زكي مبارك
أيها السادة: حديث الليلة عن شاعرية الشريف الرضي كما يصورها في قصائده القصار والطوال، وقد تعقبنا حديثه عن شعره فرأينا زهي به واختال أكثر من ستين مرة، فساقنا ذلك إلى البحث عن السر فيما أدّى به إلى الاسراف في الزهو والاختيال.
قد تقولون: وهل تفرد الشريف الرضي بالحديث عن شعره حتى تبحث عن السر في ذلك ألم تعرف هذه السجية فيمن سبقه من الشعراء كأبي تمام والبحتري وابن الرومي والمتنبي وأجيب بأن هذه الخصلة لم يتفرد بها الشريف، ولكنه أفرط وأسرف فلم يكن بدّ من الكشف عن سرّ ما وقع فيه من الإفراط والإسراف.
ولكي تعرفوا كيف أفرط وأسرف، أسوق إليكم شواهد تبين غلبة
الزهو على ذلك الشاعر، ثم أتبعها بالبحث عن أسرار ذلك الاختيال.
ولا أرى موجبا للإشارة إلى جميع المواطن التي زهي فيها بشعره، فقد حدثتكم أنها تزيد على الستين، وإنما أطوف ببعض الاشعار التي تكشف عن تلك الخصلة بوضوح وجلاء.
وأول ما أشير إليه هو إحساسه بأن الشعر دون قدره، وأن نفسه أعلا من أنفس الشعراء وأرفع، وهو يحدثنا أنه يتخذ الشعر وسيلة إلى غرضه فيقول:
وما قولي الاشعار إلا ذريعة | إلى أمل قد آن قود جنيبه[١] | |
واني إذا ما بلَّغ اللَّه غاية | ضمنت له هجر القريض وحوبه[٢] |
ويرى سيماه غير سيماء الشعراء فيقول:
وما الشعر فخري ولكنما | أطول به همة الفاخر | |
أنزهه عن لقاء الرجال | وأجعله تحفة الزائر | |
فما يتهدّى إليه الملوك | إلا من المثل السائر | |
وإني وإن كنت من أهله | لتنكرني حرفة الشاعر |
ويرى القول دون الفعل فيقول:
مالك ترضى أن يقال شاعر | بعدا لها من عدد الفضائل[٣] | |
كفاك ما أورق من أغصانه | وطال من أعلامه الأطاول | |
فكم تكون ناظما وقائلا | وأنت غبّ القول غير فاعل[٤] |
وهذه الشواهد الثلاثة ترينا كيف كان يرى الشعر دون قدره وكيف كان يرى منزلته أرفع من منازل الشعراء.
ولكن هل يهرب من شاعريته أنّ هذا محال فلم يبق إلا أن يرى نفسه أشعر الأمم فيقول:
كفاك بأن عرضك من | طروق العار في ذممي | |
وذلك عصمة مني | بحبل غير منجذم[٥] | |
وحسبك أن يفلّ شبا | ة هجوك أشعر الأمم[٦] |
أو يرى شعره فوق شعر البحتري ومسلم بن الوليد فيقول:
شعر أثير به العجاج بسالة[٧] | كالطعن يدمي والقنا تتحطم | |
وفصاحة لولا الحياء لهجّنت | أعلام ما قال الوليد ومسلم |
أو يتواضع فيرى نفسه زميل الفرزدق أو جرير فيقول:
وقصيدة عذراء مث | ل تألق الروض النضير[٨] | |
فرحت بمالك رقّها | فرح الخميلة بالغدير[٩] | |
وكأنه في رصفها[١٠] | جار الفرزدق أو جرير | |
وكأنه من حسنها | بين الخورنق والسدير[١١] |
أو يرى قوافيه كقوافي البحتري وأبي نواس فيقول:
وشرب قد نحرت لهم عقارا | كحاشية الرداء الأرجواني[١٢] | |
كأن الشمس مال بها غروب | فأهوت في حيازيم الدّنان[١٣] | |
فصل بدم العقار دم الأعادي | وأصوات العوالي بالأغاني[١٤] | |
فيوم أنت غرّته جواد | يبذّ بشأوه طلق القران[١٥] | |
جعلت هديتي فيه نظاما | صقيلا مثل قادمة السنان | |
بلفظ فاسق اللحظات تنمى | محاسنه إلى معنى حصان[١٦] | |
وصلت جواهر الألفاظ فيه | بأعراض المقاصد والمعاني | |
فجاءت غضّة الأطراف بكرا | تخيّر جيدها نظم الجمان | |
كأن أبا عبادة شقّ فاها | وقبّل ثغرها الحسن بن هاني |
أو يرى نفسه ضريبا لزهير فيقول:
أنا زهير فمن لي في زمانك ذا | ببعض ما افترقت عنه يدا هرم |
أو يرى شعره فوق شعر زهير فيقول:
بزّ زهيرا شعري وهأنذا | لم أرض في المجد أنه هرم |
أو يرى كلامه فوق كلام الرجال فيقول:
جاءتك محصدة القوى حبّارة | تستعبد الأرواح في الأجسام[١٧] | |
من لي بإنشاديكها في موقف | أعتدّه شرفا مدى أيامي | |
لا أدّعي فيه الغلوّ وإنما | يوفى على قلل الرجال كلامي[١٨] |
أو يقول:
وإن قوافي الشعر ما لم أكن لها | مسفسفة فيها عتيق ومقرف[١٩] | |
أنا الفارس الوثّاب في صهواتها[٢٠] | وكل مجيد جاء بعدي مردف[٢١] |
أو يرى لسانه أمضى من السيف فيقول:
وأنا المضارب عن علاك بمقول | ماضي الغرار ولا الجراز المقصل[٢٢] | |
يدمي الجوارح وهو ساكن غمده | ولقلما يمضي بغمد منصل[٢٣] |
ويرى نفسه فوق الشعراء - إذ كان يبتغي الكرامة ويبتغون المال فيقول:
مدحت أمير المؤمنين وإنه | لأشرف مأمول وأعلا مؤمّم[٢٤] | |
فأوسعني قبل العطاء كرامة | ولا مرحبا بالمال إن لم أكرّم |
ويرى شعره يرفع أقدار الرجال فيقول:
أبا قاسم جاءت إليك قلائد | تقلَّد أعناق الرجال المناقبا | |
قلائد من نظمي تودّ لحسنها | قلوب الأعادي أن تكون ترائبا[٢٥] | |
إذا هدّها راوي القريض حسبته | يقوم بها في ندوة الحيّ خاطبا[٢٦] | |
فلو كنّ غدرانا لكنّ مشاربا | ولو كنّ أحداثا لكنّ تجاربا[٢٧] |
أو يقول:
فحسبك فخرا بهذا المديح | وإن غاض في المدح ماء افتخاري | |
يزورك بين قلوب العداة | فيقطعها في اتصال المزار | |
غدت كف مجدك من مدحتي | تجول معاصمها في سوار |
ويشبّه أشعاره بالعقائل[٢٨] فيقول:
وكنت زمانا أذود الملوك[٢٩] | عن السّلك رقرقت فيه النظاما | |
أريد الكرامة لا المكرمات | ونيل العلا لا العطايا الجساما | |
فحوزوا العقائل عن خاطري | إلى م أماطل عنها إلى ما |
ويرى شعره أعزّ من أن يمدح به غير الخلفاء، فيقول في خطاب الطائع للَّه:
أنت أفسدتني على كل مأمو | ل وأعديتني على كل خطب | |
فإذا ما أراد قربي مليك | قلت قربي من الخليفة حسبي[٣٠] | |
عزّ شعري إلا عليك وما زا | ل عزيزا يأبي على كل خطب |
أو يمنّ به على أحد الوزراء[٣١] فيقول:
خطبت شعري إلى قلب يضنّ به | إلا عليك فباشر خير مخطوب |
وقد يرى شعره بشيرا بالنعيم، ونذيرا بالعذاب، فيراه غيثا ينفع الأولياء، وصواعق تحرق الأعداء، كأن يقول في خطاب أبيه:
وهذا مقالي فيك غيث وربما | رميت العدا من وقعه بالصواعق |
وكأن يقول في التهديد:
حذاركم بني الضحاك إني | إلى الأمر الذي تومون أومي | |
فلا تتعرضوا لذراع عاد | مدل عند جيسته شتيم[٣٢] | |
فإن تك مدحة سبقت فإني | بضد نظامها عين الزعيم | |
وقافية تخضخض ما ترامت | بها الأيام في عرض اللئيم | |
تردد ما لها ممن يعيها | سوى الإطراق منها والوجوم | |
لها في الرأس سوارت يطاطي | لها الانسان كالرجل الأميم[٣٣] | |
ليعلم من أنا ضل أن شعري | يطالع بالشفاء وبالنعيم |
وللشريف أفانين من التهديد، وهو يتوعد توّعد الباطشين، ويرى شعره يعرق العظام وينكَّل بالأحساب. وانظروا كيف يقول:
فدونكها قاصفا عاصفا | من الشر أو عارضا مرزما | |
قوارص تنثر نظم الدروع | وتستنزل البطل المعلَّما[٣٤] | |
فمن كان يسقيك أري الجنى | فإني سألعقك العلقما[٣٥] | |
ومن كان يلقاك مستسلما | فإني ألاقيك مستلئما[٣٦] |
والشريف في وعيده يكشف عن صدر صهره الغيظ، وقلب أضرمته الضغائن والحقود. وما كان لمثل هذا الرجل أن يلقى جميع الناس بقلب رفيق، وهل يعرف الرفق من يقول:
أحرجتني فهاكها | بنت عناق والرّقم[٣٧] | |
والليث لا يخرج إلَّا | محرجا من الأجم[٣٨] | |
كلذعة الميسم في | شواظ نار وضرم | |
والحية الرقطاء تر | دى أبدا بغير سمّ | |
حقّا على أعراضكم | تعطَّها عطَّ الأدم[٣٩] | |
فاستنشقوها نفحة | تجدع مارن الأشمّ[٤٠] | |
تقرض من جنوبكم | طمّ اللمام بالجلم[٤١] | |
كأنما تضرب في الع | رض الأعز بالقدم[٤٢] | |
مذكورة ما بقيت | من غير عقد لرتم[٤٣] | |
ترى على عاري العظا | م وسمها وهي رمم | |
فلو نزعت الجلد كان | رقمها كما رقم | |
كم جرّدت شفارها | لحم فتى بلا وضم | |
خابطة لا تتقي | صدم أخ ولا ابن عم |