وردت في نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب(ع)، دلالات عديدة لخصال وتصرفات غير سليمة للإنسان، توصف أنها خاطئة ،منحرفة.
كما تتضمن هذه الدلالات تحليلا ً عميقا ً لعواطف الإنسان ومشاعره وأحاسيسه وانفعالاته، ووصفا ً لسلوكه وعلاقاته بالعالم المحيط به وبذاته أيضا ً .
وترتبط هذه التصرفات بمتطلبات هذا الإنسان وبمصالحه واهتماماته وأهدافه .ومن هذه الخصال المنحرفة ، التي سنركز عليها ، هي سياسة التغاضي عن الأخطاء والانحرافات ، والتخاذل عن نصرة الحق ، واعتماد وسائل غير نبيلة لتحقيق المكاسب والغايات .الشيء المؤلم عند البحث في هكذا موضوعات،هي أن هذه الخصال المنحرفة لازالت متأصلة في المجتمع، وتعيد نفسها باستمرار.
١. سياسة التغاضي عن الأخطاء والانحرافات
مِن القضايا التي أشار لها أمير المؤمنين عليه السلام ، هي تلك الخصال التي يتصف بها قسم من الناس ، وتتركز في التساهل مع أهل الانحرافات والتغاضي عن مساوئهم ومسايرتهم ، فضلا ً عن مناصرتهم وإعانتهم على ظلمهم.لذلك يبين الإمام أن الراضي بفعل المنكر من الناس يصبح منهم :” الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم ، وعلى كل داخل في باطل آثمان: آثم العمل به ، وآثم الرضى به ” .
وعلى هذا الأساس نجد أمير المؤمنين يتعجب ويستغرب من أولئك الذين يرضون بمعصية الله :”فيا عجبا ً … يعصى الله وترضون ” .وقد شخص الإمام تشخيصا ً دقيقا ً ، مسألة تمكّن الظلمة والمنحرفين من السيطرة على رقاب الناس ، حين ربطها بقضية السكوت والرضا عن المنكر والاستسلام للظلمة :” وقد تروْن عهود الله منقوضة فلا تغضبون … فمكنتم الظلمة من منزلتكم وألقيتم أزمتكم واسلمتم أمور الله في أيديهم”. الزمام : مقود الدابة . والمعنى : تركتم بيد أعدائكم زمام البلاد والعباد .
وأخليتم لهم الدار .
إذن نستخلص من كلام الإمام أن التهرب من مقاومة الشر والإنحراف ، إنما يعني الوقوف موضوعيا ً إلى جانبه والمساهمة في توطيد مواقعه .ثم يتحول الإمام إلى الأسباب التي تمنع الإنسان من تنبيه الآخر على خطئه وانحرافه ، فيذكر أحد الأسباب في ذلك ، وهو خوف هذا الإنسان من أن ينبهه الآخر على خطأ عنده مثله ، عند ذلك تبقى الأخطاء والانحرافات متأصلة في المجتمع :” وما يمنع أحدكم أن يستقبل أخاه بما يخاف من عيبه إلا مخافة أن يستقبله بمثله” .
مجمل هذه العوامل، كانت أحد أسباب ضعف الأمة وانكسارها، كما بين الإمام ، لكنه ذكر عاملين أساسيين . الأول شيوع البغضاء والحقد والتدابر بين النفوس ، والآخر هو التهاون والتخاذل في نصرة المظلومين .
لذلك يحذر الإمام ذلك في خطبة القاصعة بقوله : “واجتنبوا كل أمر ٍ كسر فقرتهم ، وأوهن مُنتهم : من تضاغن القلوب ، وتشاحن الصدور ، وتدابر النفوس ، وتخاذل الأيدي ” .كسر فقرتهم : ظهورهم . وأوهن : أضعف . ومُنتهم : قوتهم .
وتخاذل الأيدي : عن نصرة بعضهم البعض .إذن يــحــذر الإمـــام هنا، من سيــاسة ثــقافة السكــوت والتســاهل عن الانحــرافات ، وسياسة عدم المبالاة والسلبية والانهزامية والاتكالية ، واستقلال كل فرد بوزره ، والتهرب من كشف الأخطاء ، وشيوع النزعة الأنانية . إن هذه المواقف تعني عمليا ً ، عدم المبالاة بالآخرين المظلومين، وتجاهل ما يصيبهم من مكروه ، ويعني أيضا ً النظر في مصلحة الإنسان أولا ً .
هذه المواقف هي التي تُفقد المجتمع روابطه الإنسانية من محبة وتعاون وتضحية . كما يساعد في الوقت ذاته على انتشار الظلم والانحراف واستبداد الحاكم الظالم وبقائه .
٢ . التخاذل عن نصرة الحق
لقد أوضح لنا أمير المؤمنين أسباب التخاذل عن نصرة الحق ونتائجه .وأن التخاذل عن نصرة الحق يعني ترك العمل بمنهج الصدق والعدالة المستنبط من الأحكام الإلهية التي تنظم العلاقات الاجتماعية وتغطي شتى ميادين حياة البشر .
ويعني التخاذل أيضا ً إضاعة الحقوق والتوقف عن نصرة المظلومين .ولكن يبقى السؤال ، هنا ، هو لماذا يتخاذل الإنسان عن نصرة الحق ، وامتناعه اتخاذ موقف حازم اتجاه الباطل والتزييف والتزوير والمنكر. ومن الأسباب التي تدعو للتخاذل عن نصرة الحق،هي التعارض بين الحق والمصالح الخاصة.
لأنه كثيرا ً ما يرتبط الحق ارتباطا ً وثيقا ً بالمصالح الحيوية للإنسان ، وليس الإنسان المنفرد وحده، وإنما الجماعات الكبيرة .لذلك نجد الكثير من الناس يقفون ضد الحق حينما يتعارض مع أهوائهم وشهواتهم وغاياتهم. ومعيار الحق يصبح عندهم ، أن يحقق مصالحهم الشخصية ومنافعهم الذاتية . أما حين يحقق المصالح العامة للمجتمع ، على حساب مصالحهم، فذلك أمر مرفوض .
إذن على قدر معارضة الحق للمصلحة الشخصية والمنفعة الذاتية يكون الموقف من الحق . لذلك فهم يرفضون الحقيقة مهما تكن .ومن هذا المنطلق نجد يصف الإمام يصف عبدين متناقضين من عباد الله ، طبقا ً لموقفهما من الحق ، فيقول : ”
عباد الله ! إن من أحب عباد الله إليه ، عبدا ً أعانه الله على نفسه …. يصف الحق ويعمل به … وآخر قد تسمى عالما ً وليس به … قد حمل الكتاب على آرائه ، وعطف الحق على أهوائه..” .
أي أن العبد الثاني يحمل الحق على رغباته.
والأمر لا يقف عند معارضة الحق ،إنما يتعداه إلى إثارة الجدل المفتعل والحوار الذي يلبسون فيه الحق بالباطل ، أو الباطل بالحق، تشكيكاً للناس في أمرها، وربما يلحقون الأذى بالداعين للحق وينزلون الضرر بهم،صرفاً لهم عن الدعوة للحقيقة.
٣ . وسائل غير نبيلة لتحقيق غايات منشودة
لقد استعمل الكثيرون في الماضي والحاضر ، وسائل غير نبيلة، فاسدة، لتحقيق أهدافهم وغاياتهم الشريرة . وتنبع خطورة هذه الطريقة أنها تجيز استعمال الوسائل استعمالا ً مطلقا ً ، في سبيل تحقيق هدف ٍ معين ٍ . بمعنى عدم الإكتراث بطابع الوسائل الأخلاقي ، كل شيء جائز ، وحتى غير مرغوب فيه ، إذا كان يؤدي إلى الهدف المنشود . فالكذب والغش والخداع والتآمر والخيانة والسرقة ، جميعها من الوسائل الممكنة ، غير الأخلاقية ، التي قد توصل إلى الحاجة المطلوبة .
ومن الطبيعي ، تحتاج هذه الوسائل غير الأخلاقية إلى تبرير ، تغطي بها أفعالها المنافية للدين والشرع والأخلاق ، فهي إذن بحاجة إلى مساومة ، إلى مداهنة ومصانعة ونفاق ورياء .وقد شخص الإمام هذه التصرفات وفضحها ، وبين نتائجها و ضررها ، لمناوئيه ، الذين لا يتورعون باستعمال شتى الوسائل للوصول إلى غاياتهم وأهدافهم ومصالحهم الخاصة .
فقد أوصى أولاده وأنصاره وولاته في الابتعاد عن هذه التصرفات .كما في وصيته لولده الحسن يقول : ” ولا تبع آخرتك بدنياك ” .فالهدف هو الحصول على مغانم الدنيا ، ولكن بوسائل غير أخلاقية ، بالتنازل عن مبادئ الدين وبيع الآخرة .وفي هذه الوصية أيضا ً ، يبين الإمام أنه لا فائدة من الخير الذي يناله الإنسان، وهو الهدف ، بواسطة طرق الشر ، وكذلك لا خير في اليسر الذي يناله الإنسان بالمذلة والرذائل :” وما خيرُ خير ٍ لا ينال إلا بشرّ ٍ ، و يُسرٍ لا ينال إلا بعسرٍ ” .
ومن وصاياه إلى ولاته ، هي في عهده للأشتر لما ولّاه مصر ، يطلب منه أن لا يكون سعيه لتثبيت سلطته عن طريق القتل والوسائل المحرمة، فإن ذلك يُذهب قوته ويضعفها ويزيلها:” فلا تُقوين سلطانك بسفك دم حرام فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله “.
ومن كتاب للإمام إلى مصقلة بن جبيرة الشيباني ، عامله على إحدى بلدان فارس ، يوصيه أيضا ً بترك هدف الحصول على مكاسب في الدنيا بوسائل تنتقص من مبادئ الدين والتجاوز عليه :” ولا تصلح دنياك بمحق دينك فتكون من الأخسرين أعمالا ً ” .
ومن عهده عليه السلام إلى محمد بن أبي بكر حين قلده مصر ، يحذره من أي عمل هدفه كسب رضا الناس ، ولكن بوسائل تستوجب بها غضب الله تعالى :” ولا تُسخط الله برضى أحد ٍ من خلقه ِ ” .
ومن كتاب للإمام إلى المنذر الجارود العبدي وقد خان في بعض ما ولّاه من أعماله ، يؤنبه فيه على ما يقوم به ، من أعمال غايتها اسعاد نفسه وعشيرته في الدنيا ولكن على حساب ترك مبادئ الدين والآخرة :” تعمّر دنياك بخراب آخرتك ، وتصل عشيرتك بقطيعة دينك ” .
ومن كتاب له أيضا ً إلى قثم بن العباس وهو عامله على مكة يصف أناس من أهل الشام ، هدفهم الدنيا وخيرها إذ يجعلون الدين وسيلة لما ينالون من مغانمها ، فهم ، مثلا ً ، يطيعون الإنسان لأجل مصالحهم ، ولكن عملهم هذا يؤدي إلى معصية الله تعالى :” يطيعون المخلوق في معصية الخالق ، ويحتلبون الدنيا درّها بالدِّين ، ويشترون عاجلها بآجل الأبرار والمتقين”.
ومن كلامه لأنصاره ، يقول الإمام لمّا عوتِب على التسوية في العطاء :” أتامروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه “.
الإمام هنا يرد على الذين ، يطالبونه بزيادة الأموال المخصصة لهم وتفضيلهم على الآخرين ، فيقول لن أفعل ذلك ، مقابل الحصول على تاييدكم ونصرتكم ، وهو الهدف ، بوسيلة غير سليمة وهي التجاوز على أموال المسلمين أظلمهم .وفي القصار من كلماته يؤكد الإمام أن وسائل الرذيلة لا توصل إلى الهدف المنشود :” ما ظَفِرَ مَنْ ظَفِرَ الإثم به ، والغالب بالشر مغلوب ” .
والمراد : لم يكسب الجولة من كان الإثم وسيلته إليها ، وطريقه للحصول عليها . أي إذا كانت الوسيلة لظفرك بخصمك ركوب إثم، واقتراف معصية ، فإنك لم تظفر حيث ظفرت بك المعصية فألقت بك إلى النار ، وعلى هذا قوله : ” الغالب بالشر مغلوب ” .
ويبين الإمام أيضا ً نتائج استعمال الوسائل غير الأخلاقية للحصول على أمور الدنيا ، فإنها ستكون أشد وأعظم ضررا ً:” لا يترك الناس شيئا ً من أمر دينهم لاستصلاح دنياهم إلا فتح الله عليهم ما هو أضر منه”.
ويرتبط موضوع الوسائل والأهداف ، مع قضية “المساومة ” ، ارتباطا ً وثيقا ً ، خاصة المساومة السلبية ، غير الأخلاقية ، التي تتطلب من الفرد القيام بمقايضة مع آخرين . إذ يؤدي هذا الفرد ، ما عليه من دعم أو نصرة أو مساندة أو نحوها للآخرين من أجل الحصول على منافع ومكاسب دنيوية .
وتحدث هذه المساومات ، غالبا ً ، في الأوضاع النزاعية ، وفي ظروف حرجة حاسمة ، اضطرارية وقد فضح الإمام ، ما حصل من مساومات في زمانه ، وبيّن مساوئها .
وقد عاتب الإمام ، الذين بايعوه من أجل الحصول على منافع دنيويه بقوله : ” لم تكن بيعتكم إياي فلتة ، وليس أمري وأمركم واحدا ً . إني أريدكم لله وأنتم تريدوني لأنفسكم “. أي أريد منكم اتباع نهج الله والانقياد لأوامره والانتهاء عن نواهيه .
وأنتم تريدوني أن أفضل بعضكم على بعض بالعطاء ، وأرفع عنكم الجهاد.
على هذا الأساس كانت مواقف الإمام ثابتة في الصرامة في تطبيق أوامر الله ونواهيه على نفسه وعلى غيره ، دون تنازل، دون مساومة.ففي كلام له في التبرؤ من الظلم يقول : ” والله لأن أبيت على حسك السَّعدان مسهدا ً ، وأجرّ في الأغلال مصفدا ً، أحب إليّ من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالما ً لبعض العباد وغاصبا ً شيء من الحطام ” .
الحسك : الشوك . والسعدان : نبت شوكي ترعاه الإبل . وسهد : أرق ولم يستطع النوم . وأجر في الأغلال مصفدا ً : في وثاق الأغلال والقيود .