السؤال :
ما هو نهج البلاغة ؟
الجواب :
نهج البلاغه كتاب عربي اشتهر في مملكة الأدب الأدب الأممي اشتهار الشمس فی الظهيرة؛ وهوصدف لآل من الحكم النفيسة ضم بين دفتيه ٢٤٢ خطبة وكلاما و٧٨ كتابا ورسالة و٤٩٨ كلمة من يواقيت الحكمة وجوامع الكلم لإمام الكل فی الكل اميرالمؤمنين (ع) وذلك المختار من لفظه الحر وكلماته الغر وما جادت به يرادعته الدفافة من لؤلؤ رطب ودر نضيد كما شهد به الصحافی الشهير الاستاذ امين نخله من أفاضل المسيحيين مخاطبا من رجاه انتخاب (المائه) من كلمات الإمام عليه السلام اذ قال:
سألتنی أن أنتقی مائة كلمة من كلمات أبلغ العرب (أبیالحسن) تخرجها فی كتاب؛ وليس بين يدی الآن من كتب الأدب التی يرجع اليها فی مثل هذا الغرض إلا طائفة قليلة منها انجيل البلاغة (النهج) فرحت اسرح اصبعی فيه ولله لا اعرف كيف اصطفی لك المائة من مئات بل الكلمة من كلمات الا اذا سلخت الياقوتة عن اختها الياقوتة، ولقد فعلت ويدی تتقلب علی اليواقيت وعينی تغوص فی اللمعان فما حسبتنی اخرج من معدن البلاغة بكلمة لفرط ما تحيرت فی التخير، فخذ هذه (المائة) وتذكر انها لمحات من نور وزهران من نور، ففي نهجالبلاغة من نعم الله علی العربية واهلها اكثر بكثير من مائة كلمة» الخ.
يصف هذا الكتاب وغيره كلم الامام (ع) بالدر والياقوت والجوهر وانی لهذه الاحجار الغالية مزايا الحكمة العالية ومن اين لها ان تهدی الحياری فی سبل الحياة ومسالكها الشائكة ومن لها الوساطة بين الجهل والعلم وربط الانسان بعالم اللاهوت أوان تكشف للبصائر اسرار الملكوت عدا ما لهذه الكلم من اطراب القلوب فإن لسامعي هذه الخطب والكلم اهتزاز وجد وتمايل طرب محسوسين، وذالك برهانا لتفوق الغناء الروحي علی نغمات فيثارة مادية بلی ان النغمات الموسيقية واغانيها تتلاشی وتبيد بمرور الزمن ورنة النغم من كلم الإمام خالدة الأثر عميقة التأثير. ومن شاء ان يعرف ان الحروف كيف تطرب؛ وان الكلمة كيف تجذب؛ وان الكلام كيف يكهرب؛ فليقرأ نهجالبلاغة وهذه الجمل امثولة منه اذ يقول فی وصف الجنة بعد وصف الطاووس وعجيب خلقته:
«فلورميت ببصر قلبك نحوما يوصف لك منها لغرقت نفسك من بدائع ما أخرج إلی الدنيا من شهواتها ولذاتها وزخارف مناظرها ولذهلت بالفكر فی اصطفاق اشجار غيبت عروقها فی كمثبان المسك علی سواحل أنهارهاوفی تعليق كبائس اللؤلؤ الرطب فی عساليجها وأفنائها وطلوع تلك الثمار مختلفة في غلف أكمامها تجنی من غير تكلف فتأتی علی منية مجتنيها ويطاف علی نزالها فی أفنية من قصورها بالاعسال المصفقة والخمور المروقة» الخ.
ولقد حاورني ببغداد سنة ١٣٢٨ هـ. رئيس كتاب القنصلية البريطانية (نرسيسيان) من فضلاء الأرمن زاعما نفوق نهج البلاغة علی كل كلام عربي لكثرة مافيه من السهل الممتنع الذی لا يوجد فی سواه وانقياد الأسجاع الصعاب فيه بلاتكلف واستشهد بقوله عليه السلام.
«أم هذا الإنسان الذی خلق فی ظلمات الارحام وسجف الاستار نطفة دهاقا وعلقة محاقا فجنينا وراضعا ووليدا ويافعا ثم منحه الله سبحانه بصرا لاحظا ولسانا لافظا وقلبا حافظا» الخ.
معجبا بحسن التسجيع وكيف يجری الروي كالماء السلسال علی لسان الإمام (ع) «ثم قال» ولوكان یرقی هذا الخطيب العظيم منبر الكوفة فی عصرنا هذا لرأيتم مسجدها علی سمعته يتموج بقبعات الافرنج للاستقاء من بحر علمه الزاخر.
ولقد احسن الوصف استاذ الفن (حسن نائل المرصفي) مدرس البيان بكلية الفرير الكبری بمصر فی مقدمة الشرح علی نهج البلاغة فجمع بايجاز اطراف البيان حول عبقرية الامام وذكر مزاياه العالية وشرح ماهية كلامه فی نهج البلاغه ملخصا فيما يأتي قال:
«بهذه الخصال الثلاث – يعني جمال الحضارة الجديدة وجمال البداوة القديمة وبشاشة القرآن الكريم – امتاز الخلفاء الراشدون، ولقد كان المجلي فی هذه الحلبة علي صلوات الله عليه؛ وما أحسبنی احتاج فی اثبات هذا الی دليل اكثر من نهج البلاغة؛ ذلك الكتاب الذی اقامه الله حجة واضحة علی ان عليا رضي الله عنه قد كان احسن مثال حي لنور القرآن وحكمته وعلمه وهدايته واعجازه وفصاحته. اجتمع لعلي (ع) فی هذا الكتاب ما لم يجتمع لكبار الحكماء وافذاذ الفلاسفة ونوابغ الربانيين من آيات الحكمة السامية وقواعد السياسة المستقيمة ومن كل موعظة باهرة وحجة بالغة تشهد له بالفعل وحسن الأثر. خاض علي فی هذا الكتاب لجة العلم والسياسة والدين فكان في كل هذه المسائل نابغة مبرزا ولئن سألت عن مكان كتابه من الأدب – بعد ان عرفت مكانه من العلم – فليس فی وسع الكاتب المسترسل والخطيب المصقع والشاعر المفلق ان يبلغ الغاية فی وصفه والنهاية من تقريظه وحسبنا أن نقول: انه الملتقی الفذ الذی التقی فيه جمال الحضارة وجزالة البداوة والمنزل الفرد الذی اختارته الحقيقة لنفسها منزلا تطمئن فيه وتأوي اليه؛ بعد ان زلت بها المنازل فی كل لغة.»
وكم مثل هذا فی الواصفين لنهج البلاغة من حكموا بتفوقه علی كتب الانشاء ومنشآت البلغاء؛ واعترفوا ببلوغه حد الاعجاز وانه فوق كلام المخلوقين ودون كلام الخالق المتعال واعجبوا به أقصی الاعجاب وشهدت ألسنتهم بدهشة عقولهم من عظمة اضاء سنا برقها من ثنايا الخطب ومزايا الجمل. وليس اعجاب الادباء بانسجام لفظه وحده ولا دهشة العلماء من تفوق معانيه البليغة حد الاعجاز فقط وانما الاعجاب كله والدهشة كلها فی تنوع المناحي فی هذه الخطب والكلم واختلاف المرامي والاغراض فيها؛ فمن وعظ ونصح وزهد وزجر الی تنبيه حربی واستنهاض للجهاد الی تعليم فني ودروس ضافية فی هيئة الافلاك وابواب النجوم واسرار من طبائع كائنات الأرض وكامنات السماءالی فلسفه الكون وخالقه وتفنن فی المعارف الالهية وترسل فی التوحيد وصفة المبدأ والمعاد الی توسع فی اصول الادارة وسياسة المدن والأمم الی تثقيف النفوس بالفضائل وقواعد الاجتماع وآداب المعاشرة ومكارم الأخلاق الی وصف شعري لظواهر الحياة وغير ذلك من شتی المناحی المتجلية فی نهج البلاغة بأرقی المظاهر! والامام نراه الامام فی كل ضرب من ضروب الاتجاه؛ وعبقرية الامام ظاهرة التفوق علی الجميع، بينما نری أفذاذ الرجال يجدون فی اوجه الكمال فلا يبلغونه الا من الوجه الواحد.
وقد وصف العلامة مفتي الديار المصرية ومصلحها الشيخ محمد عبده فی مقدمة شرحه اعجابه باختلاف المناحي العالية لنهج البلاغة بعد تدبر وتصفح للكتاب؛ فقال:
«يخيل لي ان حروبا شبت وغارات شئت وان للبلاغة دولة وللفصاحة صولة وان للأوهام عرامة وللريب دعاوة وان جحافل الخطابة وكتائب الذرابة فی عقود النظام وصفوف الانتظام تنافج بالصفيح الابلج والقويم الأملج وتمتلج المهج برواضع الحجج فتفل دعاوة الوساواس وتصيب مقاتل الخوالس فما انا الا والحق منتصر والباطل منكسر ومرج الشك في خمود وهرج الريب فی ركود، وان مدبر تلك الدولة وباسل تلك الصولة هوحامل لوائها الغالب اميرالمؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام. بل كنت كلما انتقلت من موضع الی موضع احس بتغير المشاهد وتحول المعاهد، فتارة كنت اجدني فی عالم يعمره من المعاني ارواح عالية فی حلل من العبارات الزاهمية تطوف علی النفوس الزاكية وتدنومن القلوب الصافية توحي اليها رشادها وتقويم منها مرادها وتنفر بها عن مداحض المزال الی جواد الفضل والكمال، وطورا كانت تنكشف الي الجمل عن وجوه باسرة وانياب كاشرة وارواح فی اشباح النمور ومخالب النسور قد تحفزت للوثاب ثم انقضت للاختلاب فخلبت القلوب عن هواها واخذت الخواطر دون مرماها واغتالت فاسد الاهواء وباطل الآراء.
واحيانا كنت اشهد ان عقلا نورانيا لا يشبه خلقا جسدانيا فصل عن الموكب الألهی واتصل بالروح الانساني فخلعه عن غاشيات الطبيعة وسما به الی الملكوت الأعلی ونما به الی مشهد النور الأجلی وسكن به الی عمار جانب التقديس بعد استخلاصه من شوائب التلبيس، وآنات كأني اسمع خطيب الحكمة ينادي بأعلياء الكلمة واولياء امر الأمة يعرفهم مواقع الصواب ويبصرهم مواضع الارتياب ويحذرهم مزالق الاضطراب ويرشدهم الی دقائق السياسة ويهديهم طرق الكياسة ويرتفع بهم الی منصات الرئاسة ويصعدهم شرف التدبير ويشرف بهم علی حسن المصير، ذلك الكتاب الجليل هوجملة ما اختاره السيد الشريف الرضی رحمه الله من كلام سيدنا ومولانا اميرالمؤمنين علي بن ابي طالب كرم الله وجهه؛ جمع متفرقه وسماه بهذا الاسم – نهج البلاغة – ولا أعلم اسما أليق بالدلالة علی معناه منه. وليس فی وسعی ان اصفا هذا الكتاب بأزيد مما دل عليه اسمه ولا ان آتی بشيء فی بيان مزيته فوق ما اتی به صاحب الاختيار كما ستراه فی مقدمة الكتاب؛ ولولا ان غرائز الجيلة وقواضی الذمة تفرض علينا عرفان الجميل فصاحبه وشكر المحسن علی احسانه لما احتجنا الی التنبيه علی ما اودع نهج البلاغة من فنون الفصاحة وما خص به من وجوه البلاغة، خصوصا وهولم يترك غرضا من اغراض الكلام الا اصابه ولم يدع للفكر ممرا الاجابه.
اقول فكم يعود الأسف بليغا اذا نبذنا مثل هذا الكتاب ورائنا ظهريا وحرمنا النشوء من فنون بيانه وتركناه صفر الكف من شذور عقيانه، عكس مالوتثقف بدراسة دراسة تفقه واستحضار وتدبير واستظهار فندخر بهذا ومثله لأفلاذ اكبادنا كنزا من الحكمة اوجنة باقية وجنة واقية تقيهم فی مزالق الانشاء وتملكهم مقاليد البلاغة في البيان والبيان من اهم عوامل الحياة، ولم لا تصغی لنداء مرشد الروحی الذی يخاطبنا من صمیم ضمير الحر بداعية الهداية؛ وما هو– لوانصفناه – الا استاذ الكل فی الكل يلقن العالم نتائج المعارف العالية ويلقی دروسه علی صفوف من اقصی الشرق الی اقصی الغرب بلهجة من لغة الضاد رقت وراقت فلا يوجد اجمل منها حسناً وبهاء.
اما بعد: فهذه رسالة مختصرة كتبتها فی جواب اولئك المتهرجين الذين لايهمهم الا تشويه الحقائق وصرفها عن وجوهها الواقعة – ولوكان ذلك غير ممكن – يحلولهؤلاء أن يزيفوكل كلام يدعوالی خير البشرية والتقدم الانساني ولكن هيهات ان يتصلوا الی ما يرومون اويجدوا ما يحبون.
ان هذا المجهود المتواضع ليس الا ردا علی تلك الشكوك والتقولات التی حامت حول كتاب نهج البلاغة ولا اعلم مدی توفيقي فيما اردت.