صائب عبد الحميد
نهج البلاغة : هو جملة ما اختاره السيد الشريف الرضي[١] رحمه الله من كلام سيدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، جمع متفرقه ، وسماه بهذا الاسم .
وهو كتاب لم يترك غرضا من أغراض الكلام إلا أصابه ، ولم يدع للفكر ممرا إلا جابه . فقد تعرض للمدح ، وللعذل الأدبي ، وللترغيب في الفضائل ، وللتنفير من الرذائل ، وللمحاورات السياسية ، والمخاصمات الجدلية , ولبيان حقوق الراعي على الرعية ، وحقوق الرعية على الراعي . .
وأتى على الكلام في أصول المدنية ، وقواعد العدالة ، وفي النصائح الشخصية ، والمواعظ العمومية . . . وعلى الجملة ، فلا يطلب طالب طلبة إلا ويرى فيه أفضلها ، ولا تخالج فكرة رغبة إلا وجد فيه أكملها [٢] وقد تناوله أكثر من خمسين عالما من مشاهير عصورهم [٣] ، تحقيقا وتفسيرا ، فما ازدادوا به إلا إعجابا وإجلالا ، ولا أخفوا تصاغرهم عنده ، لما يجدون من عجيب الكلام ، وبديع النسق والانتظام ، ولا ارتاب أحدهم في نسبة شئ منه إلى أمير المؤمنين عليه السلام .
ولو كان ، لأشار إليه بعضهم ، وخاصة ممن لا ينسب إلى الإعتقاد بتفضيل الإمام علي عليه السلام على سائر الصحابة ، وهم كثير . نعم ، أشار الدكتور صبحي الصالح إلى ارتياب بعض النقاد عند النصوص التي وردت في وصف بعض
المخلوقات خاصة ، ثم أشار إلى بطلان هذا بما توصل إليه بعد التحقيق ، فقال ، وقد اشتمل كلامه على أوصاف عجيبة لبعض المخلوقات حملت روعتها ودقة تصويرها بعض النقاد على الارتياب في عزوها إلى أمير المؤمنين كما في تصويره البارع للنملة ، والجرادة ، ولا سيما الطاوس ، ولا بد من تحقيق هذا الأمر في غير هذه المقدمة العجلي ، وهو ما نسأل الله التوفيق لبيانه في كتاب مستقل ، اكتملت بين أيدينا معالمه ، وسنصدره قريبا بعون الله [٤] .
وفي مروج الذهب ، قال المسعودي : والذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة خطبة ونيف وثمانين خطبة يوردها على البديهة ، وتداول الناس ذلك قولا وعملا [٥].
أما ابن أبي الحديد فقد ناقش هذه الدعوى نقاشا مفصلا ، فقال : إن كثيرا من أرباب الهوى يقولون : إن كثيرا من ( نهج البلاغة ) كلام محدث صنعه قوم من فصحاء الشيعة ، وربما عزوا بعضه إلى الرضي أبي الحسن وغيره ، وهؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم ، فضلوا عن النهج الواضح وركبوا بنيات الطريق ضلالا وقلة معرفة بأساليب الكلام ، وأنا أوضح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط ، فأقول : لا يخلو إما أن يكون كل ( نهج البلاغة ) مصنوعا منحولا ، أو بعضه.
والأول باطل بالضرورة ، لأنا نعلم بالتواتر صحة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، وقد نقل المحدثون كلهم أو جلهم ، والمؤرخون كثيرا منه ، وليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك .
والثاني يدل على ما قلناه - أي ما نسبهم إليه من ضلال وقلة معرفة بأساليب الكلام - لأن من قد أنس بالكلام والخطابة ، وشدا طرفا من علم البيان وصار له ذوق في هذا الباب ، لا بد أن يفرق بين الكلام الركيك والفصيح ، وبين الفصيح والأفصح ، وبين الأصيل والمولد ، وإذا وقف على كراس واحد يتضمن كلاما لجماعة من الخطباء ، أو لاثنين منهم فقط ، فلا بد أن يفرق بين الكلامين ، ويميز بين الطريقتين . ألا ترى أنا مع معرفتنا بالشعر ونقده ، لو تصفحنا ديوان أبي تمام ، فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره ، لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمام ونفسه ، وطريقته ومذهبه في القريض ، ألا ترى أن العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه ، لمباينتها لمذهبه في الشعر ، وكذلك حذفوا من شعر أبي نواس شيئا كثيرا : لما ظهر لهم أنه ليس من ألفاظه ، ولا من شعره ، وكذلك غيرهما من الشعراء ، ولم يعتمدوا في ذلك إلا على الذوق خاصة ؟
وأنت إذا تأملت ( نهج البلاغة ) وجدته كله ماء واحدا ، ونفسا واحدا ، وأسلوبا واحدا ، كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفا لباقي الأبعاض في الماهية ، وكالقرآن العزيز ، أوله كأوسطه ، وأوسطه كآخره ، وكل سورة منه ، وكل آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفن والطريق والنظم لباقي الآيات والسور ، ولو كان بعض ( نهج البلاغة ) منحولا وبعضه صحيحا ، لم يكن ذلك كذلك ، فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلال من زعم أن هذا الكتاب أو بعضه منحول إلى أمير المؤمنين عليه السلام [٦].
هذا ، وقد أصدر الشيخ عبد الزهراء الخطيب كتابا مفصلا في تحقيق نصوص نهج البلاغة ، وإحصاء مصادرها ، في أربعة مجلدات - وأسماه : " مصادر نهج البلاغة وأسانيده " وقد استوفى فيه الكثير مما يتعطش له الباحثون .
بعد هذه المقدمة التوثيقية حول ( نهج البلاغة ) وإثبات نسبته إلى الإمام علي عليه السلام فلتكن لنا جولة في ربوعه ، لنقتطف منها ما ذكره الإمام عليه السلام حول حقه في الإمامة .
وقد انتخبنا عشر فقرات من كلامه عليه السلام في هذا الكتاب ، ووضعناها في قسمين :
القسم الأول : في معرفة الإمام والخليفة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ومن ذلك :
١ - قوله - وهو يصف عترة النبي - مخاطبا الناس [٧] : " فأين تذهبون ؟ وأنى تؤفكون [٨] ! والأعلام [٩] قائمة ، والآيات واضحة ، والمنار منصوبة ، فأين يتاه بكم ! وكيف تعمهون [١٠] وبينكم عترة نبيكم ؟ ! وهم أزمة الحق ، وأعلام الدين ، وألسنة الصدق ! فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن . وردوهم ورود الهيم العطاش [١١] . أيها الناس ، خذوها عن خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم : إنه يموت من مات منا ، وليس بميت ، ويبلى من بلي منا وليس ببال . فلا تقولوا بما لا تعرفون ، فإن أكثر الحق في ما تنكرون . . واعذروا من لا حجة لكم عليه ، وهو أنا . . ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر ،
وأترك فيكم الثقل الأصغر [١٢] ؟ ! "
وفي شرح ابن أبي الحديد : الثقل الأكبر هو القرآن . وقوله : " أترك فيكم الثقل الأصغر " يعني الحسن والحسين عليهما السلام . - فهل سمعت بكلام أعجب من هذا ، أم بحجة أبلغ ؟
وأمير المؤمنين علي عليه السلام يجمع فيه أشد ألفاظ التعجب والاستنكار والدهشة من قوم أعرضوا عن اتباع أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فيقول : " أين تذهبون " ؟ ! " وأنى تؤفكون ؟ ! والأعلام قائمة . . والآيات واضحة . . .
والمنار منصوبة ! فأين يتاه بكم " ؟ ! وكيف تعمهون ، وبينكم عترة نبيكم ؟ ! وهل بعد هذا يبحث المسلم عن دليل في أن الإمامة فيهم عليهم السلام ؟ !
٢ - احتجاجه عليه السلام ، وهو يقول : " أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا ، كذبا وبغيا علينا ، أن رفعنا الله ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم ؟ ! بنا يستعطى الهدى ، ويستجلى العمى . . . إن الأئمة من قريش ، غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم " [١٣] وهكذا يستخلص القول بأفصح بيان ، بعد ذلك الاستنكار اللاذع على من زعم أن له الفضل عليهم ، ثم يوجز الأمر باختصاص الإمامة فيهم عليهم السلام ، فلا هي تصلح لسواهم ، ولا يصلح سواهم لها !
٣ - كلامه عليه السلام في الناس شارحا سبيل النجاة [١٤] : " انظروا أهل بيت نبيكم ، فالزموا سمتهم [١٥] ، واتبعوا أثرهم ، فلن يخرجوكم من هدى ، ولن يعيدوكم في ردى .
فإن لبدوا فالبدوا [١٦]، وإن نهضوا فانهضوا . ولا تسبقوهم فتضلوا . . . ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا . . . " . وهذا تفسير واضح لحديثي : سفينة النجاة ، ونجوم الأمان المتقدمين ، أو هو كلام مقتبس منهما .
٤ - ومن خطبة له عليه السلام في رسول الله وأهل بيته [١٧] : وفيها : " ونشهد أن لا إله غيره ، وأن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بأمره صادعا ، وبذكره ناطقا ، فأدى أمينا ، ومضى رشيدا . . وخلف فينا راية الحق . . من تقدمها مرق
[١٨] ، ومن تخلف عنها زهق ، ومن لزمها لحق . . . ألا إن مثل آل محمد صلى الله وآله كمثل نجوم السماء ، إذا خوى نجم [١٩] طلع نجم " .
وهذه أيضا مطابقة تماما لحديثي رسول الله في النجاة والأمان .
ومما روي عنه عليه السلام في مثل هذا المعنى قوله في خطبة طويلة ، منها : " فأين يتاه بكم ؟
بل أين تذهبون عن أهل بيت نبيكم ؟ ! إنا سنخ أصلاب أصحاب السفينة ، وكما نجا في هاتيك من نجا ينجو في هذه من ينجو ، ويل رهين لمن تخلف عنهم .
وإني فيكم كالكهف لأهل الكهف ، وإني فيكم باب حطة من دخل منه نجا ، ومن تخلف عنه هلك ، حجة من ذي الحجة في حجة الوداع : إني قد تركت بين أظهركم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي " [٢٠].
القسم الثاني : في التصريح بحقه في خلافة رسول الله ، ودفعهم إياه عن هذا الحق ، ومطالبته به
ومن ذلك :
١ - من خطبة له بعد انصرافه من صفين ، فيها : " لا يقاس بآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الأمة أحد . ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا . وهم أساس الدين ، وعماد اليقين . . إليهم يفئ الغالي ، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص حق الولاية ، وفيهم الوصية والوراثة . . . الآن إذ رجع الحق إلى أهله ، ونقل إلى منتقله " [٢١] . وهو كلام أوضح مما يحتاج معه إلى تفسير ، ولا يمكن أن يقوم معه تأويل من تلك التأويلات التي سلكها بعض من ذكرنا .
وفيما سيأتي من كلامه عليه السلام صراحة أكثر ، ووضع لكل شئ في محله ، في بيان يعضد بعضه بعضا ، فلا يدع أدنى منفذ لشك أو جدال .
٢ - قوله عليه السلام لبعض من أشار عليه ألا يتبع طلحة والزبير ، في كلام آخر : " فوالله ما زلت مدفوعا عن حقي ، مستأثرا علي ، منذ قبض الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، حتى يوم الناس هذا ! " [٢٢].
٣ - ومرة أخرى [٢٣] ، في جوابه لبعض أصحابه ، وقد سأله قائلا : كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام ، وأنتم أحق به ؟
فقال عليه السلام : " يا أخا بني أسد ، إنك لقلق الوضين [٢٤] ، ترسل في غير سدد ، ولك بعد ذمامة الصهر ، وحق المسألة ، وقد استعلمت ، فاعلم : أما الاستبداد علينا بهذا المقام ونحن الأعلون نسبا ، والأشدون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نوطا [٢٥] ، فإنها كانت أثرة [٢٦] شحت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس آخرين . والحكم الله ، والمعود إليه القيامة . ودع عنك نهبا صيح في حجراته * ولكن حديثا ما حديث الرواحل وهلم الخطب في ابن أبي سفيان ، فلقد أضحكني الدهر بعد إبكائه . . "
٤ - وفي مناظرة له مع بعض الصحابة ، يسجل عليه السلام خلاصتها ، بقوله : " وقد قال قائل : إنك على هذا الأمر - يا بن أبي طالب - لحريص ! فقلت : بل أنتم - والله - لأحرص ، وأبعد ، وأنا أخص وأقرب . وإنما طلبت حقا لي ، وأنتم تحولون بيني وبينه ، وتضربون وجهي دونه .
فلما قرعته بالحجة في الملأ الحاضرين ، هب كأنه بهت لا يدري ما يجيبني به " ! ثم يقول عليه السلام مواصلا كلامه : " اللهم إني أستعديك على قريش ، ومن أعانهم ، فإنهم قطعوا رحمي ، وصغروا عظيم منزلتي ، وأجمعوا على منازعتي أمرا هو لي ، ثم قالوا : ألا أن في الحق أن تأخذه ، وفي الحق أن تتركه " [٢٧].
أيصح بعد هذا - يا أخي - أن نمضي وراء تأويل المتأولين ، وندع كلام أمير المؤمنين ، وإمام المتقين ؟ !
٥ - وفي أمر الخلافة أيضا ، يقول عليه السلام : " واعجباه ، أتكون الخلافة بالصحابة والقرابة ؟ " . وروي له شعر في هذا المعنى : فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم * فكيف بهذا والمشيرون غيب ؟ ! وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم * فغيرك أولى بالنبي وأقرب [٢٨] .
وحديثه عليه السلام هذا في النثر والنظم موجه إلى أبي بكر وعمر ، فعلى الوجه الأخير ، قال ابن أبي الحديد : أما النثر فإلى عمر توجيهه ، لأن أبا بكر لما قال لعمر - في السقيفة - أمدد يدك ، قال له عمر : أنت صاحب رسول الله في المواطن كلها ، فهلا سلمت الأمر إلى من قد شركه في ذلك ، وزاد عليه بالقرابة !
وأما النظم فموجه إلى أبي بكر لأنه حاج الأنصار في السقيفة فقال : نحن عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما بويع احتج على الناس بالبيعة وأنها صدرت عن أهل الحل والعقد . فقال عليه السلام : أما احتجاجك على الأنصار بأنك من بيضة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فغيرك أقرب إليه منك ، وأما احتجاجك برضا الجماعة بك ، فقد كان قوم من جملة الصحابة غائبين لم يحضروا العقد فكيف يثبت !
وأما على الوجه الأول ، فهو عليه السلام يستنكر أن تكون الصحابة والقرابة شرطا كافيا للخلافة ، بل لا بد من مرجح حقيقي ، كالنص من النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأهلية لهذا الأمر . وأما النظم فسوف يكون فيه هنا مزيدا من الاستنكار ، فهو مع استنكاره الاحتجاج بالصحابة والقرابة في هذا الأمر ، يقول إنهما لم يتما لأبي بكر بل إنها جميعا عنده عليه السلام أتم وأكمل . وأيا كان النص الصادر عنه عليه السلام فهو نص صريح على حقه في الخلافة ، وأنه عليه السلام أولى بها من غيره .
٦ - وبعد ، فإن كل ما تقدم يبسطه الإمام عليه السلام في واحدة من نفائس خطبه ، وهي الخطبة المسماة ب " الشقشقية " وتشمل على الشكوى من أمر الخلافة ، ثم ترجيح صبره عنها ، ثم مبايعة الناس له [٢٩] ، قال فيها :
" أما والله لقد تقمصها [٣٠] فلان وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحا ، ينحدر عني السيل ، ولا يرقى إلي الطير . فسدلت دونها ثوبا ، وطويت عنها كشحا . وطفقت أرتئي بين : أن أصول بيد جذاء [٣١] ، أو أصبر على طخية [٣٢] عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه ! فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى .
فصبرت ، وفي العين قذى ، وفي الحلق شجا ، أرى تراثي[٣٣] نهبا . حتى مضى الأول لسبيله ، فأدلى بها إلى فلان بعده " . ثم تمثل - عليه السلام - بقول الأعشى : شتان ما يومي على كورها * ويوم حيان أخي جابر " فيا عجبا ! ! بينا هو يستقيلها [٣٤] في حياته ، إذ عقدها لآخر بعد وفاته ! لشد ما تشطرا ضرعيها [٣٥] . فصيرها في حوزة خشناء ، يغلظ كلمها [٣٦] ، ويخشن مسها ، ويكثر العثار [٣٧] فيها ، والاعتذار منها . فصاحبها كراكب الصعبة ، إن أشنق لها خرم [٣٨] ، وإن أسلس لها تقحم [٣٩] ، فمني الناس - لعمر الله - بخبط وشماس [٤٠] وتلون واعتراض [٤١] . فصبرت ، على طول المدة ، وشدة المحنة . حتى إذا مضى لسبيله ، جعلها في جماعة زعم أني أحدهم !
فيا لله وللشورى ، متى اعترض الريب في مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر ! لكني أسففت إذ أسفوا [٤٢] ، وطرت إذ طاروا . فصغا رجل منهم لضغنه [٤٣] ، ومال الآخر لصهره ، مع هن وهن [٤٤] . إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه [٤٥] بين نثيله [٤٦] ومعتلفه [٤٧] . وقام معه بنو أبيه ، يخضمون[٤٨] مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع ، إلى أن انتكث عليه فتله ، وأجهز عليه عمله ، وكبت به بطنته . فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلي ، ينثالون علي من كل جانب . . فلما نهضت بالأمر ، نكثت طائفة . . ومرقت أخرى . . وقسط آخرون ، كأنهم لم يسمعوا الله سبحانه يقول :
( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ) [٤٩] ! بلى والله ، لقد سمعوها ووعوها ، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم ، وراقهم زبرجها . . . " . إلى آخر خطبته حتى قام إليه رجل من أهل السواد فناوله كتابا ، فقال له ابن عباس : يا أمير المؤمنين ، لو اطردت خطبتك من حيث أفضيت .
فقال - عليه السلام - : " هيهات - يا بن عباس - تلك شقشقة هدرت ، ثم قرت " .
قال ابن عباس : فوالله ما أسفت على كلام قط كأسفي على هذا الكلام ألا يكون أميرالمؤمنين عليه السلام بلغ منه حيث أراد . فقل للمتأولين : هيهات ألا تخضعوا ، وتقروا بكونه عليه السلام موقنا بحقه في خلافة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، مجتهدا في بيان ذلك في شتى المناسبات ، وإنما كان سكوته - حينا - على مضض : " فصبرت ، وفي العين قذى ، وفي الحلق شجا " ! وذلك بعد أن لم يجد سبيلا لانتزاع حقه : " وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء ، أو أصبر على طخية عمياء " ! وقد قال عليه السلام في مناسبة أخرى ، يصف حاله قبل أن يبايع لأحد [٥٠] : " فنظرت ، فإذا ليس لي معين إلا أهل بيتي ، فضننت بهم عن الموت ، وأغضيت على القذى ، وشربت على الشجا ، وصبرت على أخذ الكظم [٥١] ، وعلى أمر من طعم العلقم " .
- فهل يمكن أن يؤتى ببيان أوضح من هذا ؟ أم مع بيان كهذا يذهب المرء هنا وهناك بحثا عن تأويل يلوذ وراءه ؟ !
كلا ، لا مناص من الاعتراف ، بل والاعتقاد بحقه الذي صرح فيه عليه السلام غير مرة .
وكذا فلا مفر - من جهة أخرى -من حصر خلافة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم به وحده ، لا غير .
وإنما " تقمصها فلان " ! " ثم عقد بها لآخر بعد وفاته ،ولشد ما تشطرا ضرعيها " ! " ثم قام ثالث القوم نافجا حضنيه " .
فما لي بعد هذا لا أذعن للحقيقة ! وأي شئ أكون به أشد فخرا من اتباع الحق بعد معرفته ؟ وهل الدين غير هذا ؟ أم أمرنا نحن بغيره ؟ " رب اشرح لي صدري " .