وقال (عليه السلام): زُهْدُكَ فِي رَاغِب فِيكَ نُقْصَانُ حَظّ، وَرَغْبَتُكَ فِي زَاهِد فِيكَ ذُلُّ نَفْس.                
وقال (عليه السلام): إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .                
وقال (عليه السلام): إذَا كَانَ في رَجُل خَلَّةٌ رَائِعَةٌ فَانْتَظِرْ أَخَوَاتِهَا.                
وقال (عليه السلام): يَهْلِكُ فِيَّ رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ مُفْرِطٌ، وَبَاهِتٌ مُفْتَر.                
وقال (عليه السلام): أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ اكْتِسَابِ الاْخْوَانِ، وَأَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ .                
وقال (عليه السلام): إِذَا وَصَلَتْ إِليْكُمْ أَطْرَافُ النِّعَمِ فَلاَ تُنْفِرُوا أَقْصَاهَا بِقِلَّةِ الشُّكْرِ .                
وقال (عليه السلام): خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ، وَإِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ .                

Search form

إرسال الی صدیق
كلمات أقطاب العلم وعباقرة الأدب حول نهج البلاغة – الثالث

كلمة الشيخ محمد مهدي شمس الدين:
قال الشيخ محمد مهدي في كتابه (دراسات في نهج البلاغة): «سواء نظرت إليه من ناحية الشكل أو من ناحية المضمون وجدته من الآثار التي تقلّ نظائرها في التراث الانساني على ضخامة هذا التراث، فقد قيل في بيان صاحبه إنّه دون الخالق وفوق كلام المخلوق، بيان معجز البلاغة، تتحوّل الأفكار فيه إلى أنغام، وتتحوّل الأنغام فيه إلى أفكار، ويلتقي عليه العقل والقلب، والعاطفة والفكرة، فإذا أنت من الفكرة أمام كائن حيّ متحرّك ينبض بالحياة ويمور بالحركة. وتلك هي آية الاعجاز في كلّ بيان. ولم يكرّس هذا البيان المعجز لمديح سلطان، أو لاستجلاب نفع، أو للتعبير عن عاطفة تافهة ممّا اعتاده التافهون من الناس أن يكرّسوا له البيان.
فلم يمجّد الإمام الأعظم في نهج البلاغة قوّة الأقوياء وإنّما مجّد نضال الضعفاء، ولم يمجّد غنى الأغنياء وإنّما أعلن حقوق الفقراء، ولم يمجّد الظالمين العتاة وإنّما مجّد الأنبياء والصُلحاء.
إنّ الحرية والعبودية، والغنى والفقر، والعدل والظلم، والحرب والسلم، والنضال الأزليّ في سبيل عالم أفضل لإنسان أفضل، هو مدار الحديث في نهج البلاغة.
فنهج البلاغة كتاب إنسانيّ بكلّ ما لهذه الكلمة من مدلول، إنسانيّ باحترامه للانسان وللحياة الإنسانية، وإنسانيّ بما فيه من الاعتراف للانسان بحقوقه في عصر كان الفرد الإنساني فيه عند الحاكمين هباءة حقيرة لا قيمة لها ولا قدر، إنسانيّ بما يثيره في الانسان من حبّ الحياة والعمل لها في حدود تضمن لها سموّها ونقاءها، لهذا ولغيره كان نهج البلاغة ـ وسيبقى ـ على الدهر أثراً من جملة ما يحويه التراث الانساني من الآثار القليلة التي تعشو إليها البصائر حين تكتنفها الظلمات.
وحقّ له أن يكون كذلك وهو عطاء إنسان كان كوناً من البطولات، ودنياً من الفضائل، ومثلاً أعلى في كل ما يشرف الانسان».

كلمة الأديب جبران خليل جبران:
«أمّا بلاغة الإمام علي فإنّها النور ذو المناهج والطرق التي تاه عنها العرب فلم يفهموها، ومنهم من آثروا عليها ظلمات أيّامهم يتيهون في شعابها رجوعاً إلى الجاهليّة واتّصالاً بمن تتمثّل بهم الجاهلية من سماسرة المنافع وتجّار الأعناق، في عقيدتي أنّ ابن ابي طالب كان أوّل عربي لازم الروح الكلّيّة وجاورها وسامرها، وهو أوّل عربي تناولت شفتاه صدى أغانيها على مسمع قوم لم يسمعوا بها من ذي قبل، فتاهوا بين مناهج بلاغته وظلمات ماضيهم، فمن أعجب بها كان إعجابه موثوقاً بالفطرة، ومن خاصمه كان من أبناء الجاهلية». نقلاً عن كتاب «الإمام علي صوت العدالة الانسانية» ص٣٦٣.

كلمة الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي في كتابه «نظرة في شرح نهج البلاغة»:
«لقد احتوى نهج البلاغة من حقائق البلاغة ودقائق الفصاحة ما لا يبلغ قعره الفكر، وجمع من فنون المعاني وشؤون البيان ما لا ينال غوره النظر، وتضمّن من أسرار العربية والنكات الأدبية والمحاسن البديعيّة ما يعجز عن تقديره لسان البشر».

كلمة روكس بن زائدة العزيزي الكاثوليكي:
تحدث الأستاذ روكس عن نهج البلاغة في كتابه (الإمام علي أسد الاسلام وقدّيسه) ص ٢٢٥ تحت عنوان (أثر الإمام في مثقّفي العرب) قائلاً:
«يقيناً أنّ كلّ مثقّف عربي، كلّ كاتب عربي، كلّ خطيب عربي مدين للإمام علي، فإذا كان كلّ مسلم في الدنيا مدين للقرآن الكريم في تكوّن عقليّته وتفكيره، فإنّ كلّ مثقّف عربي مدين لنهج البلاغة في تقويم قلمه، وما أعدت قول اليازجي العظيم إلاّ ازددت اقتناعاً بما أقول، قال إبراهيم اليازجي: «ما أتقنت الكتابة إلاّ بدرس القرآن ونهج البلاغة» وإبراهيم اليازجي إذا أردنا أن نحكم على رجل من رجال القلم بالنسبة إلى كلّ علوم اللغة العربية مجتمعة، لا نجد في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين من يتفوّق عليه، وإن كان في كلّ علم من علومها على انفراد يوجد من ينافسه ويتفوّق عليه.
إذا كان اليازجي يقول هذا، فإنّ كلّ مثقّفٍ عربي مدين لنهج البلاغة وللإمام علي في استقامة نهجه الكتابي، وانطلاقاً من هذه النقطة فنحن لا نعدّ كاتباً أو أديباً عربياً مثقّفاً ثقافة عربية أصيلة إن لم يقرأ القرآن ونهج البلاغة قراءات عميقة متواصلة.
فالذي يريد أن يفهم المجتمع العربي والعقليّة العربية لا بدّ له من قراءة نهج البلاغة، والذي يريد أن يفهم أسلوب الحكم في البلاد العربية يحتاج إلى نهج البلاغة.
الفقيه الذي يرغب في أن يكون نافذ الفكر،مستنير البصيرة هو في أقصى الحاجة إلى نهج البلاغة.
رجل الوعظ المسلم الذي يريد أن يكون واسع الآفاق محتاج إلى نهج البلاغة، وإن لم يفعل فإنّه ظلاّم لنفسه، قليل الاحترام لعقله. قرأت شيئاً اسمه (تشريح شرح نهج البلاغة)، فشعرت بإشفاق على عقلية الرجل، وذكرت حالاً قول ابن العميد على كتب الجاحظ: «كتب الجاحظ: تعلّم العقل أوّلاً والأدب ثانياً».
ونهج البلاغة في اعتقادي يعلّم العقل أوّلاً، والأدب ثانياً، وأساليب كلّ فنّ من الكتابة والخطابة ثالثاً، ويطّلع منه الانسان على أمور لا أعتقد أنّها توجد في كتاب واحد كلّها مجتمعة.
وبعد فأنا أنظر إلى الكتاب على اعتبار أنّه كنـز ثمين لا غنى لمتأدّب عنه، وأنظر إلى صاحب هذا الكتاب فأرى أنّه طّوق جيد اللغة العربية بمنّةٍ لا تزول حتّى تزول الأرض ومن عليها.
وعندي أنّه إذا ثبت كلّ ما في نهج البلاغة للإمام علي، فهو معجزة أدبية، وإذا أراد النافون أن ينفوه عنه وينسبوه إلى جامع الكتاب، فتكون معجزة الإمام أعظم، إذ يستطيع حبّه أن يُملي على محبّيه أن يأتوا بمثل هذه الدرر الغوالي!
فإثبات نهج البلاغة للإمام ونفيه عنه يثبت عظمة الإمام الخالدة، ولا ينفي الدَين الذي للإمام على مثقّفي العرب كافّة».

العقّاد ونهج البلاغة:
جاء في كتابه (عبقريّة الإمام)، في فصل ثقافته (عليه السلام) ما نصّه:
«ففي كتاب نهج البلاغة فيض من آيات التوحيد والحكمة الإلهية، تتّسع به دراسة كلّ مشتغل لعقائد وأصول التأليه وحكمة التوحيد».
ويقول فيه: «فكلّ نمط من أنماط كلامه شاهد له بالملكة الموهوبة في قدرة الوعي وقدرة التعبير، فهو ولا شكّ من أبناء آدم الذين علموا الأسماء وأُوتوا الحكمة وفصل الخطاب».

كلمة سبط ابن الجوزي:
جاء في كتابه (تذكرة الخواص) ما نصّه: «كان علي ينطق بكلام قد حُفَّ بالعصمة، ويتكلّم بميزان الحكمة،كلام ألقى الله تعالى عليه المهابة، فكلّ من طرق سمعه راعه فهابه، وقد جمع الله له بين الحلاوة والملاحة، والطلاوة والفصاحة، لم يسقط منه كلمة، ولا بارت له حجّة، أعجز الناطقين، وحاز قصب السبق قي السابقين، ألفاظ يشرق عليها نور النبوّة وتحيّر الأفهام والألباب»

كلمة الحجّة الشيخ هادي كاشف الغطاء:
جاء في كتابه (مستدرك نهج البلاغة) ما نصّه: «أمّا بعد فإنّ كتاب (نهج البلاغة) من أعظم الكتب الإسلاميّة شأناً، وأرفعها قدراً، وأجمعها محاسن، وأعلاها منازل، نور لمن استضاء به، ونجاة لمن تمسّك بعُراه، وبرهان لمن اعتمده، ولبّ لمن تدبّره، أقواله فصل، وأحكامه عدل، حاجة العالم والمتعلّم، وبُغية الراغب والزاهد، وبُلغة السائس والمسوس، ومُنية المحارب والمسالم، والجنديّ والقائد، وفيه من الكلام في التوحيد والعدل، ومكارم الشيم، ومحاسن الأخلاق، والترغيب والترهيب، والوعظ والتحذير، وحقوق الراعي والرعيّة، وأصول المدنيّة الحقّة، ما ينقع الغلّة ويزيل العلّة، لم تعرف المباحث الكلاميّة إلاّ منه، ولم تكن إلاّ عيالاً عليه، فهو قدوة فطاحلها، وإمام أفاضلها».

كلمة الدكتور زكي نجيب محمود:
تحدّث الكاتب (الزكي) عن نهج البلاغة وأطال، ونقتطف من حديثه هذه الباقة: «لنقف وقفة عند الإمام علي (رضي الله عنه) لننظر كم اجتمع في هذا الرجل من أدب وحكمة وفروسيّة وسياسة.. عرفت نهج البلاغة في صدر الصبا.. وبقيت منه نغمات في أذني.. وها أنا ذا أُعيد القراءة هذه الأيام، فإذا النغمات تزداد في الأذنين حلاوة، وإذا العبارات كأنّها طلاوة إلى طلاوة.. ولست أعني زُخرف الكلام، بل أعني طريقته في اختيار اللفظ الصلب العنيد الذي لا يقوى على تشكيله إلاّ إزميل تحرّكه يد المثّال الذي يتخيّر لتماثيله صُمّ الجلاميد، ليبقى عملاً أقوى من الدهر دواماً وخلوداً.. إنّ اللفظ قد نُحت من حجر صوان، وصفّ بعضها إلى بعض صفّاً عجيباً».
وقال: «قلّب معي صفحاته الرائعة الأدبيّة التي تُسمّى بنهج البلاغة، وقل لي: أنّى ينتهي الأديب ليبدأ الفيلسوف؟ وأنّى ينتهي الفيلسوف الأديب ليبدأ الفارس. ثمّ أين ينتهي هذا ليبدأ السياسي؟ إنّه لا فواصل ولا فوارق، ففي هذه المختارات خطب وأحكام وحجاج وشواهد امتزج فيها الأدب بالحكمة، والحكمة بالأريحيّة، وهاتان بالسياسة». إلى أن يقول: «والنصوص يطول بنا نقلها إلى القارئ ما طال نهج البلاغة، فخير للقارئ أن يرجع إليه ليطالع نفساً قد اجتمع فيها ما يصوّر عصرها، من حيث الركون في إدراك حقائق الأمور إلى سلامة السليقة وحضور البديهة وصدق البصيرة، بغير حاجة إلى تحليلات العقل وتعليلاته، وإلى طريق المناطقة في جمع الشواهد وترتيب النتائج على المقدّمات». نقلاً عن كتاب (الحسين والقرآن) للشيخ محمد جواد مغنية .

كلمة الأستاذ العلاّمة أحمد أمين الكاظمي:
تحدّث في المجلّد الرابع من كتابه (التكامل في الاسلام) تحت عنوان (ليلة الميلاد) فقال (رحمه الله):
«فنهج البلاغة كتاب حوى أصول الفلسفة الحقّة عن الكون والحياة ومصير الإنسان وواقعه، وأصول الاقتصاد حيث لا يضحّي بالفرد على حساب المجتمع، ولا بالمجتمع على حساب الفرد، حوى أسس إدارة شؤون البلاد، وما يربط الشعب بالهيئة الحاكمة من حقوق، فهو كتاب فلسفي اجتماعي، عرفاني، اقتصادي، أدبي، وفيه فصل الخطاب في كلّ حقل يحتاجه الانسان في سيره التكاملي».

كلمة الدكتور صبحي الصالح:
تحدّث الدكتور صبحي الصالح في كتابه (ضبط نصّ نهج البلاغة) ص ١٢ ط بيروت ١٩٦٧ م فقال: «وإنّ نهج البلاغة ليضمّ ـ إلى جانب الموضوعات السابقة ـ طائفة من خطب الوصف تُبوّئ علياً ذروة لا تُسامى بين عباقرة الوصّافين في القديم والحديث، ذلك أنّ علياً ـ كما تنطق نصوص النهج ـ قد استخدم الوصف في مواطن كثيرة، ولم تكد خطبة من خطبه تخلو من وصف دقيق وتحليل نفّاذ إلى بواطن الامور، صوّر الحياة فأبدع، وشخّص الموت فأجزع، ورسم لمشاهد الآخرة لوحات كاملات فأراع وأرهب، ووازن بين طباع الرجال وأخلاق النساء، وقدّم للمنافقين نماذج شاخصة، وللأبرار أنماطاً حيّة، ولم يفلت من ريشته المصوّرة شيطان رجيم يوسوس في صدور الناس، ولا مَلَك رحيم يوحي الخير ويُلهم الرشاد».
وتحدّث في ص ١٥ بقوله: «وأغراض علي في كتبه ورسائله وعهوده ووصاياه تشبه أغراضه في خطبه شبهاً شديداً، كثرت فيها رسائل التعليم والارشاد، وكتب النقد والتعريض، والعتاب والتقريع، وانضمّت إليها بعض الوثائق السياسيّة والإداريّة والقضائيّة والحربيّة، ورسائله جميعاً مطبوعة بالطابع الخطابي، حتّى ليكاد الباحث يعدّها خطباً تُلقى لا كتباً تدبج، إذ تؤلّف فيها الألفاظ المنتقاة، وتنسّق فيها الجمل المحكمات، فينبعث من أجزائها كلّها نغم حلو الإيقاع يسمو بنثرها الرشيق فوق مجالات الشعر الرفيع.
وإذا تجاوزنا خطب علي ورسائله إلى المختار من حِكَمه، ألفيناه يرسل من المعاني المعجزة والأجوبة المسكتة ما ينبئ عن غزارة علمه، وصحّة تجربته، وعمق إدراكه لحقائق الأشياء، وحكم علي هذه منها ما جمعه الشريف الرضي تحت عنوان مستقل، نجد فيه مثل قوله: «النَّاسُ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا» «قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُهُ» «احْذَرُوا صَوْلَةَ الْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَاللَّئِيمِ إذا شَبع».
ووصايا علي الاجتماعيّة تتجسّد هاهنا بوضوح من خلال كلماته النوابغ وحِكَمهِ الحسان، فهو يجلو أبصار صحبه وبصائرهم، ويودّ لو يتبعهم كأس الحكمة بعد الصبوح، يحذّرهم من العلم الذي لا ينفع «رُبَّ عَالِمٍ قَدْ قَتَلَهُ جَهْلُهُ وَعِلْمُهُ مَعَهُ لا يَنْفَعُهُ» و«الْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ يَكُونُ بِقَدْرِ غَيْرِهِ أَجْهَلَ».
والفكرة في خطب علي ورسائله وحكمه عميقة من غير تعقيد، بسيطة من غير إسفاف، مستوفاة من غير إطناب، يلوّنها ترادف الجمل، ويزيّنها تقابل الألفاظ، وينسّقها ضرب من التقسيم المنطقي يجعلها أنفذ في الحسن وألصق بالنفس.
وكان ينبغي لعلي أن تقذف بديهته بتلكم الحكم الخالدة والآراء الثاقبة، بعد أن نهل المعرفة من بيت النبوّة، وتوافرت له ثقافة واسعة وتجربة كاملة وعبقريّة نفّاذة إلى بواطن الأمور.
وتتّسم أفكار علي غالباً بالواقعيّة، إذ كان يستمدّ عناصرها من بيئته الاجتماعية والجغرافية، فأدبه ـ من هذه الناحية ـ مرآة للعصر الذي عاش فيه، صوّر منه ما قد كان أو ما هو كائن، ولقد يطيب له أحياناً أن يصوّر ما ينبغي أن يكون، فتغدو أفكاره مثاليّة عصيّة على التحقيق.
وما من ريب في أنّ الكتاب والسنّة قد رفداه بينبوع ثرّ لا يفيض، فتأثّر بأسلوب القرآن التصويريّ لدى صياغة خطبه ورسائله، واقتطف من القرآن والحديث كثيراً من الألفاظ والتراكيب والمعاني.
وأمّا عاطفة علي فثائرة جيّاشة تستمدّ دوافعها من نفسه الغنيّة بالانفعالات، وعقيدته الثابتة على الحقّ، فما تكلّم إلاّ وبه حاجة إلى الكلام، وما خطب إلاّ ولديه باعث على الخطابة، وإنّما تتجلّى رهافة حسّه في استعماله الألفاظ الحادّة، وإكثاره من العبارات الإنشائيّة كالقسم والتمنّي والترجّي والأمر والنهي والعجب والاستفهام والإنكار والتوبيخ والتقريع، مصحوبة كلّها بترادف بين الفقرات، وتجانس بين الأسجاع، وحرص واضح على النغم والإيقاع.
وخيال علي ـ فيما يخلعه على موصوفاته من صور زاهيات ـ ينتزع أكثر ما ينتزع من صميم البيئة العربية إقليميّة وفكريّة واجتماعيّة، وتمتاز صور علي بالتشخيص والحركة، ولا سيّما حين يتّسع خياله ويمتدّ مجسّماً الأفكار، ملوّناً التعابير، باثّاً الحياة في المفردات والتراكيب».

كلمة شبلي شميل حول نهج البلاغة:
نقلا عن كتاب (ماذا في التاريخ) ج ٧ ص ١٤٩:
«هل عرفت عقلاً كهذا العقل، وعلماً كهذا العلم، وبلاغة كهذه البلاغة، وشجاعة كهذه الشجاعة، تكتمل من الحنان بما لا يعرف حدوداً، حتّى ليبهرك هذا القدر من الحنان، كما يبهرك ذلك القدر من المزايا، تلتقي جميعاً وتتّحد في رجل من أبناء آدم وحوّاء، فإذا هو العالم المفكّر، الأديب الإداري، الحاكم القائد الذي يترك الناس والحكّام وذوي المطامع والجيوش يتآمرون به، ليقبل عليك فيهزّ فيك مشاعر الانسان الذي له عواطف وأفكار، فيهمس في قلبك هذه النجوى الرائعة بما فيها من حرارة العاطفة الكريمة، قائلاً: «فَقْدُ الْأَحِبَّةِ غُرْبَةٌ» أو «لَـا تشْمَتُ بِالْمَصَائِبِ» أو «ليكن دنوُّك من الناس ليناً ورحمة» أو «اعفُ عمّن ظلمكَ، وأعطِ مَن حرمك، وصِلْ مَن قطعك، ولا تُبغض مَن أبغضك»!
هل عرفت من الخلق عظيماً يلتقي مع المفكّرين بسموّ فكرهم، ومع الخيّرين بحبّهم العميق للخير، ومع العلماء بعِلمهم، ومع الباحثين بتنقيبهم، ومع ذوي المودّة بمودّاتهم، ومع الزهاد بزهدهم، ومع المصلحين بإصلاحهم، ومع المتألّمين بآلامهم، ومع المظلومين بمشاعرهم وتمرّدهم، ومع الأدباء بأدبهم، ومع الأبطال ببطولاتهم، ومع الشهداء بشهادتهم، ومع كلّ إنسانيّة بما يشرّفها ويرفع من شأنها، ثم إنّ له في كلّ ذلك فضل القول الناتج عن العمل، والتضحية المتّصلة بالتضحية، والسابقة في الزمان!».

كلمة سليمان كتّاني:
وتحدّث سليمان كتّاني في كتابه «الإمام علي نبراس ومتراس» ص ١٩٩ ط ١٣٨٦ هـ مطبعة النعمان في النجف عن نهج البلاغة «...وماذا جاء في (نهج البلاغة) فقال: يدغدغ الشكّ في ما جاء في نهج البلاغة؟ وهل الكتاب كان غير تقويم للرجل الكبير في نهجه الطويل، الذي زرع عليه الانسان قيمة تتبلور بالعقل الصحيح وتسمو بالفضيلة، وجعل الفضائل تنمو وتدور على محور واحد، هو محور التقوى والإيمان بالله؟
ومتى، وفي أيّة لحظة من لحظات عمره، لم يعبّر عن هذا النهج الصريح؟
أفي إعلانه الرسالة وإيمانه بها، ولقد نذر نفسه للدعوة لها والجهاد في سبيلها، أم في تطبيقها دستوراً كاملاً لكلّ مجاري أفكاره وأقواله وأعماله من حيث كان زهده وتقواه وشجاعته وبطولته؟
فإذا كان الاقحام في (نهج البلاغة) تكويماً لتعابير تحمل مثل هذه المعاني لم يسكبها جَنان المنسوبة إليه ضمن حروف نبتت من شقّ قلمه، فإنّ ذلك لن يغيّر نهج البلاغة بشيء،... لأنّ الكلام المقحم جاء صادقاً في نحت نفسه قالباً لائقاً بالفكر الأصيل، ولأنّ البلاغة في مفهومها الحقيقي ليست مطلقاً في قوّة اللفظ والنحت بقدر ما هي تنـزيل لسموّ المعاني في قوالب متينة السبك والحبك، وإنّ هذه الأخيرة تبقى أبداً قوالب جوفاء ما لم تستتمّ فيها تلك المفاتن.
و(نهج البلاغة)، سواء كان صقل حروفه على يد ابن أبي طالب أم كان على يدي مقحم فنّان، فإنّه يبقى دائماً تعبيراً عميق البلاغة عن نفسيّة رجل واحد سُمّي بـ «علي بن أبي طالب».

انتهى .

****************************