الشيخ يوسف علي السبيتي
من هو....؟
«لله بلاء [١] فلان ، فلقد قوّم الأود، وداوى العمد ، وأقام السُنّة، وخلّف الفتنة، ذهب نقي الثوب، قليل العيب، أصاب خيرها، وسبق شرها.
أدّى إلى الله طاعته، واتقاه بحقه، رحل وتركهم في طرق متشعبة ، لا يهتدي بها الضالُّ ولا يستقين المهتدي» [٢].
أثار هذا الكلام وما زال عاصفة، فمن هو فلان الذي يعنيه الأمير عليه السلام بكلامه؟ ولماذا كنّى بفلان ولم يذكره بإسمه الصريح؟ أم أن الأمير عليه السلام ذكره بإسمه الصريح، إنما النسّاخ على مر العصور تلاعبوا باللفظ وأختوه؟ أم أن الشريف الرضي أخفى الأسم الصريح وكنّى عنه بفلان؟ وهل يتناسب العنوان الذي وضعه الشريف الرضي وهومن كلام له عليه السلام يريد به بعض أصحابه مع مضمون الكلام؟ وإذا كان عليه السلام يريد بعض أصحابه فعلاً فلماذا إخفاء إسمه الصريح؟ مع أنه عليه السلام أمتدح بعض أصخابه الآخرين ولم يخف أسمائهم.
لن أجيب عن جميع الأسئلة التي تقدمت، بل سوف أجيب عن بعضها لا على الترتيب ولا على سبيل جواب مستقل لكل سؤال، بل سوف يكون إهتمامي منصباً على السؤال الأساسي: من هو؟ مع محاولة مقاربة مرام الأمير عليه السلام من هذا الكلام مهما كان المقصود، تاركاً بعض الأسئلة بلا جواب مفسحاً المجال للقارئ بأن يجيب على طريقته في هذا الأمر.
إدّعى البعض أن المراد الحقيقي والواقعي من هذا الفلان، هوالخليفة الثاني عمر بن الخطاب.
مما أثار حفيظة البعض الآخر إلى حد القول إن هذا الكلام ليس للأمير عليه السلام بل هو منسوب اليه أو مكذوب عليه، إذ كيف يعقل بنظر هذا البعض أن يمتدح الأمير عليه السلام خصمه السياسي، والذى حرمه من حقوقه التي لا تقف عند حق الخلافة التي هى حق شرعي له عليه السلام؟.
سأحاول إثبات أن هذا الكلام هولأمير المؤمنين عليه السلام كجزء من هدفي هذا الكتاب. من خلال أدلة خارجية وداخلية، أعني من نفس هذا الكلام لا يتنافى مع حق الأمير عليه السلام في الخلافة.
إبن أبي الحديد حاول إثبات أن المراد من فلان الوارد في كلام الأمير عليه السلام هو الخليفة الثاني عمر بن الخطاب بقوله:«وقد وجدت النسخة التي بخط الرضي أبي الحسن جامع نهج البلاغة وتحت فلان عمر، حدثني بذلك فخار بن معد الموسوي الأديب الشاعر [٣] .
وسألت عنه النقيب أبا جعفر يحي بن أبي زيد العلوي [٤]. فقال له: هوعمر، فقلت له: أيثني عليه أمير المؤمنين عليه السلام هذا الثناء؟ فقال: نعم» [٥].
القطب الراوندي قال: «إنه عليه السلام مدح بعض أصحابه بحسن السيرة، وأن الفتنة هي التى وقعت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الإختيار والإثرة [٦].
إبن أبي الحديد لا يرضى ما اختاره القطب الراوندي ويرده بقوله: «وهذا بعيد، لأن لفظ أمير المؤمنين عليه السلام يشعر إشعاراً واضحاً، بأنه يمدح ولياً ذا رعية وسيرة، ألا تراه كيف يقول: «فلقد قوّم الأود وداوى العمد وأقام السنة وخلّف الفتنة»؟ وكيف يقول: «رحل وتركهم في طرق متشعبة»؟ وهذا الضمير هو الهاء والميم في قوله عليه السلام: «وتركهم» هل يصح أن يعود إلا إلى الرعايا؟ وهل يسوغ أن يقال هذا الكلام لسوقة من عرض الناس؟ وكل من مات قبل وفاة النبي صلى الله عليه وآله كان سوقة لا سلطان له. فلا يصح أن يُحمل هذا الكلام على أحد من الذين قتلوا أو ماتو قبل وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
العلامة مغنية يقول: «حول هذا الموضوع قيل: المراد بفلان أبي بكر ، وقيل عمر، وهو الأشهر» [٧].
ومن الواضح أن الأمير عليه السلام: «رحل وتركهم» ولكن ماهوغير واضح متى قال هذا الكلام؟ هل قاله بعد وفاته مباشرة كما ادّعى ذلك إبن جرير الطبري» [٨].
أم بعد ذلك بزمان؟ أغلب الظن أن الأمير عليه السلام قال هذا الكلام بعد وفاة عمر بزمان، لكن هل قاله في زمان خلافته وبالتحديد بعد أوفي أثناء الأحداث الجسام التي حصلت؟ أم قاله في أثناء أحداث فتنة الخليفة عثمان بن عفان؟
ولا نعلم ما هي مناسبة هذا الكلام، هل حصل ذكر لعمر في أثناء الأحداث خصوصاً أحداث فتنة الخليفة عثمان؟ وأن الخليفة عثمان لم يسر بسيرته حتى وصلت الأمور إلى ما وصلت اليه؟ أم أنه حصل ذكر للشورى التي وضعها عمر لاختيار الخليفة، هذه الشورى التي أوصلت عثمان إلى الخلافة فحصل ما حصل، وأنه كان يجب على الخليفة عمر أن يعيّن الخليفة الذي يراه مناسباً بدلاً من هذه الطريقة التي قد توصل من لا يستحق إلى هذا المنصب.
وسواء كان الأمر هذا أوذاك، فإن الأمير عليه السلام أبدى رأيه بكل واقعية، بعيداً عن التحامل وبعيداً عن أي دافع شخصي نابع من مصلحة أوضرر.
فهو بيّن السياسية العامة التي اتبعها عمر، فهي بالمقارنة مع سياسة عثمان كانت أفضل وقريبة إلى حد ما من سياسة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العامة.
يقول العلامة مغنية حول هذا الأمر: «وأياً كان، فإن الناس كانوا سعداء مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وما سدّ فراغه أبوبكر ولا عمر، ولكن عهدهما كان أفضل من عهد عثمان. الذي فتح على أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم باب القتل والقتال إلى يوم القيامة، فلا فتنة في عهد الشيخين، ولا خلافة موروثة ولا كسروية وقيصرية ولا طاغية يتخذ مال الله دولاً ، وعباده خولاً» [٩].
وهذا ما قصده عليه السلام بقوله «خلّف الفتنة أقام السُنّة» فإنه «مات قبل حدوثها» [١٠] أي الفتنة. «وتركها خلفاً لا هو أدركها ولا هي أدركته» [١١].الفتنة التي بدأت في زمن عثمان، والتي بدأت في زمن عثمان، والتي استمرت أوتجددت في زمن الأمير عليه السلام وما بعد ذلك أيضاً .
وأما السُنّة التي أقامها فمراده عليه السلام على وجه التحديد، خصوص السياسة العامة التي اتبعها الخليفة الثاني، والتي كانت مشابهة إلى حد ما للسياسة العامة التي اتبعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يستطع الخليفة الثاني مخالفتها أوالإبتعاد عنها ، لقرب عهد الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبسياسته التي كانت قائمة على أساس العدل والمساواة.
«وأن المسلمين في أيام الخليفتين كانوا في أوج تحمّسهم لدينهم والإستبسال في سبيل عقيدتهم ..... وأن الحاكمين كانوا في ظرف دقيق لا يتسع للتغيير والتبديل في أسس السياسة ونقاطها الحساسة لوأرادوا إلى ذلك سبيلاً، لأنهم تحت مراقبة النظر الإسلامي العام الذي كان مخلصاً كل الإخلاص لمبادئه، وجاعلاً لنفسه حق الإشراف على الحكم والحاكمين، وكان أي زلل وإنحراف مشوّه للون الحكم حين ذاك، كفيلاً بأن يقلبوا الدنيا رأساً على عقب، كما قلبوه على عثمان يوم اشترى قصراً، ويوم ولّى أقاربه ويوم عدل عن السيرة النبوية المثلى» [١٢].
الشورى وآثارها السلبية
ومع كل هذا المديح الذي تقدم، يختم الأمير عليه السلام كلامه ببيان خطأ سياسي ارتكبه الخليفة الثاني، وهو ما عُرف بالشورى على صعيد تعيين الحاكم بعده، والذي أوكل فيه الأمر إلى ستة أشخاص أحدهم الأمير عليه السلام نفسه، وأن الذي يعيّنه هؤلاء الستة أو بعضهم هوالذي يكون الحاكم، بشرط أن لا يكون في هذا البعض أمير المؤمنين عليه السلام فهل أن الطرق المتشعبة التي عناها بقوله عليه السلام : «رحل وتركهم في طرق متشعبة» هي الشورى التي أشرنا إليها آنفا؟ أم أن المراد أمور أخرى تتجاوز قضية الشورى؟ وهل قوله عليه السلام في خطبته المشهورة المعروفة بإسم الشقشقية ، والذي عنى به الخليفة الثاني: «فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها، ويخشن مسُّها، ويكثر العثار فيها، والإعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة، إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحّم ، فمُنيَ الناس. لعمر الله – بخبط وشماس، وتلوّن واعتراض» [١٣].
فقد عنى الأمير عليه السلام في هذه الفترة من خطبته، الخليفة الثاني فهو«كان معروفا بالغلظة، قال طلحة لأبي بكر: «ما أنت قائل لربك غداً وقد وليّت علينا فظاً غليظاً؟.... وكان عمر يتسرع في إصدار الأحكام بإسم الله وشرعه، حتى إذا نُبّه إلى خطئه إعتذر وقد أُحصيَ عليه الكثير .... من كانت هذه طبيعته كان أشبه براكب الناقة الشموس إن كفّها بالزمام فرم أنفها وشقه، وإن أرخى زمامها صارت حياته في كف عفريت.... الناس ابتلوا بطبيعة عمر، وهي خليط من الإضطرابات وعنه عبّر الإمام بالخبط، وخليط أيضا من الصرامة واليها أشار بالشماس، ومن التبدل من حال إلى حال وهوالمراد من التلون، أما الإعتراض فالقصد منه عدم الإستقامة على حال» [١٤].
وإذا كان الأمير عليه السلام قد عنى الشورى بقوله: «رحل وتركهم في طرق متشعبة» هذه الشورى التي وصفها عليه السلام بقوله: «حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم فيا لله وللشورى، متى اعترض الريب فيَّ مع الأول منهم، حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر» [١٥].
«فكيف أمر عمر بقتل الستة كلهم أوبعضهم بعد أن شهد بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد مات وهو راضِ عنهم؟ وما هوالسبب لترجيح الثلاثة الذين فيهم إبن عوف على الذين فيهم علي عليه السلام؟ ولماذا لم يجعل الأمر بيد إبن عوف منذ البداية؟ وما الذي دعاه إلى أن يجعل الشورى إلى ستة لا إلى جميع المسلمين، كما فعل رسول الله – على زعمه – أويختار الأصلح الذي يعرفه ويعتقده كما فعل أبوبكر؟ وبالتالي إذا كانت الشورى مبدأ إسلامياً إلهياً، فقد أشير على عمر أن يختار ولده عبدالله، فلماذا خالف الشورى واستبد برأيه؟ فيا لله وللشورى» [١٦].
هذه الأسئلة التي تثيرها الشورى التي ابتدعها الخليفة الثاني ليس لها أجوبة مقنعة لدى المهتدي الذي عرف الحق هذا إذا وجد لها أجوبة، أما الضالُّ الذي لم يعرف الحق فلن تزيده هذه الشورى وأسئلتها إلا ضلالاً ولن يهتدي إلى الحق سبيلاً.
ومن غير الواضح حقيقة هذه الشورى، فهل شورى جميع المسلمين؟ أم هي شورى أهل الحل والعقد؟ ومن هم أهل الحل والعقد هؤلاء؟ من يختارهم وكم هوعددهم؟ هل هم ستة أشخاص كما فعل عمر؟ ولماذا ستة فقط لا أكثر ولا أقل؟.
هذه الشورى التي فتحت الباب أمام طمع الطامعين ممن كان من أعضائها إلى الخلافة ، فصار ينظر إلى نفسه على أنه إذا كان يستحق أن يكون له الرأي والمشورى في إختيار الخليفة، فبطريق أولى أن يكون له الحق في هذه الخلافة، فصار تارة يستغل فرصة قيام الناس على الخليفة الذي كان قد أختاره – بسبب أخطاء كان قد ارتكبها – فصار يحرّض الناس ويأجج نار الفتنة، لعله يصبح هوالخليفة آخر كان قد بايعه مع الناس ونكث ونقض هذه البيعة، لأنه لم يجد نفسه أقل من ذلك الخليفة المنتخب، ولعل الأمير عليه السلام يرمي إلى هذا عندما قال: «متى اعترض الريب فيّ مع الأول منهم حق صرت أقرن إلى هذه النظائر» فمتى كان هؤلاء لهم الحق بالخلافة؟ أوكان لهم الحق في إختيار الخليفة؟.
قصدت مما تقدم خصوص طلحة والزبير، وتحريضهما على عثمان ثم إعلانهما الحرب على أمير المؤمنين عليه السلام بما عرف في ما بعد بحرب الجمل «فانه لما طعن أبولؤلؤة عمر، وعلم أنه ميت دعى علياً وعثمان وطلحة والزبير وسعداً وعبد الرحمن بن عوف وقال مات رسول الله وهو راضِ عن هؤلاء، وقد رأيت أن أجعلها شورى بينهم» [١٧].
أما طلحة فإنه «أشهدهم على نفسه أنه قد وهب حقه من الشورى لعثمان، وذلك لعلمه أن الناس لا يعدلون به علي وعثمان، وأن الخلافة لا تخلص له وهذا موجودان، فأراد تقوية أمر عثمان وإضعاف جانب علي عليه السلام» [١٨] وفي رواية الطبري: «أنه لم يحضر يوم الشورى فلما قدم قيل له بايع عثمان – إلى أن يقول –: قد رضيت لا أرغب عما قد أجمعوا عليه فبايعه» [١٩]، ولا ندري لماذا لم يبق على ما أجمع عليه القوم في خلافة الأمير عليه السلام ونكث هذه البيعة؟ إلا أنه عندما قامت الثورة على عثمان كان من أشد المحرضين عليه. وعندما بويع الأمير عليه السلام بالخلافة بايع ثم نكث البيعة وخرج مدّعياً المطالبة بدم عثمان، إتهاماً منه للأمير عليه السلام بدم عثمان.؟!
أما الزبير فمع أنه أخذ جانب الأمير عليه السلام في قضية الشورى «فقال الزبير في معارضته: «وأنا أشهدكم على نفسي أني قد وهبت حقي من الشورى لعلي عليه السلام. وإنما فعل ذلك لأنه لما رأى علياً قد ضعف وانخذل بهبة طلحة حقه لعثمان دخلته حمية النسب لأنه إبن عمة أمير المؤمنين عليه السلام» [٢٠] إلا أنه خرج مع طلحة مطالباً بدم عثمان، إتهاما منه للأمير بدمه بعد أن كان قد بايع مع الناس أيضا.
وقد شرحنا حالهما تفصيلاً في كتابنا المعارضة في الإسلام تحت عنوان الطلب بدم عثمان.
فإنه لولا هذه الشورى، هل كانا يجرؤان على هذا؟ وهل أن عمر في شوراه هذه قد فتح الباب لهما لكل ما تقدم؟ وهل كان يعلم مسبقاً بما سوف يقدمان عليه؟ وإن كان الأمر كذلك فكيف يقول الأمير عليه السلام : «خلّف الفتنة أوسبق شرها» فكيف يكون عمر قد مات قبل وقوع الفتنة ولم يلحقه شرها، وهو الذي فتح بابها من خلال هذه الشورى؟.
لا لم يكن الأمر على هذا النحو، فمن أين للخليفة الثاني أن يعلم بما سوف يحصل من أحداث في مستقبل الأيام؟ فهذا من علم الغيب الذي لا يمكنه الإطلاع عليه، ولا يمكن لأحد أن يدّعي ذلك له، نعم جاء في شرح نهج البلاغة قوله لعثمان: «هيها إليك كأني قد قلّدتك قريش هذا الأمر لحبها إياك فحملت بني أمية وبني أبي معيط على رقاب الناس وآثرتهم بالفيء، فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب فذبحوك على فراشك ذبحاً...» [٢١] .
للتدليل على فراسة الخليفة الثاني إلا أن هذا لم يثبت إذ لم يذكر هذا الكلام الطبري في تاريخه عندما نقل قضية الشورى، مع أنه ذكر أن عمر جمع أعضاء الشورى ليبلغهم قراره الذي اتخذه بشأن الشورى [٢٢].
وقد يكون القسم الأول من هذا الكلام صحيحاً، لكن هل السبب في حمل عثمان بني أمية وبني أبي معيط على رقاب الناس كنتيجة لحب قريش له؟ أم أن هناك سبب آخر لم يصرح به عمر؟ أم أنه أخفيّ لسبب ما؟ وهو ضعف إرادة عثمان التي تسمح بحصول هذا الأمر، مع أنه قد صرح بذلك لإبن عوف عندما قال له في نفس المجلس: «لو وزن نصف إيمان المسلمين بإيمانك به، ولكن ليس يصلح هذا الأمر لمن فيه ضعف كضعفك» [٢٣] من غير الواضح لماذا يذكر هنا السبب ولا يذكر النتيجة لا تصريحاً ولا تلميحاً، وهناك يذكر النتبيجة يخفي السبب أو يوهم سبباً ليس هو السبب الحقيقي أوعلى الأقل ليس هو السبب الوحيد»؟.
أما القسم الثاني من الكلام، على فرض صحته فهل اتخذ قراره بالشورى لكي يزيل عن كاهله أية مسؤولية مما قد يحدث في مستقبل الأيام؟ فلا يتحمل وزر تلك الأحداث، لأنه لم يعيّن واحداً بعينه لهذا الأمر.
والملفت في الأمر مع إعترافه بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يعيّن أحداَ للخلافة وأن أبا بكر قد عيّن «إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني – يعني أبا بكر – وإن أترك فقد ترك من هوخير مني – يعني رسول الله» [٢٤]
وقد خالف الإثنين معاً ، فلم يستن بسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بزعمه وبترك الأمر للمسلمين، ولم يتبع ما فعله الخليفة الأول فيعيّن من يراه مناسباً لهذا الأمر، مع أنه قد اعترف بأن أمير المؤمنين عليه السلام هو الأصلح لهذا الأمر بقوله : «أما والله لئن وليتهم لتحملنهم على الحق الواضح والمحجة البيضاء» [٢٥].
«فيا لله وللشورى»، ويا لله لهذا الخطأ السياسي الفادح الذي كان عن قصد أوعن غير قصد سبباً لما حصل بعد ذلك، فهذه هي الطرق المتشعبة التي ترك فيها المسلمين بعد رحيله، ولا ينافي هذا قوله عليه السلام «خلّف الفتنة» التي يريد الإشارة إلى أنه لم يكن من رجالها الفعليين ، وكونه السبب بما حصل بسبب الشورى التي قررها غير معني بهذا الكلام بل هومسكوت عنه. والله العالم بحقائق الأمور.
وفي الختام، لا بد من الإشارة إلى أن هذا المديح الذي صدر من الأمير عليه السلام بحق الخليفة الثاني لم يكن المديح الأول، بل سبقه مديح من نوع آخر وهوعندما استشاره الخليفة الثاني للخروج مع الجيش لحرب الروم فكان مما قاله عليه السلام: «إنك متى تسير إلى هذا العدوبنفسك، فتلقاهم فتنكب، لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم، ليس بعد مرجع يرجعون إليه» [٢٦].
وكان قد استشاره ثانية للخروج إلى حرب الفرس فقال عليه السلام له: «والعرب اليوم، وإن كانوا قليلاً، فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالإجتماع، فكن قطباً، واستدر الرحا بالعرب .... إن الأعاجم أن ينظروا إليك غذا يقولوا: هذا أصل العرب فإذا اقتطعتموه استرحتم» [٢٧].
وكان رأي الأمير عليه السلام أن لا يخرج الخليفة بنفسه إلى حرب الروم أوالفرس، بل أن يوكل أمر قيادة الجيش الإسلامي إلى رجل ذي رأي وإرادة وكفاءة «فابعث إليهم رجلاً مِحرَباً» وكان الخليفة قد أخذ برأي الأمير عليه السلام فلم يخرج إلى حرب الفرس بعد إن كان قد قرر المسير بنفسه [٢٨]، أما لماذا كان رأي الأمير عليه السلام كذلك؟ فلما قاله ونقلناه قبل قليل، وقال إبن أبي الحديد: «فأشار عليه علي بن أبي طالب في رواية أبي الحسن علي بن محمد المدائني أن لا يخرج بنفسه، وقال إنك إن تخرج لا يكن للعجم همة إلا استئصالك، لعلمهم أنك قطب رحا العرب فلا يكون للإسلام بعدها دولة» [٢٩] وهو لا يختلف كثيرا عما هو مذكور في نهج البلاغة فالقضية هي قضية الإسلام، وليست قضية شخص الخليفة، فلم يعد الخليفة يمثل نفسه فهو بنظر الأعداء – وهم الفرس – يمثل دولة الاسلام وهو رأس هذه الدولة، فإذا استأصلوا هذا الرأس لم يعد للجسد أية قيمة:
كان المسلمون يعانون من حالة قلق إضطراب من حربهم مع الفرس يتبين ذلك من مجموعة من القرائن.
أولاً: أن «أول ما عمل به عمر حين بلغه أن فارس قد ملّكوا يزدجرد أن كتب إلى عمال العرب على الكور والقبائل، لا تدعوا أحداً له سلاح أو فرس أو نجدة أو رأي إلا انتخبتموه ثم وجهتموه إلى العجل العجل».
ثانياً: خرج عمر حتى نزل على ماء يدعى صراراً فعسكر به ولا يدري الناس ما يريد أيسير أم يقيم؟ .... فنادى الصلاة جامعة فاجتمع الناس إليه فأخبرهم الخبر ثم نظر ما يقول الناس، فقال العامة: سر وسر بنا معك.
فدخل معهم في رأيهم وكره أن يدعهم حتى يخرجهم منه في رفق، فقال: استعدوا وأعدوا فإني سائر، إلا أن يجيء رأي هوأمثل من ذلك. ثم بعث إلى أهل الرأي، فاجتمع إليه وجوه أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ... وأرسل إلى علي عليه السلام.
ثالثاً: تكررت كتب الخليفة الثاني إلى أمراء الجند يحثهم على الثبات والصبر، وتكررت كتب أمراء الجند يقفون على رأيه في الأمر مع علمهم بقلة عددهم، فجميع من شهد القادسية بضعة وثلاثون الفاً.
من هنا، وعندما ولّى الخليفة الثاني سعداً وأراد أن يسرّحه دعاه فقال : «إني قد وليّتك حرب العراق فاحفظ وصيتي، فإنك تقدم على أمر شديد كريه لا يخلص منه إلا الحق فعوّد نفسك ومن معك الخير واستفتح به».
وكان الخليفة الثاني قد كتب إلى سعد وهو بشراف : «أما بعد فسر من شراف نحو فارس بمن معك من المسلمين وتوكل على الله واستعن به أمرك كله، واعلم فيما لديك أنك تقدم على أمة عددهم كثير وعدتهم فاضلة وبأسهم شديد وعلى بلد منيع» [٣٠].
ولم يكن الأمر مع الروم أحسن حالاً، فهذا عمروبن العاص أمير الجند في فلسطين يكتب إلى الخليفة الثاني يستمد، ويقول إني أعالج حرباً كؤداً صدوماً [٣١].
وفي كلا الحالين كان النصر للمسلمين ، ففي القادسية ينقل الطبري فيقول: «وثاب الناس ينظرون إليهم فلم أر عشرة قط يعدلون في الهيئة بألف غيرهم، وخيلهم تخبط، ويوعد بعضهم بعضاً وجعل أهل فارس يسؤهم ما يرون» [٣٢] وفي فلسطين كان النصر للمسلمين أيضاً من خلال الصلح الذى عرضه الروم على المسلمين وكان ذلك بحضور عمر نفسه.
وفي الحالين لم يكن إحتمال النصر غائباً عن ذهن الأمير عليه السلام، وهو إنما أراد من نصيحته تلك مجرد إجراء إحترازي ووقائي، تقتضيه طبيعة المعركة والذي يعني أن يكون الإنسان على أتم الإستعداد لكل الإحتمالات حتى لا يفاجئ بما لا تحمد عقباه ولا يدرى ما العمل؟ أما إذا كان مستعداً فلن تربكه المفاجآت، فلذلك نجده عليه السلام يقول ذيل نصيحته للخليفة في الخروج لحرب الروم: «فإن أظهر الله فذاك ما تحب ، وإن تكن الأخرى كنت ردءاً للناس ومثابة للمسلمين» فقد «أشار عليه السلام أن لا يشخص بنفسه حذراً أن يصاب فيذهب المسلمون كلهم لذهاب الرأس، بل يبعث أميراً من جانبه على الناس ويقيم هوبالمدينة، فإن هزموا كان مرجعهم اليه [٣٣].
الخلافة «الحق الشرعي»
أفضلية ... أم نص؟
«أما والله لقد تقمّصها فلان، وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحّا ينحدر عني السبل ولا يرقى إليَّ الطير ... وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذّاء، أوأصبر على طَخْيَة عمياء... فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجاً، أرى تراثي نهباً...» [٣٤].
«مالي ولقريش! والله لقد قاتلتهم كافرين، ولأقاتلنّهم مفتونين، وإني لصاحبهم بالأمس. كما أنا صاحبهم اليوم! والله ما تنقم منا قريش إلا أنّ الله اختارنا عليهم، فأدخلناهم في حيّزنا» [٣٥].
«لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري...» [٣٦].
«اللهم إني استعديك على قريش ومن أعانهم! فإنهم قطعوا رحمي، وصغّروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمراً هولي. ثم قالوا ألا إنّ في الحق أن تأخذه، وفي الحق أن تتركه» [٣٧].
من الطبيعي أن يكون للخلافة نصيبها من نهج البلاغة، ومن الطبيعي أن يكون لها نصيب من مواقف وكلمات الأمير عليه السلام يبيّن حقيقتها وعلاقته بها، ودوره فيها.
ففي كلامه عليه السلام الأول المأّخوذ من الخطبة المعروفة المسماة الشقشقية واضح منه وصريح حقيقة علاقته بهذه الخلافة، علاقة القطب الذي لا تنفع الرحا إلا به، فكذلك الخلافة لا تنفع إلا مع أمير المؤمنين عليه السلام. وهذا الكلام يدل بظاهره على أن هناك نص من رسول الله صلى الله عليه وآله على خلافة وإمامة أمير المؤمنين عليه السلام وأن الآخرين غصبوا هذا الكلام على غير ظاهره، لما أحسن الظن بالصحابة، وأن ما وقع منهم كان على وجه الصواب، وأنهم نظروا إلى مصلحة الإسلام وخافوا الفتنة، وأن كلام الإمام عليه السلام هنا هو للتألم على ترك الأولى، ونظّرا لهذا التأويل، بتأويل معصية آدم بأنها لترك الأولى [٣٨].
أقول: إن سيرة العقلاء قائمة على أن العاقل الذي صدر منه كلام حول قضية ما، فإنه يؤخذ بالمعنى الظاهري لهذا الكلام، وعلى هذا المعنى الظاهري تترتب الآثار وبهذا المعنى الظاهري يطالب إذا أنكر ما قاله، ولا يأوّلون هذا المعنى الظاهري إلا بقرينة عقلية صارفة عنه، أوقرينة لفظية منفصلة أومتصلة، أو إذا كان هذا المعنى الظاهري يخالف ما تسالم عليه العقلاء فيأوّل بطريقة توافق.
وما دام أن كلام الأمير عليه السلام هنا يدل بظاهره على أنه عليه السلام منصوص عليه بالخلافة، وأن الأول أخذ ما ليس له، فليس هناك ما يصرف عن هذا الظاهر، بل على العكس هناك ما يؤكد هذا الظاهر الذي لا يحتاج إلى التأويل، وهو قوله عليه السلام: «والله ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم، فأدخلناهم في حيزنا» وقوله أيضا: «لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري» وقوله أيضا: «وأجمعوا على منازعتي أمراً هولي»، وكونه عليه السلام أحق بالخلافة من غيره، وأن الخلافة له وحده، وأن الآخرين ينازعونه هذا الأمر، وأن السبب الحقيقي الذي من أجله نقمت قريش عليه هوإختيار الله تعالى بالنبوة والإمامة، كل هذا يدل ظاهراً وباطناً وصراحة، على أن هناك نص من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وليس لمجرد أنه يمتلك فضائل وميزات جعلته الأفضل باعتراف إبن أبي الحديد [٣٩] وجعلت له الأحقية بالخلافة، فإن هذا لم ينكره أحد وليس هذا محل النزاع، إذ أن محل النزاع مع تسالم الكل على أنه عليه السلام هو الأفضل، أن هناك نص صريح عليه أم لا؟ مع إعترافهم أيضاً أن الخلافة لم يأخذها من أخذها وهومتصف بصفات الأفضلية، فلا يدّعى الخصم أنه الأفضل حتى يحاججه الأمير عليه السلام بأنه عليه السلام هو الأفضل لا سواه.
فلذلك استحق أن يكون الخليفة وأنه الأحق بالأمر، بل لأن هناك نص استحق بسببه هذا المنصب وهذا الموقع.
والاختيار الذي يعنيه عليه السلام بقوله: « والله من ماتنقم منا قريش إلا أنّ الله اختارنا عليهم» ليس هوإختيار النبوة فقط، وإلا فلا معنى لإدخال نفسه في هذا الإختيار، وليس مراده عليه السلام أيضا الإختيار الذي تم له بعد مقتل الخليفة عثمان، لأن هذا الإختيار تم من الناس مباشرة وليس إختياراً مباشراً من الله تعالى، وظاهر كلامه السابق هوالإشارة إلى الإختيار المباشر من الله تعالى.
إذن هناك أمر آخر يريد الأمير عليه السلام الإشارة اليه والتأكيد عليه في هذا الكلام وفي غيره، هذا الأمر الذي حاولت قريش منذ وفاة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إخفائه والتعمية عليه بكل الوسائل والطرق، هوالسبب الحقيقي لهذه النقمة التي ظهرت بشكل واضح وظاهر، بعد أختياره عليه السلام خليفة بعد وفاة الخليفة عثمان، من خلال إظهار الخلاف عليه وشن الحرب على خلافته، التي حاولت جاهدة إبعادها عنه وإبعاده عنها، ضاربة عرض الحائط نظرية أن الإمامة والخلافة شأن بشري، فمن توافق عليه الناس يكون هو الإمام والخليفة، وضاربة عرض الحائط نظرية أن الإمامة والخلافة شورى بين المسلمين والمؤمنين فمن يختارونه يكون هوالخليفة والإمام.
والعجيب من إبن أبي الحديد فإنه عندما يصل إلى قوله عليه السلام: «والله ماتنقم منا قريش إلا أنّ الله اختارنا عليهم» يعرض عنه كشحاً ويطوي عنه صفحاً، ولا يتعرض لتفسيره ولا للقول حوله وفيه [٤٠] ، مع صراحته في كونه عليه السلام إمام وخليفة باختيار الله تعالى، فلذلك كان أولى من غيره وأحق بالخلافة، مما لا يقبل التأويل أوالصرف عن الظاهر، وبماذا يمكنه أن يأوّل هذا الإختيار؟ ولعله لذلك أعرض عن الكلام حوله، وتمسك بغيره من أقوال الأميرعليه السلام حاملاً لها على غير ظاهرها، مأوّلاً لها بما يتناسب مع طريقته ومذهبه، مع أنه لوكان منصفاً، لوجد أن هذا الكلام مبيّنا ومفسراً لغيره من الكلام.
أما القرينة التي ادّعى إبن أبي الحديد كونها صارفة الكلام عن ظاهرة، والتي هي حسن الظن باصحابة، وأنهم لم يفعلوا إلا الأصلح والأصوب خوف الفتنة، فهي بواقعها ليست بقرينة، إذ أن ما يدّعيه بأنه السبب الذي دفع الصحابة العدول عن الأفضل إلى الفاضل ، لم يدّعه الصحابة أنفسهم، فلم يكن هناك خوف فتنة بل دعواهم كانت باعتراف إبن أبي الحديد نفسه، حيث قال له أبوعبيدة بن الجراح: «يا أبا الحسن إنك حديث السن وهؤلاء مشيخة قريش قومك ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور، ولا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا الأمر منك وأشد احتمالاً له واضطلاعا به...» [٤١] فلم يجر على لسانه خوف الفتنة والحفاظ على الإسلام، والأمر لا يحتاج إلى حسن الظن حتى نقول أن الصحابة لم يخطئوا.
إذن لماذا رفض الأمير عليه السلام هذا الكلام من إبي عبيدة ورفض المبايعة؟ وقال له جواباً على هذا الكلام وعلى موقف الصحابة عموماً: «يا معشر المهاجرين لنحن أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم» [٤٢] بماذا كانوا عليهم السلام أحق من غيرهم بهذا الأمر؟ هل بمجرد القرابة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ أم أن الأمير عليه السلام عندما كان يتحدث عن القرابة كسبب لهذا الحق، كان يجاري القوم في محاججتهم؟ حيث أن المهاجرين كانوا يعتبرون أنفسهم عشيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فهذا عمر يقول: «من ذا يخاصمنا في سلطان محمد وميراثه نحن أوليائه وعشيرته» [٤٣]، ولهذا القول قال الأمير عليه السلام عندما قالوا له إن قريش إحتجت بأنها شجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «إحتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة» [٤٤].
ولم يحدثنا إبن أبي الحديد عن تلك الفتنة التي كان يخافها الصاحبة والتي لم يذكروها ولم يشيروا إليها، عندما أعرضوا عن جعل الأفضل خليفة والتي وصفها بقوله: «وخافوا فتنة لا تقتصر على ذهاب الخلافة فقط ، بل وتفضي إلى ذهاب النبوة والملة» [٤٥] عن أية فتنة يتحدث وأنها تؤدي إلى ذهاب النبوة؟ وكيف يكون تنصيب الأفضل خليفة يؤدي إلى فتنة تؤدي إلى ذهاب النبوة؟ ومن الذي سيتحمل وزر هذه الفتنة؟ لماذا لم يفصح إبن أبي الحديد عن كل ذلك؟ وهل أن ما حصل في حربي الجمل والصفين هومثال لهذه الفتنة؟ عندما جُيشت الجيوش رفضاً لخلافة أمير المؤمنين عليه السلام، مع أنه اُنتُخب وبويع من قبل الناس وأهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار، بما يتناسب مع نظريتهم في الخلافة وكيفية تنصيب الخليفة.
إذا كانت هذه هي الفتنة التي يتحدث عنها إبن أبي الحديد فسوف يكون المسبّب لها هم الصحابة أنفسهم أوبعضهم على أقل تقدير، وأنهم كانوا على إستعداد للحرب إذا أعلن أمير المؤمنين عليه السلام خليفة، مما سيسبب ذهاب ليس الخلافة فقط بل والنبوة أيضا كما ادّعى إبن أبي الحديد، وعلى هذا ينعكس الخوف ويصبح الذي كان يخاف الفتنة واقعاً، ويخاف أن تذهب النبوة التي تعني ذهاب الإسلام هو أمير المؤمنين عليه السلام نفسه، وليس أي إنسان آخر لذلك قال: «والله لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلا عليَّ خاصة» [٤٦].
وأما ما ذكره إبن أبي الحديد من أن الأمير عليه السلام عندما ذكر كلامه المتقدم في الخطبة الشقشقية، من تظلّمه مما فعل الصحابة، بأنهم إنما تركوا الأولى ونظّر له بتأويل نسبة المعصية إلى آدم عليه السلام من أنه ترك الأولى، قال إبن أبي الحديد: «وقولهم معنى عصى أنه عدل عن الأولى، لأن الأمر بترك أكل الشجرة كان أمراً على سبيل الندب... ومعلوم أن تأويل كلام أمير المؤمنين عليه السلام وحمله على أنه شكى من تركهم الأولى أحسن» [٤٧].
أقول: فرقُ بين التركين والتأويلين. لأن آدم عليه السلام بعد أن علمنا أنه نبي معصوم، وهذا يعني أنه لا يعصي بمعنى ترك الواجب، فهوعندما نُهيَ عن الإقتراب من الشجرة، ومع ذلك أكل إحتجنا إلى التأويل حتى لا ننسب له عليه السلام ما يخالف العصمة، أما الصحابة فأمرهم مختلف تماماً فهم ليسوا معصومين، حتى نضطر إلى تأويل فعلهم أوتركهم ، وإنما هم بشر يخطئون ويصيبون، فلسنا نحتاج إلى تأويل فعلهم أوتركهم ، وإنما نحمله على ظاهره خصوصاً أن خصمهم صحابي مثلهم فلا يعقل أن يكون كلا الطرفين على صواب، وإلا ما هو تأويل حربهم على أمير المؤمنين عليه السلام في الجمل وصفين؟ وهل يحتمل مثل هذا الفعل التأويل؟
والحاصل مما تقدم، هل يمكن القول: أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يحتجّ عليهم بوجود النص على خلافته وإمامته؟ نعم لم يذكر ذلك صراحة بأن النص هوكذا وكذا. لكن ألا تكفي هذه الإشارات لا حتمال وجود نص؟ ثم ما فائدة ذكر النص مع إصرار الخصم على دعواه؟ ألن يؤدي إلى تكذيبه؟ لذلك اكتفى بالإحتجاج معهم على طريقتهم بالإقتصار على ذكر القرابة، ولا ندري ما هي الظروف التاريخية التي كانت محيطة بالإمام عليه السلام حتى دفعته لعدم ذكر النص صراحة، ثم ألم يعترف عمر بحق الأمير عليه السلام في الخلافة عندما جعله أحد الستة في الشورى، وإلى هذا يشير الأمير عليه السلام عندما قال له إبن عباس: «ذهب الأمر منا، الرجل يريد أن يكون الأمر في عثمان» فقال عليه السلام: وأنا أعلم ذلك، ولكني أدخل معهم في الشورى لأن عمر قد أهّلني الآن للخلافة، وكان قبل يقول أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن النبوة والإمامة لا يجتمعان في بيت، فأنا أدخل في ذلك لأظهر للناس مناقضة فعله لروايته» [٤٨] وإن قال إبن أبي الحديد عن هذا الكلام بأنه غير معروف [٤٩] إلا أن فعل عمر في الشورى وجعله الأمير عليه السلام أحد الستة في الشورى يحمل هذه الدلالة، إذ كيف لا يكون الأمير عليه السلام أهلاً للخلافة سابقاً بوجود مشيخة المهاجرين والأنصار؟ ثم يصبح الآن أهلاً لها بوجودهم أيضاً، وإن كان الذي قال ذلك سابقاً للأمير عليه السلام هو أبوعبيدة، كما أسلفنا، إلا أن ذلك كان بمحضر من عمر وشيوخ المهاجرين والأنصار، فلم ينكر عمر قول أبي عبيدة ولم ينكرواهم ذلك أيضاً، وعندما جعل عمر الأمير عليه السلام أحد الشورى، كان كذلك بمحضر وعلم شيوخ المهاجرين والأنصار ورضوا بما كانوا قد رفضوه سابقاً.
بقي أن نذكر أن خطبة الشقشقية التي أخذنا منها مقدمتها وأوردناها في أول هذا البحث، هذه الخطبة التي يصف فيها الأمير عليه السلام حال الخللفاء الثلاثة والطريقة التي تم فيها إختيارهم للخلافة، وما هي حالهم في هذه الخلافة، هذه الخطبة يقول فيها إبن أبي الحديد: «حدثني شيخي أبوالخير مصدق بن شبيب الواسطي [٥٠] في سنة ثلاث وستمائة، قال: قرأت على الشيخ أبي محمد عبد الله بن أحمد المعروف بإبن الخشاب [٥١] .
هذه الخطبة.... قال: فقلت له: أتقول إنها منحولة؟ فقال: لا والله وإني لأعلم أنها كلامه كما أعلم أنك مصدق، قال: فقلت له: إن كثيراً من الناس يقولون: إنها من كلام الرضي رحمه الله تعالى، فقال: أنّى للرضي ولغير الرضي هذا النَفَس وهذا الأسلوب، وقد وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور، وما يقع مع هذا الكلام في خل ولا خمر، ثم قال: والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صُنفت قبل أن يُخلق الرضي بمأتي سنة، ولقد وجدتها مسورة بخطوط أعرفها وأعرف خطوط من هومن العلماء وأهل الأدب، قبل أن يُخلق النقيب أبوأحمد والد الرضي [٥٢] .
ثم يقول إبن أبي الحديد حول هذه الخطبة وتعليقاً على الكلام السابق: «وقد وجدت أنا كثيراً من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي [٥٣] إمام البغداديين من المعتزلة، وكان في دولة المقتدر قبل أن يُخلق الرضي بمدة طويلة، ووجدت أيضا كثيراً منها في كتاب أبي جعفر إبن قبة [٥٤] أحد المتكلمين الإمامية وهوالكتاب المشهور المعروف بكتاب الإنصاف، وكان أبوجعفر هذا من تلامذة أبي القاسم البلخي رحمه الله تعالى، وقد مات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضي رحمه الله تعالى موجوداً» [٥٥].
وبعد كل الذي تقدم، هل هناك كلام آخر للأمير عليه السلام يشير فيه ولو تلمحياً – لا تصريحاً – إلى أحقيته بالخلافة من خلال وجود نص؟ وهل هناك كلام للأمير عليه السلام يستفاد منه عدم وجود النص أصلاً كما ادّعى ذلك إبن أبي الحديد؟
في الجواب عن السؤال الأول نقول: قال أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة له ما نصه: «حتى إذا قبض الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم رجع قوم على الأعقاب، وغالتهم السبل، واتكلوا على الولائج، ووصلوا غير الرحم، وهجروا السبب الذي أٌمروا بمودّته، ونقلوا البناء عن رصّ أساسه فبنوه في غير موضعه».
قال إبن أبي الحديد تفسيراً لهذا الكلام: رجعوا على الأعقاب، تركوا ما كانوا عليه، قال سبحانه (وَمَن يَنقَلِب عَلَى عَقِبَيهِ فَلَن يَضُرَّ اُللهَ شَيْئَا) [٥٦] وغالتهم السبل، أهلكهم إختلاف الآراء والأهواء غاله كذا أي أهلكه، والسبل الطرق، والولائج جمع وليجة وهي البطانة يتخذها الإنسان لنفسه، قال سبحانه (وَلَم يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللَهَ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا اُلْمُؤمِنِينَ وَلِيجَةَ) [٥٧] ووصلوا غير الرحم أي غير رحم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فذكرها عليه السلام ذكراً مطلقاً غير مضافِ للعلم بها، كما يقول القائل: أهل البيت.
فيعلم السامع أنه أراد أهل بيت ارسول صلى الله عليه وآله وسلم وهجروا السبب يعني أهل البيت أيضا، وهذا إشارة إلى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «خلّقت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، حبلان ممدودان من السماء إلى الأرض لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض»، فعّبر أمير المؤمنين عليه السلام عن أهل البيت بلفظ السبب، لما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «حبلان» والسبب في اللغة الحبل. ومعنى: «قوله أمروا بمودته» قول الله تعالى (قُل لَّا أَسْئلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرا إِلَا اُلْمَوَدَّةَ فِى اُلْقُربَى) [٥٨].
قوله: «ونقلوا البناء عن رصّ مصدر رصصت الشيء أرصه أي ألصقت بعضه ببعض، ومنه قوله تعالى: (كَأَنَّهُم بُليَنُ مَّررصُوصُ) [٥٩] وتراصّ القوم في الصف أي تلاصقوا، فبنوه في غير موضعه ونقلوا الأمر عن أهله إلى غير أهله» [٦٠].
أما مَنْ هؤلاء القوم الذين عناهم أمير المؤمنين عليه السلام بقوله ووصفهم بما وصفهم به، وأشار إلى فعلهم الخطير هذا؟ لماذا اكتفى بالتلميح ولم يفصح عن مراده الحقيقي؟ مما جعل الأمر يحتمل أكثر من معنى، مما قد يوحي أن مراده قومًا دون قوم آخرين، وهذا ما حدا بإبن أبي الحديد مع كل الذي ذكره سابقاً أن يطبّق هذه الأوصاف وتلك الأفعال، من القوم الذين انقلبوا على أعقابهم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أن يطبقها على خصوص أعداء أمير المؤمنين عليه السلام من أهل صفين فقال: «فإن قلت: أليس هذا الفصل صريحاً في تحقيق مذهب الإمامية؟ قل: لا، بل نحمله على أنه عنى عليه السلام أعدائه الذين حاربوه من قريش وغيرهم، من أفناء العرب في أيام صفين، وهم الذين نقلوا البناء وهجروا السبب، ووصلوا غير الرحم واتكلوا على الولائج، وغالتهم السبل ورجعوا على الأعقاب، كعمروبن العاص والمغيرة بن شعبة، ومروان بن الحكم، والوليد بن عقبة، وحبيب بن مسلمة، وبسر بن أرطأة، وعبدالله بن الزبير، وسعيد بن العاص..... فإن هؤلاء نقلوا الإمامة عنه عليه السلام إلى معاوية، فنقلوا البناء عن رصّ أصله إلى غير موضعه» [٦١].
مرة ثانية يحمل إبن أبي الحديد الكلام على غير ظاهره، ويأوّله بما لا ينفي غيره وظاهر قوله عليه السلام: «حتى إذا قبض الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم رجع القوم على الأعقاب» أن هذا الرجوع وهذا الإنكفاء وهذا الإنقلاب، كل هذا قد حصل بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة من دون أي فاصل زمني، ولو كان مراده عليه السلام خصوص أهل صفين، لكان الكلام يقتضي تضمينه قرينة على هذا المراد من مثل قوله بعد أن قبض الله رسوله بزمان رجع قوم على الأعقاب وغير ذلك من قرينة تدل على المدّعى.
أنا لا أريد أن أنفي أن يكون الأمير عليه السلام يعني من ذكرهم إبن أبي الحديد، إنما أريد القول أن هذا الكلام ينطبق على غيرهم أيضاً، ولا وجه للتخصيص، خصوصاً أن بعض من ذكرهم قد نقلوا فعلاً البناء عن رصّ أصله إلى غير موضعه، قبل صفين وقبل المبايعة لأمير المؤمنين عليه السلام.
ثم ألم يعترف إبن أبي الحديد سابقاً، أن الصحابة مع علمهم بأن الأمير عليه السلام هوالأفضل إلا أنهم عدلوعنه إلى فاضل آخر لمصلحة اقتضت ذلك؟ بغض النظر عن هذه المصلحة التي اقتضت ذلك، ولنظر إلى الفعل نفسه ألا ينطبق عليه قول عليه السلام: «ووصلوغير الرحم، وهجروا السبب الذى أمروا بمودته ونقلوالبناء عن رصّ أصله فبنوه في غير موضعه»، ألا تنطبق كل تلك الأوصاف على ما فعله الصحابة في السقيفه وغيرها؟ وخالفوا من أُمروا بمودّته، وهجروا السبب الذى هوباعتراف إبن أبي الحديد نفسه، أن المراد به هوأهل البيت وذكر تدعيماً لرأيه حديث الثقلين المعروف، ألم يقطعوا بفعلهم هذا رحم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ وأن الرحم المذكورة في كلام الأمير عليه السلام المراد بها رحم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما اعترف بذلك إبن أبي الحديد أيضا، فمن هو رحم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ ومن هم أهل البيت؟ هل هم أمير المؤمنين وأبنائه عليهم السلام أم غيرهم؟ وما هي هذه المودة التى من أجل تركها وهجران من أمروا بمودتهم، يقول الأمير عليه السلام: «أنهم رجعوا على الأعقاب» وأن الرجوع معناه كما فسره إبن أبي الحديد نفسه أيضا، هوتركهم ما كانوا عليه واستشهد له بقوله تعالى: (وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيهِ فَلَن يَضُرَّ اُللَه شَيْئَا) [٦٢]؟.
أكتفي بهذا المقدار حتى لا أُتهم بإثاره فتنة ونعرات طائفية، وكل ما أردته هو أن يكون النقاش علمياً محضاً بعيداً عن التعصبات المذهبية والأهواء الشخصية، وأن هذا الكلام الذى يذكره الأمير عليه السلام حول الخلافة ويطعن ببعض الصحابة بسبب فعلهم في السقيفة وغيرها، ما معناه ولماذا؟ ولماذا تحدث الأمير عليه السلام بهذه الطريقة؟ أليس هو صحابيُ من هؤلاء الصحابة؟ فلماذا كان موقفه مغايراً تمامًا لموقفهم ما هي الأسباب والدوافع؟
الامامة واجب عقلي ام شرعي؟
أما الجواب عن السؤال الثاني فنقول: ففى كلام له عليه السلام رداً على مقولة الخوارج لاحكم إلا لله قال عليه السلام ما هذا نصه: «وإنه لابد للناس من أمير بر أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويُبلّغ الله فيها الأجل، ويُجمع به القيء، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي، وحتى يستريح برويستراح من فاجر» [٦٣].
يقول إبن أبي الحديد تعليقاً على هذا الكلام: «هذا نص صريح منه عليه السلام بأن الإمامة واجبة» [٦٤] وبعد أن يورد الإختلاف الإختلاف في أن وجوبها شرعي أم عقلي، يذكر رأي البغداديين من مشايخ المعتزلة، ومن البصريين أبوعثمان الجاحظ [٦٥] وشيخه أبوالحسين [٦٦]، فيقول: « وقال البغداديون وأبوعثمان الجاحظ من البصريين، وشيخنا أبوالحسين رحمه الله تعالى أن العقل يدل على وجوب أصحابنا الرئاسة، وهو قول الإمامية إلا أن الوجه الذى منه يوجب أصحابنا الرئاسة، غير الوجه الذى توجب الإمامية منه الرئاسة، وذلك أن أصحابنا يوجبون الرئاسه على المكلفين من حيث كان في الرئاسة مصالح دنيوية ودفع مضار دنيوية، والإمامية يوجبون الرئاسة على الله تعالى من حيث كان في الرئاسة لطف منه وبُعد للمكلفين عن وقائع القبائح العقلية، والظاهر من كلام أمير المؤمنين عليه السلام يطابق ما يقوله أصحابنا ألا تراه كيف علّل قوله لا بد للناس من أمير فقال في تعليله يُجمع الفيء، ويُقاتل به العدو، ويؤمن به السبل ويأخذ للضعيف من القوي وهذه كلها من مصالح الدنيا» [٦٧].
ما يريد أن يقوله إبن أبي الحديد في هذا النص، هونصرة مذهبه من عدم وجود نص على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام من خلال القول أنه لا يجب على الله تعالى أن ينصّب إماما ورئيساً للناس وللبشر. على اعتبار أن الإمامة والئاسة شأن بشري وإنساني لما في الرئاسة من مصالح دنيوية وليست مصالح دينية وأخروية، مادام أن الرئاسة والإمامة شأن بشري فلا علاقة لله تعالى في هذا الأمر، فلذلك يمكن القول أن الله تعالى لم ينصّب إماما للناس بعد رسول الله.
وأن الرسول أيضاً لم ينصّب للناس إماماً بعده، مع الإشارة إلى أن هذا الوجوب هو وجوب عقلي لا شرعي واستدل على مقولته تلك بهذا النص المتقدم، الذي قاله أمير المؤمنين عليه السلام باعتبار ما قاله عليه السلام في هذا النص إنما هو الإشارة إلى المصالح الدنيوية فقط لا غير.
أقول: لا أرى تعارضاً ولا تناقضاً ولا تنافياً، بين ما ما يذهب إليه البغداديون من المعتزلة والإمامية، بعد إتفاقهم على أن وجوب الإمامة عقلي لا شرعي.
فإذا كان العقل يرى أنه يجب على المكلفين تصيب إمام أو رئيس عليهم، لتأمين مصالحهم الدنيوية ودفع مضارهم الدنيوية أيضاً، لماذا لا يرى العقل أيضاً وجوب ذلك على الله تعالى مساعدة للناس في تأمين هذه المصالح ودفع هذه المضار؟ وإذا كان المكلفون العقلاء قد التفتوا إلى وجود مصالح لهم لا بد من تأمينها، والى وجود مضار لا بد من دفعها، لذلك اتفقوا على أنه لا بد لهم من إمام أورئيس وظيفته تأمين هذه المصالح ودفع هذه المضار، لماذا لم يلتفت الله إلى ذلك؟ فيرشدهم إلى الكيفية المناسبة والسليمة البعيدة عن المصالح الذاتية والأهواء الشخصية، لتأمين هذه المصالح ودفع هذه المضار، وهو خالقهم وخالق عقولهم، وهومودع في عقولهم كل ما يفكرون فيه وكل ما يريدون تحقيقه.
أم أن الله تعالى يريد لمادة النزاع أن تبقى قائمة فيما بين المكلفين العقلاء، فلا يتفقون على إمام أورئيس والكل يدّعى لنفسه هذا الأمر، وأنه الأقدر لهذا الأمر وأنه الأفضل لهذا الأمر؟ هذا ممالا يقبل به عاقل، لأن الله تعالى يريد للناس والمجتمع البشري أن يكون أمره واحد، لا وجود فيه للنزاعات والصراعاتأوالمضار لأي سبب كان وتحت أي ذريعة.
وما هي الضمانة لو فرضنا أن الله تعالى لا يجب عليه أن ينصّب لنا إماما أن تحقق مصالح الناس وتدفع مضارهم من خلال تنصيب إمام من قبلهم؟ وبعبارة أخرى: ما هي الضمانة التي ترفع مادة النزاع والصراع بين الناس، لوكان هذا الأمر باختيارهم، أليس ما حصل في السقيفة وما بعدها من إختلاف الصحابة في ما بينهم حول من هو الأحق بالخلافة والرئاسة؟ وفي بعض الحالات نشبت الحروب فيما بينهم كما حصل في الجمل وصفين، أليس كل ذلك دليلاً على أن كون الإمام باختيار الناس لم تكن نظرية صائبة؟ لأنها تبقي مادة النزاع فيما بينهم.
ثم ما هو المانع العقلي من القول بأن وجوب تعيين الإمام أو الرئيس واجب عقلا على المكلفين من أجل تأمين مصالحهم الدنيوية ودفع مضارهم الدنيوية، وواجب عقلاً على الله تعالى من أجل المساعدة على هذين الأمرين؟ وكون الأمور التي ذكرها الأمير عليه السلام في تعليل وجوب وجود الأمام أوالرئيس باعتبارها مصالح دنيوية، والإستدلال من خلال ذلك على كون الوجوب العقلي هوعلى المكلفين.
أقول: هذا لا ينفي الوجوب العقلي على الله تعالى، أليس الله تعالى أيضا يريد هذه المصالح الدنيوية لبني البشر؟ وإلا كيف خلقهم في هذه الدنيا؟ مع علمه بوجود هذه المصالح. ألا يريد الله لبني البشر أن يعيشوا في هذه الدنيا برغد من العيش بعيداً عن المخاطر، يشعرون بالأمن والأمان على المستوى الإجتماعي أوالمستوى السياسي؟ كون تلك الأمور مصالح دنيوية لا يمنع تدخل الله تعالى في المساعدة على كيفية حصولها.
لا أريد القول: أن البشر لا يحق لهم بالمطلق التدخل في تنصيب الرئيس عليهم لتأمين مصالحهم الدنيوية ودفع المضار. وإلا يقال: أن الطريقة المعمول بها في العصر الحاضر من إنتخاب الشعب لرئيسه أونوابه، طريقة غير صحيحة وغير شرعية.
وهذا مما لا يمكن القبول به لا عقلاً ولا شرعاً، وهذا معناه إتباع الطريقة الأخرى التي هي التسلط والإستعباد.
فقط أريد أن أثبت بالدليل العقلي أنه إذا اعتقدت الإمامية بوجب تنصيب الإمام بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأن هذا الوجوب عقلي على الله تعالى أيضا، وليس على المكلفين فقط، أقول إن هذا الإعتقاد ليس له ما يدفعه عقلا للأسباب الآنفة الذكر، حيث أن ما يدعو للقول بالوجوب العقلي على المكلفين هو نفسه يدعو للقول بالوجوب العقلي على الله تعالى.
من هنا يجب التفريق بين منصب الإمامة – الإمام – ومنصب الخليفة، الذي يعني فقط تأمين المصالح الدنيوية، بل إن قضية الحكم والحكومة كمصلحة دنيوية هي جزء من وظيفته الأساسية، التي هي كل ما كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من وظيفة ما عدا الوحي فكما أن النبي كانت وظيفته تبليغ الشريعة والرسالة الإسلامية وتعليمها للناس والمحافظة عليها من أي تحريف أوتزييف أوإستغلال لمصالح شخصية ضيقة.
بالإضافة إلى ذلك كله، الحكم بين الناس وفض الخصومات، واعتباره الرئيس الذي اتفق المكلفون العقلاء على وجوده، سوى أن الله تعالى اختاره لهم كنبي له هذه الوظيفة، ولم يكن لهم حق الإختيار ولا حق الإعتراض.
كذلك الأمر بالنسبة للإمام الذي تعتقد الإمامية بكون تنصيبه من الله، والنص عليه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حيث أن عمر الإنسان – ولوكان نبياً – محدود، والرسالة أوالشريعة التي جاء بها لا نقول بأنها ناقصة تحتاج إلى تتميم، بل نقول إنها تحتاج إلى حفظ من التحريف والتزييف، وتحتاج إلى مرجعية فيما لواختلف أهلها فيما بينهم حول تفسير معنى نص من نصوصها، أوحول حكم من أحكامها.
وإذا كان الذين عاصروا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد تعلموا منه وأخذوا عنه وامتلأت قلوبهم إيماناً وتسليماً، فإن من أسلم في آخر أيام الرسول صلى الله عليه وآله، أو أسلم بعد وفاته يحتاج إلى من يثبت إيمانه ويعلمه أحكام دينه.
فلا يكفي أن نقول له تعلّم ممن شئت ممن كان معاصراً للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، مع إحتمال إختلافهم فيما بينهم في فهم نصوص الشريعة، خصوصاً أن هناك آيات تحتاج إلى تفسير وتأويل قد يختلفون في تفسيرها أوتأويلها، وبالأخص ان هناك آيات متضمنة لبعض الأحكام الشرعية لا على نحوالتفصيل، فقد يختلفون في المراد الحقيقي من هذه الآيات وتفصيلها.
والحاصل مما تقدم
- إن الإمامة لا بمعنى الخلافة، بل بمعناها الأوسع هي شأن إلهي لا بشري، كما كانت النبوة شأناً إلهياً لا بشرياً.
- إن وجود إمام بمعنى الخليفة أو الرئيس، إذا كان واجباً عقلاً على المكلفين لما في الرئاسة من مصالح دنيوية ودفع مضار دنيوية. فلا مانع عقلاً أن هذا الواجب العقلي يكون واجباً على الله تعالى، لنفس الأسباب ما دام أن الله تعالى سيد العقلاء وخالقهم ومودع فيهم ما يرونه صلاحاً لهم ولمعايشهم ولدنياهم.
- إن وجود مصالح دنيوية كسبب لوجود الرئيس في المجتمع البشري، مما يقتضي كون هذا الأمر شأناً بشرياً لا إلهياً، لا ينافي ذلك تدخل الله تعالى، لأن الله تعالى أيضاً يريد صلاح المجتمع البشري ويريد له تأمين مصالحه ودفع مضاره الدنيوية، لأن الله يريد للإنسان أن يعمر هذه الدنيا، ولا يتم ذلك إلا من خلال رئيس يسهر على تأمين السبل ويجمع الفيء ويأخذ للضعيف من القوي.
لا ما نع من تدخل البشر في نصب وتعيين الرئيس، كما هو حاصل في العصر الحاضر، إذ القضية هنا لها علاقة بالحكم والحكومة فقط، ولا علاقة لها بالإمامة كمنصب إلهي له حيثياته وظروفه. ولا بد من الإشارة إلى أن قضية الحكم خاضعة للظروف التاريخية، أي أنها تختلف من زمان إلى زمان آخر، فما يكون في زمان لا يعني إنسحابه على كل الأزمنة، وما يكون في زمان دون زمان آخر لا يعني خطأ ما إلا من حيث التطبيق، فما دام أن الهدف هو تحقيق العدالة الإجتماعية من خلال نظام الحكم فليس المهم شكل الحكم بل المهم هو الطريقة والكيفية. وقد حققنا ذلك في كتابنا المعارضة في الإسلام فراجع.