وقال (عليه السلام): إِذَا وَصَلَتْ إِليْكُمْ أَطْرَافُ النِّعَمِ فَلاَ تُنْفِرُوا أَقْصَاهَا بِقِلَّةِ الشُّكْرِ .                
وقال (عليه السلام): إذَا كَانَ في رَجُل خَلَّةٌ رَائِعَةٌ فَانْتَظِرْ أَخَوَاتِهَا.                
وقال (عليه السلام): اذْكُرُوا انْقِطَاعَ الَّلذَّاتِ، وَبَقَاءَ التَّبِعَاتِ.                
وقال (عليه السلام): خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ، وَإِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ .                
وقال (عليه السلام): مَنْهُومَانِ لاَ يَشْبَعَانِ: طَالِبُ عِلْم، وَطَالِبُ دُنْيَا.                
وقال (عليه السلام): يَهْلِكُ فِيَّ رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ مُفْرِطٌ، وَبَاهِتٌ مُفْتَر.                
وقال (عليه السلام) : مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا .                

Search form

إرسال الی صدیق
مقاطع من نهج البلاغة

صائب عبد الحميد

نهج البلاغة : هو جملة ما اختاره السيد الشريف الرضي[١] رحمه الله من كلام سيدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، جمع متفرقه ، وسماه بهذا الاسم .
وهو كتاب لم يترك غرضا من أغراض الكلام إلا أصابه ، ولم يدع للفكر ممرا إلا جابه . فقد تعرض للمدح ، وللعذل الأدبي ، وللترغيب في الفضائل ، وللتنفير من الرذائل ، وللمحاورات السياسية ، والمخاصمات الجدلية , ولبيان حقوق الراعي على الرعية ، وحقوق الرعية على الراعي . .
وأتى على الكلام في أصول المدنية ، وقواعد العدالة ، وفي النصائح الشخصية ، والمواعظ العمومية . . . وعلى الجملة ، فلا يطلب طالب طلبة إلا ويرى فيه أفضلها ، ولا تخالج فكرة رغبة إلا وجد فيه أكملها [٢] وقد تناوله أكثر من خمسين عالما من مشاهير عصورهم [٣] ، تحقيقا وتفسيرا ، فما ازدادوا به إلا إعجابا وإجلالا ، ولا أخفوا تصاغرهم عنده ، لما يجدون من عجيب الكلام ، وبديع النسق والانتظام ، ولا ارتاب أحدهم في نسبة شئ منه إلى أمير المؤمنين عليه السلام .
ولو كان ، لأشار إليه بعضهم ، وخاصة ممن لا ينسب إلى الإعتقاد بتفضيل الإمام علي عليه السلام على سائر الصحابة ، وهم كثير . نعم ، أشار الدكتور صبحي الصالح إلى ارتياب بعض النقاد عند النصوص التي وردت في وصف بعض
المخلوقات خاصة ، ثم أشار إلى بطلان هذا بما توصل إليه بعد التحقيق ، فقال ، وقد اشتمل كلامه على أوصاف عجيبة لبعض المخلوقات حملت روعتها ودقة تصويرها بعض النقاد على الارتياب في عزوها إلى أمير المؤمنين كما في تصويره البارع للنملة ، والجرادة ، ولا سيما الطاوس ، ولا بد من تحقيق هذا الأمر في غير هذه المقدمة العجلي ، وهو ما نسأل الله التوفيق لبيانه في كتاب مستقل ، اكتملت بين أيدينا معالمه ، وسنصدره قريبا بعون الله [٤] .
وفي مروج الذهب ، قال المسعودي : والذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة خطبة ونيف وثمانين خطبة يوردها على البديهة ، وتداول الناس ذلك قولا وعملا [٥].
أما ابن أبي الحديد فقد ناقش هذه الدعوى نقاشا مفصلا ، فقال : إن كثيرا من أرباب الهوى يقولون : إن كثيرا من ( نهج البلاغة ) كلام محدث صنعه قوم من فصحاء الشيعة ، وربما عزوا بعضه إلى الرضي أبي الحسن وغيره ، وهؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم ، فضلوا عن النهج الواضح وركبوا بنيات الطريق ضلالا وقلة معرفة بأساليب الكلام ، وأنا أوضح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط ، فأقول : لا يخلو إما أن يكون كل ( نهج البلاغة ) مصنوعا منحولا ، أو بعضه.
والأول باطل بالضرورة ، لأنا نعلم بالتواتر صحة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، وقد نقل المحدثون كلهم أو جلهم ، والمؤرخون كثيرا منه ، وليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك .
والثاني يدل على ما قلناه - أي ما نسبهم إليه من ضلال وقلة معرفة بأساليب الكلام - لأن من قد أنس بالكلام والخطابة ، وشدا طرفا من علم البيان وصار له ذوق في هذا الباب ، لا بد أن يفرق بين الكلام الركيك والفصيح ، وبين الفصيح والأفصح ، وبين الأصيل والمولد ، وإذا وقف على كراس واحد يتضمن كلاما لجماعة من الخطباء ، أو لاثنين منهم فقط ، فلا بد أن يفرق بين الكلامين ، ويميز بين الطريقتين . ألا ترى أنا مع معرفتنا بالشعر ونقده ، لو تصفحنا ديوان أبي تمام ، فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره ، لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمام ونفسه ، وطريقته ومذهبه في القريض ، ألا ترى أن العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه ، لمباينتها لمذهبه في الشعر ، وكذلك حذفوا من شعر أبي نواس شيئا كثيرا : لما ظهر لهم أنه ليس من ألفاظه ، ولا من شعره ، وكذلك غيرهما من الشعراء ، ولم يعتمدوا في ذلك إلا على الذوق خاصة ؟
وأنت إذا تأملت ( نهج البلاغة ) وجدته كله ماء واحدا ، ونفسا واحدا ، وأسلوبا واحدا ، كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفا لباقي الأبعاض في الماهية ، وكالقرآن العزيز ، أوله كأوسطه ، وأوسطه كآخره ، وكل سورة منه ، وكل آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفن والطريق والنظم لباقي الآيات والسور ، ولو كان بعض ( نهج البلاغة ) منحولا وبعضه صحيحا ، لم يكن ذلك كذلك ، فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلال من زعم أن هذا الكتاب أو بعضه منحول إلى أمير المؤمنين عليه السلام [٦].
هذا ، وقد أصدر الشيخ عبد الزهراء الخطيب كتابا مفصلا في تحقيق نصوص نهج البلاغة ، وإحصاء مصادرها ، في أربعة مجلدات - وأسماه : " مصادر نهج البلاغة وأسانيده " وقد استوفى فيه الكثير مما يتعطش له الباحثون .
بعد هذه المقدمة التوثيقية حول ( نهج البلاغة ) وإثبات نسبته إلى الإمام علي عليه السلام فلتكن لنا جولة في ربوعه ، لنقتطف منها ما ذكره الإمام عليه السلام حول حقه في الإمامة .
وقد انتخبنا عشر فقرات من كلامه عليه السلام في هذا الكتاب ، ووضعناها في قسمين :
القسم الأول : في معرفة الإمام والخليفة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم

ومن ذلك :
١ - قوله - وهو يصف عترة النبي - مخاطبا الناس [٧] : " فأين تذهبون ؟ وأنى تؤفكون [٨] ! والأعلام [٩] قائمة ، والآيات واضحة ، والمنار منصوبة ، فأين يتاه بكم ! وكيف تعمهون [١٠] وبينكم عترة نبيكم ؟ ! وهم أزمة الحق ، وأعلام الدين ، وألسنة الصدق ! فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن . وردوهم ورود الهيم العطاش [١١] . أيها الناس ، خذوها عن خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم : إنه يموت من مات منا ، وليس بميت ، ويبلى من بلي منا وليس ببال . فلا تقولوا بما لا تعرفون ، فإن أكثر الحق في ما تنكرون . . واعذروا من لا حجة لكم عليه ، وهو أنا . . ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر ،
وأترك فيكم الثقل الأصغر [١٢] ؟ ! "
وفي شرح ابن أبي الحديد : الثقل الأكبر هو القرآن . وقوله : " أترك فيكم الثقل الأصغر " يعني الحسن والحسين عليهما السلام . - فهل سمعت بكلام أعجب من هذا ، أم بحجة أبلغ ؟
وأمير المؤمنين علي عليه السلام يجمع فيه أشد ألفاظ التعجب والاستنكار والدهشة من قوم أعرضوا عن اتباع أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فيقول : " أين تذهبون " ؟ ! " وأنى تؤفكون ؟ ! والأعلام قائمة . . والآيات واضحة . . .
والمنار منصوبة ! فأين يتاه بكم " ؟ ! وكيف تعمهون ، وبينكم عترة نبيكم ؟ ! وهل بعد هذا يبحث المسلم عن دليل في أن الإمامة فيهم عليهم السلام ؟ !
٢ - احتجاجه عليه السلام ، وهو يقول : " أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا ، كذبا وبغيا علينا ، أن رفعنا الله ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم ؟ ! بنا يستعطى الهدى ، ويستجلى العمى . . . إن الأئمة من قريش ، غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم " [١٣] وهكذا يستخلص القول بأفصح بيان ، بعد ذلك الاستنكار اللاذع على من زعم أن له الفضل عليهم ، ثم يوجز الأمر باختصاص الإمامة فيهم عليهم السلام ، فلا هي تصلح لسواهم ، ولا يصلح سواهم لها !
٣ - كلامه عليه السلام في الناس شارحا سبيل النجاة [١٤] : " انظروا أهل بيت نبيكم ، فالزموا سمتهم [١٥] ، واتبعوا أثرهم ، فلن يخرجوكم من هدى ، ولن يعيدوكم في ردى .
فإن لبدوا فالبدوا [١٦]، وإن نهضوا فانهضوا . ولا تسبقوهم فتضلوا . . . ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا . . . " . وهذا تفسير واضح لحديثي : سفينة النجاة ، ونجوم الأمان المتقدمين ، أو هو كلام مقتبس منهما .
٤ - ومن خطبة له عليه السلام في رسول الله وأهل بيته [١٧] : وفيها : " ونشهد أن لا إله غيره ، وأن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بأمره صادعا ، وبذكره ناطقا ، فأدى أمينا ، ومضى رشيدا . . وخلف فينا راية الحق . . من تقدمها مرق
 [١٨] ، ومن تخلف عنها زهق ، ومن لزمها لحق . . . ألا إن مثل آل محمد صلى الله وآله كمثل نجوم السماء ، إذا خوى نجم [١٩] طلع نجم " .
وهذه أيضا مطابقة تماما لحديثي رسول الله في النجاة والأمان .
ومما روي عنه عليه السلام في مثل هذا المعنى قوله في خطبة طويلة ، منها : " فأين يتاه بكم ؟
بل أين تذهبون عن أهل بيت نبيكم ؟ ! إنا سنخ أصلاب أصحاب السفينة ، وكما نجا في هاتيك من نجا ينجو في هذه من ينجو ، ويل رهين لمن تخلف عنهم .
وإني فيكم كالكهف لأهل الكهف ، وإني فيكم باب حطة من دخل منه نجا ، ومن تخلف عنه هلك ، حجة من ذي الحجة في حجة الوداع : إني قد تركت بين أظهركم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي " [٢٠].
القسم الثاني : في التصريح بحقه في خلافة رسول الله ، ودفعهم إياه عن هذا الحق ، ومطالبته به

ومن ذلك :
١ - من خطبة له بعد انصرافه من صفين ، فيها : " لا يقاس بآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الأمة أحد . ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا . وهم أساس الدين ، وعماد اليقين . . إليهم يفئ الغالي ، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص حق الولاية ، وفيهم الوصية والوراثة . . . الآن إذ رجع الحق إلى أهله ، ونقل إلى منتقله " [٢١] . وهو كلام أوضح مما يحتاج معه إلى تفسير ، ولا يمكن أن يقوم معه تأويل من تلك التأويلات التي سلكها بعض من ذكرنا .
وفيما سيأتي من كلامه عليه السلام صراحة أكثر ، ووضع لكل شئ في محله ، في بيان يعضد بعضه بعضا ، فلا يدع أدنى منفذ لشك أو جدال .
٢ - قوله عليه السلام لبعض من أشار عليه ألا يتبع طلحة والزبير ، في كلام آخر : " فوالله ما زلت مدفوعا عن حقي ، مستأثرا علي ، منذ قبض الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، حتى يوم الناس هذا ! " [٢٢].
٣ - ومرة أخرى [٢٣] ، في جوابه لبعض أصحابه ، وقد سأله قائلا : كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام ، وأنتم أحق به ؟
فقال عليه السلام : " يا أخا بني أسد ، إنك لقلق الوضين [٢٤] ، ترسل في غير سدد ، ولك بعد ذمامة الصهر ، وحق المسألة ، وقد استعلمت ، فاعلم : أما الاستبداد علينا بهذا المقام ونحن الأعلون نسبا ، والأشدون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نوطا [٢٥] ، فإنها كانت أثرة [٢٦] شحت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس آخرين . والحكم الله ، والمعود إليه القيامة . ودع عنك نهبا صيح في حجراته * ولكن حديثا ما حديث الرواحل وهلم الخطب في ابن أبي سفيان ، فلقد أضحكني الدهر بعد إبكائه . . "
٤ - وفي مناظرة له مع بعض الصحابة ، يسجل عليه السلام خلاصتها ، بقوله : " وقد قال قائل : إنك على هذا الأمر - يا بن أبي طالب - لحريص ! فقلت : بل أنتم - والله - لأحرص ، وأبعد ، وأنا أخص وأقرب . وإنما طلبت حقا لي ، وأنتم تحولون بيني وبينه ، وتضربون وجهي دونه .
فلما قرعته بالحجة في الملأ الحاضرين ، هب كأنه بهت لا يدري ما يجيبني به " ! ثم يقول عليه السلام مواصلا كلامه : " اللهم إني أستعديك على قريش ، ومن أعانهم ، فإنهم قطعوا رحمي ، وصغروا عظيم منزلتي ، وأجمعوا على منازعتي أمرا هو لي ، ثم قالوا : ألا أن في الحق أن تأخذه ، وفي الحق أن تتركه " [٢٧].
أيصح بعد هذا - يا أخي - أن نمضي وراء تأويل المتأولين ، وندع كلام أمير المؤمنين ، وإمام المتقين ؟ !
٥ - وفي أمر الخلافة أيضا ، يقول عليه السلام : " واعجباه ، أتكون الخلافة بالصحابة والقرابة ؟ " . وروي له شعر في هذا المعنى : فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم * فكيف بهذا والمشيرون غيب ؟ ! وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم * فغيرك أولى بالنبي وأقرب  [٢٨] .
وحديثه عليه السلام هذا في النثر والنظم موجه إلى أبي بكر وعمر ، فعلى الوجه الأخير ، قال ابن أبي الحديد : أما النثر فإلى عمر توجيهه ، لأن أبا بكر لما قال لعمر - في السقيفة - أمدد يدك ، قال له عمر : أنت صاحب رسول الله في المواطن كلها ، فهلا سلمت الأمر إلى من قد شركه في ذلك ، وزاد عليه بالقرابة !

وأما النظم فموجه إلى أبي بكر لأنه حاج الأنصار في السقيفة فقال : نحن عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما بويع احتج على الناس بالبيعة وأنها صدرت عن أهل الحل والعقد . فقال عليه السلام : أما احتجاجك على الأنصار بأنك من بيضة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فغيرك أقرب إليه منك ، وأما احتجاجك برضا الجماعة بك ، فقد كان قوم من جملة الصحابة غائبين لم يحضروا العقد فكيف يثبت !

وأما على الوجه الأول ، فهو عليه السلام يستنكر أن تكون الصحابة والقرابة شرطا كافيا للخلافة ، بل لا بد من مرجح حقيقي ، كالنص من النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأهلية لهذا الأمر . وأما النظم فسوف يكون فيه هنا مزيدا من الاستنكار ، فهو مع استنكاره الاحتجاج بالصحابة والقرابة في هذا الأمر ، يقول إنهما لم يتما لأبي بكر بل إنها جميعا عنده عليه السلام أتم وأكمل . وأيا كان النص الصادر عنه عليه السلام فهو نص صريح على حقه في الخلافة ، وأنه عليه السلام أولى بها من غيره .
٦ - وبعد ، فإن كل ما تقدم يبسطه الإمام عليه السلام في واحدة من نفائس خطبه ، وهي الخطبة المسماة ب‍ " الشقشقية " وتشمل على الشكوى من أمر الخلافة ، ثم ترجيح صبره عنها ، ثم مبايعة الناس له [٢٩] ، قال فيها :
" أما والله لقد تقمصها [٣٠] فلان وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحا ، ينحدر عني السيل ، ولا يرقى إلي الطير . فسدلت دونها ثوبا ، وطويت عنها كشحا . وطفقت أرتئي بين : أن أصول بيد جذاء  [٣١] ، أو أصبر على طخية [٣٢] عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه ! فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى .
فصبرت ، وفي العين قذى ، وفي الحلق شجا ، أرى تراثي[٣٣] نهبا . حتى مضى الأول لسبيله ، فأدلى بها إلى فلان بعده " . ثم تمثل - عليه السلام - بقول الأعشى : شتان ما يومي على كورها * ويوم حيان أخي جابر " فيا عجبا ! ! بينا هو يستقيلها [٣٤] في حياته ، إذ عقدها لآخر بعد وفاته ! لشد ما تشطرا ضرعيها [٣٥] . فصيرها في حوزة خشناء ، يغلظ كلمها   [٣٦] ، ويخشن مسها ، ويكثر العثار [٣٧] فيها ، والاعتذار منها . فصاحبها كراكب الصعبة ، إن أشنق لها خرم [٣٨] ، وإن أسلس لها تقحم [٣٩] ، فمني الناس - لعمر الله - بخبط وشماس [٤٠] وتلون واعتراض [٤١] . فصبرت ، على طول المدة ، وشدة المحنة . حتى إذا مضى لسبيله ، جعلها في جماعة زعم أني أحدهم !
فيا لله وللشورى ، متى اعترض الريب في مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر ! لكني أسففت إذ أسفوا [٤٢] ، وطرت إذ طاروا . فصغا رجل منهم لضغنه [٤٣] ، ومال الآخر لصهره ، مع هن وهن [٤٤] . إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه [٤٥] بين نثيله [٤٦] ومعتلفه [٤٧] . وقام معه بنو أبيه ، يخضمون[٤٨] مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع ، إلى أن انتكث عليه فتله ، وأجهز عليه عمله ، وكبت به بطنته . فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلي ، ينثالون علي من كل جانب . . فلما نهضت بالأمر ، نكثت طائفة . . ومرقت أخرى . . وقسط آخرون ، كأنهم لم يسمعوا الله سبحانه يقول :
( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ) [٤٩] ! بلى والله ، لقد سمعوها ووعوها ، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم ، وراقهم زبرجها . . . " . إلى آخر خطبته حتى قام إليه رجل من أهل السواد فناوله كتابا ، فقال له ابن عباس : يا أمير المؤمنين ، لو اطردت خطبتك من حيث أفضيت .

فقال - عليه السلام - : " هيهات - يا بن عباس - تلك شقشقة هدرت ، ثم قرت " .
قال ابن عباس : فوالله ما أسفت على كلام قط كأسفي على هذا الكلام ألا يكون أميرالمؤمنين عليه السلام بلغ منه حيث أراد . فقل للمتأولين : هيهات ألا تخضعوا ، وتقروا بكونه عليه السلام موقنا بحقه في خلافة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، مجتهدا في بيان ذلك في شتى المناسبات ، وإنما كان سكوته - حينا - على مضض : " فصبرت ، وفي العين قذى ، وفي الحلق شجا " ! وذلك بعد أن لم يجد سبيلا لانتزاع حقه : " وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء ، أو أصبر على طخية عمياء " ! وقد قال عليه السلام في مناسبة أخرى ، يصف حاله قبل أن يبايع لأحد [٥٠] : " فنظرت ، فإذا ليس لي معين إلا أهل بيتي ، فضننت بهم عن الموت ، وأغضيت على القذى ، وشربت على الشجا ، وصبرت على أخذ الكظم  [٥١] ، وعلى أمر من طعم العلقم " .

- فهل يمكن أن يؤتى ببيان أوضح من هذا ؟ أم مع بيان كهذا يذهب المرء هنا وهناك بحثا عن تأويل يلوذ وراءه ؟ !
كلا ، لا مناص من الاعتراف ، بل والاعتقاد بحقه الذي صرح فيه عليه السلام غير مرة .
وكذا فلا مفر - من جهة أخرى -من حصر خلافة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم به وحده ، لا غير .
وإنما " تقمصها فلان " ! " ثم عقد بها لآخر بعد وفاته ،ولشد ما تشطرا ضرعيها " ! " ثم قام ثالث القوم نافجا حضنيه " .
فما لي بعد هذا لا أذعن للحقيقة ! وأي شئ أكون به أشد فخرا من اتباع الحق بعد معرفته ؟ وهل الدين غير هذا ؟ أم أمرنا نحن بغيره ؟ " رب اشرح لي صدري " .

-------------------------------------------------------------------------
[١] . هو الشريف أبو الحسن محمد بن الطاهر أبي أحمد الحسين بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الإمام موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وأمه فاطمة بنت الحسين بن الحسن الناصر صاحب الديلم بن علي بن الحسن ابن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام ، وكانت ولادته سنة ٣٥٩ ه‍ واشتغل بالعلم ففاق في الفقه والفرائض ، وكان أفضل أهل زمانه في العلم والأدب . له نظم في الذروة حتى قيل : هو أشعر الطالبيين ، تولى نقابة نقباء الطالبيين بعد أبيه سنة ٣٨٨ ه‍ وضم إليه النظر في المظالم والحج بالناس ، وله كتاب ( معاني القرآن ) ممتع يدل على سعة علمه ، توفي سنة ٤٠٦ .
أنظر : تاريخ بغداد ٢ : ٢٤٦ ، وسير أعلام النبلاء ١٧ : ٢٨٥ .
[٢] . الكلام في التعريف إلى هنا من مقدمة الشيخ محمد عبدة في شرحه لنهج البلاغة .
[٣] . نهج البلاغة بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم : ٨ عن كتاب ما هو نهج البلاغة : ٨ - ١٠ ، وعنه أيضا الدكتور صبحي الصالح في كتابه شرح نهج البلاغة : ١٨ .
[٤] . في كتابه : شرح نهج البلاغة : ١٢ .
[٥] . مروج الذهب ٢ : ٤١٩ .
[٦] . شرح نهج البلاغة ١٠ : ١٢٧ - ١٢٩ .
[٧] . في كتاب الدكتور صبحي الصالح : الخطبة ٨٧ ص ١١٩ تحت عنوان " عترة النبي " .
[٨] . تؤفكون : تقلبون وتصرفون .
[٩] . الأعلام : الدلائل على الحق من معجزات ونحوها .
[١٠] . تعمهون : تتحيرون .
[١١] . ردوهم ورود الهيم العطاش : أي هلموا إلى بحار علومهم مسرعين كما تسرع الإبل العطشى إلى الماء .
[١٢] . الثقل ( هنا ) : بمعنى النفيس من كل شئ ، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : " تركت فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي " أي النفيسين .
[١٣] . المصدر : ص ٢٠١ بعنوان " فضل أهل البيت " . القسم الثاني من الخطبة رقم : ١٤٤ .
[١٤] . ص ١٤٣ بعنوان " أصحاب رسول الله " نقلنا أولها هنا ، وآخرها في وصف الصحابة سيأتي في محله .
[١٥] . سمتهم : طريقهم أو حالهم أو قصدهم .
[١٦] . لبد : أقام ، أي إن أقاموا فأقيموا .
[١٧] . المصدر : بهذا العنوان ص : ١٤٥ ، الخطبة رقم : ١٠٠ .
[١٨] . مرق : خرج عن الدين .
[١٩] . خوى نجم : أي غاب .
[٢٠] . تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢١١ - ٢١٢ .
[٢١] . شرح صبحي الصالح : ٤٧ ، القسم الأخير من الخطبة رقم : ٢ .
[٢٢] . المصدر : ٥٣ - الخطبة ٦ .
[٢٣] . المصدر : ٢٣١ الخطبة رقم ١٦٢ .
[٢٤] . الوضين : حزام عريض يشد به الرحل على البعير ، فإذا قلق اضطرب الرحل فقل ثبات الجمل في سيره .
[٢٥] . النوط : التعلق والالتصاق .
[٢٦] . الأثرة : ضد الايثار ، وهي احتكار الشئ دون مستحقه .
[٢٧] . المصدر : ٢٤٦ - الخطبة - ١٧٢ .
[٢٨] . المصدر : ٥٠٢ قسم الحكم ، الرقم - ١٩٠ - . هكذا أورد هذا النص هنا ، ووافقه محمد عبدة في شرحه ٣ : ١٩٥ برقم ١٩٠ ،
وابن ميثم البحراني في الشرح الكبير ج ٥ : ٣٤١ برقم ١٧٦ ، وجاء عند غيرهم هكذا : " واعجباه ، أتكون الخلافة بالصحابة ولا تكون بالصحابة والقرابة ! " كما في نهج البلاغة بشرح القطب الراوندي ٣ : ٣٣١ ، وبشرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٤١٦ / ١٨٥ ، وبتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ٢ : ٣٤٩ / ١٨٥ ، ومصادر نهج البلاغة ٤ : ١٢٥ / ١٩٠ ، والشرح الوسيط لابن ميثم - إختيار مصباح السالكين - : ٦٢٣ / ١٧٦ ، وفي خصائص الأئمة للشريف الرضي : ١١١ ، وغرر الحكم للآمدي ٢ : ٣٠٦ / ٦٤ والنسخة الخطية المكتوبة سنة ٤٩٤ الوجه ٢٧٨ وهي غير النسخ التي اعتمدها أبو الفضل إبراهيم .
[٢٩] . هكذا وصفها في المصدر : ٤٨ الخطبة رقم - ٣ - .
[٣٠] . تقمصها : لبسها كالقميص .
[٣١] . الجذاء : المقطوعة .
[٣٢] . طخية : ظلمة .
[٣٣] . التراث : الميراث .
[٣٤] . يستقيلها : يطلب إعفاءه منها - وهو إشارة إلى قول أبي بكر : أقيلوني أقيلوني . .
[٣٥] . تشطرا ضرعيها : اقتسماه ، فأخذ كل منهما شطرا .
[٣٦] . كلمها : جرحها ، كأنه يقول : خشونتها تجرح جرحا غليظا .
[٣٧] . العثار : السقوط والكبوة .
[٣٨] . أشنق البعير : كفه بزمامه ، وخرم : قطع .
[٣٩] . أسلس : أرخى ، وتقحم : رمى بنفسه في القحمة أي الهلكة .
[٤٠] . خبط : سير على غير هدى ، والشماس : إباء الفرس عن الركوب .
[٤١] . الاعتراض : السير على غير خط مستقيم ، كأنه يسير عرضا في حال سيره طولا .
[٤٢] . أسف الطائر : دنا من الأرض .
[٤٣] . صغا : مال والضغن : الضغينة والحقد .
[٤٤] . مع هن وهن : أي أغراض أخرى أكره ذكرها .
[٤٥] . نافجا حضنيه : رافعا لهما . والحضن : ما بين الإبط والكشح ، يقال للمتكبر : جاء نافجا حضنيه .
[٤٦] . النثيل : الروث وقذر الدواب .
[٤٧] . المعتلف : موضع العلف .
[٤٨] . الخضم : أكل الشئ الرطب .
[٤٩] . القصص : ٨٣ .
[٥٠] . المصدر : ٦٨ الفقرة الثانية من الخطبة رقم - ٢٦ - .
[٥١] . الكظم : مخرج النفس ، والمراد أنه صبر على الإختناق .
****************************