![](https://arabic.balaghah.net/sites/all/themes/nahjArabic/image/besmellah.png)
![](https://arabic.balaghah.net/sites/all/themes/nahjArabic/image/mola.png)
![](https://arabic.balaghah.net/sites/all/themes/nahjArabic/image/fi_rahab.jpg)
![](https://arabic.balaghah.net/sites/all/themes/nahjArabic/image/haram.jpg)
![](https://arabic.balaghah.net/sites/all/themes/nahjArabic/image/nahj.jpg)
تهذيب الأخلاق، الحجر الأساس في حياة الإنسان
عِبادَاللَّهِ، إِنَّ مِنْ أَحَبَّ عِبادِاللَّهِ إِلَيْهِ عَبْداً أَعانَهُ اللَّهُ عَلى نَفْسِهِ، فَاسْتَشْعَرَ [١] الْحُزْنَ، وَتَجَلْبَبَ الْخَوْفَ، فَزَهَرَ مِصْباحُ الْهُدى [٢] فِي قَلْبِهِ، وَأَعَدَّ الْقِرى [٣] لِيَوْمِهِ النّازِلِ بِهِ، فَقَرَّبَ على نَفْسِهِ الْبَعِيدَ، وَهَوَّنَ الشَّدِيدَ: نَظَرَ فَأَبْصَرَ، وَذَكَرَ فَاسْتَكْثَرَ، وَارْتَوى مِنْ عَذْبٍ فُراتٍ سُهِّلَتْ لَهُ مَوارِدُهُ فَشَرِبَ نَهَلاً، [٤] وَسَلكَ سَبِيلاً جَدَداً. [٥]
قَدْ خَلَعَ سَرابِيلَ الشَّهَواتِ، وَتَخَلّى مِنَ الْهُمُومِ إِلاَّ هَمّاً واحِداً انْفَرَدَ بِهِ، فَخَرَجَ مِنْ صِفَةِ الْعَمى، وَمُشاركَةِ أَهْلِ الْهَوى، وَصارَ مِنْ مَفاتِيحِ أَبْوابِ الْهُدى، وَمَغالِيق أَبْوابِ الرَّدى قَد أَبْصَرَ طَرِيقَهُ، وَسَلَكَ سَبِيلَهُ، وَعَرَفَ مَنارَهُ، وَقَطَعَ غِمارهُ، [٦] وَاسْتَمْسَكَ مِنَ الْعُرى بِأوْثَقِها، وَمِنَ الْحِبالِ بِأَمْتَنِها.
فَهُوَ مِنَ الْيَقِينِ عَلى مِثْلِ ضَوْءِ الشَّمْسِ قَدْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلّهِ سُبْحانَهُ. فِي أرْفَعِ الْأُمُورِ مِنْ إِصْدارِ كُلِّ وارِدٍ عَلَيْهِ، وَتَصْيِيرِ كُلِّ فَرْعٍ إِلى أَصْلِهِ، مِصْباحُ ظُلُماتٍ، كَشّافُ عَشَواتٍ، [٧] مِفْتاحُ مُبْهَماتٍ، دَفّاعُ مُعْضِلاتٍ، دَلِيلُ فَلَواتٍ [٨] ، يَقولُ فَيُفْهِمُ، وَيَسْكُتُ فَيَسْلَمُ، قَدْ أَخْلَصَ لِلّهِ فَاسْتَخْلَصَهُ... [٩]
عليكم انفسكم
فاتقوا اللَّه عباد اللَّه! وبادروا آجالكم باعمالكم، [١٠] وابتاعوا [١١] ما يبقى لكم، بما يزول عنكم... وكونوا قوماً صيح بهم فانتبهوا وعلموا انّ الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا، فَاِنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً، وَلَمْ يَترُكْكُمْ سُدًى... [١٢]
فَتَزَوَّدُوا فِي الدُّنْيا ما تَحْرُزُونَ [١٣] بِهِ أَنْفُسَكُمْ غَدًا"، فَاتَّقى عَبْدٌ مرَبَّهُ نَصَحَ نَفْسَهُ وَقَدَّمَ تَوْبَتَهُ، وَغَلَبَ شَهْوَتَهُ، فَإنَّ أَجَلَهُ مَسْتُورٌ عَنْهُ، وَأَمَلَهُ خادِعٌ لَهُ، وَالشَّيْطانَ مُوَكَّلٌ بِهِ، يُزَيِّنُ لَهُ الْمَعْصِيَةَ لِيَرْكَبَها، وَيُمَنِّيهِ التَّوْبَةَ لِيُسَوِّفَها [١٤] ، [١٥] .
المغبون من غبن نفسه
فَاللَّهَ اللَّهَ أَيُّهَا النّاسُ فِيمَا اسْتَحْفَظَكُمْ مِنْ كِتابِهِ، وَاسْتَوْدَعَكُمْ مِنْ حُقُوقِهِ... فَاسْتَدْرِكُوْا بَقِيَّةَ أَيّامِكُمْ، وَاصبِروُا لَها أَنفُسَكُمْ [١٦].فَاِنَّها قَلِيلٌ فِي كَثِيرِ الْأَيّامِ الَّتِي تَكوُنُ مِنْكُمْ فِيهَا الْغَفْلَةُ، وَالتَّشاغُلُ عَنِ الْمَوْعِظَةِ...
عِبادَاللَّهِ، إِنَّ أَنصَحَ الناسِ لِنَفْسِهِ أَطْوَعُهُمْ لِرَبِّهِ، وَإِنَّ أَغَشَّهُمْ لِنَفْسِهِ أَعْصاهُمْ لِرَبِّهِ، وَالْمَغْبُونُ [١٧] مَنْ غَبَنَ نَفْسَهُ، والْمَغْبُوطُ [١٨] مَنْ سَلِمَ لَهُ دِينُهُ، وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ، وَالشَّقِيٌّ مَنِ انْخَدَعَ لِهَواهُ "وَغُرُورِهِ".
وَاعْلَمُوا أَنَّ يَسِيَر الرِّياءِ [١٩] شِرْكٌ، وَمُجالَسَةَ أَهْلِ الْهَوى مَنساةٌ لِلْإِيمانِ، [٢٠] وَمَحْضَرَةٌ لِلْشَّيْطانِ [٢١].
جانِبُوا الْكَذِبَ فَإنَّهُ مُجانِبٌ لِلْإِيمانِ.
الصّادِقُ عَلى شَفا مَنجاةٍ وَكَرامَةٍ، وَالْكاذِبُ عَلى شَرَفِ مَهْواةٍ وَمَهانَةٍ. وَلاتَح اسَدوُا فَإنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْإِيمانَ كَما تَأْكُلُ النّارُ الْحَطَبَ، وَلا تَباغضُوا فِإنَّهَا الْحالِقَةُ. [٢٢] وَاعْلَمُوا أَنَّ الْأَمَلَ يُسْهِي الْعَقْلَ، وَيُنْسِي الذِّكْرَ، فَأَكْذِبُوا الْأَمَلَ فَإنَّهُ غُرُورٌ، وَصاحِبُهُ مَغْرُورٌ. [٢٣]
اصلاح النفس قبل اصلاح الغير
يا أَيُّهَا النّاسُ، طُوبى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النّاسِ، وَطُوبى لِمَنْ لَزِمَ بَيْتَهُ، وَأَكَلَ قُوتَهُ، وَاشْتَغَلَ بِطاعَةِ رَبَّهِ، وَبَكى عَلى خَطِيئِتِه، فَكانَ مِنْ نَفْسِهِ فِي شُغلٍ، وَالنّاسُ مِنْهُ فِي راحَةٍ [٢٤] .
يا عَبْدَاللّهِ لاتَعْجَلْ في عَيْبِ أَحَدٍ بِذَنْبِهِ فَلَعَلَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ، وَلاتَأْمَنْ عَلى نَفْسِكَ صَغِيرَ مَعْصِيَةٍ فَلَعَلَّكَ مُعَذَّبٌ عَلَيْهِ فَلْيَكْفُفْ مَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ عَيْبَ غَيْرِهِ لِما يَعْلَمُ مِنْ عَيْبِ نَفْسِهِ، وَلْيَكُنِ الشُّكْرُ شاغِلاً لَهُ عَلى مُعافاتِهِ مِمَّا ابْتُلِيَ بِهِ غَيْرُهُ [٢٥] .
احفظوا لسانكم
أَيُّهَا النّاسُ، مَنْ عَرَفَ مِنْ أَخِيهِ وَثِيقَةَ دِينٍ وَسَدادَ طَرِيقٍ فَلايَسْمَعَنَّ فِيهِ أَقاوِيلَ الرِّجالِ، أَما إِنَّهُ قَدْيَرْمِي الرّامِي وَتُخْطِي ءُ السِّهامُ، وَيُحْيِلُ الْكَلامُ، [٢٦] وَباطِلُ ذلِكَ يَبُورُ، وَاللّهُ سَمِيعٌ وَشَهيدٌ. [٢٧]...
أَما وَشَرُّالْقَوْلِ الْكَذِبُ- اِنَّهُ لَيَقُولُ فَيَكْذِبُ، وَيَعِدُ فَيُخْلِفُ، وَيَسْأَلُ فَيُلْحِفُ، [٢٨] وَيُسْأَلُ فَيَبْخَلُ، وَيَخُونُ الْعَهْدَ... [٢٩]
أَلا إنَّ اللِّسانَ بَضْعَةٌ [٣٠] مِنَ الْإنُسانِ، فَلايُسْعِدُهُ الْقَوْلُ إذَا امْتَنَعَ، وَلا يُمْهِلُهُ النُّطْقُ إذَا اتَّسَعَ... [٣١]
وَاجْعَلُواْ اللَّسانَ واحِداً وَلْيَخْتَزِنِ الرَّجُلُ لِسانَهُ، [٣٢] فَإِنَّ هذَا اللَسانَ جَمُوحٌ [٣٣] بِصاحِبِهِ، وَاللَّهِ ما أَرى عَبْدًا يَتَّقِي تَقْوى تَنْفَعُهُ حَتّى يَخْتَزِنَ لِسانَهُ، وَإِنَّ لِسانَ الْمُؤُمِنِ مِنْ وَراءِ قَلْبِهِ، [٣٤] وَإِنَّ قَلْبَ الْمُنافِقِ مِنْ وَرَاءِ لِسانِهِ. لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذا أَرادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلامٍ تَدَبَّرَهُ فِي نَفْسِهِ، فَإِنْ كانَ خَيْراً أَبْداهُ، وَإِنْ كانَ شَرًّ اواراهُ. وَإِنَّ الْمُنافِقَ يَتَكَلَّمُ بِما أَتى عَلى لِسانِهِ، لايَدْرِي ماذا لَهُ وَماذا عَلَيْهِ وَقَدْ قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَالِهِ: 'لايَسْتَقِيمُ إِيْمانُ عَبْدٍ حَتّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلايَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسانُهُ' فَمَنِ اسْتَطاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ سْبْحانَهُ وَهُوَ نَقِيٌّ الرّاحَةِ مِنْ دِماءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوالِهِمْ، سَلِيمُ اللَّسانِ مِنْ أَعْراضِهِمْ فَلْيَفْعَلْ. [٣٥]
اللّهُمَّ اغْفِرْ لِي ما أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّي، فَإنْ عُدْتُ فَعُدْ عَلىَّ بِالْمَغْفِرَةِ اللّهُمَّ اغْفِرْ لِي ما وَأَيْتُ [٣٦] مِنْ نَفْسِي وَلَمْ تَجِدْ لَهُ وَفاءٌ عِندِي اللَّهُمَّ اغْفِرْلِي ما تَقَرَّبْتُ بِهِ إلَيْكَ "بِلِسانِي" ثُمَّ خالَفَهُ قَلْبِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْلِي رَمَزاتِ الْأَلْحاظِ، [٣٧] وَسَقَطاتِ الْأَلْفاظِ، [٣٨] وَشَهَواتِ الْجَنانِ، [٣٩] وَهَفَواتِ اللِّسان [٤٠] ، [٤١] .
محاسبة النفس وتهذيبها
عِبادَاللَّهِ، زِنُوا أَنفُسَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُوزَنُوا، وَحاسِبُوها مِنْ قَبْلِ أَنْ تُحاسَبُوا، وَتَنَفَّسُواْ قَبْلَ ضِيقِ الْخِناقِ، وَانْقادُوا قَبْلَ عُنْفِ [٤٢] السِّياق، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ لَمْ يُعَنْ [٤٣] عَلى نَفْسِهِ حَتّى يُكُونَ لَهُ مِنْها واعِظٌ وَزاجِرٌ لَّمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ غَيْرِها زاجِرٌ وَلا واعِظٌ... [٤٤].
فَحاسِبْ نَفْسَكَ لِنَفْسِكَ، فَإنَّ غَيْرَها مِنَ الْأَنفُسِ لَها حَسِيبٌ غَيْرُكَ. [٤٥]
رَحِمَ اللَّهُ عَبْداً سَمِعَ حُكْماً [٤٦] فَوَعى، وَدُعِيَ إلى رَشادٍ فَدَنا، [٤٧] وَأَخَذَ بِحُجْزَةِ [٤٨] هادٍ فَنَجا راقَبَ رَبَّهُ، وَخافَ ذَنْبَهُ، قَدَّمَ خالِصاً، وَعَمِلَ صالِحاً اكْتَسَبَ مَذْخُوراً، [٤٩] وَاجْتَنَبَ مَحْذُوراً، رَمى غَرَضاً، وَأَحْرَزَ عِوَضاً، كابَرَ هَواهُ، [٥٠] وَكَذَّبَ مُناهُ، جَعَلَ الصَّبْرَ مَطِيَّةَ نَجاتِهِ، وَالتَّقْوى عُدَّةَ وَفاتِهِ. رَكِبَ الطَّرِيقَةَ الْغَرّاءَ [٥١] وَلَزِمَ الْمَحَجَّةَ [٥٢] الْبَيْضاءَ، اغْتَنَمَ الْمَهَلَ، [٥٣] وَبادَرَ الْأَجَلَ، وَتَزَوَّدَ مِنَ الْعَمَلِ [٥٤] .
انتَفِعُوا بِبَيانِ اللَّهِ، وَاتَّعِظُوا بِمَواعِظِ اللَّهِ، وَاقْبَلُوا نَصِيحَةَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْذَرَ إِلَيْكُمْ بِالْجَلِيَّةِ [٥٥] وَأَخَذَ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةَ، وَبَيَّنَ لَكُمْ مَحابَّهُ مِنَ الْإَعْمالِ وَمَكارِهَهُ مِنْها لِتَتَّبِعُوا هذِهِ وَتَجْتَنِبوُا هذِهِ. فَإِنَّ رَسوُلَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَالِهِ كانَ يَقوُلُ: 'إِنَّ الْجَنَّةَ حُفَّتْ بِالْمَكارِهِ، وَإِنَّ النّارَ حُفَّتْ بِالشَّهَواتِ'.
وَاعْلَمُواْ أَنَّهُ ما مِنْ طاعَةِ اللَّهِ شَيْءُ إِلاّ يَأْتِي فِي كُرْهٍ، وَما مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ شَىْءٌ إِلاّ يَأْتِي فِي شَهْوَةٍ، فَرَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً نَزَعَ [٥٦] عَنْ شَهْوَتِهِ، وَقَمَعَ هَوى نَفْسِهِ، فَإِنَّ هذِهِ النَّفْس أَبْعَدُ شَىْ ءٍ مَنزَعاً، [٥٧] وَإنَّها لاتَزالُ تَنْزِعُ إِلى مَعْصِيَةٍ فِي هَوىً. وَاعْلَمُوْا عِبادَ اللَّهِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لايُمْسِي وَلايُصْبِحُ إِلاّ وَنَفْسُهُ ظَنوُنٌ [٥٨] عِنْدَهُ، فَلايَزالُ زارِياً [٥٩] عَلَيْها، وَمُسْتَزِيداً لَها، فَكوُنُواْ كَالسّابِقِينَ قَبْلَكُمْ وَالْماضِينَ أمامَكُمْ، قَوَّضوا [٦٠] مِنَ الدُّنْيا تَقْوِيضَ الرّاحِلِ، وَطَوَوْها طَىَّ الْمَنازِلِ... [٦١]
نَسْأَلُ اللَّهَ سُبْحانَهُ أَنْ يَجْعَلَنا وَإِيّاكُمْ مِمَّن لا تُبْطِرُهُ [٦٢] نِعْمَةٌ، وَلاتُقَصِّرُ بِه عَن طاعَةِ رَبِّهِ غايَةٌ، وَلاتَحِلُّ بِه بَعْدَ الْمَوْتِ نَدامَةٌ وَلاكَآبَةٌ [٦٣] .
صفات المتقين
التقوى
قال تعالى 'ومن يتق اللّه يجعل له مخرجاً، ويرزقه من حيثُ لا يحتسب' [٦٤] وعلى أثر القرآن الكريم سار أميرالمؤمنين فحمل للأمة وصيته بالتقوى لانها المخرج في كل مصيبة، ولأنها الطريق إلى كل تقدم وازدهار يقول أميرالمؤمنين عليه السلام أوصيكم عبادَ اللّه بتقوى اللّه فإنها الزِّمامُ والقِوامُ، فتمسَّكُوا بوثائقها، واعتصموا بحقائقها، تؤولُ بكم إلى اكنانِ الدَّعَهِ وأوْطانِ لسَّفةِ ومعاقِلِ الحِرْز، ومنازلِ العزِّ في يوم تشخص فيه الأبصار [٦٥] يبيّن الامام فوائد التمسك بالتقوى.
أولاً: تؤول بكم إلى اكنانِ الدَّعة، أي أن التقوى توصلكم إلى بر الراحة حيث يعيش الانسان الاستقرار النفسي والرفاه الاقتصادي والتقدم.
ثانياً: وأوطان السعة. وهي الاماكن التي تدر على المتقدين أنواع الرزق الحلال.
ثالثاً: ومعاقل الحرز التي لا تجد فيها شراً ولا حزناً بل يعمها الفرج الدائم ومنازل السعر وهي منازل الآخرة التي أعدّها اللّه للمتقين الصادقين ويقول عن نتائج التقوى. من أشعر التقوى قلبه برز مهله وفاز عمله [٦٦] فمن أخذ بالتقوى غربت عنه الشدائد فقلب الانسان هو غضروف يسرع إليه ا لعطب والفساد، وإذا فسد القلب فسد الانسان، ولا طريق لإصلاح القلب إلّا بالتقوى.
يقول أميرالمؤمنين عليه السلام: فإنّ تقوى اللّه دواء داء قلوبكم. [٦٧]
وأجمل ما قاله أميرالمؤمنين عليه السلام في التقوى فإن تقوى اللّه مفتاحٌ سداد وذخيرة معاد [٦٨] .
ولعلنا لا نجد في كلام البشر عبارة أجمل في هذه فالتقوى هو مفتاح كل طريق وعمل ناجح، فإذا أردت أن تقوم بأي عملٍ في أعمال الدُنيا والآخرة فإن التقوى هو مفتاح نجاحه. ومَنْ لا يريد أن ينجح في حياته،فنجاحه مرهونٌ بالتقوى. كما وأن التقوى ذخيرة لمعاد الانسان فمن أراد الآخرة وسعى لها عليه بالتقوى، لأريد التقوى رصيد لا حدود له، فكلما أراد عملاً يسدد به ما أرتكبه في أخطاء في حياته أعدّه التقوى بما يحتاج اللّه.
خطبة المتقين "همّام"
رُوِيَ أَنَّ صاحِباً لِأَميرِ الْمُؤمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلامُ - يُقالُ لَهُ: هَمّامٌ - كانَ رَجُلاً عابِداً، فَقالَ لَهُ: يا أَمِيرَ الْمُؤمِنِينَ صِفْ لِىَ الْمُتَّقِينَ حَتّى كَأَنِّى أَنظُرُ إِلَيْهِمْ، فَتَثاقَلَ عَلَيهِ السَّلامُ عَنْ جَوابِهِ، ثُمَّ قالَ: ياهَمّامُ اتَّقِ اللّهَ وَأَحْسِنْ 'فَإِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ' فَلَمْ يَقْنَعْ هَمّامٌ بُذلِكَ الْقَوْلِ حَتّى عَزَمَ عَلَيْهِ، فَحَمِدَاللّهَ وَأَثْنى عَلَيْهِ، وَصَلّى عَلَى النّبِىِّ- صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَالِهِ - ثُمَّ قالَ:
... فَالْمُتَّقُونَ فِيها هُمْ أَهْلُ الْفَضائِلِ: مَنطِقُهُمُ الصَّوابُ، [٦٩] وَمَلْبَسُهُمُ الْاِقْتصادُ، [٧٠] وَمَشْيُهُمُ التَّواضُعُ [٧١] . غَضُّوا أَبْصارَهُمْ [٧٢] عَمّا حَرَّمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ، وَوَقَفُوا أَسْماعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النّافِعِ لَهُمْ...
عَظُمَ الْخالِقُ [٧٣] فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مادُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ. فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآها فَهُمْ فِيها مُنَعِّمُونَ. وَهُمْ وَالنّارُ كَمَنْ قَدْرَاها فَهُمْ فِيها مُعَذَّبُونَ. قُلُوبُهُم مَخْزُونَةٌ، وَشُرُورُهُم مَأْمُونَةٌ، وَأَجْسادُهُمْ نَحِيفَةٌ، [٧٤] وَحاجاتُهُمْ خَفِيفَةٌ، وَأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ. صَبَرُواْ أَيّاماً قَصِيَرةً أَعْقَبَتْهُمْ راحَةً طَوِيلَةً. امّا الليل: فَصافُّونَ أَقْدامَهُمْ تالِينَ لِأَجْزاءِ الْقُرْانِ، يُرَتِّلُونَها تَرْتِيلاً، [٧٥] يَحَزُنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَيَسْتَثِيرُونَ [٧٦] بِهِ دَواءَ دائِهِمْ...
وأمّا النهار: فَحُلَماءُ عُلَماءُ أَبْرارُ أَتْقِياءُ...
علائم المتقين
فمن علامة أحدهم: أَنَّكَ تَرى لَهُ قُوَّةً فِي دِينٍ، [٧٧] وَحَزْماً فِي لِينٍ، [٧٨] و إِيماناً فِي يَقِينٍ، وَحِرْصاً فِي عِلْمٍ، وَعِلْماً فِي حِلْمٍ، وَقَصْداً [٧٩] فِي غِنّىً، وَخُشُوعاً فِي عِبادَةٍ، وَتَجَمُّلاً [٨٠] ، [٨١] فِي فاقَةٍ، وَصَبْراً فِي شِدَّةٍ، وَطَلَباً فِى حَلالٍ، وَنَشاطاً فِي هُدىً، وَتَحَرُّجاً [٨٢] عَنْ طَمَعٍ. قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيما لايَزُولُ، وَزَهادَتُهُ فِيما لايَبْقى. يَمْزُجُ الْحِلْمَ بِالِعِلْمِ، والَّقَوْلَ بِالْعَمَلِ. تراه قَلِيلاً زَلَلُهُ، خاشِعاً قَلْبُهُ، قانِعَةً نَفْسُهُ، مَنْزُوراً [٨٣] أُكُلُهُ، سَهْلاً أَمْرُهُ، حَرِيزاً [٨٤] دِينُهُ، مَيِّتَةً شَهْوَتُهُ، مَكْظُوماً غَيْظُهُ. الْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ، والشَّرُ مِنْهُ مَأْمُونٌ. إِنْ كانَ فِي الْغافِلِينَ [٨٥] كُتِبَ فِي الذّاكِرِينَ، وَإنْ كانَ فِي الذّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنْ الْغافِلِينَ. يَعْفُو عَمَّنَ [٨٦] ظَلَمَهُ، وَيُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ، وَيَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ، بَعِيداً فُحْشُهُ [٨٧] ، لَيِّناً قَوْلُهُ، غائِباً مُنكَرُهُ، حاضِراً مَعْرُوفُهُ، مُقْبِلاً خَيْرُهُ، مُدْبِراً شَرُّهُ، فِي الزَّلازِلِ وَقُورٌ. وَفِي الرَّخاءِ شَكُورٌ. لايَحِيفُ عَلى مَنْ يُبْغِضُ، وَلا يَأْثَمُ فِيمَنْ يُحِبُّ... وَلا يُنابِزُ [٨٨] ، بِالْأَلْقابِ، وَلا يُضارُّ بِالْجارِ...
نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَناءٍ، والنّاسُ مِنْهُ فِي راحَةٍ... [٨٩] .
التربية
وَمِنْ وَصِيَّةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَلَيْهِمَا السَّلامُ، كَتَبَها إِلَيْهِ بِحاضِرِينَ [٩٠] مُنْصَرِفاً مِنْ صِفِّينَ:
بسم اللَّه الرّحمن الرحيم
مِنَ الْوالِدِ الْفانِ، الْمُقِرِّ [٩١] لِلزَّمانِ، الْمُدْبِرِ [٩٢] الْعُمُرِ، الْمُسْتَسْلِمِ [٩٣] لِلدَّهْرِ، الذّامِ لِلدُّنْيَا، السّاكِنِ مَساكِنَ الْمَوْتَى إِلَى الْمَوْلوُدِ الْمُؤَمِّلِ [٩٤] ما لا يُدْرِكُ، السّالِكِ سَبِيلَ مَنْ قَدْ هَلَكَ...
ضرورة التربية
أَمّا بَعْدُ، فَإنَّ فِيما تَبَيَّنْتُ مِنْ إدْبارِ الدُّنْيا عَنِّي، وَجُمُوحِ [٩٥] الدَّهْرِ عَلَيَّ، وَإقْبالِ الاخِرَةِ إِلَيَّ، ما يَزَعُنِي [٩٦]عَن ذِكْرِ مَنْ سِوايَ، وِالاْهْتِمامِ بِما وَرائِي، غَيْرَ أنِّي حَيْثُ تَفَرَّدَ بِي- دوُنَ هُمُومِ النّاسِ- هَمُّ نَفْسِي، فَصَدَقَنِي [٩٧] رَأْيِي، وَصَرَفَنِي عَنْ هَوايَ، وَصَرَّحَ لِي مَحْضُ [٩٨] أَمْرِي، فَأَفْضى بِي إِلى جِدٍّ لايَكُونُ فِيهِ لَعِبٌ، وَصِدْقٍ لايَشُوبُهُ كَذِبٌ. وَجَدْتُكَ بَعْضِي، بَلْ وَجَدْتُكَ كُلِّي، حَتّى كَأَنَّ شَيْئاً لَوْ أَصابَكَ أَصابَنِي، وَكَأَنَّ الْمَوْتَ لَوْأَتاكَ أَتانِي. فَعَنانِي مِنْ أَمْرِكَ ما يَعْنِيِني مِنْ أَمْرِ نَفْسِي. فَكَتَبْتُ إلَيْكَ كِتابِي مُسْتَظْهِرًا [٩٩] بِهِ إنْ أَنَاَ بَقِيتُ لَكَ أَوْفَنِيتُ.
يتبع ......