السيد محسن الأمين
ومن التحامل على أمير المؤمنين (ع) التماس الوجوه والطرق والوسائل لانكار نسبة نهج البلاغة إليه وأنه من تاليف السيد الرضي كله أو بعضه تارة بأنه ركيك العبارة ونفسه لا يوافق نفس القرشيين كما يقول الذهبي في ميزان الاعتدال وتارة بان فيه اسجاعا والسجع لم يكن معروفا في ذلك العصر وتارة بان خطبته في وصف الطاووس تناسب مذاق المتأخرين لا القدماء وتارة بمجرد الإنكار العاري عن الحجة إلى غير ذلك مما فساده وسخافته أوضح من أن يبين .
ففي كتاب تاريخ الأدب العربي للأستاذ احمد حسن الزيات المصري صفحة ٩٠ ما لفظه : ولا نعلم بعد رسول الله (ص) فيمن سلف وخلف أفصح من علي في المنطق ولا ابل منه ريقا في الخطابة كان حكيما تتفجر الحكمة من بيانه وخطيبا تتدفق البلاغة على لسانه وواعظا ملء السمع والقلب ومترسلا بعيد غور الحجة ومتكلما يضع لسانه حيث شاء وهو بالاجماع أخطب المسلمين وإمام المنشئين وخطبه في الحث على الجهاد ورسائله إلى معاوية ووصف الطاووس والخفاش والدنيا وعهده للأشتر النخعي إن صح تعد من معجزات اللسان العربي وبدائع العقل البشري وما نظن ذلك قد تهيا له إلا لشدة خلاطه الرسول ومر انه منذ الحداثة على الكتابة له والخطابة في سبيله ، ثم قال : كلام أمير المؤمنين يدورعلى أقطاب ثلاثة الخطب والأوامر والكتب والرسائل والحكم والمواعظ وقد جمعها على هذا النسق الشريف الرضي في كتاب سماه نهج البلاغة لأنه كما قال بحق يفتح للناظر فيه أبوابها ويقرب عليه طلابها فيه حاجة العالم والمتعلم وبغية البليغ والزاهد ويضئ في أثنائه من الكلام في التوحيد والعدل ما هو بلال كل غلة وجلاء كل شبهة والصحيح أن أكثر ما في الكتاب منحول مدخول انتهى .
أقول : التقليد آفة للعقول ليس مثلها آفة وهو الذي حمل الأمم على عبادة الأحجار والحيوانات الصامتة والكواكب المسخرة وهم ذوو ألباب راجحة وإفهام حادة وعقول صحيحة وهو الذي حمل مشركي قريش على إنكار القرآن العظيم مع ما فيه من معجز البلاغة والفصاحة الذي بهرعقولهم حتى سموه سحرا وعلى القدح في ذات النبي (ص) أكمل الخلق مع ما عرفوه قبل النبوة من علو صفاته ورجاحة عقله فقالوا : ساحر أو مجنون وهو الذي حدا بالأمم السالفة إلى إنكار نبوة الأنبياء مع سطوع برهانهم فكانت أكبر حجة لهم إنا وجدنا آباءنا . . . التقليد . التقليد آفة للأفهام وأي آفة وحجاب لنور العقل وأي حجاب ، الصبي في صباه إذا قال شيئا وسئل عن حجته فيه يقول هكذا قال أبي أو قالت أمي والتلميذ أكبر حجة له هكذا قال معلمي .
جمع السيد الرضي وهو من أهل بغداد كتابا من كلام أمير المؤمنين ع سماه نهج البلاغة اختاره من كلامه اختيار اليتيمة من بيت الجواهر في عصر كانت فيه مكاتب بغداد حافلة بملايين المخطوطات من كتب الاسلام التي جمعت في قرون وكانت مكتبة أخيه المرتضى التي له النظر فيها الوحيدة من بينها مع ما اجتمع عنده وعند أخيه في مكاتبهما الخاصة من مئات الألوف من نفائس الكتب .
ولم يكناسم أحق بمعناه من هذا الاسم بمسماه وقد اشتهر الكتاب في عصر جامعه وانتشر ولم يكن جامعه من الخاملين في عصره ولا الكتاب مما يستهان به ولا منشئه من المغمورين فلو كان أكثر ما فيه منحول مدخول كما يقول الأديب الزيات في تاريخ الأدب العربي لرده علماء ذلك العصر وما قبلوه وبينوا وجه الانتحال فيه وأظهروه فشاع وذاع لكنا لم نجدهم نبسوا ببنت شفة بل تلقوه بالقبول والاعظام حتى خلف من بعدهم خلف رأوا فيه الخطبة الشقشقية التي إن لم تزد عن سائره فصاحة وبلاغة وحسن أسلوب فلا تنقص والتي لا يعلم كل ناظر منصف فيها أن هذا الثمر من ذلك الشجر وهذه الدرة منتلك الدرر فوجدوا فيها ما يخالف تقليدهم الموروث من تصريحه بأنه أحق ممن تقدمه بالخلافة والإمامة فقامت لذلك قيامتهم ورأوا أحسن وس يلة للدفاع عن تقليدهم إنكار أن تلك الخطبة من كلامه .
ثم رأى قوم أن إنكارها وحدها يوجب الظن والتهمة فحاولوا إنكار الكتاب برمته وجاء آخرون فرأوا أن إنكاره برمته قد لا يمكن فلجأوا إلى القول بان فيه المدخول وسرى هذا الداء إلى أدباء العصر وفضلائه والذين أخذوا على أنفسهم نبذ التقليد ولكنهم وقعوا فيه من حيث لا يعلمون فليس كل من يريد نفي صفة عنه يمكنه ذلك حتى قال الشيخ محيي الدين الخياط وهو من الممتازين في هذا العصر بالفضل والأدب والتنقيب : لولا مازج فيه . . . .
وجاء الفاضل الزيات الذي يريد أن يحيي تاريخ الأدب العربي فحكم حكما جازما قاطعا باتا بان أكثر ما فيه منحول مدخول ولم يأت على ذلك ببينة ولا برهان سوى اعترافه بأنه بحق يفتح للناظر فيه أبواب البلاغة ويقرب عليه طلابها وسوى نقلة الاجماع على أنه أخطب المسلمين وإمام المنشئين وبان خطبه وعهده للأشتر تعد من معجزات اللسان العربي وبدائع العقل البشري لكن قلمه لم يطاوعه على الجزم بنسبة عهد الأشتر إليه فاردفه بقوله إن صح وليت شعري ما الذي رابه من صحته أكونه من معجزات اللسان العربي ؟ ومن أحق بمعجزاته من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ؟ أم كون ناقله الشريف الرضي ومن أثبت منه نقلا وأصدق قيلا وأثبت عدالة وتقوى ؟ وليس في العهد ما في الشقشقية لينافي التقليد الموروث وليت شعري كيف صح له أن يحكم هذا الحكم الجائر ونهج البلاغة مجموع من كتب تفوت الحصر ومنتخب جل كلامه القصير من كلام طويل فهل أطلع على جميع الكتب والخطب والرسائل وبحث عنها فوجدها مكذوبة .
وهذه شهادة على النفي غير مقبولة ومن ذا الذي يستطيع الجزم بكذب كلام كثير كهذا بمجرد رؤيته .
وقد أدى حب نصرة المعتقد إلى أن يقول الذهبي الدمشقي في ميزانه البعيد عن الاعتدال أن كلام نهج البلاغة ركيك وأنه لا يشابه كلام القرشيين مع أنه لم يعرف أن جامعه الرضي أو المرتضى وهذا ليس بعجيب أن يقع مثله من البشر بعد ما رأينا من جعل كلام الله تعالى القرآن باطلا وشعرا ، وهكذا عمد أخواننا هؤلاء إلى أعظم مفخرة من مفاخر الاسلام فانكروها وأبطلوها وبرئوا منها .
سامحكم الله أيها الإخوان أنكم لم تستطيعوا ولن تستطيعوا إخمال ذكر نهج البلاغة والحط من قدره كما لم يستطع أحد الحط من قدر القرآن لا في عصر النبي (ص) ولا من المبشرين في هذا العصر فالشمس لا تحتاج بعد نورها إلى شاهد ومعرف .
إن نهج البلاغة المكذوب على علي (ع) بزعمكم أو الذي هو ركيك العبارة عند الذهبي الدمشقي أو الذي أكثره منحول مدخول على رأي الفاضل الزيات قد شرح حتى اليوم بعشرات الشروح وطبع منها الألوف وطبع منه الملايين .
ليس في إمكان الشريف الرضي مع علو قدره ولا غيره أن يأتي بما يضارع نهج البلاغة وكلام الرضي كثير معروف مشهور لا يشبه شئ منه نهج البلاغة ولا يدانيه .
إننا نرى الفاضل الزيات لم يخل من شبه التدافع في كلامه فهو يسلم بان نهج البلاغة بحق يفتح للناظر فيه أبواب البلاغة ويقرب عليه طلابها وإن فيه حاجة العالم والمتعلم وبغية البليغ الزاهد ويضئ في أثنائه من الكلام في التوحيد والعدل نور ساطع يجلو كل شبهة وإن عليا بالاجماع أخطب المسلمين وإمام المنشئين وإن خطبه في الحث على الجهاد ورسائله إلى معاوية ووصفه الطاووس والخفاش والدنيا وعهده للأشتر تعد من معجزات اللسان العربي ثم يحكم حكما جازما بان كثيرا مما فيه منحول مدخول .
وإذا رأينا رجلا قاده انصافه وطبعه إلى الاعتراف بنهج البلاغة والثناء عليه علقت على كلامه الشروح والحواشي بأكثر مما يعلق على الأقوال الباطلة وكتب الضلال بل كثير من ذلك نشر واشتهر ولم يعلق عليه أحد حرفا واحدا .
هذا الفاضل الآلوسي يقول في كتابه بلوع الإرب في معرفة أحوال العرب ج ٣ ص ١٨٠ : هذا كتاب نهج البلاغة قد أستودع من خطب الإمام علي بن أبي طالب سلام الله عليه ما هو قبس من نور الكلام الإلهي وشمس تضئ بفصاحة المنطق النبوي اه .
ولكن المعلق على الكتاب المذكور الشيخ محمد بهجة الأثري لم تهضم طبيعته هذا الكلام ولم يستطع السكوت عليه فعلق عليه بهذه العبارة : كان ابن سيرين يرى عامة ما يروون عن علي رضي الله عنه كذبا لا أصل له ولا سند ، قال الشيخ العلامة المقبلي في العلم الشامخ وصدق ابن سيرين رحمه الله فان كل قلب سليم وعقل غير زائغ عن الطريق القويم ولب تدرب في مقاصد سالكي الطريق المستقيم يشهد بكذب كثير مما في نهج البلاغة الذي صار عند الشيعة عديل كتاب الله بمجرد الهوى الذي أصاب كل عرق منهم ومفصل ، وليتهم سلكوا مسلك جلاميد الناس وأوصلوا ذلك إلى علي برواية تسوع عند الناس وجادلوا عن رواتها ولكنهم لم يبلغوا بها مصنفها . . . الخ اه .
فهذا نموذج من انصاف هؤلاء وتثبتهم وتخرجهم ، هو يروي عن ابن سيرين بغير أصل ولا سند حكما عاما لا يقبل العقل صدقه وشهادة على النفي ويروي عمن يسميه العلامة المقبلي تصديقا لهذا الحكم بغير حجة غير التشجيع البارد بل بمجرد الهوى الذي خالط عقل المقبلي وقلبه ولحمه ودمه فضلا عن عروقه ومفاصله .
الشيعة لا ترسل ما ترويه إرسالا كما يقتضيه هذيان المقبلي ولا تقبل إلا ما أسنده ثقة عن ثقة وعدل عن عدل ضابط حتى يتصل بالامام ولا تزعم عدالة مائة ألف أو يزيدون ممن يجوز عليهم الذنب وشوهد منهم ، وكتب رجالها شاهدة بذلك .
ليس مدار الصدق والكذب بالتسجيع بالعقل السليم والطريق القويم والصراط المستقيم وزمزم والحطيم فهذا سهل على كل أحد أن يثبته لنفسه .
أما أن نهج البلاغة قد صار عند الشيعة عديل كتاب الله فهذا كذب وافتراء بمجرد الهوى فالشيعة لا تعدل بكتاب الله شيئا ولا بكلام نبيه (ص) .
نهج البلاغة بعد كلام النبي (ص) فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق لا يرتاب فيه إلا من غطى الهوى على بصيرته .
ليس نهج البلاغة مرجعا للأحكام الشرعية حتى نبحث عن أسانيده ونوصله إلى علي (ع) إنما هو منتخب من كلامه في المواعظ والنصائح وأنواع ما يعتمده الخطباء من مقاصدهم .
ولم يكن غرض جامعه إلا جمع قسم من الكلام السابق في ميدان الفصاحة والبلاغة على حد ما جمع غيره من كلام الفصحاء والبلغاء الجاهليين والاسلاميين الصحابة وغيرهم بسند وبغير سند ولم نركم تعترضون على أحد في نقله لخطبة أو كلام بدون سند وهو في الكتب يفوق الحد ، إلا على نهج البلاغة ، ليس هذا إلا لشئ في النفس مع أن جل ما فيه مروي بالأسانيد في الكتب المشهورة المتداولة .
إن جلاميد الصخور لتستحي لو كانت تعقل ان ينسب لها ما تفوه به هذا المسمى بالمقبلي ومع هذا يصفه الأثري بالعلامة .
إن نهج البلاغة مع صحة أسانيده في الكتب وجلالة قدر جامعه وعدالته ووثاقته لا يحتاج إلى شاهد على صحة نسبته إلى إمام الفصاحة والبلاغة بل له منه عليه شواهد .
ولا يكاد ينقضي عجبي من هؤلاء الذين قادهم الوهم إلى أن الشريف الرضي أنشأ نهج البلاغة أو بعضه لا كثيرا منه أو أكثره ونسبه إلى أمير المؤمنين (ع) مع اعترافهم بان عليا ع هو السابق في ميدان الفصاحة والبلاغة .
إن الحسناء الباهرة الحسن والجمال لا تحتاج إلى تبييض وجهها بالبودرة وتحمير شفتيها وتقويس حاجبيها وإنما تحتاجه القبيحة الوجه لتستر معائبها ، والغني المثري لا يحتاج ان يدعي ملك ما ليس له ليعتقد الناس فيه الغنى إنما يحتاج ذلك قليل المال .
ومن عنده من الأثاث والرياش ما يفوت الحصر لا يحتاج أن يستعير الطنافس من جاره ليفرشها في داره ، وحاتم كريم العرب لا نحتاج في إثبات كرمه إلى أن ننسب إليه ما لم يفعله ، فعلي ليس بحاجة إلى أن ينسب إليه الشريف الرضي ما ليس من كلامه وله الحظ الوافر من أفصح الكلام .
ولو نسب كلام دون نهج البلاغة إلى من يقدسهم الأثري والمقبلي والمدبري لبذلوا النفس والنفيس في اثبات صحته وسبحوا بحمد من نسب إليه .
قلنا إن نهج البلاغة لا يحتاج إلى شاهد بل هو شاهد بنفسه لنفسه كما لا تحتاج الشمس إلى شاهد أنها الشمس .
ونذكر لك شاهدا بسيطا وإن كان غنيا عن الشواهد .
قرأنا في مجلة تنويها عن كتاب يسمى المدهش لابن الجوزي العالم الواعظ المشهور في الخطب والمواعظ ومواضيع أخر يحتاج إليها فلم نشك في نفاسة هذا الكتاب نظرا لما لمؤلفه من الشهرة ولاسمه ومواضيعه من استلفات النظر فأرسلنا إلى بعض أصدقائنا في بغداد التي طبع فيها الكتاب وطلبنا نسخة منه فإذا هو مطبوع طبعا جيدا على ورق جيد وإذا المدهش ليس بمدهش بل من المدهش تسميته بالمدهش وقد فسد رونق خطبه بالتسجيع والتصنع والتكلف .
وبذلك يعرف قدر كلام نهج البلاغة وبضدها تتبين الأشياء .
فإذا كان ابن الجوزي الذي صرف عمره في الخطابة والوعظ وكان لخطبه التأثير العظيم في نفوس السامعين وكانت تجري لها الدموع وترجف القلوب هذا حاله . وقس على ذلك خطب ابن نباتة وغيره من الخطباء الذين دون كلامهم واشتهر فإذا تأملتها عرفت مكانة كلام نهج البلاغة وإن هذا النوع من الكلام بعد كلام الله تعالى ورسوله ، مرتفع عن درجة كلام الناس .
منقول من كتاب أعيان الشيعة المجلد الأول