٥٥ - جواب سؤال ليس في محله
في معركة صفين، وبعد استراحة قصيرة للمتحاربين، سأل ابن دودان أميرالمؤمنين قائلا: يا أميرالمؤمنين: عجبت لهؤلاء القوم الذين عدلوا هذا الأمر عنكم! وأنتم الأعلون نسباً وفرطاً برسول الله، وقيماً للكتاب؟!
فقال(عليه السلام): يَا أَخَا بَنِي أَسَد، إنَّكَ لَقَلِقُ الْوَضِينِ، تُرْسِلُ فِي غَيْرِ سَدَد، وَلَكَ بَعْدُ ذِمَامَةُ الصِّهْرِ[١]، وَحَقُّ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدِ اسْتَعْلَمْتَ فَاعْلَمْ:
أمَّا الإسْتِبْدادُ عَلَيْنَا بِهذَا الْمَقامِ وَنَحْنُ الاْعْلَوْنَ نَسَباً، وَالاشَدُّونَ بِالرَّسُولِ نَوْطاً، فَإنَّهَا كَانَتْ أَثَرَةً شَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْم، وَسَخَتْ عَنْهَا نُفوسُ آخَرِينَ، وَالْحَكَمُ اللهُ، وَالْمَعْوَدُ إلَيْهِ الْقِيَامَةُ.
وَدَعْ عَنْكَ نَهْباً صِيحَ فِي حَجَرَاتِهِ | وَلكِنْ حَدِيثاً مَا حَدِيثُ الرَّوَاحِلِ |
وَهَلُمَّ الْخَطْبَ فِي ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَلَقَدْ أَضْحَكَنِي الدَّهْرُ بَعْدَ إبْكَائِهِ، وَلاَ غَرْوَ وَاللهِ، فَيَا لَهُ خَطْباً يَسْتَفْرِغُ الْعَجَبَ، وَيُكْثِرُ الأَوَدَ، حَاوَلَ الْقَوْمُ إِطْفَاءَ نَورِ اللهِ مِنْ مِصْباحِهِ، وَسَدَّ فَوَّارِهِ مِنْ يَنْبُوعِهِ، وَجَدَحُوا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ شِرْباً وَبِيئاً، فَإنْ تَرْتَفِعْ عَنَّا وَعَنْهُمْ مِحَنُ الْبَلْوَى، أَحْمِلْهُمْ مِنَ الْحَقِّ عَلَى مَحْضِهِ، وَإنْ تَكُنِ الأُخْرَى، (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرات إنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)[٢].[٣]
٥٦ - نصيحة لعثمان
لما اجتمع الناس أميرالمؤمنين(عليه السلام)، وشكوا إليه ما نقموه على عثمان، وسألوه مخاطبته عنهم واستعتابه لهم، فدخل(عليه السلام) على عثمان فقال:
«إِنَّ النَّاسَ وَرَائي، وَقَدِ اسْتَسْفَرُوني بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، وَوَاللهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ! مَا أَعْرِفُ شَيْئاً تَجْهَلُهُ، وَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَمْر لاَ تَعْرِفُهُ، إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نَعْلَمُ، مَا سَبَقْنَاكَ إِلَى شَيْء فَنُخْبِرَكَ عَنْهُ، وَلاَ خَلَوْنَا بِشَيْء فَنُبَلِّغَكَهُ، وَقَدْ رَأَيْتَ كَمَا رَأَيْنَا، وَسَمِعْتَ كَمَا سَمِعْنَا، وَصَحِبْتَ رَسُولَ الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كَمَا صَحِبْنَا. وَمَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ وَلاَ ابْنُ الْخَطَّابِ بِأَوْلَى بِعَمَلِ الْحَقِّ مِنْكَ، وَأَنْتَ أَقْرَبُ إِلَى رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله وسلم) وَشِيجَةَ رَحِم مِنْهُمَا، وَقَدْ نِلْتَ مَنْ صَهْرِهِ مَا لَمْ يَنَالاَ.
فَاللهَ اللهَ فِي نَفْسِكَ! فَإِنَّكَ ـ وَاللهِ ـ مَا تُبَصَّرُ مِنْ عَمىً، وَلاَ تُعَلّمُ مِنْ جَهْل، وَإِنَّ الْطُّرُقَ لَوَاضِحَةٌ، وَإِنَّ أَعْلاَمَ الدِّينِ لَقَائِمَةٌ.
فَاعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ عِبَادِاللهِ عِنْدَ اللهِ إِمَامٌ عَادِلٌ، هُدِيَ وَهَدَي، فَأَقَامَ سُنَّةً مَعْلُومَةً، وَأَمَاتَ بِدْعَةً مَجْهُولَةً، وَإِنَّ السُّنَنَ لَنَيِّرَةٌ، لَهَا أَعْلاَمٌ، وَإِنَّ الْبِدَعَ لَظَاهِرَةٌ، لَهَا أَعْلاَمٌ، وَإِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَاللهِ إِمَامٌ جَائِرٌ ضَلَّ وَضُلَّ بِهِ، فَأَمَاتَ سُنَّةً مَأْخُوذَةً، وَأَحْيَا بِدْعَةً مَتْرُوكَةً.
وَإِني سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: «يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالاِْمَامِ الْجَائِرِ وَلَيْسَ مَعَهُ نَصِيرٌ وَلاَ عَاذِرٌ، فَيُلْقَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيَدُورُ فِيهَا كَمَا تَدُورُ الرَّحَى، ثُمَّ يَرْتَبِطُ فِي قَعْرِهَا.
وَإِني أَنْشُدُكَ اللهَ أنْ تَكُونَ إِمَامَ هذِهِ الاْمَّةِ الْمَقْتُولَ، فَإِنَّهُ كَانَ يُقَالُ: يُقْتَلُ فِي هذِهِ الاْمَّةِ إِمَامٌ يَفْتَحُ عَلَيْهَا الْقَتْلَ وَالْقِتَالَ إِلى يَوْمِ الْقُيَامَةِ، وَيَلْبِسُ أُمُورَهَا عَلَيْهَا، وَيَبُثُّ الْفِتَنَ فِيهَا، فَلاَ يُبْصِرُونَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، يَمُوجُونَ فِيهَا مَوْجاً، وَيَمْرُجُونَ فِيهَا مَرْجاً.
فَلاَ تَكُونَنَّ لِمَرْوَانَ سَيِّقَةً[٤] يَسُوقُكَ حَيْثُ شَاءَ بَعْدَ جَلاَلَ السِّنِّ وَتَقَضِّي الْعُمُرِ.
فَقَالَ لَهُ عُثْـمَانُ: كَلِّمِ النَّاسَ فِي أَنْ يُؤَجِّلُونِي، حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْهِمْ مِن مَظَالِمِهِمْ.
فَقال: مَاكَانَ بِالْمَدِينَةِ فَلاَ أَجَلَ فِيهِ، وَمَا غَابَ فَأَجَلُهُ وُصُولُ أَمْرِكَ إِلَيْهِ[٥].
٥٧ - قيام الحجّة
قال كليب الجَرْمي: لما قتل عثمان ما لبثنا إلاّ قليلا حتى قدم طلحة والزبير البصرة، ثمّ ما لبثنا بعد ذلك إلاّ يسيراً حتى أقبل عليّ بن أبي طالب بذي قار، فقال شيخان من الحي: إذهب بنا إلى هذا الرجل فلننظر ما يدعو إليه.
فلما أتينا ذي قار قدمنا على أذكى العرب، فوالله لدخل على نسب قومي فجعلت أقول: هو أعلم به مني وأطوع فيهم، فقال: من سيد بني راسب. فقلت: فلان. قال: فمن سيد بني قدامة. قلت: فلان لرجل آخر. فقال: أنت مبلغهما كتابين مني؟ قلت: نعم، قال: أفلا تبايعاني؟ فبايعه الشيخان اللذان كانا معي وتوقفت عن بيعته، فجعل رجال عنده ـ قد أكل السجود وجوههم ـ يقولون: بايع بايع.
فقال(عليه السلام): دعوا الرجل.
فقلت: إنّما بعثني قومي رائداً وسأني إليهم ما رأيت فإن بايعوا بايعت، وإن اعتزلوا اعتزلت.
فقال لي: أرأيت لو أن قومك بعثوك رائداً فرأيت روضة وغديراً. فقلت: يا قومي النجعة النجعة. فأبوا أما كنت بمستنجع بنفسك؟ قال: قلت: بلى، كنت تاركهم ومخالفهم إلى الكلاء والماء.
فقال(عليه السلام): فامدد إذاً يدك. فقال الرجل: فو الله ما استطعت أن أمتنع عند قيام الحجة عليَّ، فأخذت باصبع من أصابعه.
فقلت: أُبايع على أن أطيعك ما أطعت الله، فإذا عصيته فلا طاعة لك علينا.
فقال: نعم وطول صوته، فضربت على يده، ثمّ التفت إلى محمّد بن حاطب وكان من ناحية القوم، فقال: إذا انطلقت إلى قومك فأبلغهم كتبي وقولي. فتحول إليه محمّد حتى جلس بين يديه فقال: إن قومي إذا أتيتهم يقولون: ما يقول صاحبك في عثمان؟ فسبّ الذين حوله عثمان، فرأيت عليّاً قد كره ذلك حتى رشح جبينه، وقال: أيها القوم كفّوا ما إياكم يسأل، ولا عنكم بسائل.
قال: فلم أبرح عن العسكر حتى قدم على عليّ(عليه السلام) أهل الكوفة فجعلوا يقولون: نرى إخواننا من أهل البصرة يقاتلوننا؟! وجعلوا يضحكون ويعجبون ويقولون: والله لو التقينا لتعاطينا الحقّ. كأ نّهم يرون أ نّهم لا يقاتلون.
وخرجت بكتاب عليّ(عليه السلام) فأتيت أحد الرجلين فقبّل الكتاب وأجابه، ودللت على الآخر وكان متوارياً ـ فلو أنّهم قالوا: كليب ما أذن لي ـ فدخلت عليه ودفعت الكتاب إليه وقلت: هذا كتاب عليّ وأخبرته الخبر وقلت: إني أخبرت عليّاً أ نّك سيّد قومك.
فأبى أن يقبّل الكتاب ولم يجبه إلى ما سأله، وقال: لا حاجة لي اليوم في السؤدد! فو الله إنّي لبالبصرة ما رجعت إلى عليّ حتى نزل العسكر، ورأيت الغر الذين كانوا مع عليّ(عليه السلام)[٦].
٥٨ - دفاع عن حقّ الإمامة
بعد مقتل عمر وما حصل بالشورى الّتي شكّلها عمر لتعيين الخليفة من بعده، قال سعد بن أبي وقاص (وهو أحد الأشخاص الستّة الذين عيّنهم عمر في الشورى) لأميرالمؤمنين(عليه السلام): «إِنَّكَ يابْنَ أبِي طَالِب عَلَى هذَا الاْمْرِ لَحَرِيصٌ.
فَقال: بَلْ أَنْتُمْ وَاللهِ أحْرَصُ وَأَبْعَدُ، وَأَنَا أَخَصُّ وَأَقْرَبُ، وَإِنَّمَا طَلَبْتُ حَقّاً لِي وَأَنْتُمْ تَحُولُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَتَضْرِبُونَ وَجْهِي دُونَهُ، فَلَمَّا قَرَّعْتُهُ بِالْحُجَّةِ فِي الْملاءِ الْحَاضِرِينَ هَبَّ كَأَ نَّهُ بُهِتَ لاَ يَدْرِي مَا يُجِيبُنِي بِهِ!»
«اللَّهُمَّ إنَّي أَسْتَعْدِيكَ عَلى قُرَيْش وَمَنْ أَعَانَهُمْ! فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا رَحِمِي، وَصَغَّرُوا عَظِيمَ مَنْزِلَتِي، وَأَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي أَمْراً هُوَ لِي. ثُمَّ قَالُوا: أَلاَ إنَّ فِي الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ، وَفِي الْحَقِّ أَنْ تَتْرُكَهُ».
هذا من خطبة يذكر فيها(عليه السلام) ما جرى يوم الشورى بعد مقتل عمر، وصاحب القول هو سعد بن أبي وقاص، مع روايته فيه(عليه السلام): «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» وهذا عجب!
وقال البعض: هذا الكلام يوم السقيفة، والّذي قال له: إنك على هذا الأمر لحريص، أبو عبيدة بن الجراح.
وقد تواترت الأخبار عنه(عليه السلام) بنحو من هذا القول، نحو قوله(عليه السلام): ما زلت مظلوماً منذ قبض الله رسوله حتى يوم الناس هذا.
وقوله(عليه السلام): اللّهمّ أخز قريشاً فإنّها منعتني حقّي، وغصبتني أمري.
وقوله(عليه السلام): فجزى قريشاً عني الجوازي، فإنّهم ظلموني حقّي، واغتصبوني سلطان ابن أُمي.
وقوله(عليه السلام): وقد سمع صارخاً ينادي: أنا مظلوم، فقال: هلم فلنصرخ معاً، فإنّي ما زلت مظلوماً.
وقوله(عليه السلام): وإنّه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى.
وقوله(عليه السلام): أرى تراثي نهباً.
وقوله(عليه السلام): أصغيا بإنائنا، وحملا الناس على رقابنا.
وقوله(عليه السلام): إنّ لنا حقّاً إن نعطه نأخذه، وإن نمنعه نركب أعجاز الابل، وإن طال السرى.
وقوله(عليه السلام): ما زلت مستأثراً عليَّ مدفوعاً عمّا أستحقه وأستوجبه[٧].
٥٩ - معرفة الله
عن الأصبغ بن نباتة، قال: لما جلس عليّ(عليه السلام) في الخلافة وبايعه الناس خرج إلى المسجد متعمماً بعمامة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لابساً بردة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) متقلداً سيف رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فصعد المنبر فجلس(عليه السلام)متمكناً، ثمّ شبك بين أصابعه فوضعها أسفل بطنه، ثمّ قال:
أَيُّهَا النَّاسُ، سَلُوني قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُوني، هذا سفط العلم، هذا لعاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) هذا ما زقني رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) زقاً زقاًظ، سلوني فإن عندي علم الأولين والآخرين[٨].
فقام إليه رجل يقال له ذِعْلَبْ اليمني ـ وكان ذرب اللسان بليغاً في الخطب، شجاع القلب ـ فقال: لقد ارتقى ابن أبي طالب مرقاة صعبة، لأخجلنه اليوم لكم في مسألتي إياه، فقال: يا أميرالمؤمنين! هل رأيت ربّك؟
قال(عليه السلام): ويلك يا ذعلب، لم أكن بالذي أعبد ربّاً لم أره!
فقال: فكيف رأيته؟ صفه لنا.
قال: ويلك، لم تره العيون بمشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الأيمان، ويلك يا ذعلب، إنّ ربّي لا يوصف بالبعد، ولا بالحركة، ولا بالسكون، ولا بالقيام قيام انتصاب ولا بجيئة ولا بذهاب، لطيف اللطافة، لا يوصف باللطف، عظيم العظمة، لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء، لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة، لا يوصف بالغلظ، رؤوف الرحمة، لا يوصف بالرقة، مؤمن لا بعبادة، مدرك لا بمحسة، قائل لا باللفظ، هو في الأشياء على غير ممازجة، خارج منها على غير مباينة، فوق كلّ شيء فلا يقال: شيء فوقه، وأمام كلّ شيء فلا يقال: له أمام، داخل في الأشياء لا كشيء في شيء داخل، وخارج منها لا كشيء من شيء خارج.
فخر ذعلب مغشياً عليه، ثمّ قال: تالله، ما سمعت بمثل هذا الجواب، والله لا عدت إلى مثلها[٩].
٦٠ - إن الشيطان قد استفلهم
كان الخريت بن راشد، مع ثلاثمائة رجل من بني ناجية مقيمين مع عليّ(عليه السلام) بالكوفة قدموا معه من البصرة، وكانوا قد خرجوا إليه يوم الجمل، وشهدوا معه صفين والنهروان، فجاء إلى عليّ(عليه السلام) في ثلاثين راكباً من أصحابه، فقال له: والله يا عليّ لا أطيع أمرك ولا أُصلي خلفك وإنّي غداً لمفارقك.
فقال له عليّ(عليه السلام): ثكلتك أُمك، إذا تعصي ربّك وتنكث عهدك ولا تضر إلاّ نفسك، خبرني لِمَ تفعل ذلك.
قال: لأ نّك حكمت في الكتاب وضعفت عن الحقّ إذا جد الجد، وركنت إلى القوم الذين ظلموا أنفسهم، فأنا عليهم زار، وعليهم ناقم ولكم جميعاً مباين.
فقال له عليّ(عليه السلام): هلم أدارسك الكتاب، وأُناظرك في السنن، وأُفاتحك أُموراً من الحقّ أنا أعلم بها منك، فلعلك تعرف ما أنت له الآن منكر، وتستبصر ما أنت عنه الآن جاهل.
قال: فإنّي عائد إليك.
قال: لا يستهوينك الشيطان، ولا يستخفنك الجهل، ووالله لئن استرشدتني واستنصحتني وقبلت مني لأهدينك سبيل الرشاد.
فنفر الخريت مع أصحابه ليلا ولم يعد إلى أميرالمؤمنين(عليه السلام)، فأرسل(عليه السلام) رجلا من أصحابه يستعلم حالهم، فلما عاد إليه الرجل قال له: أأمنوا فقطنوا أم جبنوا فظعنوا؟ فقال الرجل: بل ظعنوا يا أميرالمؤمنين.
فقال(عليه السلام): بُعْداً لَهُمْ (كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ)! أَمَا لَوْ أُشْرِعَتِ الاْسِنَّةُ إِلَيْهِمْ وَصُبَّتِ السُّيُوفُ عَلَى هَامَاتِهمْ، لَقَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ، إنَّ الشَّيْطَانَ الْيَوْمَ قَدِ اسْتَقَلَّهُمْ، وَهُوَ غَداً مُتَبَرِّىءٌ مِنْهُمْ، وَمُخلٍّ عَنْهُمْ، فَحَسْبُهُمْ بِخُرُوجِهمْ مِنَ الْهُدَى، وَارْتِكَاسِهِمْ فِي الضَّلاَل وَالْعَمَى، وَصَدِّهِمْ عَنِ الْحَقّ، وَجِمَاحِهمْ فِي التِيهِ»[١٠].
٦١ - عليّ(عليه السلام) يتحرّق شوقاً لأصحابه الشهداء
روي عن نوف البكالي قال:خطبنا أميرالمؤمنين(عليه السلام)بالكوفة وهو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي،وعليه مدرعة من صوف وحمائل سيفه ليف،وفي رجليه نعلان من ليف،وكأن جبينه ثفنة بعير.
فقال(عليه السلام): «الْحَمْدُ لله الَّذِي إلَيْهِ مَصَائِرُ الْخَلْقِ، وَعَوَاقِبُ الاْمْرِ، نَحْمَدُهُ عَلَى عَظِيمِ إِحْسَانِهِ، وَنَيِّرِ بُرْهَانِهِ، وَنَوَامِي فَضْلِهِ وَامْتِنَانِهِ، حَمْداً يَكُونُ لِحَقِّهِ قَضَاءً، وَلِشُكْرِهِ أَدَاءً، وَإلَى ثَوَابِهِ مُقَرِّباً، وَلِحُسْنِ مَزِيدِهِ مُوجِباً.
ثمّ قال(عليه السلام): أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدْ بَثَثْتُ لَكُمُ الْمَوَاعِظَ الَّتِي وَعَظَ بِهَا الاْنْبِيَاءُ أُمَمَهُمْ، وَأَدَّيْتُ إِلَيْكُمْ مَا أَدَّتِ الاْوصِيَاءُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، وَأَدَّبْتُكُمْ بِسَوْطِي فَلَمْ تَسْتَقِيمُوا، وَحَدَوْتُكُمْ بالزَّوَاجِرِ فَلَمْ تَسْتَوْسِقُوا. لله أَنْتُمْ! أَتَتَوَقَّعُونَ إِمَاماً غَيْرِي يَطَأُ بِكُمُ الطَّرِيقَ، وَيُرْشِدُكُمُ السَّبِيلَ؟ أَلاَ إِنَّهُ قَدْ أَدْبَرَ مِنَ الدُّنْيَا مَا كَانَ مُقْبِلاً، وَأَقْبَلَ مِنْهَا مَا كَانَ مُدْبِراً، وَأَزْمَعَ التَّرْحَالَ عِبَادُاللهِ الاْخْيَارُ، وَبَاعُوا قَلِيلاً مِنَ الدُّنْيَا لاَ يَبْقَى، بِكَثِير مِنَ الاْخِرَةِ لاَيَفْنَى.
مَا ضَرَّ إِخْوَانَنَا الَّذِينَ سُفِكَتْ دِمَاؤُهُمْ ـ وَهُمْ بِصِفِّينَ ـ أَلاَّ يَكُونُوا الْيَوْمَ أَحْيَاءً؟ يُسِيغُونَ الْغُصَصَ، وَيَشْرَبُونَ الرَّنْقَ! قَدْ ـ وَاللهِ ـ لَقُوا اللهَ فَوَفَّاهُمْ أُجُورَهُمْ، وَأَحَلَّهُمْ دَارَ الاْمْنِ بَعْدَ خَوْفِهمْ!
أَيْنَ إِخْوَانِي الَّذِينَ رَكِبُوا الطَّريقَ، وَمَضَوْا عَلَى الْحَقِّ؟ أَيْنَ عَمَّارٌ؟ وَأَيْنَ ابْنُ التَّيِّهَانِ؟ وَأَيْنَ ذُوالشَّهَادَتَيْنِ؟ وَأَيْنَ نُظَرَاؤُهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَعَاقَدُوا عَلَى الْمَنِيَّةِ، وَأُبْرِدَ بِرُؤوسِهِمْ إِلَى الْفَجَرَةِ؟
قال: ثمّ ضرب(عليه السلام) بيده إلى لحيته الشريفة الكريمة، فأطال البكاء، ثمّ قال(عليه السلام): أَوْهِ عَلَى إِخْوَانِي الَّذِينَ تَلَوُا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ، وَتَدَبَّرُوا الْفَرْضَ فَأَقَامُوهُ، أَحْيَوُا السُّنَّةَ، وَأمَاتُوا الْبِدْعَةَ، دُعُوا لِلْجِهَادِ فَأَجَابُوا، وَوَثِقُوا بِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوا.
ثمّ نادى بأعلى صوته:
الْجِهَادَ الْجِهَادَ عِبَادَ اللهِ! أَلاَ وَإِنِّي مُعَسْكِرٌ فِي يَوْمي هذَا، فَمَنْ أَرَادَ الرَّوَاحَ إِلَى اللهِ فَلْيَخْرُجْ.
قال نوْفٌ: وعقد للحسين في عشرة آلاف، ولقيس بن سعد في عشرة آلاف، ولأبي أيوب الأنصاري في عشرة آلاف، ولغيرهم على أعداد أخر، وهو يريد الرجعة إلى صفين، فما دارت الجمعة حتى ضربه الملعون ابن ملجم لعنه الله، فتراجعت العساكر، فكنّا كأغنام فقدت راعيها، تختطفها الذئاب من كلّ مكان![١١].
٦٢ - تواضع موسى وأخيه (عليهما السلام)
كان موسى(عليه السلام) من الأنبياء أُولوا العزم، عاش هو وأخيه هارون في زمن فرعون مصر، يتحدّث أميرالمؤمنين(عليه السلام) عن قصتهم مع فرعون عصرهم قائلا:
«فَإِنَّ اللهَ سْبْحَانَهْ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ فِي أَنْفُسِهمْ بِأَوْلِيَائِهِ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي أَعْيُنِهِمْ. وَلَقَدْ دَخَلَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَمَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ صلّى الله عليهما عَلَى فِرْعَوْنَ، وَعَلَيْهِمَا مَدَارِعُ الصُّوفِ، وَبِأَيْدِيهِمَا الْعِصِيُّ، فَشَرَطَا لَهُ ـ إِنْ أَسْلَمَ ـ بَقَاءَ مُلْكِهِ، وَدَوامَ عِزِّهِ، فَقَالَ: أَلاَ تَعْجبُونَ مِنْ هذَيْنِ يَشْرِطَانِ لِي دَوَامَ الْعِزِّ، وَبَقَاءَ الْمُلْكِ، وَهُمَا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ وَالذُّلِّ، فَهَلاَّ أُلْقِيَ عَلَيْهِمَا أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَب؟ إِعْظَاماً لِلذَّهَبِ وَجَمْعِهِ، وَاحْتِقَاراً لِلصُّوفِ وَلُبْسِهِ! وَلَوْ أَرَادَ اللهُ سُبْحَانَهُ بأَنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ كُنُوزَ الْذِّهْبَانِ، وَمَعَادِنَ الْعِقْيَانِ، وَمَغَارِسَ الْجِنَانِ، وَأَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طَيْرَ السَّماءِ وَوُحُوشَ الاْرَضِينَ لَفَعَلَ، وَلَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلاَءُ، وَبَطَلَ الْجَزَاءُ، وَاضْمَحَلَّتِ الاْنْبَاءُ، وَلَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ الْمُبْتَلِينَ، وَلاَ اسْتَحَقَّ الْمُؤمِنُونَ ثَوَابَ الْـمُحْسِنِينَ، وَلاَ لَزِمَتِ الاْسْمَاءُ مَعَانِيَهَا، وَلكِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي قُوَّة فِي عَزَائِمِهِمْ، وَضَعَفَةً فِيَما تَرَى الاْعْيُنُ مِنْ حَالاَتِهِمْ، مَعَ قَنَاعَة تَمْلأُ الْقُلُوبَ وَالْعُيُونَ غِنىً، وَخَصَاصَة تَمْلاَ الاْبْصَارَ وَالاْسْمَاعَ أَذىً»[١٢].
وقد وردت هذه المفاهيم في القرآن الكريم في سورة الزخرف[١٣] حيث قال تعالى: (وَلَـقَدْ أرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إلَى فِرْعَوْنَ وَمَلأهِ فَقَالَ إنِّي رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَة إلا هِيَ أكْبَرُ مِنْ اُخْتِهَا وَأخَذْنَاهُمْ بِالعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَقَالُوا يَا أيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَـنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إنَّـنَا لَمُهْتَدُونَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ العَذَابَ إذَا هُمْ يَنكُـثُونَ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ ألَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أفَلا تُـبْصِرُونَ أمْ أنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلا اُلْقِيَ عَلَيْهِ أسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَب أوْ جَاءَ مَعَهُ المَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأطَاعُوهُ إنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ).
قال أرباب السير: قدم موسى وأخوه هارون مصر على فرعون، لما بعثهما الله تعالى إليه حتى وقفا على بابه يلتمسان الاذن عليه، فمكثا سنين يغدوان على بابه ويروحان، لا يعلم بهما، ولا يجترىء أحد على أن يخبره بشأنهما ـ وقد كانا قالا لمن بالباب انا رسولا ربّ العالمين إلى فرعون ـ حتى دخل عليه بطال له يلاعبه ويضحكه. فقال له: أيّها الملك إن على الباب رجلا يقول قولا عجيباً عظيماً، ويزعم أن له الهاً غيرك، قال: ببابي؟ قال: نعم، قال: ادخلوه، فدخل وبيده عصاه، ومعه هارون أخوه، فقال: انا رسول ربّ العالمين إليك[١٤].
٦٣ - محاربة الخوارج
قال أميرالمؤمنين(عليه السلام) متحدّثاً عن الخوارج: «أَلاَ وَقَدْ قَطَعْتُمْ قَيْدَ الاْسْلاَمِ، وَعَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ، وَأَمَتُّمْ أَحْكَامَهُ.
أَلاَ وَقَدْ أَمَرَنِيَ اللهُ بِقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْي وَالْنَّكْثِ وَالْفَسَادِ فِي الاْرْضِ، فَأَمَّا النَّاكِثُونَ فَقَدْ قَاتَلْتُ، وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَقَدْ جَاهَدْتُ، وَأَمَّا الْمَارِقَةُ فَقَدْ دَوَّخْتُ، وَأَمَّا شَيْطَانُ الرَّدْهَةِ فَقَدْ كُفِيتُهُ بِصَعْقَة سَمِعْتُ لَهَا وَجْبَةَ قَلْبِهِوَرَجَّةَ صَدْرِهِ، وَبَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَلَئِنْ أَذِنَ اللهُ فِي الْكَرَّةِ عَلَيْهِمْ لاَدِيلَنَّ مِنْهُمْ إِلاَّ مَا يَتَشَذَّرُ فِي أَطْرَافِ الاْرْضِ تَشَذُّراً»[١٥].
قال ابن أبي الحديد: قد ثبت عن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أ نّه قال لأميرالمؤمنين(عليه السلام): ستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين، فكان الناكثون أصحاب الجمل، لأنّهم نكثوا بيعته(عليه السلام)، وكان القاسطون أهل الشام بصفين، وكان المارقون الخوارج في النهروان.
وفي الفرق الثلاث قال الله تعالى: (فَمَنْ نَكَثَ فَإنَّمَا يَـنْكُثُ عَلَى نَـفْسِهِ)، وقال: (وَأمَّا القَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً).
وقال النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم): يخرج من ضئضىء هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر أحدكم في النصل فلا يجد شيئاً، فينظر في الفوق، فلا يجد شيئاً، سبق الفرث والدم.
وهذا الخبر من اعلام نبوته(صلى الله عليه وآله وسلم) ومن اخباره المفصلة بالغيوب. وأمّا شيطان الردهة، فقد قال قوم أ نّه ذو الثدية صاحب النهروان. ويقول البعض: إن ذا الثدية لم يقتل بسيف، ولكن الله رماه يوم النهروان بصاعقة، وإليها أشار(عليه السلام) بقوله: فقد كفيته بصعقة سمعت لها وجبة قلبه، وقال قوم: شيطان الردهة أحد الأبالسة المردة من أعوان عدو الله إبليس، ورووا في ذلك خبراً عن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، وانّه كان يتعوّذ منه. والردهة: شبه نقرة في الجبل يجتمع فيهاالماء، وهذا مثل قوله(عليه السلام):هذا ازب العقبة،أي شيطانها،ولعل ازب العقبة هو شيطان الردهة بعينه، فتارة يرد بهذا اللفظ،وتارة يرد بذلك اللفظ.
أمّا قوله(عليه السلام): ويتشذر في أطراف الأرض، يتمزق ويتبدد ومنه قولهم: ذهبوا شذر مذر. والبقية الّتي بقيت من أهل البغي معاوية وأصحابه، لأنه(عليه السلام) لم يكن أتى عليهم بأجمعهم، وإنما وقفت الحرب بينه وبينهم بمكيدة التحكيم.
وقوله(عليه السلام): ولئن أذن الله في الكرة عليهم، أي إن مدّ لي في العمر لأديلن منهم، أي لتكونن الدولة لي عليهم، وأدلت من فلان أي غلبته وقهرته، وصرت ذا دولة عليه[١٦].
٦٤ - خصال عليّ(عليه السلام) في طفولته
يقول أميرالمؤمنين(عليه السلام) في خطبته القاصعة (الّتي تعتبر أكبر خطبة في نهج البلاغة):
«أَنَا وَضَعْتُ بَكَلاَكِلِ الْعَرَبِ، وَكَسَرْتُ نَوَاجِمَ قُرُونِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ.وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله وسلم) بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، وَالْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ: وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنَا وليدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ، وَيَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ، وَيُمِسُّنِي جَسَدَهُ، وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ، وَكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ، وَمَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْل، وَلاَ خَطْلَةً فِي فِعْل.وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ تَعَالَى بِهِ(صلى الله عليه وآله وسلم) مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَك مِنْ مَلاَئِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، وَمَحَاسِنَ أَخْلاَقِ الْعَالَمِ، لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لي فِي كُلِّ يَوْم عَلَماً مِنْ أخْلاقِهِ، وَيَأْمُرُني بِالإقْتِدَاءِ بِهِ.وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَة بِحِرَاءَ، فَأَرَاهُ وَلاَ يَرَاهُ غَيْرِي، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذ فِي الاْسْلاَمِ غَيْرَ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله وسلم) وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ. وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا هذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: «هذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرَى مَا أَرَى، إِلاَّ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيّ، وَلكِنَّكَ وَزِيرٌ، وَإِنَّكَ لَعَلَى خَيْر»[١٧].
ونذكر هنا حادثة تاريخية تتحدث عن حماية الإمام عليّ(عليه السلام) في شبابه لرَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله وسلم) :
عن أبي عبدالله(عليه السلام) انّه سئل عن معنى قول طلحة بن أبي طلحة لما بارزه عليّ(عليه السلام) يا قضيم؟ قال: ان رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله وسلم) كان بمكة لم يجسر عليه أحد لموضع أبي طالب واغروا به الصبيان وكانوا إذا خرج رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله وسلم) يرمونه بالحجارة والتراب فشكى ذلك إلى عليّ(عليه السلام)فقال: بأبي أنت واُمي يا رَسُولِ اللهِ إذا خرجت فأخرجني معك فخرج رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله وسلم) ومعه أميرالمؤمنين(عليه السلام) فتعرض الصبيان لرَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله وسلم)كعادتهم فحمل عليهم أميرالمؤمنين(عليه السلام) وكان يقضمهم في وجوههم وآنافهم وآذانهم فكانوا يرجعون باكين إلى آبائهم ويقولون: قضمنا عليّ، قضمنا عليّ، فسمي لذلك «القضيم»[١٨].
٦٥ - عناد المشركين وصلابة عليّ(عليه السلام)
ويستمر أميرالمؤمنين(عليه السلام) بالحديث عن علاقته برَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله وسلم)فيقول:
«وَلَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ(صلى الله عليه وآله وسلم) لَمَّا أَتاهُ المَلاَ مِنْ قُريْش، فَقَالُوا لَهُ: يَا مُحُمَّدُ، إِنَّكُ قَدِ ادَّعْيْتَ عَظِيماً لَمْ يَدَّعِهِ آبَاؤُكَ وَلاَ أحَدٌ مِن بَيْتِكَ، وَنَحْنُ نَسَأَلُكَ أَمْراً إِنْ أَجَبْتَنَا إِلَيْهِ وَأَرَيْتَنَاهُ، عَلِمْنَا أَنَّكَ نِبِيٌّ وَرَسُولٌ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ. فَقَالَ(صلى الله عليه وآله وسلم) لهم: «وَمَا تَسْأَلُونَ؟».
قَالُوا: تَدْعُو لَنَا هذِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقِهَا وَتَقِفَ بَيْنَ يَدَيْكَ.
فَقَالَ(صلى الله عليه وآله وسلم): «إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ، فإِنْ فَعَلَ اللهُ ذلِكَ لَكُمْ، أَتُؤْمِنُونَ وَتَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ؟».
قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: «فَإِنِّي سَأُرِيكُمْ مَا تَطْلُبُونَ، وإِنِّي لاَعْلَمُ أَنَّكُمْ لاَ تَفِيئُونَ إِلَى خَيْر، وَإِنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطْرَحُ فِي الْقَلِيبِ، وَمَنْ يُحَزِّبُ الاْحْزَابَ».
ثُمَّ قَالَ(صلى الله عليه وآله وسلم): «يَا أَيَّتُهَا الشَّجَرَةُ إِنْ كُنْتِ تُؤمِنِينَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الاْخِرِ، وَتَعْلَمِينَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَانْقَلِعِي بعُرُوقِكِ حَتَّى تَقِفِي بَيْنَ يَدَيَّ بِإِذْنِ اللهِ».
فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ نَبِيّاً لاَنْقَلَعَتْ بِعُرُوقِهَا، وَجَاءَتْ وَلَهَا دَوِيٌّ شَدِيدٌ، وَقَصْفٌ كَقَصْفِ أَجْنِحَةِ الطَّيْرِ، حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله وسلم)مُرَفْرِفَةً، وَأَلْقَتْ بِغُصْنِهَا الاْعْلَى عَلَى رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله وسلم)، وَبِبَعْضِ أَغْصَانِهَا عَلَى مَنْكِبِي، وَكُنْتُ عَنْ يَمِينِهِ(صلى الله عليه وآله وسلم).
فَلَمَّا نَظَرَ الْقَوْمُ إِلَى ذلِكَ قَالُوا ـ عُلُوّاً وَاسْتِكْبَاراً ـ : فَمُرْهَا فَلْيَأْتِكَ نِصْفُهَا وَيَبْقَى نِصْفُهَا.
فَأَمَرَهَا بِذلِكَ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ نِصْفُهَا كَأَعْجَبِ إِقْبَال وَأَشَدِّهِ دَوِيّاً، فَكَادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله وسلم). فَقَالُوا ـ كُفْراً وَعُتُوّاً ـ : فَمُرْ هذَا النِّصْفَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى نِصْفِهِ كَمَا كَانَ. فَأَمَرَهُ(صلى الله عليه وآله وسلم) فَرَجَعَ. فَقُلْتُ أَنَا: لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، إِنِّي أَوَّلُ مْؤْمِن بِكَ يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَوَّلُ مَنْ آمَنَ بَأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اللهِ تَصْدِيقاً لِنُبُوَّتِكَ، وإِجْلاَلاً لِكَلِمَتِكَ.
فَقَالَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ: بَلْ سَاحِرٌ كَذَّابٌ، عَجِيبُ السِّحْرِ خَفِيفٌ فِيهِ، وَهَلْ يُصَدِّقُكَ فِي أَمْرِكَ إِلاَّ مِثْلُ هذَا! يَعْنُونَنِي.
وَإِنِّي لَمِنْ قَوْم لاَ تَأخُذُهُمْ فِي اللهِ لَوْمَةُ لاَئِم، سِيَماهُمْ سِيَما الصِّدِّيقِينَ، وَكَلاَمُهُمْ كَلاَمُ الاَْبْرَارِ، عُمَّارُ اللَّيْلِ، وَمَنَارُ النَّهَارِ، مُتَمَسِّكُونَ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ، يُحْيُونَ سُنَنَ اللهِ وسُنَنَ رَسُولِهِ، لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وَلاَيَعْلُونَ، وَلاَيَغُلُّونَ وَلاَ يُفْسِدُونَ، قُلُوبُهُمْ فِي الْجِنَانِ، وَأَجْسَادُهُمْ في الْعَمَلِ[١٩]!
٦٦ - المعراج الصافي
روي أن صاحباً لأميرالمؤمنين(عليه السلام) يقال له همام. كان رجلا عابداً، فقال له: يا أميرالمؤمنين: صف لي المتقين حتى كأني أنظر إليهم، فتثاقل(عليه السلام) عن جوابه، ثمّ قال: يا همام اتق الله وأحسن فـ (إنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)[٢٠] فلم يقنع همام بهذا القول حتى عزم عليه، فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ثمّ قال(عليه السلام):
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللهَ ـ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ـ خَلَقَ الْخَلْقَ ـ حِينَ خَلَقَهُمْ ـ غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ... إلى أن قال(عليه السلام): فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ: مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ، وَمَلْبَسُهُمُ الاْقْتِصَادُ، وَمَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ. غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَوَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ.نَزَلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلاَءِ كَالَّتِي نَزَلَتْ فِي الرَّخَاءِ. لَوْ لاَ الاْجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْن، شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ، وَخَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ...
وهكذا أخذ الإمام(عليه السلام) يعدد صفات المتّقين حتى عدّ أكثر من ثلاثين صفة لهم، إلى أن قال:
بعده عمن تباعد عنه زهد ونزاهة ودنوه ممن دنا منه لين ورحمة، ليس تباعده بكبر وعظمة، ولا دنوه بمكر وخديعة.
قال: فصعف همام صعقة كانت نفسه فيها.
فقال أميرالمؤمنين(عليه السلام): أما والله لقد كنت أخافها عليه.
ثمّ قال: هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها!
فقال له قائل: فما بالك يا أميرالمؤمنين!
فقال(عليه السلام): ويحك، إن لكل أجل وقتاً لا يعدوه، وسببظ اً لا يتجاوزه، فمهلا لا تعد لمثلها، فإنّما نفث الشيطان على لسانك[٢١]!
وهمام المذكور في هذه الخطبة: هو همام بن شريح بن يزيد، كان من شيعة أميرالمؤمنين(عليه السلام) وأوليائه، وكان ناسكاً عابداً.
٦٧ - علاقة عليّ(عليه السلام) بِرَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
من خطبة لأميرالمؤمنين(عليه السلام) متحدّثاً فيها عن الذين حاولوا اثارة الشبهات والشكوك عن علاقته بِرَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله وسلم) فهو يقول:
«وَلَقَدْ عَلِمَ الْمُسْتَحْفَظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّد(صلى الله عليه وآله وسلم) أَنِّي لَمْ أَرُدَّ عَلَى الله وَلاَ عَلَى رَسُولِهِ سَاعَةً قَطُّ[٢٢]، وَلَقَدْ وَاسَيْتُهُ بِنَفْسِي فِي الْمَوَاطِنِ الَّتي تَنْكُصُ فِيهَا الاْبْطَالُ وَتَتَأَخَّرُ الاْقْدَامُ، نَجْدَةً أَكْرَمَنِي اللهُ بِهَا.
وَلَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللهِ(صلى الله عليه وآله وسلم) وَإِنَّ رَأْسَهُ لَعَلَى صَدْرِي.
وَلَقَدْ سَالَتْ نَفْسُهُ فِي كَفِّي، فَأَمْرَرْتُهَا عَلَىُ وَجْهِي.
وَلَقَدْ وُلِّيتُ غُسْلَهُ(صلى الله عليه وآله وسلم) وَالْمَلاَئِكُةُ أَعْوَانِي، فَضَجَّتِ الدَّارُ والاْفْنِيَةُ، مَلاَ يُهْبِطُ، وَمَلاَ يَعْرُجُ، وَمَا فَارَقَتْ سَمْعِي هَيْنَمَةٌ مِنْهُمْ، يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى وَارَيْنَاهُ فِي ضَرِيحِهِ. فَمَنْ ذَا أَحَقُّ بِهِ مِنِّي حَيّاً وَمَيِّتاً؟ فَانْفُذُوا عَلَى بَصَائِرِكُمْ، وَلْتَصْدُقْ نِيَّاتُكُمْ فِي جِهَادِ عَدُوِّكُمْ، فَوَالَّذِي لاَإِلهَ إِلاَّ هُوَ إِنِّي لَعَلَى جَادَّةِ الْحَقِّ، وَإِنَّهُمْ لَعَلَى مَزَلَّةِ الْبَاطِلِ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ»[٢٣].
٦٨ - من هو السياسي؟
يرى بعض المؤرخين، ان معاوية أكثر سياسة من أميرالمؤمنين(عليه السلام)لاستطاعته استلام الحكم وتحويل الهزيمة الّتي كانت محدقه به وبجيشه في معركة صفين إلى نصر سياسي كبير بعد أن استطاع رفع المصاحف وانهاء المعركة ومن ثمّ تحكيم الحكمين... ولكن الإمام عليّ(عليه السلام) يرى عكس ذلك، فمعاوية لم يستخدم السياسة المشروعة في الدين إنّما استخدم المكر والخديعة.
يقول أميرالمؤمنين(عليه السلام):
«وَاللهِ مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي، وَلكِنَّهُ يَغْدِرُ وَيَفْجُرُ، وَلَوْلاَ كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ لَكُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ، وَلَكِنْ كُلُّ غَدْرَة فَجْرَةٌ، وَكُلُّ فَجْرَة كَفْرَةٌ، وَلِكُلِّ غَادِر لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.وَاللهِ مَا أَسْتَغْفَلُ بالْمَكِيدَةِ، وَلاَ أُسْتَغْمَزُ بالشَّدِيدَةِ»[٢٤].
والحاصل: إنّه لا يجوز الغدر من أحد بالنسبة إلى الآخر حتى مع الكفّار إلاّ في موضع خاص استثني ذلك خرج بالنص وذلك في الجهاد مع الكفار، فلا بأس بالغدر والحيلة لأجل الغلبة على العدو والخصم، بل ويجوز المحاربة بكلّ فعل يؤدي إلى ضعفهم والظفر بهم كهدم الحصون وقطع الأشجار حيث يتوقف، وقد وقع من النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أمثال ذلك في بعض الغزوات منها في الطائف وقد قطع أشجار الطائف وخرب ديار بني النضير وأحرق عليهم، وكذا يجوز إرسال الماء عليهم ومنعه عنهم والقاء السم إذا توقف الفتح للمسلمين على ذلك، وكذلك يجوز التبييت ـ يعني النزول عليهم غيلة في الليل ـ كما فعل أميرالمؤمنين(عليه السلام) في ذات السلاسل[٢٥].
٦٩ - عليّ(عليه السلام) يقف على قبر الزهراء(عليها السلام)
صلّى أميرالمؤمنين(عليه السلام) صلاة الظهر وأقبل يريد المنزل إذا استقبلته الجواري (فضّة وأسماء بنت عميس) باكيات حزينات، فقال(عليه السلام) لهنَّ: ما الخبر ومالي أراكن متغيرات الوجوه والصور؟
فقالوا: يا أميرالمؤمنين أدرك ابنة ابن عمك الزهراء، وما نظنك تدركها.
فأقبل أميرالمؤمنين(عليه السلام) مسرعاً حتى دخل عليها، وإذا بها ملقاة على فراشها، وهي تقبض يميناً وتمد شمالا... فأقبل حتى أخذ رأسها وتركه في حجره، وناداها: يا زهراء، فلم تكلمه، فناداها: يا بنت محمّد المصطفى، فلم تكلمه، فناداها: يا بنت من حمل الزكاة في طرف ردائه وبذلها على الفقراء، فلم تكلمه، فناداها: يا بنت من صلّى بالملائكة في السماء مثنى مثنى، فلم تكلمه، فناداها: يا فاطمة، كلميني فأنا ابن عمك عليّ بن أبي طالب.
قال: ففتحت عينيها في وجهه ونظرت إليه وبكت وبكى وقال: ما الّذي تجدينه فأنا ابن عمك عليّ بن أبي طالب؟
فقالت: يا ابن العم إنّي أجد الموت الّذي لابدّ منه ولا محيص عنه، وأنا أعلم أ نّك بعدي لا تصبر على قلة التزويج، فإن أنت تزوجت امرأة اجعل لها يوماً وليلة واجعل لأولادي يوماً وليلة، يا أبا الحسن ولا تصح في وجوههما فيصبحان يتيمين غريبين منكسرين، فإنّهما بالأمس فقدا جدّهما واليوم يفقدان أُمّهما، فالويل لاُمّة تقتلهما وتبغضهما، ثمّ أنشأت تقول:
ابكني إن بكيت يا خير هادي | واسبل الدمع فهو يوم الفراق | |
يا قرين البتول أُوصيك بالنسل | فقد أصبحا حليف اشتياق | |
ابكنى وابك لليتامى ولا تنـ | ـس قتيل العدى بطف العراق | |
فارقوني فأصبحوا يتامى حيارى | يخلف الله فهو يوم الفراق |
فلما أكملت الزهراء(عليها السلام) وصيتها انتقلت روحها الطاهرة إلى بارئها تشكو ظلم الظالمين، فلما واراها وألحدها في لحدها هاج به الحزن، فأنشأ هذه الأبيات:
أرى علل الدنيا عليَّ كثيرة | وصاحبها حتى الممات عليل | |
لكلّ اجتماع من خليلين فرقة | وإن بقائي عندكم لقليل | |
وإن افتقادي فاطماً بعد أحمد | دليل على أن لا يدوم خليل[٢٦] |
ثمّ قال(عليه السلام): السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ عَنِّي، وَعَنِ ابْنَتِكَ النَّازِلَةِ فِي جِوَارِكَ، وَالسَّرِيعَةِ اللَّحَاقِ بِكَ!
قَلَّ يَا رَسُولَ اللهِ، عَنْ صَفِيَّتِكَ صَبْرِي، وَرَقَّ عَنْهَا تَجَلُّدِي، إِلاَّ أَنَّ لِي فِي التَّأَسِّيِ بِعَظِيمِ فُرْقَتِكَ، وَفَادِحِ مُصِيبَتِكَ، مَوْضِعَ تَعَزّ، فَلَقَدْ وَسَّدْتُكَ فِي مَلْحُودَةِ قَبْرِكَ، وَفَاضَتْ بَيْنَ نَحْرِي وَصَدْرِي نَفْسُكَ.(إنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)، فَلَقَدِ اسْتُرْجِعَتِ الْوَدِيعَةُ، وَأُخِذَتِ الرَّهِينَةُ! أَمَّا حُزْنِي فَسَرْمَدٌ، وَأَمَّا لَيْلِي فَمُسَهَّدٌ، إِلَى أَنْ يَخْتَارَ اللهُ لِي دَارَكَ الَّتِي أَنْتَ بِهَا مُقِيمٌ. وَسَتُنَبِّئُكَ ابْنَتُكَ بِتَضَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَى هَضْمِهَا، فَأَحْفِهَا السُّؤَالَ، وَاسْتَخْبِرْهَا الْحَالَ. هذَا وَلَمْ يَطُلِ الْعَهْدُ، وَلَمْ يَخْلُ مِنْكَ الذِّكْرُ.
وَالْسَّلاَمُ عَلَيْكُمَا سَلاَمَ مُوَدِّع، لاَ قَال وَلاَ سَئم، فَإنْ أَنْصَرِفْ فَلاَ عَنْ مَلاَلَة، وَإِنْ أُقِمْ فَلاَ عَنْ سُوءِ ظَنٍّ بِمَا وَعَدَ اللهُ الصَّابِرِينَ»[٢٧].