الحق في الدفاع عن نفسه وماله وعرضه على ان لا يسرف في تصديه لمن اعتدى عليه لان في ذلك تجاوزاً لحق الدفاع..

على سبيل المثال ، يقوم احدهم بالدفاع عن نفسه ضد من هم ان يضربه بعصى .. بضرب عنق غريمه بالسيف .. أي قتل ذلك الغريم .. وهذا معنى تجاوز حق الدفاع ، وقد نص عليه قانون العقوبات العراقي في المادة (٤٥) منه ..

اما حق الدفاع المجرد دون التجاوز فقد نص عليه القانون في المادة ٤٢ منه ، واعتبر بموجبها ان ، لا جريمة اذا وقع الفعل دفاعاً عن النفس الى اخره 

اما مبدأ عدم تجاوز القصاص ، فهذا المبدأ طبقه الامام بنفسه على نفسه في صورة لم تتكرر مرة اخرى في أي زمان ومكان .. ابداً ومطلقاً عندما ضربه عبد الرحمن بن ملجم المرادي ، وهو من الخوارج ، على رأسه وهو قائم يصلي في المحراب وقبل وفاته اوصى لقاتله بكافة الحقوق ، ان لا يروع ولا يعذب ، ولا يجوع ، ولا يستعجل بعقابه ، وترك القصاص معلقاً على وفاته وضربة بضربة ، ضربة بضربة لا اكثر ولا اقل يعني لو لم يمت قاتل علي بضربة القصاص لنجى بفعلته .. أي وجه للمقارنة بينكما ، يا سيدي يامن تجاوزت حدود تفكير العقل البشري كله .. أي وجه للمقارنة ، فعلاً ...

المبحث الثالث

ركائز القضاء العادل

المساواة امام القضاء

لقد جاء الاسلام برسالته الخالدة ليعم السلام في ربوع الدولة انطلاقا من الجزيرة اولا ، ثم عبر زحفها على اصقاع بعيدة امنت شعوبها بالاسلام ورضيت بها ديناً ، ليرفرف علم محمد بن عبد الله على الروابي والفلوات حيثما ذهبت واينما توجهت فسادت حضارته التي اتصفت بالسمو الانساني والاخلاقي ما جعل اقواما كثيرة تدخل في الاسلام او تكتفي بقبوله بديلا سياسيا حاكما دون ان تتخلى عن دياناتها القديمة ، لتجد فيه نظاما حاميا لكل الشعوب التي ضمتها الدولة الاسلامية المترامية الاطراف ... ورغم ان النظام الحاكم هو نظاما اسلاميا الا ان ابناء كل طائفة غير مسلمة احتفظت بقوامها وكيانها دون مساس او اختلاف في الحقوق والواجبات بينها وبين المسلمين فرسول الاسلام نفسه صرح بحزم وقوة بقوله ( من اذى ذميا فقد اذاني ) وهذا اصدق مثلا على العدل الالهي الذي جاءت به رسالة محمد .. وعندما يكون الألم الذي يعتري نبي الاسلام مساو للالم الذي يلحق بذمي (غير مسلم) نتيجة تصرف من بعض المسلمين فلنا ان نتصور كيف سيكون شكل الدولة التي تتمسك بدين الاسلام .. وهذا منهجها .. وحيث اني اشرت في مواضيع سابقة من هذا البحث ، عند التحدث عن نهج البلاغة ، الى صور مشرفة وردت فيه عن تأكيد الإمام علي على المساواة بين المسلمين وغير المسلمين في كل الحقوق وهو يؤكد على ( ان لا يضاموا ، ولا يظلموا ولا ينقص حق من حقوقهم .. ) من عهده لنصارى نجران ما فيه تاكيد على تلك المساواة ومنها حق التقاضي وحق الدفاع امام القضاء .. وقوله لا تبغ على اهل الذمة ، وهم النصارى .. وكذلك الامر بالنسبة لليهود ايضا .. ويوصي بهم خيرا ويحترم انسانيتهم ، وتاكيدا على ذلك أسوق مثلا ضرب بمدى احترام الامام للانسان بوصفه انسان وبغض النظر عما يدين به او يعتقده .

المثل : فقد جاء يهودي الى الخليفة ابو بكر يسأله أسئلة غريبة ، فهم ابو بكر بمعاقبة اليهودي متهما اياه بالزندقة ، رغم ان اليهودي بيّن للخليفة ان تلك الاسئلة لا يجيب عليها الا نبي او وصي نيي ..

فاشار ابن عباس على ابي بكر ان يذهبوا به الى علي ، ففعل ذلك وقاموا جميعا الى الامام ..

فعرض على الامام اسئلة اليهودي فاجاب الامام موجها تفسيره لليهودي قائلا :

اما سؤالك عن الامر الذي لا يعلمه الا الله فهو قولكم ( ان العزير ابن الله ) وإما سؤالك ما ليس لله ، فليس لله شريك وإما سؤالك عما ليس عند الله ، فليس عند الله ظلم للعباد ..

فقال اليهودي اشهد ان محمدا رسول الله وانك وصي رسول الله ..

فوصف ابو بكر علياً بقوله ( مفرج الكروب )  .

وهذا يجرنا الى امرين ، الاول : ضمان حقوق المتقاضين والثاني كيفية تنفيذ الحكم بعد ان يقضى فيه ..

إما بالنسبة للأمر الأول فقد تناولناه مطولا في الفصل السابق ولكن الذي لابد من التعقيب عليه هو كيفية إتباع الطرق الدقيقة في الوصول الى ذلك الحكم ، فالامام لم يكتف بطاقاته العظمى في القضاء فحسب ، رغم انه باب مدينة العلم فقد استعمل طرقا علمية في حل الغاز مستعصية من القضايا والجريمة التي يستحيل على غيره حلها استحالة مطلقة ، لعدم معرفة اهل زمانه جملة ، بها والتي تعتبر الغازاً غريبة بالنسبة لهم ، ومثال ذلك استخدامه للرياضيات في التوصل الى فض النزاع بين متخاصمين ، مثال ذلك :

ان رجلين جلسا يتغديان وكان مع احدهما خمسة أرغفة ومع الآخر ثلاثة أرغفة ومر بهما رجل ثالث فقالا له اجلس وتغدى معنا فجلس الرجل وبعد ان فرغ من الأكل دفع لهما ثمانية دراهم قائلا هذا ثمن غدائي فأرادا ان يقسما المال فقال صاحب الأرغفة الخمسة لصاحب الثلاثة لي خمس دراهم ولك ثلاث ، فرفض الاخر قائلا لابد ان نقتسم المال بالتساوي واصر كل منهما على طلبه فعرضا امرهما على الإمام ، أشار على صاحب الأرغفة الثلاثة وقبل الحكم ان يقبل بعرض غريمه ويأخذ الدراهم الثلاثة فرفض الا ان يحكم بينهما وصمم على ذلك ، فقال له الإمام إذن ، فلك درهم واحد فقط ..

قال الرجل ، كيف يكون ذلك ..

فأجابه ..

لك ثلاثة أرغفة ولصاحبك خمسة فالمجموع ثمانية وهي تنقسم إلى أربعة وعشرين ثلثا لك منها ٩ أثلاث ولصاحبك ١٥ ثلثا وقد أكلت أنت ثمانية أثلاث فذهب منك ثلث واحد واكل صاحبك ٧ أثلاث واكل الرجل ٨ أثلاث دفع عوضها ثمانية دراهم عن كل ثلث درهما واحدا فيكون لك درهم واحد عوضا عن ثلث واحد .. ولصاحبك ايضا سبعة دراهم عوضا عن ثلاثة اسباع وهذا هو مر الحق الذي تطلبه ..

فرضي الرجل واخذ الدرهم بعد ان رفض الثلاثة ... وفي واقعة اخرى تنازعت امرتان على ولد وبنت فكل منهما تدعي بنوة الولد لها والبنت لغريمتها فعرض النزاع على الامام فدفع لكل منهما قدحا طلب منهما ملء القدحين كل منهما من حليبها ثم سلمتاه القدحين .. فوزنهما كلا على انفراد فقال لأحدهما خذي ابنك  وقال للاخرى خذي ابنتك ذلك لان الامام علي على ما يمتلك من علم ، يعرف ان الحليب الذي يملا ثدي الام للبنت اخف من الحليب الذي يملأ ثدي ام الولد ..

واذا تصفحنا تاريخ تلك الفترة لوجدنا في بطون التاريخ روائع من قضاء الامام علي وهو امر غزير لا يمكن الإلمام به جميعا .. كما ان هناك صور ونماذج لها دلالات علمية تعبر عن عبقرية فريدة ليس لها مثيل على امتداد التاريخ الانساني ..

كيفية تنفيذ الحكم بعد ان يقضى فيه ..

 ونظرة في المظالم ..

وهو الامر الثاني الذي تقع على القاضي او المسؤول الاعلى درجة منه مسؤولية حسمه ، وهذا امر ميسور عندما يكون القرار حاسما بالقضايا ذات الصفة المدنية مثل دعاوى الدين ودعاوي العين ولها في الاسلام احكام شتى لكن الامر الخطير هو ما يتعلق بالجرائم التي ينشأ عن ثبوتها فعل مادي قد يؤدي الى بتر أو قطع او ايذاء او وفاة كجرائم القتل وطبقا لمبدأ القصاص تنتهي الى ازهاق ارواح ..

فبالنسبة للقضايا المدنية يعتبر الحكم قابلا للتنفيذ فورا ومن لحظة صدوره بل لا يستلزم الامر أي تاخير وهذا واضح جدا من الكثير من الاحكام التي اصدرها القضاة بصفتهم القضائية ، او ما يقوم بها الخلفاء والولاة بشكل مباشر .

هناك مسالة اود ان القي عليها الضوء وهي الاحكام الخاطئة .. كيف يمكن معالجتها .. فمن خلال السياق الذي اتبعته في هذا البحث .. اجد ان الامام ابطل الكثير من الاحكام التي لجأ اليها الخلفاء الذين سبقوه عندما يكون حاضراً ودون ان يعترض عليه احد منهم لانهم عرفوا ووعوا انه لا ينطق عن باطل ولا يقضي الا عن علم وعدل، بل وفي اغلب الاحيان نراهم يمجدون دوره في تصحيح الاحكام بل ان الامام راجع احكاما صدرت حتى قبل توليه الخلافة .. فابطل احكاما ظالمة وانتزع ما ترتب عليها من مظالم ليعيد الحقوق الى اصحابها ..

ونجده مرة يخاطب احد ولاته بالقول :

انظر الى اهل الملك والمطل من اهل اليسار ، فخذ للناس حقوقهم منهم وبع فيها العقار والديار ومن لم يكن لديه عقار ولا دار ولا مال ، فلا سبيل عليه ..

وعندما يقول الامام ( لانقبنَّ الباطل حتى يخرج الحق من جنبه )  ..

الفصل الثالث

الحريات العامة

المبحث الاول :

حرية الرأي – حرية الانسان : !

لله درك يا سيدي ، من انت ، ومن تكون.. ليس لي ، ان اعرف نفسي ، فانا اكاد اتلاشى رعباً من هول ما قرأت عنك ، وما عرفت ، اتصاغر خجلاً من نفسي رويداً ، وانا اكتب عنك من بعض الذي قرأته ، لتختلط لدي امور نفسي ، اذ لم اجد ، موهبة ترسم لوحة الحياة ، او سمة لكيان او حلاً لمشكلة ، او املاً ليائس ، او عفواً عن مسيء ، او رغبة لبقاء ، او نزوة لعابر ، او امنية لمحبط ، او اشراقة لفجر متجدد، او بلسماً لجرح ، او شفاءاً لقلب جريح ، او امنية تتحقق ، او دفعاً لبلوى ، او ابتسامة لحزين ، الا وجدت كل ذلك عندك ، تظلم فتعفو ، تحارب فتغفر ، يساء اليك فتصفح ، تنصح ولم يستجب لك ، تعيد النصيحة فلا تبتئس .. تتأسى ان تكون شمعة يضيء زيتها ، ولو لم تمسسه نار ، نور على نور ، فعفواً لمن يتجاوز المدى بالحديث عنك ، لكن شفاعته عندك ان عملته طريق الهدى ، وانت تغذيه كيف يكون وكيف يبقى ، متأبطاً قياد نفسه ، لم يترجل ، ينوء بما اوصيته ، فيكاد أن يجعل من حريته دليلاً ، فيتأمل وجلاً ، هل سيخلع ساقيه ليمكث طويلاً تحت طاحونة عبوديته ، ام يتذكر صبر عظمتك ، وانت تنأى بنظرك بعيداً لتراه ، لتشجعه ، لتحثه على ان يتلذذ طعم الالم .. لتقول له " لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً .." يا نبراس الهدى ، هبهم يسرقون ما تقول، فأنت اعطيت درساً لي ، كي اكون حراً ، كي اصغي لهدير كياني كي امسح من ذاكرتي اسمي ، كي اسخر من احلامي ، ان اتعلم ، كيف تعيش الايام بذاكرتي ، استجلي بعض كتابات الاقلام ، فأعود لبيتي ، رغم اني ، اضعت الطريق الى باب داري ، فسمعتك تقول :

"وقد اذنت لك ان تكون من امرك على ما بدا لك" ابصر بهم واسمع يا سيدي ، هل تعيد القول وان "دللهم على طريق الرحمة ، وحرصت على توفيقهم بالتنبيه والتذكرة ليثيب راجع ويتعض متذكر فلم يطع لك قول" وعذراً ، سيدي ان تلاعبت قليلاً باستعارة ضمير ، او بديل لاصل الى ما تقول "اللهم اني اعيد عليهم القول" .

ماذا قلت لحبيب بن مسلم الفهري ، اذ جاءك وانت امير المؤمنين ، ليقول لك " اعتزل امر الناس فيكون امرهم شورى بينهم ، هل قلت اكثر من : "وما انت وهذا الامر؟ اسكت فانك لست هناك ولا باهل له".

وماذا فعلت وهو يهددك ويقول "والله لتريني بحيث تكره" .. لم تفعل له أي شيء وانت قادر على ان تفعل كل شيء ، لم ترد عليه بالعقاب الذي يستحق ، بل رسمت لنا شكلاً جديداً من طرق الحرية وانت تقول له (ما انت ولو اجلبت بخيلك ورجلك ، لا ابقى الله عليك ، ان ابقيت علي ، اذهب فصوب وصعد ما بدا لك) ..

ويوم كتب لك عاملك على المدينة سهل بن حنيف الانصاري يشكو قيام نفر ضال من اهلها يتسللون الى معاوية ماذا رددت عليه :

" اما بعد فقد بلغني ان رجالاً ممن قبلك يتسللون الى معاوية ، فلا تأسف على ما يفوتك من عددهم ويذهب عنك من مددهم ، فانما هم اهل دنيا مقبلون عليها ومسرعون اليها ، وقد عرفوا العدل ورأوه وسمعوه ووعوه ، وعلموا ان الناس عندنا في الحق اسوة ، فهربوا الى الاثره ، فبعداً لهم وسحقاً ، انهم والله لم ينفروا من جور ولم يلحقوا بعدل"..

كل الذي ذكرت ، هو صور من ايمانك سيدي بحرية الانسان حتى وان كان عدوك ، وصورة اخرى من صور الحرية عندك ما فعلته تجاه الخوارج الذين خرجوا عليك فحاربوك ، وانت توصي انصارك واصحابك وجندك "ولا تقاتلن الخوارج من بعدي فليس من طلب الحق فاخطاه.. كمن طلب الباطل فادركه" .

فالناس عندك احرار ، ما قالوا او فعلوا .. ايها الرائد في العدل والرافد للحرية ، تلك هي صورة غراء جميلة تستمد من جمال فكرك ، يوم وقعت ثلاث من بنات ملك الفرس اسارى بيد المسلمين ، فقرر الخليفة عمر بيعهن رقيقاً او جواري في سوق النخاسة ودفعهن للدلالين ، وعندما حاول الدلال كشف وجه احداهن ليراها المشترون ، ضربته على وجهه فاعادهن شاكياً الى عمر ، ما حصل له منهن ، حضورك صدفة او اتفاقاً ، اوقف امراً اصدره الخليفة ، بضربهن بالعصى ، فأحترامك لكرامة الانسان ، وحقوق المرأة ، واكرام عزيز قوم ذل ، كلها صور محبرة بالوان السماء تنطق باسمك ، تردده عبر كل جنبات الدنيا وفي السماوات ، وانت تقوم ، بدفع المبلغ الذي وضعه الخليفة ، لتزوج ابنك الحسين احداهن وتهب الاخرى الى محمد بن ابي بكر والثالثة الى عبد الله بن عمر ، قائلاً للخليفة ، ان بنات الملوك لا يبعن ، لقد اختارهن ، نشيدك في الحرية ، الى من ؟ ... من يماثلوهن ، علوا في القوم ، الفرسان الثلاثة ، العظماء الثلاثة ، كلهم ، كلهم ابناء من صنعوا التاريخ ، حلوه ومره ، علي ، عمر ، ابو بكر ليقر بك النبي عيناً ، وانت تعيد قراءة جملة من وصيته ... (ارحموا عزيز قوم ذل)..

هذا هو منطق الحرية عند علي ..

كيف لا وهو القائل ، (اذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه)..

اما اسلوبه في احترام المشاعر فهو صورة من صور الحرية لديه ولنا في رسالته لواليه في البحرين عمر بن ابي سلمة ... وهو يعزله من منصبه ..

(اني قد وليت نعمان بن عجلان ، البحرين ، من غير ذم لك ولا تهمة في ما تحت يدك ولعمري لقد احسنت الولاية واديت الامانة فاقبل الي غير ضنين ولا ملوم...)

بينما نجد الامام يضرب على يد الولاة المفسدين بيد من حديد ، بعد ان تجاوزت افعالهم المشينة كافة الحدود ...

سؤل الامام يوماً :

هل استشرت اباك عندما امنت بمحمد ؟

فأجاب

وهل استشار الله ابي عندما خلقني ..

وهذا تأكيد على حرية الفرد تجاه ما يعتقد ..

المبحث الثاني

حرية التجارة ، وتداول الاموال

الخراج .. البيع والشراء ، العمل

التجارة ، هي اكثر الحرف شهرة واتساعاً في شبه الجزيرة العربية ، مهد الاسلام ، ومنطلق اشعاعه بل تكاد تكون هي الاكثر شيوعاً في عموم مناطق الدولة ، وهي التي تشكل العمود الفقري لحياة الناس، باعتبارها، عملية تبادل للسلع بين مناطق الدولة وخارجها ، فينقل التجار البضائع المتوفرة في مناطقهم ، ليستبدلوها بالسلع التي تفتقر اليها تلك المناطق .. وهذا ما يسمى بالتجارة الخارجية فضلاً عن التجارة الداخلية التي تنحصر جميع عملياتها ضمن المنطقة الواحدة ، كالبيع والشراء ، وحركة المال بينهما ...

المبادئ الاساسية في نهج البلاغة

  • يؤكد الامام على ولاته احترام حرية الانسان في كافة مفاصل التعامل فيما يتصل بحياة الشعوب المتصلة باغذيتهم ولباسهم وصناعاتهم بما اسماه الامام الثابتة والمضطربة.. ويقصد بذلك صنفين من التجار .. الثابتون في مناطقهم والمتحركون من بلد الى بلد..

فهو يضمن سلامة العملية التجارية وغيرها من خلال اوامره بذلك ..

(( ثم استوصى بالتجارة خيراً وذوي الصناعات واوصي بهم خيراً ، المقيم منهم والمضطرب بما له ، فانهم مواد المنافع واسباب المرافق وجلابها من المباعد والمطارح في برك وبحرك وسهلك وجبلك وتفقد امورهم .. بحضرتك وفي حواشي بلادك..)

  • والامام يشدد على واليه ان يرصد الكفاءات وان يتبنى احتضانها ورعايتها وتشجيع اصحابها واطلاق مواهبها من خلال قول الامام :

(ما من حركة الا وانت محتاج فيها الى معرفة)

وقوله ايضاً :

(واعلموا ان الناس ابناء ما يحسنون)

  • غير ان الحرية التي اباحها للتجار وامثالهم لن تكون دون قيود .. بل اقترنت بشروط لايجوز مخالفتها :

أ- عدم احتكار المنافع ..

ب- مراقبة الاسعار لتكون متوازنة .

ج- انذار المخالف لعدم التلاعب في البيع والشراء .

د- معاقبة المخالف بعد التنبيه ، في حالة العود .. ومن غير اسراف..

  • رعاية ذوي الاديان الاخرى المتواجدين في دائرة الدولة الاسلامية .

   (اموالهم كاموالنا ودمائهم كدمائنا)

  • وعوداً على ما ورد في الفقرة (٣ - ج) اعلاه فقد شدد الامام في تحذيره لواليه مراقبة التصرفات المسيئة من قبل المتلاعبين الذين يستغلون حاجة الناس ، ونقص السلع لفرض اسعار عالية على سلعهم بقوله :

 (واعلم مع ذلك ان في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً ، واحتكار للمنافع وتحكما في البياعات وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة .. فأمنع الاحتكار)

(وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين واسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع فمن قارف حكرة بعد نهيك اياه فنكل به وعاقبه من غير اسراف)

وهذه اللوحة المزخرفة الجميلة ، التي تشدد على ضرب المتشددين ، في الاسعار .. تعطي مثالاً رائعاً لتنظيم هذا المفصل ، من حياة الناس وتسيير شؤونهم وفق قانون علي..

  • (وتفقد امر الخراج بما يصلح اهله ، فان في صلاحه وصلاحهم ، صلاحاً لسواهم ولا صلاح لمن سواهم الا بهم)

فهو يدعو الى توسيع دائرة استثمار الارض ، والاصلاح الزراعي ، على اوسع نطاق ما يتيح للزراع تطوير زراعتهم .. وهذا تنظيم قانوني لتأكيد مبدأ الحرية في نهج البلاغة لضمان تطوير الزراعة ..

واعادة لقول الامام (ان الناس ابناء ما يحسنون) هو تأكيد على حرية العمل ، وتقديسه ، والابداع فيه ، وانه يحضى من الامام بالرعاية والتنظيم وهناك اشارات كثيرة لذلك التنظيم يمكن ان يكون قانوناً للعمل او الانشطة الاخرى الاقتصادية والصناعية والزراعية.

المبحث الثالث

حقوق المرأة – لدى علي

لعل هناك من يقول  ، ان نهج البلاغة خلا من الاشارة الى تلك الحقوق وعلى العكس من ذلك لقد خصص الامام على كل الفترات التي عاشها من حياته حيزاً مهما للمرأة ساوى فيه بين الرجل والمرأة في كثير من الامور ، فرغم ان للمرأة في التاريخ الاسلامي دور كبير الا انه يتعدى حدود الاسعافات الاولية للجرحى او الامدادات الغذائية او غيرها من الامور الثانوية في الحرب ..

غير ان التاريخ يروي لنا ان صفية بنت عبد المطلب قادت جيشاً من النساء لمواجهة المشركين عندما حاولوا اقتحام المدينة ، في الوقت الذي كان فيه النبي واصحابه منشغلين في قتال الاعداء بمواقع اخرى ..

وحيث ان الذي يهمنا هو علاقة علي بالمرأة كشريك للرجل في المجتمع ، وقد شهدنا في مواقع مختلفة من هذا البحث كيف ان الامام كان يناقش الخلفاء الذين سبقوه في احكام يصدرونها ضد نساء ، وكيف انه يقنعهم بعدم شرعية تلك الاحكام مما يجعلهم ينقضونها .. ويرجعون عنها.. لقد برزت في حياة الامام شخصيات نسوية اثرن فيه سلباً او ايجاباً ، وكباحث محايد ، يجب ان اصنف الوقائع حسب تسلسلها من حيث الاثر ، فابدأ اولاً ، بالحديث عن فاطمة الزهراء فهي ابنة النبي وبضعة منه وحيث وقع عليها من بعض الاجراءات السياسية البالغة الخطورة مالم يقع على اية امرأة اخرى غيرها في ذلك الزمن سواء في صدر الاسلام او العصر الراشدي وجردت ابنة النبي من كافة الحقوق والحريات ، كحق التملك وحرية التقاضي وحرية الرأي ، وحتى بلغت الامور حداً ان حرمت من حق البكاء حزناً على ابيها نتيجة للضغوط التي وقعت على الخليفة الاول ، مما دفعه الى انتزاع فدك منها ، وايذائها والاساءة بالكثير من الفعل والقول ، والتي ادت الى تدهور العلاقة بينها وبين الخليفة الاول ابو بكر ... ووزراءه الذين كان لرأيهم عليه اثر كبير .. وكم حاول ابو بكر على امتداد حياته المتبقية ان يسترضي فاطمة ولكنها ابت ، رغم أن احد المؤرخين يشير الا ان الخليفة ابو بكر قد اقنع علياً بان يقنع فاطمة بلقاءه لشرح وجهة نظره وليمتص غضبها وسخطها عليه فلم يفلح في ذلك واعادت القول انها ستشكوه الى ابيها .. وتكاد معظم المراجع التأريخية لتلك الفترة تؤكد ذلك ..

والقصد ان علياً ربما يكون فعلاً حسب بعض المصادر ، قد توسط بين الاثنين ، لكنه في النهاية يحترم رأيها وحريتها في الدفاع عن نفسها ، بعمل او امتناع فلم يفرط بوجهة النظر تلك .. ولم يجبرها على شيء لا تريده..

  • ولكن كيف هي علاقة علي بفاطمة ، ان علي لعلى خلق عظيم ، فحسب النبي ، انه لا يفصله عن محمد الا فاصل واحد ، هو ان لا نبني من بعده ، فهو منه بمنزلة هارون من موسى فكان في بيته ، يساعد فاطمة في عملها اليومي وفي ادارة البيت يقوم بطحن الحبوب ، ويتبادل مع فاطمة دوره في الطحن والجرش ، ويقوم احياناً باعداد الطعام وتربية اطفالها .. يداً بيد مع تلك الصديقة الطاهرة سيدة نساء العالمين ، وعندما دعاها الله الى جواره حزناً وكمداً على ابيها النبي ، وما حل بها بعده بكاها علي وحزن عليها حزن الام التي يذبح وحيدها في حجرها ، وهي توصيه بابناءها خيراً ، واحتراماً منه لحبيبة قلبه وشريكة حياته ، فقد ضمن لها تنفيذ جميع طلباتها .. بما في ذلك دفنها سراً ولا يعرف احد فضلاً عن ذلك فان الامام كان على علاقة طيبة مع امهات المؤمنين ، وكن يبادلنه المودة والاحترام اما زوجاته بعد الزهراء ، فالتأريخ لم يتوسع في الشرح الا ان علاقته بزوجته فاطمة التي اقترن بها بعد الزهراء ولقبت بأم البنين ، لاجل ان لا يؤذي ذكر اسمها ، الحسنين واخواتهما والتي كان لها دور انساني خالد في موقعة الطف ...
  • علاقة الامام بأمهات المؤمنين

ونخص بذلك العلاقة بين علي وام المؤمنين عائشة ، فعائشة هي زوجة النبي ، وبالتالي فهي أم المؤمنين بنص القران ، لكن هناك اختلاف بين الطرفين ، نشأ عنه خروج عائشة على الامام ، ومحاربته مع طلحة والزبير ولست بصدد شرح مشروعية ام عدم مشروعية خروجها فأني ، سأختصر الطريق لابدأ بتلك العلاقة من انتهاء حرب الجمل وفي نقطتين:-

الاولى : ان علي بعد تلك الواقعة اعادة ام المؤمنين الى المدينة معززة مكرمة ، مصحوبة بأربعين فارسة من جيشه يرتدين زي الفرسان وعندما دخلت المدينة سألها اهلها كيف وجدت ابن ابي طالب ، فأجابتهم : (كفوءاً كريماً الا في واحدة) قالوا : ما هي (ارسل معي فرساناً وكان الاولى ان يرسل نساءاً) وعند قولها ذلك ، اماطت الفارسات النقاب عن وجوههن ، فتهلل وجه عائشة وقالت : (لقد فعلها والله) .

الثانية : اما النقطة الثانية فأن علياً سمع برجال يتحدثون عن عائشة بسوء ويلوكونها بالسنتهم فاقام عليهم الحد ..

اما علاقته مع امهات المؤمنين الاخريات سواء على حياة الرسول او بعد وفاته ، فهي علاقة الابن بأمه والمستشار لمن يقدم له المشورة ، والمؤتمن على أمورهن جميعاً .

ولعل من المناسب ان اذكر ان ام المؤمنين ام سلمة كانت تحترم عليّ وتوده (وهي المرأة الصالحة التي كبر سنها وكمل عقلها) والتي روت الكثير من فضائل الامام وعدله وعفته وحبه للخير ، كونه اخ زوجها وباب مدينة علمه ، وخليفته من بعده ، وهو منه كهارون من موسى الا انه لا نبي من بعده ، الذي يقاتل الكافرين على تأويل القران ، حيث كان النبي يقاتلهم على تنزيله ..وكان يقول له ، انت يا علي تبين لامتي ما اختلفوا فيه من بعدي ...

وانه مع الحق والحق معه حيثما دار ..

الخاتمــة

وانا اتطلع الى السماء أبحث عن شيء ضاع مني في زوايا الكون الفسيحة ، أتأمل تلك الارجاء البعيدة ، بعد مليارات من السنين الضوئية عسى ان اجد ضلاً ، او نوراً ، او شعاعاً ، او القاً ، يشعرني ، اين سيكون علي ، وما هو موقعه في السماوات ، وما هي وظيفته في الخلد ، وما هو دوره في الاقداس ، فيجبني الخليفة الاول ابو بكر ليقول لي ، اني سمعت محمداً (ص) يقول لا يجوزن احد الصراط الا بجواز من علي ابن ابي طالب ، واجابني الخليفة الثاني عمر بن الخطاب بقوله ، اني سمعت رسول الله يقول ، (ان الله خلق ملائكة من نور وجه علي) .. هو البلاغة كلها ، وهو نهج البلاغة ، هو الصديق الاكبر والفاروق الاعظم ، هو باب مدينة العلم ، وحبر الامة وشقيق الملائكة .. هو سيف الله ، وقرة عين التاريخ ، ومهندس نصر الاسلام ..

قال حقاً ، ونطق صدقاً .. لا تأخذه في الحق لومة لائم ... وهو القائل ، (ما ترك لي الحق من صديق) جاءه الزبير وطلحة على ان يكونا شركاء معه فيما لا يريده ولا يتفق مع دستور حياته، فقال لا ...

(ان هذا المال ليس لي وليس لكما)

فهو مالٌ لجميع المسلمين ولايجوز الأستئثار بما الناس فيه أسوةً وليس لعلي ان يفرط به لأي كان مهما تكن درجة قربه منه وإلا لما اسخط عقيلاً عليه وأنصرف عنه الى غيره وكان الأقرب الى الواقع وهو يجد لديه هوىً فيه نفسه الا انه بأعتماده مبدأ المساواة بين جميع المسلمين في الحقوق والواجبات لايتحرج من ان يطفئ شمعة وهو في بيت المال لأن من دعاه الى غير ذلك لايحق له الاستئثار بضوء تلك الشمعة التي تعود ملكيتها لعموم المسلمين.

ماذا قلت وماذا حاولت أن أكتب عن الكنوز المودعة في بطون نهج البلاغة لما استطعت أن أفي ماكلفت به حقه ولكن هي محاولة اعتذر عن نقصي فيها وجهلي بحقائق الأمور وعدم القدرة على التعبير فما كتبته هو غيض من فيض بحكم طبيعتي كأنسان لايدرك عظمة ماورد عن الإمام القائد والإنسان الذي رسم لنا طريقاً للمستقبل وطريقاً للحرية ولابد لي ان اقول ان الله وليّ هو مولاي ونعم النصير .

****************************