آية الله العظمى الشيخ هادي كاشف الغطاء
شهادة نفس الكتاب بما يزيل الشك والارتياب:
إذا تلوت كتاب النهج حق تلاوته، وكنت من أهل الذوق والأدب وصيارفة الكلام، كشف لك عن الحقيقة الراهنة، ونطق لديك بالحجة الناصعة، وصرح لك بناصع درره محكم زبره[١]:
أولاً: إنه مما لا مرية فيه ولا ريب أن ما حواه النهج من الكلام قد بلغ من البلاغة والفصاحة أقصى المراتب، وركب منها أعلى ذروة السنام، لا تتفاوت أبعاضه في جزالة الألفاظ، وجلالة المعاني، وبديع الأسلوب، وحسن السبك والانسجام والمتانة والرصانة، فهو كسبيكة من لجين[٢] أفرغها صائغها الحاذق في قالب واحد، قد استوت خوافيه وقوادمه وأوائله وأواخره، قد شَهِد له أهل الذوق والصناعة وأئمة الفن وأدباء كل عصر بكل فضيلة باهرة، ومزية فاضلة، وصفة فائقة، وأنه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين، بعد كلام سيد المرسلين ٥، فمن يا ترى يكون أهلاً لهذا الكلام وحقيقاً به، وجديراً بأن ينسب إليه غير الذي ما سنَّ الفصاحة لقريش إلاّه، والذي (ليس في أهل هذه اللغة إلاّ قائل بأن كلامه [هو] أشرف الكلام وأبلغه بعد كلام الله تعالى وكلام نبيه :، وأغزره مادة، وأرفعه أسلوباً، وأجمعه لجلائل المعاني)[٣] ، والذي هو (مُشَرِّع الفصاحة [وموردها]، ومنشأ البلاغة [ومولدها]، منه : ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينها، وعلى أمثلته[٤] حذا كل قائل خطيب، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ، [ومع ذلك] فقد سبق وقصروا، وتقدم وتأخروا؛ لأن كلامه _ الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي، وفيه عبقة من الكلام النبوي)[٥].
ذاك الذي التقط الآمدي[٦] من درر كلمه وغرر حكمه[٧] سفراً ضخماً، قال في خطبته: (جمعت يسيراً من قصير حكمه، وقليلاً من خطير كلمه، تخرس البلغاء عن مساجلته، وتبلس[٨] الحكماء عن مشاكلته، و ما أنا في ذلك -علم الله- إلا كالمغترف في البحر بكفه، والمعترف بالتقصير وإن بالغ في وصفه، وكيف لا؟! وهو الشارب من الينبوع النبوي، الحاوي بين جنبيه العلم اللاهوتي، إذ يقول، وقوله الحق، وكلامه الصدق، على ما أدته إلينا الأئمة النَّقَلة: (إن بين جنبي لعلماً جماً لو أصبت له حملة)[٩] ، إلى غير ذلك من كلام ذوي العلم، فلا يليق بعد ما قَدّمنا أن ينسب هذا الكلام أو شيء منه إلى الشريف الرضي وإن بلغ ما بلغ، (وأنّى للرضي وغيره هذا النمط وهذا الأسلوب؟ قال ابن الخشاب[١٠]: وقد وقفنا على رسائل الرضي[١١] وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور، وما يقع من هذا الكلام -يعني الخطبة الشقشقية- في خل ولا خمر[١٢][١٣].
قلت: كما أنا قد وقفنا على شيء من رسائله في الكتاب الموسوم بـ(الدرجات الرفيعة)[١٤] ، فألفيناها لا تضاهي ذلك الطراز، ولا تستقل على عدوة ذلك المجاز، ويمكنك أن تستعرض خطبة من (نهج البلاغة) وشيئاً من رسائل الشريف، وتستجلي الديباجتين، وتتذوق الأسلوبين، لترى مباينتها لكلام النهج، ومخالفتها لطريقته وأسلوبه، وتقاصرها عن شأوه، وترى شعار التوليد[١٥] عليه ظاهراً، وأثره فيها بيّناً، على أن الشريف ممن مارس كلام النهج وزاوله، وألف طريقته، وعرف أسلوبه وصياغته، وربما سبر[١٦] في أعماق خواطره فرائد كلمه، وغرر من فقره تزكو بها قريحته، ولكنه مع هذا كله لا يقتدر أن يأتي بمثل كتبه، ولا ببعض عهوده إلاّ ويكون مقاله بالنسبة إلى كلام أمير المؤمنين مهوى الأخمص[١٧] من القمة، وسرة الوادي[١٨] من رأس الذروة، لا يخفى ذلك على ذي خبرة ولا يشتبه على النيقد بأول نظرة.
ثانياً: إن مَهَرة الفن، وصاغة البلاغة، والمشاركين في العلوم والمعارف، إذا سبروا ما في النهج، وتلمسوا غوره[١٩]، عرفوا أنه لا يتيسر إلاّ لذي دهاء في السياسة، وخبرة في الأدب، وعصمة في التقوى، وبراعة في الآداب، وتعمّق في الفلسفة العامة، وإن من انحط عن ذلك المقام العلمي، ولم تتوفر فيه تلك الملكات الكاملة، ليس له من أسباب الطاقة ما يبلغه ذلك المستوى، ومن أين للشريف أو غيره بعض تلك الدرجات العلمية القدسية، وإن من أولئك الذين علموا إن لكلام أمير المؤمنين طاقة قدسية يفيض عنها ويتفجر منها الشيخ الأستاذ محمد عبدة فيما أورده في خطبة شرحه على النهج، نوردها هنا باختصار، فإنها تتضمن تصريحاً بأن كلام أمير المؤمنين بما فيه من علوم ومعارف مبدئها غريزة جبارة، وفطرة سماوية شامخة، لا يستطاع أن يحذى حذوه، أو يؤتى بمثاله:
قال: (أوفى لي حكم القدر بالاطلاع على كتاب (نهج البلاغة) مصادفة[٢٠] بلا تعمل، [أصبته على تغير حال، وتبلبل بال، وتزاحم أشغال، وعطلة من أعمال، فحسبته تسلية، وحيلة للتخلية][٢١] ، فتصفحت بعض صفحاته، وتأمّلت جملاً من عباراته، [من مواضع مختلفات، وموضوعات متفرقات][٢٢] ، فكان يخيّل إلي[٢٣] في كل مقام أن حروباً شبّت، وغارات شنّت، وأن للبلاغة دولة وللفصاحة صولة، [وإن للأوهام عرامة، وللريب دعارة][٢٤] ، وأن جحافل الخطابة وكتائب الذرابة[٢٥] في عقود النظام، وصفوف الانتظام، تنافح بالصفيح[٢٦] الأبلج[٢٧] والقويم الأملج[٢٨]، وتمتلج المهج[٢٩] برواضع الحجج، فتفل من دعارة الوساوس[٣٠]، وتصيب مقاتل الخوانس[٣١]، فما أنا إلاّ والحق منتصر والباطل منكسر، ومَرَج الشك في خمود وهرج الريب في ركود، وأن مُدَبّر تلك الدولة وباسل تلك الصولة، هو حامل لوائها الغالب، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
بل كنت كلما انتقلت من موضع إلى موضع أحس بتغير المشاهد وتحول المعاهد[٣٢]، فتارة كنت أجدني في عالم يغمره[٣٣] من المعاني أرواح عالية في حلل من العبارات الزاهية، تطوف على النفوس الزاكية، وتدنو من القلوب[٣٤] الصافية، توحي إليها رشادها وتقوم منها مرادها، وتنفر بها عن مداحض المزال[٣٥] إلى جواد الفضل والكمال، وطوراً كانت تتكشف لي الجمل عن وجوه باسرة[٣٦] وأنياب كاشرة[٣٧]، وأرواح في أشباح النمور، ومخالب النسور، قد تحفزت للوثاب، ثم انقضت للاختلاب، فخلبت القلوب عن هواها، وأخذت الخواطر دون مرماها، واغتالت فاسد الأهواء وباطل الآراء.
وأحياناً كنت أشهد عقلاً نورانياً، لا يشبه خلقاً جسدانياً، فصل عن الموكب الإلهي، واتصل بالروح الإنساني، فخلعه عن غاشيات الطبيعة، وسما به إلى الملكوت الأعلى، [ونما به إلى مشهد النور الأجلى][٣٨] ، وسكن به إلى عمار[٣٩] جانب التقديس، بعد استخلاصه من شوائب التلبيس[٤٠]، وآنات[٤١] كأني أسمع خطيب الحكمة ينادي باعلياء الكلمة، وأولياء أمر الأمة، يُعَرّفهم مواقع الصواب، ويبصرهم مواضع الارتياب، ويحذرهم مزالق الاضطراب، ويرشدهم إلى دقائق السياسة، ويهديهم طرق الكياسة، ويرتفع بهم إلى منصات الرئاسة، ويصعدهم شرف التدبير، ويشرف بهم على حسن المصير، ذلك الكتاب الجليل هو جملة ما اختاره السيد الشريف الرضي [رحمه الله] من كلام سيدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه)[٤٢].
إلى هنا يحصل المقصود من نقل كلام هذا الألمعي البصير، وله بقية حسنة يرجع إليها من أرادها.
ثالثاً: إنا نظرنا في كتاب النهج وتأملناه، فوجدناه متشعب الفنون، مختلف الأنواع، لم يدع غرضاً دينياً إلاّ أصابه، ولا مقصداً عالياً إلاّ جاء به، فأجناسه مختلفة، وأنواعه متشتتة[٤٣]، قد تضمّن الزهد والوعظ والتحذير والتذكير، والحكمة العالية، والعلوم الشريفة الإلهية، والحكم والآداب والأخلاق والسنن والوصايا والنصائح والسياسة والإمارة والحروب والفتن، وقيادة الجيوش، ونظام الأمور، وغير ذلك مما يضمّه ذلك السِفر الجليل الذي جمع ما لم يجمعه كتاب، ولم يحوه مصنَّف، وفي كل الأنواع والمقاصد قد بلغ حد الإعجاز من نوعه، حتى كأن منشأه من المتخصصين فيه والمنقطعين إليه لم يعرف غيره، ولم يمارس سواه. ثم نظرنا بعد ذلك في الخطباء وأهل النثر والشعر وكتّاب الرسائل والعهود والتقاليد، تالدهم وطريفهم[٤٤] على اختلاف طبقاتهم وأعصارهم، فلم نر في كلامهم ما يضاهي ما في النهج أو يدانيه، ولم نر فيهم من برع في سائر فنون الكلام ومقاصده، ولا من خاض في تلك الأنواع المختلفة، ولئن أجاد في نوع فلا يكاد يجيد في غيره، فإذن لا يصلح هذا الكتاب أن يُنسَب إلى شخص واحد منهم، ولا إلى أشخاص متعددين؛ لتباين الناس في الطريقة ومذاهب الكلام وأساليبه، وقد قلنا: إن كلام النهج كله كسبيكة مفرغة، لا تختلف أبعاضه في الطريقة والأسلوب، فهو كلام لا يصح العارف نسبته إلاّ لمتكلم واحد، قد تَحَمّل العلوم الكثيرة، وعرف الأمور الدينية والسياسية، وصارت تلك الصفات من غرائزه وملكاته، حتى صارت تجري على لسانه بلا تكلف، ولا إمعان نظر، وقد جمع أوصافاً لا تكاد تجتمع في غيره، كعلم وسياسة وعبادة وشجاعة وزهادة وإمارة وحكمة وسخاء وغير ذلك من الأوصاف التي تحويها متفرقة أعاظم الرجال وأبطالهم، ولم نجد كما لم يجد غيرنا ممن هو أطول منا باعاً في العلم والخبرة بأحوال الرجال من حوى جميع تلك الصفات المتضادة والأخلاق المتباينة غير أمير المؤمنين ، حتى قيل[٤٥] فيه:
جمعت في صفاتك الأضداد | زاهد حاكم حليم شجاع | |
شيم ما جمعن في بشر قط | فلهذا عزت لك الأنداد | |
ناسك فاتك فقير جواد | ولا نال مثلهن العباد |
وقد ذكر الشريف الرضي (ص١١) من خطب النهج: (إن من عجائبه التي انفرد بها، وأمن المشاركة فيها، أن كلامه الوارد في الزهد والمواعظ [والتذكير والزواجر][٤٦] إذا تأمّله المتأمل، وخلع من قلبه أنه كلام مثله، ممن عظم قدره ونفذ أمره، [وأحاط بالرقاب ملكه][٤٧] لم يعترضه الشك في أنه من كلام من لا حظ له في غير الزهادة، ولا شُغْل له في غير العبادة، [قد قبع في كسر بيت، أو انقطع إلى سفح جبل، لا يسمع إلاّ حسّه، ولا يرى إلاّ نفسه][٤٨] ، ولا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس في الحرب مصلتاً سيفه، فيقط[٤٩] الرقاب، ويجدل الأبطال، ويعود به ينطف دماً، ويقطر مهجاً، وهو مع تلك الحال[٥٠] زاهد الزهاد، وبدل الأبدال[٥١]، وهذه من فضائله العجيبة، وخصائصه [اللطيفة][٥٢] التي جمع بها بين الأضداد، وألِف[٥٣] بين الأشتات)[٥٤].
وقــال الشـارح[٥٥] (ص ١٦ ج ل): (كان أمير المؤمنين ذا أخلاق متضادة، منها ما ذكره الرضي رحمه الله وهو موضع التعجب)[٥٦] ، وذكر ما نقلناه عنه، ثم ذكر أموراً أخر نحن نذكرها بإيجاز واختصار:
منها: إن الغالب على ذوي الشجاعة أن يكونوا ذوي أخلاق سبعية، والغالب على أهل الزهادة أن يكونوا ذوي انقباض في الأخلاق، ونفار من الناس، وأمير المؤمنين كان أشجع الناس، وأبعدهم عن ملاذ الدنيا، وأكثرهم وعظاً، وأشدهم اجتهاداً في العبادة، وكان مع ذلك ألطف الناس أخلاقاً، وأسفرهم[٥٧] وجهاً، وأكثرهم بشراً، وأبعدهم عن انقباض موحش، أو خُلُق نافر.
ومنها: إن الغالب على الشرفاء في النَسَب، سيما إذا أضيف إليه الشَّرف من جهات أخرى، أن يكونوا ذوي كبر وتيه[٥٨] وتعظم وتغطرس، وكان أمير المؤمنين أشرف الناس بعد ابن عمه ٥، مع ذلك كان أشد الناس تواضعاً لصغير وكبير، وألينهم عريكة[٥٩]، وأبعدهم عن الكبر.
ومنها: إن الغالب على ذوي الشجاعة وقتل النفوس أن يكونوا قليلي العفو والصفح، وحال أمير المؤمنين في العفو والصفح ومغالبة هوى النفس ظاهر معلوم.
ومنها: إن الشجاع لا يكون جواداً كطلحة[٦٠] والزبير[٦١] وابنه عبد الله[٦٢] وعبد الملك[٦٣]، حتى سمي رشح الحجر، وحال أمير المؤمنين في السخاء والشجاعة لا يخفى على أحد[٦٤].
هذا، والخلاصة أن مَن أحاط بكلام النهج، وعرف مقاصده وفنونه، وما ضمته دفتاه من المعارف والكمالات، وعرف أمير المؤمنين، وعلو شأنه، وما حوته ذاته الشريفة المقدسة، جزم بنسبة كلام النهج إليه، ورآه مظهراً من مظاهر ذلك المتكلم، وممثلاً لشخصيته الغائبة عن العيون، وإني لأقرأه وأراه كمرآة تنطبع لي فيه صورة قائلة على اختلاف الحالات والصفات.
رابعاً: إنا وقفنا على جملة من خطب النهج وكتبه ووصاياه وحكمه مذكورة في مصنفات كتبت قبل زمن الشريف الرضي أو في زمانه، وفي مصنفات كتبت بعد زمان الشريف، ولكن المعلوم من حال الناقل انه لم يعتمد في نقله على ما في النهج، بل اعتمد على مصدر آخر، وهذه الجملة منها ما يوافق ما في النهج، ومنها ما يخالفه في بعض الفقرات والكلمات، وربما زاد على ما نقله السيد شأن الخطب التي ترويها النَقَلة، وتدوّنها الكَتَبَة، وسيأتي إن شاء الله ذكر ما وقفنا عليه مروياً في غير كتاب النهج، وعدم وجود مصدر غير النهج لِما لم نقف له من ذلك غير ضائر ولا قادح، فإن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، مع انه إذا ثبت البعض أمكن دعوى ثبوت الكل؛ لاتحاد الجميع في النفس والأسلوب كما مر بيان ذلك[٦٥]، وعلى أي حال، فوجود مصدر لتلك الجملة كافٍ لِرَد من ادعى إن كلام النهج كله لغير أمير المؤمنين كالرضي وأخيه المرتضى[٦٦].
خامساً: إن جامع النهج لو بلغ الغاية من الفصاحة والبلاغة، وصارت له اليد الطولى في الوعظ والخطابة وفنون الكلام وأغراضه، بحيث صار ممن يقتدر على إنشاء كلام النهج واختراعه، لَعُد من أكبر الخطباء والوعاظ، وأعظم البلغاء والكتاب، ولنعته أهل العلم والخبرة بأحوال الرجال الذين ترجموا حياته بذلك، ولو قرأت ما كتبوه في شأنه لم ترهم يصفونه بعد العلم وشرف النفس بغير الشعر، وانه اشعر الهاشميين، ولو كانت له هذه الصفة وهذه الملكة لنعت بذلك، ولسارت به الركبان، وظهرت له بعض الخطب والعهود والتقاليد والرسائل مع رواجها في ذلك العصر، وشغف أهله بها. ولأي شيء لم ينسب هذا الكتاب مؤلفه إلى نفسه، ويتفوق به على أبناء جنسه، ويجعله من غرر فضائله، واكبر آثار محامده؟ أترى أن حب علي وولائه قد حتّما عليه أن ينزع هذه الفضيلة عن نفسه، ويخلعها على مولاه، وان ارتكب ذميمة الكذب، واقتحم عقبة الإثم. كلا، فان هذا لو كان السيد ممن لا يتحرج إلى الإثم، وكان أمير المؤمنين خلواً من الفضائل، وصفراً[٦٧] من المناقب، ولم يكن ممن قال فيه من سئل عنه: (وما أقول في من كتم محبوه فضائله خوفاً وتقية، واعداؤه بغضاً وحسداً، وظهر من ذين وذين ما ملأ الخافقين)[٦٨] ، ولم يكن ممن شَهِد له اعداؤه بالفصاحة والبلاغة، وإن كلامه دون كلام الخالق ورسوله وفوق كلام المخلوقين.
إن نسبة هذا الكتاب إلى أمير المؤمنين مما يرفع من قدر الكتاب، ويأخذ بيده، ويزيد في جلالة شأنه، وليس مما يرفع قدر أمير المؤمنين أو يزيد في فضله:
من كان فوق محل الشمس موضعه | فليس يرفعه شيء ولا يضع[٦٩] |
سادسا: إن من وقف على مواضع كتاب النهج، وقرأها بإمعان وتدبر، يعرف ما لمؤلفه من التثبت في الرواية، والتحري في النسبة، والتحرز في الإسناد، وانه لا ينسب لشخص ما نسب لغيره إلا بعد التدبر، وترجيح النسبة بالشواهد والدلائل، ومن كان كذلك فهو جدير بأن يُنزّه عن تعمد إدخال أو وضع.
ولرفع كلفة المراجعة أذكر لك أنه في (ص٥١ من طبعة بيروت) يقول: (وهذه الخطبة ربما نسبها مَن لا علم له إلى معاوية، وهي من كلام أمير المؤمنين الذي لا يشك فيه)[٧٠] ، ثم يستشهد لذلك بكلام عمرو بن بحر الجاحظ ويقول فيما يرويه لأمير المؤمنين ويروي ذلك عن رسول الله ٥ وقع ذلك منه مكرراً في الباب الثالث من أبواب النهج، وإذا كان الكلام مروياً بروايتين أشار إلى الرواية الثانية كما في الباب الثاني حيث يقول: (ومن كتاب له [إلى عبد الله بن عباس][٧١] قد تقدم ذكره بخلاف هذه الرواية)[٧٢]. ويقول في الباب الثالث (ص٩٠): (ومن الناس من ينسب هذا الكلام إلى رسول الله ٥ وكذلك الذي قبله)[٧٣]. ويقول أيضاً: (ويروى هذا الكلام عن النبي ، ولا عجب أن يشتبه الكلامان؛ لأن مستقاهما من قليب[٧٤]، ومفرغهما من ذنوب[٧٥])[٧٦]. ويقول في أواخر الباب الثالث: (وهذا القول الثاني في الأظهر الأشهر من كلام النبي ، وقد رواه قوم لأمير المؤمنين)[٧٧]. وقال قبل ذلك (ص١٢٧): (ومن الناس من يروي هذا للرسول، ومما يقوي أنه من كلام أمير المؤمنين ما حكاه ثعلب[٧٨] عن ابن الإعرابي[٧٩])[٨٠]. انتهى.
فالاطلاع على هذا الكتاب يكاد أن يشرف المرء على الإيمان بأن المؤلف خرّيت[٨١] هذه الصناعة، وانه مُبَرّأ عن الشين والانتقاد، وأن تأليفه موضع الثقة والاعتماد.
الوقوف على جميع المصادر التي وقف عليها الشريف الرضي قدس سره
لا مجال لأن يطمع طامع من أبناء عصرنا هذا أن يقف على جميع ما وقف عليه الشريف و أمثاله من أهل عصره من كتب السير والمغازي والتاريخ والأدب وغير ذلك مما يمكن أن يكون مصدراً للنهج:
أولاً: لوجود كتب كثيرة ومؤلفات شتى كانت في عصر الشريف قد أخنى[٨٢] عليها الدهر، وفرقتها يد الأيام أيدي سبأ[٨٣]، فلم يبقى منها إلى عصرنا هذا ولا من المائة واحد، ويتجلى ذلك نيّراً لمن راجع كتب فهارس المصنفات والمصنفين، كـ(فهرست الشيخ الطوسي)[٨٤] ، و(كتاب النجاشي)[٨٥] ، و(معالم العلماء)[٨٦] وغيرها، وقد تهيّأ له من الكتب في عصره ما لم يتهيأ في الغالب لغيره، فقد كان في مكتبة أخيه علم الهدى ما يكاد يتجاوز عشرات الألوف، وكفاك شاهداً أن السيد نفسه صرّح ببعض مصادر كتاب النهج[٨٧] وليس له اليوم عين ولا أثر.
ثانياً: لأن مؤلف النهج لا يروي إلا ما يختاره ويصطفيه، فيختار الأبلغ فالأبلغ، والأفصح فالأفصح، بحسب ذوقه ومعرفته، فربما اختار من الخطبة الطويلة فقرات معدودة وترك الباقي، وربما جمع خطبة واحدة من خطب شتى أو من كلمات متفرقة في مواضع متباينة، وقد صرح بذلك كله في خطبة كتابه، فما كان في النهج من هذا القبيل لا يوقف له على مصدر مطابق. نعم، يمكن للمتتبع أن يقف على فقرات غير متتابعة ولا متتالية كما اتفق لنا الوقوف على ذلك في بعض المواضع من النهج.
عدم وجود المصدر لبعض الخطب:
ولا ينبغي لك أيها الباحث أن تعجب أو تظن الظن السيء لو فحصت الكتب التي بين أيدي أهل العصر عن مصدر لبعض خطب النهج أو كتبه فرجعت صفر اليد إذا كنت خبيرا بما كان في عصر المؤلف من الكتب والمصنفات، وبما جرى عليها، وانه لم يبق منها إلى عصرنا من المائة ولا عشرة، ومن العشرة ولا واحد. نعم، لو كانت مصادر النهج ومآخذه محصورة في كتب محدودة موجودة ثم فحصتها فلم تجد ذلك فيها كان لك حق النقد والطعن، فعدم وجود بعض المروي مرسلاً في النهج في كتب السير والتاريخ التي في الأيدي لا يقدح في شأن الكتاب ولا يحط من قدره.
عدم مطابقة ما يروى في النهج لبعض المصادر الموجودة:
قد ترى ما يُروى في النهج من خطبة أو كتاب مخالفاً لما في الكتب التي في الأيدي في الزيادة والنقصان، أو النظم والترتيب، أو الإيجاز والإطناب، أو غير ذلك، فيعتريك الشك والارتياب، ولكنك بعد النظر والتروي، والوقوف على ما يأتي، تزول عنك الحيرة، وتكون من الأمر على بصيرة.
أولاً: إن الروايات تختلف أشد الاختلاف، ولا سيما في الخطب وأمثالها مما يؤخذ عن حفظ وسماع، كما نشاهد ذلك في ما يرويه أهل السير والتاريخ من الخطب والرسائل في الكتب المتداولة، فترى الجاحظ مثلاً يروي الخطبة على صورة تختلف مع ما يرويه أبو جعفر الطبري[٨٨] وهكذا، وترى السيد نفسه يروي الكلام ثم يذكر له رواية أخرى، ولو أردنا أن نذكر لك الأمثلة لاتسع المجال.
ثانياً: إن أكثر ما يرويه السيد من مصادر لم نقف عليها، وروايات لم تصل إلينا، وما تعارف اليوم بين كتّاب العصر مِن ذِكر المصدر، وتعيين موضع النقل منه، لم يكن متعارفاً في الأزمنة السابقة، وسيما أهل السير ورواة الخطب ومنثور الكلام ومنظومه، بل غاية ما يتفق لهم أنهم ربما اسندوا ما ينقلونه إلى راوٍ خاص، وناقل معين، وأغلب ما يسطره أهل التاريخ مرسل، لا يُعلم من أي مخبرٍ سُمِع، ولا عن أي مصدر أُخِذ، فراجع كتب التاريخ التي بين أيدينا.
ثالثاً: إن لمؤلف النهج طريقة في الاختيار، ومنهاجاً في جمع الكلام، صرّح به في خطبة كتابه، قال: (وإذا جاء من كلامه الخارج في أثناء حوار، أو جواب سؤال، أو غرض آخر من الأغراض في غير الأنحاء التي ذكرتها، وقررت القاعدة عليها، نسبته إلى أليق الأبواب به، وأشدها ملامحة لغرضه، وربما جاء فيما اختاره من ذلك فصول غير متسقة، ومحاسن كلم غير منتظمة؛ لأني أورد النكت واللمع ولا اقصد التتالي والنسق)[٨٩] ، فإذا عرفت منهاج الشريف وطريقته، وعرفت انه لا يروي إلاّ ما يختاره من الخطبة والخطب المتعددة، وانه قد يروي الخطبة قد جمعها من كلمات متشتتة، وفقرات كل فقرة منها في موضع على حدة، فلا تستغرب عدم وقوفك على مصدر لبعض الخطب تُذْكَر فيه بتمامها، ولا عدم موافقة ما يرويه في النهج للمنقول في المصادر التي في الأيدي إلاّ في بعض الفقرات.
رابعاً: لما كان جامع النهج بالمنزلة الرفيعة من العلم والوثاقة والورع والتدين، صح الاعتماد على نقله والأخذ بخبره، ولم نحتج إلى التبيّن في أنبائه، ولم يكن الرجوع إلى غيره عند اختلاف النقل أولى، بل لعل روايته هي الأصح والأرجح؛ لأنه ارفع شأناً من أن يعتمد المراسيل، ويحكم بالشيء من غير دليل، وهو بكلام جَدِّه اعرف، وبه أبصر وأخبر.
المنكرون والمشككون:
الذين أنكروا إن كلام النهج كله من كلام أمير المؤمنين طوائف من الناس، وهذه الطوائف لا تعدو أشخاصاً من المسلمين، وأشخاصاً من المسيحيين والطبيعيين، ولا أهمية للفريقين الأخيرين؛ لأن المسيحيين لا يرون في الغالب إلاّ كتب بعض طوائف المسلمين، فينسجون على منوالهم، ويقتصون آثارهم، وفيهم من يختار ما فيه الوقيعة والتوهين، وإن كان من أقوالهم الواهية، وأما الطبيعيون فيشاركون هؤلاء فيما ذكرناه، وينفردون عنهم بأن شعارهم الجحد[٩٠] والإنكار، والطعن في الكتب المقدسة عند المسلمين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وقد رأيت إن الداعي لإنكاره دون سائر الكتب التي ألّفها المؤلفون وجمعهاً الجامعون من الوقائع والسير والأخبار والأحاديث وغيرها فإنها تتلقى بالقبول، وإن كان الجامع مجهول الحال، غير معروف بالصدق والعدالة، هو أحد أمور كل واحد منها حمل فريقاً من الناس على ذلك:
الأول: ما يوجد في الكتاب مما يتنافى مع مذهب المنكر، ويقدح في عقائده، ولا يمكنه الالتزام به، ولا تأويله، وصرفه عن ظاهره، فلا يسعه إلا الإنكار.
الثاني: أن يكون المنكر مريض القلب، فيَدْعوه مرض قلبه إلى أن يجحد أي مكرمة أو مَحْمَدة تضاف إلى إمام ديني، أو تنسب إلى رئيس روحي.
الثالث: الجهل بمقام من تُنسب إليه مندرجات ذلك الكتاب، وعدم عرفان قدره، وعظم شأنه، فيستبعد المنكر صدور تلك الحِكَم البالغة والخطب الباهرة بديهة وارتجالاً من رجل مقسم القلب، مشتغل بالأمور السياسية والحروب الداخلية.
الرابع: حب الشذوذ والافتتان بالمخالفة قد يكون لأمر سياسي، وقد يكون من الغرائز في بعض النفوس.
الخامس: عدم الوقوف على مصادر ما فيه من الخطب وغيرها، مع عدم معرفة منهاج الشريف الرضي في جمعه ورواياته. وأياً ما كان مثير الإنكار وباعثه فلا يدحض الحجة، ولا يدفع البرهان، وسأوافيك بكلمات المنكرين والشاكين، وأذكر لك حججهم، وما يتطرق إليها من الخَلَل والزَلَل، وأرجو منك أيها الناظر أن لا تقودك عصبية أو جامعة مذهبية إلى ظلم إنصافك ووجدانك، واسترقاق حرية ضميرك. وكان من الممكن أن نختصر ونقتصر ونورد خلاصة حجج المنكرين وأقوالهم، ولكنا تنكبنا هذه الجادة، وأوردنا الحجج والأقوال بنصها وفصها[٩١]، تخلصاً من الشبهة، وابتعاداً عن التُهَم. والله الموفق وعليه الاتكال.