الشيخ عبد الله السُّبيتي العاملي
ما برح الغربي عدوّاً للشرقي وعدوّاً للإسلام ، يكيد له المكائد ويتربَّص به الدوائر ، والغربي لا يترك سنوح الفرصة لتتبُّع العثرات والمثالب ، ولربَّما يختلق مثالب لم تكن ، وتصوِّر له نفسيته عثرات بقدر ما يحمل على الإسلام من الحقد ، ونتعرَّف ذلك بأيسر نظرة فيما يكتبه بعضهم عن الإسلام أو عن بعض الشؤون الشرقية الاجتماعية أو السياسية أو التاريخية . ونستميح عذراً من القارئ إن أهملنا سرد الأمثلة ؛ فإنَّ لنا من الأمثلة ما لو أردنا سردها لخرجنا عن الموضوع ، والمستر هنري في كتابه (الإسلام) ذكر عدة أمثال صالحة لتَعْرِف قيمة أبحاث الغربيين عن الإسلام والمسلمين ، ومرَّ عليك ما كتبته آنسة فرنسية باحثة عن الفردوس.
والخلاصة: أنَّ الغربي يرخي عنان تصوُّراته فيما يكتبه من الحوادث ، بسيطة كانت أو غير بسيطة ، فلربَّما يقف على شاذ من الحواث فيجعله مقياساً مطّرداً في سائر الحوادث ،فيخبط عندئذ ما شاء وشاءت له عقليته ، سواء ذلك في التاريخ الإسلامي أم في الدين الإسلامي ، وقد لا يرى شيئاً وإنَّما يختلق أكاذيب ويلفِّق آراء ويجعلها كحقيقة راهنة ، ولا نشكّ في أنَّ الكثير منهم يخبط ذلك الخبط عن سوء نيّة وسوء قصد ، ولا يستغرب ذلك من قوم يحقدون على الإسلام والمسلمين، ويجهلون تاريخهم وآدابهم وأخلاقهم ، ولكنَّ العجب من صاحب الكتاب ومَّن لفَّ لفَّه من كتبة العصر الحاضر الذين ارتاحوا وانشرحوا لآراء الغربيين وتقبَّلوها على هناتها وعلاَّتها ولو كانت هذياناً ، بل الأعظم من هذاَّ أنه ربَّما يرونها الحق الذي لا ريب فيه...
ولسنا نرى تعليلاً صحيحاً لهذا الضعف القاتل إلاّ التقليد الأعمى ، فإنَّ هؤلاء المهووسين حيث رأوا أنّ الغربي تقدَّم تقدُّماً باهراً في الماديات فحسبوا أنَّه تقُّدم في كل شيء، وفهم كل شيء حتى تاريخنا وأدبنا أكثر ممّا َّفهمه علماؤنا ، ومن هنا خفَّت روح صاحب الكتاب محلِّقة في الجوّ تقطع مسافة بعيدة لتستشرف رأي الأوربي في نسبة كتاب نهج البلاغة إلى علي (عليه السّلام) ، وعادت إلينا برأي الأُستاذ هوار وأنَّه يشكُّ في صحة نسبته إلى علي (عليه السّلام) غير أنَّ أحمد أمين غفل عن أنَّ (هوار) يشكُّ في القرآن أيضاً ويقول: (إنَّ شعر أُميّة بن الصلت مصدر من مصادر القرآن) [١] بل يشك في الدين الإسلامي ، ويشك في نبوة نبي الإسلام (عليه وآله الصلاة والسلام) ويشك في علي (عليه السّلام) ، ويشك في الصحاح الستَّة ، وليس شكَّاً فقط ، بل يقطع بعدم صحّة كل ذلك ، فهل كلها عند حضرة الأُستاذ أحمد أمين محل شك كما هي عند (هوار)؟!
ولابد أن نبقي حق الاعتراض بوجود الفرق بين صحّة دين الإسلام ونبوة النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ونزول القران وبين نسبة نهج البلاغة إلى علي (عليه السلام) ؛ فإنَّ الدين الإسلامي والقران ونبوة النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) من الضروريات الأوَّليَّة التي عرفناها بالبديهية والإجماع [٢] ونهج البلاغة ليس كذلك ، فإنَّ هناك من بقايا الحزب الأُموي من تأثَّرت نفسه بإثارة الشك في نسبته .
ولكنّ طه حسين يشك في ذلك ويقول: للقرآن أن يحدِّثنا... إلخ ، ولعلّ أحمد أمين زميله حتى في مبادئه هذه الستّة ، فإذا صحّ أنَّ نسبته إلى علي (عليه السّلام) محل شك عند طائفة من الغربيين والمسلمين ، فإنَّ نسبة ما في الصحاح الستِّ إلى النبي (صلَّى الله عليه واله وسلَّم) أيضاً محل شك عند طائفة أُخرى من المسلمين ، فإذا انضم إلى هذه الطائفة المشكِّكة في الصحاح الستّة (هوار) النوعي من الغربيين ينتج من ذلك ـ لا محالة ـ أنَّ نسبة ما في الصحاح إلى النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وإلى الصحابة مشكوك فيها ، وإذن لا يمكن العمل بها ولا الأخذ عنها ؛لأنَّ هوار يشك في صحة نسبتها.
قلنا: الإنصاف يبعثنا على الاعتراف بهذا ، إلاّ أنَّ لنهج البلاغة أُسوة في الصحاح وفي الحق أنَّ تقليد هذه الفئة المتطرِّفة سوف يوقف المسلمين موقفاً حرجاً ، والانقياد الأعمى سوف يوقع ناشئة المسلمين في هوّة لا منشل لها منها ، ولا نقول ذلك عن تكهُّن ،فإنَّ في كتاب الأدب الجاهلي وغيره من الكتب التي قاءها هذا الدهر الهرم دليلاً واضحاً على ما ادَّعيناه.
بقي أنَّ البعض كالصفدي وغيره شك في نسبة نهج البلاغة إلى علي (عليه السّلام) ، ونرى أنَّ قيمة هذا الشك زهيدة جداً ، هذا إنْ لم نقل إنَّه شطط من الكلام الفارغ الذي لا محصَّل له ، وكم هناك من المدنفين بمثل هذه التشكيكات . ولو أردنا أن نتبيَّن الأسباب لهذا الشك فأول ما يلفت نظرنا أنَّ هؤلاء لم يسلكوا طريقاً فنيَّاً في التحليل ، ولم يركنوا إلى مقياس علمي يصح الركون إليه ، خلا العاطفة والأغراض فإنَّهما المقياس الوحيد بنظر هؤلاء المشكِّكة .
ولم يكن الشك بسيطا؛ أي ساذجاً خالياً من الانزعاج والتشويش ليكون له قيمة في مقام العرض ، فإنَّ أول ما يجب على الناقد أن يتخلَّى من كل عاطفة تعبث بالحقائق ليتسنَّى له التمحيص وإفراز الزائف من غيره ، وبتعبير آخر غير هذا: أنَّ الناقد من هؤلاء المشكِّكين إنَّما جعل ميزان نقده ميله الديني وهواه الشخصي ، فهو قبل كل شيء متأثِّر بعاطفة دينية وعاطفة سياسية هي وليدة المذهب القومي الذي يتلفَّع الناقد تحته بجناحيه ، وهو في سائر أطواره وأحواله يستنزل الوحي من تلك العاطفة التي يجدر بنا أن نسمّيها العصبية ، ولم يكونوا صيارفة أحراراً متجرِّدين عن كل شيء .
إذن، ليس من الصحيح أن نسمِّي مثل هذا التأثُّر بالعاطفة مقياساً علمياً نتوصَّل به إلى معرفة الحقائق ، ويستحيل علينا أن نطمئن إلى صيرفي اتّخذ هواه وسيلة إلى تزييف الذهب الإبريز وهدم الحقائق وإفنائها لأنَّها لا توافق رغائبه ، كل ذلك ليس من الصواب في شيء ، فلذلك ترانا نعجب من صاحب الكتاب أن يكون في أبحاثه قلَّد تقليداً أعمى وسار لا يلوي على شيء ، وكان الأصلح له أن يتلبَّث قليلاً قبل أن يرسل الحكم مطلقاً وبدونما رويّة ، ويستهدف خطراً كبيراً لا تجيزه له الجامعة المصرية التي ينتسب إليها ولا الأدب العربي الذي يدرّسه ، فإنَّ هذا السِفر الجليل مكانته من العربية مكان القلب من الجسد (فهو أشرف كلام بعد كلام الله تعالى وكلام نبيِّه ، وأغزره مادة ، وأرفعه أُسلوباً ، وأجمعه لجلائل المعاني) [٣] فجدير أن يقال فيه كلمة الفصل ولا يبقى مهملاً من حيث النسبة.
على أنَّا نرى الفريق الأعظم من المسلمين والكثرة المطلقة لا يشكُّون في نسبته إلى علي أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وإنَّما هناك نزعة أُموية كانت تتغلغل في صدور بعض القوم الذين لا يزال منهم بقية ممَّن جُبلت طينتهم على بغض أهل البيت الطاهر...
ولا تزال تلك النزعة تثير في نفوسهم الشك في نسبة نهج البلاغة ، بل في نسبة كل فضيلة لعلي (عليه السّلام).
والآن أُحبُّ أن أقف معك يسيراً على تلك الأحقاد (البدرية) التي اعتبرُوها أسباباً للشكِّ ، وهي أُمور:
الأول: ما جاء في (نهج البلاغة) من التعريض والتنديد ببعض الصحابة لاغتصابهم عرش الخلافة والشكوى من ذلك الاعتساف ، وأهم ما ورد فيه من ذلك خطبته الشقشقية ؛ فهي التي ملأت قلوبهم قيحاً ، وشحنت صدورهم غيظاً ، فكانت في عيونهم قذى ، وفي حلوقهم شجى ، (يضطربون (ممَّا فيها) اضطراب الأرشية في الطَّوِي البعيدة) فلا يرى الرجل منهم ملجأ يأوي إليه ولا عاصما يعتصم به ، من تلك (الريح العاصفة والزعزع القاصفة) التي تدمر كل شيء أتت عليه إلاّ أنْ يقول قائلهم: (لولا أن زُجَّ فيه ما ليس منه لكان استظهاره واستظهار الثقلين ككفَّتي ميزان) أو يقول: إنَّه (مشكوك النسبة) أو يقول: (الخطبة الفلانية لفلان والخطبة الفلانية لفلان) [٤] وهكذا دون أن نرى لهم من الأدلة ما يوقف الباحث مطمئناً مستريحاً.
والغريب أنَّه نسب إلى معاوية الخطبة التي أولها: (أيُّها الناس ، إنَّا أصبحنا في دهر عنود وزمن كنود) وآخرها: (فلتكن الدنيا أصغر في أعينكم من حثالة القرض ، واتّعظوا بمَن كان قبلكم قبل أن يتَّعظ بكم مَن بعدكم ، وارفضوها ذميمة فإنَّها رفضت مَن كان أشغف بها منكم... ) وكان الأنسب حيث آثر الظلم والكذب في نسبتها على كل حال أن يلصقها بعمر بن عبد العزيز أو غيره من أمثاله ، ومتى كان معاوية ـ رأس النفاق ـ زاهداً يحثُّ على رفض الدنيا؟! وهذا التاريخ يحدِّثنا عن بوائقه ، وهذا ولده يزيد بمرأى منه ومسمع يلعب بالكلاب ويراود الفتيات والفتيان ويشرب الخمور ويرتكب الفجور ولا يتناهى عن منكر فَعَلَهُ ، وأبوه لا ينكر عليه .
أوَ ليس معاوية هو القائل لأهل الكوفة: (ما قاتلتكم لتصوموا وتصلُّوا وإنَّما قاتلتكم لأتأمَّر عليكم) إلى غير ذلك من الفظائع التي لا يقبلها الشرف العربي فضلاً عن الدين الإسلامي ، ولكنّ النشاشيبي يتجاهل بكل هذا ولا يبالي بأن يلصق هذه الخطبة بمعاويه المستهتر! وهل يستغل من هذا الإلصاق شيئاً؟ كلاّ ، وألف كلاّ ، فإنَّ الصفحات التاريخية السوداء بمخازي معاوية تقف سدَّاً حائلاً دون أن يظفر بشيء وإنما يكشف بمدحه وثنائه عن جيف كما قيل.
هذا البحَّاثة المحقِّق الذي يحاسب على القليل حسابه على الكثير، العلاّمة ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة ـ الطويل الباع الواسع الاطّلاع كما تدلُّنا على ذلك مؤلَّفاته ـ يحدِّثنا عن شيخه مصدق بن شبيب الواسطي ، فيقول: (قرأتُ على الشيخ أبي محمد عبد الله بن أحمد المعروف بابن الخشَّاب هذه الخطبة ، فلمَّا انتهيتُ إلى هذا الموضع ، قال: لو سمعت ابن عباس يقول هذا لقلت له: وهل بقي في نفس ابن عمِّك أمر لم يبلغه في هذه الخطبة لتتأسَّف أن لا يكون بلغ من كلامه ما أراد ؟! والله ما رجع عن الأولين ولا عن الآخرين ولا بقي في نفسه أحد لم يذكره .
إلى أن قال: فقلت له: أتقول إنَّها منحولة ؟ فقال: لا والله ، وإنِّي لأعلم أنَّها كلامه كما أعلم أنَّك مصدِّق . قال: فقلت له :إنَّ كثيراً من الناس يقول: إنَّها من كلام الرضيّ (رحمه الله) ، فقال:
أنّى للرضيّ وغيره هذا النَّفَس وهذا الأُسلوب...
قال الشارح: وقد وجدت أنا كثيراً من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي إمام البغداديين، وكان في دولة المقتدر قبل أن يُخلق الرضيّ) [٥] ، وقد رواها السبط بن الجوزي في تذكرته بنصِّها وفصِّها عن شيخه ابن النفيسي الأنباري بإسناده عن ابن عبَّاس ، وأطال في شرح ألفاظها ونسخ البدل في الكلمات وذكر كثيراً من الخطب ، وابن الأثير في نهايته ذكرها في عدة مواضع [٦] ولو أنعم النظر الباحث المنصف في شرح النهج للعلاّمة المعتزلي لرأى إسناد كل خطبة من خطبه ممَّا وقع الكلام فيه من أُولئك النواصب، فرويداً رويداً ياحضرة الأُستاذ ، لقد حنّ قِدحٌ ليس منها .
إنَّ الشريف الرضيّ أصدق لهجة ، وأوثق ديناً ، وأبرُّ وأتقى ، فحاشا لله أن يكذب ، وعبقريته لا تجتمع مع الاختلاق والتزوير ، وهو أقرب عهداً ، وأصح نقداً ، وأعرف بلحن آبائه من أُولئك الذين يهاجمون الحقائق وليس لهم دليل سوى العاطفة.
ولقد أسرف أحمد أمين ومَن يضرب على وتره ، وأسرف الماضون قبله على أنفسهم وعلى العلم بهذا الشك ؛ ذلك أنَّه لو اتّخذنا الشك مبدءاً للبحث وفتحنا هذا الباب ، ونسبنا إلى حملة العلم الخيانة وأضعفنا الثقة بهم ، لضاع علينا كثير من الحقائق التاريخية والأدبية ، بل والسنّة النبوية ، وعميت علينا الأنباء ، فلا يصح أن نؤمن بحديث ، ولا وقعة تاريخية ، ولذهبت آثار السلف أُضحية الشكوك .
قال ابن أبي الحديد: (متى فتحنا هذا الباب وسلَّطنا الشكوك على أنفسنا في هذا النحو ، لم نثق بصحة كلام منقول عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)) أبداً ، وساغ للطاعن أن يطعن ويقول :هذا الخبر
منحول ، وهذا الكلام مصنوع ، وكذلك ما نقل عن أبي بكر وعمر (رض) من الكلام والخطب والمواعظ والأدب وغيره) [٧] ونزيدك إنَّه لو استسلمنا لهذه المهزلة من الشك لَمَا بقي لنا من التأريخ شيء ، ولماألّف صاحب الكتاب كتابه الضخم ؛ ذلك أنَّه ما من قضية تاريخية أو أدبية إلاّ ويمكن المناقشة والتشكيك فيها ، على أنَّه إذا كانت المسألة مسألة شك ، فمن السهل الشك في كل ما في كتاب فجر الإسلام.
الثاني: ما في بعضه من سجع منمَّق وصناعة لفظية لا تُعرف في ذلك العصر على زعمهم.
مَن عَذِيرِي من شُذَّاذٍ اتخذوا الأغراض الشخصية والأهواء النفسية أداة لإفناء الحقائق ووسيلة لنقض المحكمات ؛ مشياً وراء الميول والأهواء الفاسدة ؟
لا نفرض أنَّ علياً (عليه السّلام) ابن أُولئك البلغاء الذين خفقت فوق رؤوسهم ألوية الفصاحة وقبضوا على أزمَّة البلاغة فكان لهم الفضل على كل عربي فصيح ، ولا نفرض أنَّ علياً (عليه السّلام) ارتضع من حِجر النبوة وترعرع في بيت الرسالة وتخرَّج من تلك الكلِّية الإلهية ، كل ذلك نتجاوزه ولا نقف عنده قليلاً ولا كثيراً ، ولكن، أوَليس علي (عليه السّلام) (كان يهتم بالقرآن ويعرف معانيه)? أوَليس كان من أجلِّ الصحابة فهماً للقرآن وأعظمهم تأثُّراً به؟؟ حتى أنَّه (كتبه على تنزيله) [٨] فمَن كانت هذا حاله فلِمَ لا يكون قد تأثَّر بأُسلوب القرآن الشريف واقتفى أثره ونسج على منواله من دقة المعنى وتنميق السَّجَع ، ولا من شك بأنَّ القرآن الشريف غيَّر بأساليبه الجديدة البديعة أساليب ذلك العصر وحوَّر البلاغة عن محورها الذي كانت عليه قبل الإسلام وكان هو المرجع للفصحاء والبلغاء وعلي (عليه السّلام) إمامهم ومقتداهم .
ومهما شكَّ الشاكُّون ، ومهما وسعهم الشك في أنَّ أي خطبة هي لعلي (عليه السّلام) وأي خطبة هي ليست له ،فلا يشكُّون في أنَّه (سلام الله عليه) كان خطيب المنبر وربَّ القلم وإمام الفصحاء وسيد البلغاء ومرجعهم .
قال عبد الحميد بن يحيى: (حفظت عشرين خطبة من خطب الأصلع ففاضت ثمّ فاضت) ، وقال ابن نباته: (حفظت من الخطابة كنزاً لا يزيده الإنفاق إلاّ سعة ،وهو مئة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب) ولْيَكن علي (عليه السّلام) اقتفى أثر القرآن بالسجع المنمق وتناسب الفواصل وتناسقها: (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)... (الرَّحْمَانُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ و َالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) فعلى منواله وعلى شاكلته نسج في الصناعة اللّفظية ودقة المعاني.
على أنَّا لا نعلم من أين علم صاحب الكتاب أنَّه لم تكن العرب تعرف السجع المنمَّق والصناعة اللفظية؟! وهذا حكم يحتاج قبل إرساله إلى تتبُّع تام واستقراء عام ويحتاج إلى بيان الحُجَّة وإقامة البرهان والشواهد ، ونحن نرى عكس ذلك ؛ هذه خطابة قس بن ساعدة الأيادي في سوق عكاظ تنادي بكذب هذه الدعوى قال: (... مَن عاش مات ، ومَن مات فات ، وكل ما هو آت آت . مطر ونبات ، وأرزاق وأقوات ، وآباء وأُمهات ، وأحياء وأموات ، جمع وأشتات وآيات بعد آيات . إنَّ في السماء لخبراً وإنَّ في الأرض لعِبَراً . ليل داج ، وسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فِجاج ، وبحار ذات أمواج...) هذا نموذج من كلام الجاهلية نسوقه لك لتعلم أنَّ العرب عرفت السجع المنمَّق ، ولكنّ صاحب الكتاب على عادته يهون عليه أن يرتكب كل شيء ويلقي الكلام على هناته وعلاّته بدونما رويّة . فكأنَّه لا يخشى تبعة إلقاء الكلام مهملاً ، ولا يخاف سوء العاقبة وعاقبة الحساب ، ونحن لا نريد من الأُستاذ أن يؤمن بما نقول ولكن نريد منه أن يفهم ما يكتب ويكتب ما يفهم ليكون لكلامه وزن ، ولا يسترسل مع الشهوات ، ولا يقلِّد تقليد الأعمى.
الثالث: (ما فيه من تعبيرات إنَّما حدثت بعد أن نقلت الفلسفة اليونانية إلى العربية) وصاحب الكتاب يضرب لذلك مثلاً: (الاستغفار على ستة
معان ، والإيمان على أربع دعائم) ويزعم أنَّ هذه ـ وما أكثرها في كلام علي (عليه السّلام) ـ لم تكن من ذي قبل ولم يعرفها العرب: وأظن أنَّه لا حرج علينا إن قلنا: إنَّا نستشف من هذا جهل الأُستاذ بلغة قومه وتقليده المزري ، وكم للأُستاذ أمثال هذه الأغلاط حمله عليها إمَّا الجهل أو العصبية العمياء ، ولو تأمَّل قليلاً ورجع إلى السنّة المطهَّرة أقلاً لكان نجا من هذه المهزلة الفاضحة ، من أين علم صاحب الكتاب ـ إن لم يكن قد قلَّد تقليد الأعمى ـ أنَّ هذه التعبيرات لم تكن من قبل وإنَّما حدثت بعد نقل الفلسفة اليونانية؟ فهل تتبَّع كلمات العرب وتصفَّح أحاديث بلغائهم وكلام فصحائهم فلم يعثر على مثل ذلك التعبير أو ما يشابهه؟ وما أشدَّ ما تعجب إن قلنا لك :إنَّ صاحب الكتاب الذي أخذ على عاتقه البحث في عقليّة الإسلام في فجره لم يطَّلع على السنَّة النبوية ، وهي المنبع الفياض لمَن أراد البحث في عقليّة الإسلام!!
نحن نسوق لك مثلاً تعلم منه مقدار تتبُّعه ولتعلم أنَّ مثل هذا- التعبير كان في صدر الإسلام .
قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (بني الإسلام على أربع: ...) وقال: (المهلكات ثلاث: شحٌّ مطاع ، وهوى متَّبع ، وإعجاب المرء بنفسه) ، وقال: (الإثم ثلاث: الإشراك بالله ، ونكث الصفقة وترك السنّة ، والخروج من الجماعة) أخرجه الديلمي عن أبي هريرة .
وقال: (خمس بخمس) الحديث طويل ، وهو وما قبله في كنز العمال ، وفيه على هذا الرُّوِيِّ والقافية ما شاء الله فليرجع إليه مَن يشاء.
ولندع السنّة المطهَّرة جانباً ولنشكَّ فيها لأنَّ أحمد أمين يشكّ فيها (طبعاً) ، ولكن أليس من المشهور ـ بل المُجمع عليه ـ أنَّ علياً (عليه السّلام) أملى النحو على أبي الأسود الدُّؤَلي ، فقال: (الكلمة ثلاث: اسم وفعل وحرف) ، وإنْ شكَّ في هذا أيضاً ـ وهو يشك في القطعيَّات ـ فلا نراه شاكَّاً في أنَّ واضع النحو أبا الأُسود ، أو زياد بن أبيه ، قال: الكلمة ثلاث ، وكلاهما كانا قبل نقل الفلسفة اليونانية .
ولعل الأُستاذ يقول: إنَّ أبا الأسود أو زياداً هما أفصح من علي (عليه السّلام) فيجوز أن يقولا ذلك قبل نقل الفلسفة ولا يجوز لعلي.
ولا بد أن نقف هنا يسيراً ونسأل سؤالاً بسيطاً وندع الحكم للمنصفين إنْ وجدناهم: أيُّ فرق بين القول: (الاستغفار على ستّة معان) و(الإيمان على أربع دعائم) وبين قولنا: الكلمة ثلاث أو على ثلاث ،وقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (المهلكات ثلاث)؟ ولا نعلم ما يكون الجواب!
--------------------------------------------
[١] . قال الدكتور طه حسين في كتابه الأدب الجاهلي: (ويرى الأُستاذ هوار أنَّ ورود هذه الأخبار في شعر أُميّة بن الصلت مخالفةً بعض المخالفة لِمَا جاء في القرآن دليلٌ على صحّة هذا الشعر من جهة، وعلى أنَّ النبي قد استقى منه أخباره من جهة أُخرى).
[٢] . ولكنّ طه حسين يشك في ذلك ويقول: للقرآن أن يحدِّثنا... إلخ ، ولعلّ أحمد أمين زميله حتى في مبادئه هذه الستّة ، فإذا صحّ أنَّ نسبته إلى علي (عليه السّلام) محل شك عند طائفة من الغربيين والمسلمين ، فإنَّ نسبة ما في الصحاح الستِّ إلى النبي (صلَّى الله عليه واله وسلَّم) أيضاً محل شك عند طائفة أُخرى من المسلمين ، فإذا انضم إلى هذه الطائفة المشكِّكة في الصحاح الستّة (هوار) النوعي من الغربيين ينتج من ذلك ـ لا محالة ـ أنَّ نسبة ما في الصحاح إلى النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وإلى الصحابة مشكوك فيها ، وإذن لا يمكن العمل بها ولا الأخذ عنها ؛لأنَّ هوار يشك في صحة
[٣] . كما قاله محيي الدين الخيَّاط.
[٤] . القائل هو إسعاف النشاشيبي ؛ فإنَّه ذكر في كتابه (كلمة في اللغة العربية) عدة خُطب ونسبها لبعض العرب ولعمر بن عبد العزيز وغيرهم .
[٥] . شرح النهج ، ج ١ ، ص ٦٩.
[٦] . راجع: مادة جذّاء ومادة شقشق وغيرها فإنَّك تجده في كل مورد يسند الخطبة لعلي (عليه السّلام).
[٧] . ج ٣ ، ص ٥٤٩.
[٨] . طبقات بن سعد ، ج ٢ ، القسم الثاني ، ص ١٠١.
منقول من كتاب : تحت راية الحق في الرَّدِّ على فجر الإسلام