الدكتور هادي شندوخ حميد السعيدي
الدكتور حيدربرزان سكران العكيلي
(جامعة ذي قار – كلية الآداب / قسم اللغة العربية)
لم تنتظم ثقافة العقل العربي على الجدل أوالمحجاجة ، بتأثير من البنية الثقافية السائدة، فالموروث الثقافي من التقاليدوالعادات، وجهَّه نحوالواضح والمعايش في الحياة والمجتمع فكثيرا ما يلحظ في مسرح التجربة والسيرة ، السؤال عن حدود مايرى ويسمع، بحكم التداخل وحضور الوافد المؤنس لما يريدوه ، فالمعروف أن الجزيرة العربية كانت موطن اللقاء والتثاقف يعرض فيها ماألفه الذهن أواستساغه شعراً كان أم فكراً غيبيا أم إسقاطا لاهوتيا ، الأمر الذي رسخ بدائية التفكير وأغلق رحلة البحث عن المعرفة بوساطة السؤال أوالجدل أوالحجاج الذي يستدل به على المجهول ، إلى الحد الذي يفسر كلام الله عندهم بأنه كلام ساحر أوشاعر ، إنصياعا إلى تلك النزعة المغلقة من التفكير.
ومن جراء هذا الإنقطاع عن المعرفة، لم تنبعث الرؤى المختلفة، أو تشقق الأفكار ، التي تجد لها قبولا أومستقرا عند الآخر، فلطالما نشبت من وراء ذلك الأفق الضيق، الصراعات والمنافسات المحتدمة، نتيجة عدم الاستيعاب لحقيقة الخلاف في الرأي وعده عاملا مهما في انفتاح الفكر واتساع رقعة المختلف فيه، حتى يمكن النظر إلى قضايا الكون والحياة والإنسان بأكثر من منظار لذا كان من المنطلقات الأولى في الخطاب القرآني تصحيح المسار الفكري لمبدأ الحوار أو الجدل وتوجيهه بما يحقق للإنسان إنسانيته وللمجتمع ديمومته في التعايش والتعاريف القائم على الحسنى بعيدا عن الحجاج السلبي وقصد إلغاء الآخر وتسقيطه من خلال تزييف قناعاته وتشويهها.
وعلى هذا الهدي كانت رسالة الأنبياء والمصلحين حيث التأطير التطبيقي لمباديء الحجاج الهادف المقوم للعقل البشري الحاكم على هذا الكون (( فالكون وجد للجميع ، والحياة من حق الجميع ،والصراع في الحياة حقيقة صاخبة بالشواهد الحية، ولكن ينبغي أن بتأطر هذا الصراع ، بالقيم الأخلاقية .. وينأى عن مصادرة قناعات الآخرين )) [١].
ولعل علي بن أبي طالب (عليه السلام) مثال واضح في التنظير والتطبيق على ممارسة وظيفة الحجاج الفاعل في تعاطيه مع قضايا عصره ، فلم يكن مقصد الإمام (عليه السلام) إفحام خصومه وإن كانت نواياهم في غير محلها، بل كان ناطقا ومظهرا للحقيقة على وفق طريقة القرآن الكريم (وَجَادِلُهم بِالتِي هِيَ أحسَنُ) [ سورة النحل من الآية ١٢٥] ، فيما يخص حواره مع الآخر، وتارة تراه معترضا على من توهم في معتقده وضل ضلالا بعيدا، فيقوم بتوجيهه وتحريك نوازع فطرته للإقرار بمبدع هذا الكون وعظيم صنعه في هذا الوجود .
وأخرى تجده (عليه السلام) يقوم بالحجاج في معرض بيان الخطل في الفهم وسوء التأويل الذي تُبتغى منه الفتنة في الأمة، بإسلوب حكيم قائم على الإستدلال والبرهنة في فساد مادُهب إليه.
وكل ذلك قائم على إسلوب ذي مقصد دلالي مختلف بين نمط وآخر، يكتنز بطاقة لغوية تقوم على التباين في إستعمال الخصائص اللغوية بأساليبها المختلفة من حذف وذكر أوتقديم وتأخير، وتعريف وتنكير وفصل ووصل وعدول وتكرار وغير ذلك. بسبب إختلاف الخطاب تارة ومراعاة حال المتلقي تارة أخرى. كون اللغة ((بمثابة الكاشف عن مكنون النفس والعقل ذلك المكنون الذي يترجم بإستدعاء المواقف والظروف إلى واقع حقيقي في صورة أحداث فعلية)) [٢] ، من هنا ارتأى البحث أن يكون العنوان (وظيفة الحجاج في نهج البلاغة)، بخطة تنتظم من مدخل ومبحثين ، في المدخل سيُبين ، الحجاج في المنظور اللغوي والاصطلاحي، ثم إرتباط الحجاج بنهج البلاغة مع الإشارة إلى الأسباب، أما المبحث الأول فسيخصص لأنماط الحجاج في نهج البلاة سواء أكانت عقدية أوأخلاقية أوتشريعية أوإنسانية، وفي المبحث الثاني سيوقف على دلالات الحجاج وخصائصه اللغوية في النهج، مظهرا أهم اللمسات الأسلوبية في تلك الأنماط المتنوعة يلي ذلك خاتمة بنتائج البحث ومن ثم الهوامش، ثم قائمة بمصادر البحث ومراجعه.
مدخل:
الحجاج في المنظور اللغوي والاصطلاحي
للحجاج موقع واضح في المدونة اللغوية ، بدءا بالمصنفات الأولى التي عملت على الحفر المعرفي في تحديد الجذر اللغوي، ومعرفة دلالته الوضعية ، حيث العراقة الأعرابية غير المشوبة باللحن أوالتأثير الأجنبي ، قال الخليل: ((والحُجَّة : وَجهُ الظَّفر عند الخُصومة. والفِعل حاجَجْنُه . واحتَججتُ عليه بكذا)) [٣] ، وتأتي "الحُجَّه" باضَّمّ بمعنى الدَّليلُ والبُرهَان وقيل ما دُفِعَ به الخَصْمُ [٤] ، فهي بذلك المعنى تكون ذات حمولة سلبية قائمة على المغالبة والمخاصمة ، قال أبن عاشور: ((إن، حاجَّ لا يستعمل غالبا إلا في معنى المخاصمة... وإن الأغلب أنه يقيد الخصام بباطل)) [٥] ، وهذا ما يكشف عنه التعبير القرآني في استعمال تلك المادة.*
أما الجدل فهومفهوم أوسع من الحجاج فمنه ماهوحق ومنه ماهوباطل كما يفهم من الاستعمال القرآني [٦]، ولم يبتعد المعنى الإصطلاحي عن ذلك قال أبوهلال العسكري: ((الحجاج هوظهور الحجة)) [٧] .
أما إرتباط الحجاج بنهج البلاغة، فأمرُ لا يمكن إنكاره ، فإذا أردنا تأصيل المصطلح نقول إنه ورد أكثر من مرة في إستعمالات الإمام (عليه السلام) ليدل على معان متنوعة، قال(عليه السلام): واصفا القرآن :بأنه ((شَاهِدُ لِمَنْ خَاصَمَ بهِ وفَلْجُ لِمَنْ حَأجَّ بهِ)) [٨] ، أي الظفر والفوز لمن استدل به ، وفي نص آخر يقول (عليه السلام) : ((ولَمَّا اِحتَجَّ اَلْمُهَاجِروُن عَلَى اَلْأَنصَارِ يَوْمَ اَلسَّقِيفَة بِرسُول اَللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَلجُوا عَلَيْهم فَإِنْ يَكُنِ أَلْفَلجُ بهِ فَالحَقُ لَنَا دُونَكُمْ ويَكُنْ بغَيْرِهِ فِالْأنصَارَ علَى دَعْواهُم من الحكمة)) [٩] ، أي ظفروا وفازوا في حجاجهم ، وقال (عليه السلام) : لما بلغه اتهام بني أمية له بالمشاركة في دم عثمان: ((أَولَمْ يَنْهَ؟ أُيّمُةَ؟ عِلمُهَا بِي عَنْ قَرفِي أَوَمَا وَزَعَ اَلْجهَّالَ سَابِقَتِي عَنْ تُهَمَتِي وَلَمَا وَعظَهُمُ الله بِهِ أبْلغُ مِنْ لِسَانِي أَنَا حَجِيجُ؟ اَلْمَارِقين؟ وخَصيمُ اَلمُرتابينَ وعَلَى كِتَابِ اللهِ تُعْرَضُ اَلْأَمْثَالُ)) [١٠] ، أي مغالب الخاريجن عن الدّين بإظهار الحجة عليهم في الدّنيا والآخرة ومخاصم الشّاكين في الدّين أوفي كلّ حقّ، من بني أمية وغيرهم [١١] ، وغير ذلك كثير .
كثرة لها أسبابها منها مايعود إلى أوليات صراع قديمة ، غير محدودة الأثر طفقت تظهر على السطح رغبة في السلطة وما تمنحه من مبررات غير مشروعة في تحقيق المصالح الذاتية ، الامر الذي واجهه علي (عليه السلام) ، ولم يسمح بإستفحاله، إلى الحد الذي نتج عن تلك المواجهة قيام حروب مريرة وتمردات غير منقطعة تحاول قلب كفة الحكم لصالحها.
فرؤية علي (عليه السلام) للحكم ليس منطلقها الهوى أوالغريزة، أوالمطلوب الحكم بذاته والوصول إلى السلطة والحافظ عليها ، بل الدافع هو إقامة العدل وحكومة الدين القيم على المجتمع [١٢] .
ومنها ما يعود إلى الطبيعة النفسية للمجتمع آنذاك ((فالظاهر أن الإنسان مجبول على التنازع في صميم تكوينه فإذا قل التنازع الفعلي في محيطه لجأ إلى إصطناع تنازع وهمي ليروح به نفسه)) [١٣] ، يضاف إلى ذلك السبب الفطري ،هو كراهة الإنسان للحق والعدالة المثلى التي بسطها علي (عليه السلام) بحكم الميل النفسي والإنجذاب لمباهج الحياة وملذاتها، لذلك نفروا منه (عليه السلام) ونصروا أعداءه عليه.
وأعتقد أن السبب القبلي من الدوافع المهمة التي دفعت لمظاهر الحجاج بين الإمام(عليه السلام) ومناوئيه فميل كل قبيلة لنفسها، وكراهتها لرفعة الأخرى، أصبح واضحا في زمن الإمام (عليه السلام) ، فكل أخذ يتعصب لجلدته بعيدا عن المبادئ التي جاء بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واستوجاها من هدي القرآن ، ولعل السبب في ذلك هوإنغماس المد القبلي في النفوس على مستوى الفعل أوالإعتقاد أو العلاقة، الذي مابرح يشكل فضاءً صريحا ينطلق من الأفواه محتجاً على قيادة الإمام أوفعله في أمور حياتهم الدنيوية والأخروية، ولعل فيما يلي من نصوص ستكشف عن ذلك.
المبحث الأول : أنماط الحجاج في نهج البلاغة
لم تكن النصوص الحجاجية الواردة على لسان الإمام (عليه السلام) تتخذ طابعا واحدا ،فالغالب فيها تنوعها من مظهر إلى آخر، بحكم المقام وسياقاته الموضوعية المتطلبة لذلك المسلك من الحجاج من ذلك مثلا قوله (عليه السلام) :حينما سأله ذعلب اليماني هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟ فقال (عليه السلام) : ((أفأعبد ما لا أرى فقال وكيف تراه فقال لاَ تدْرِكُهُ اَلْعُيُون بِمُشَاهَدَةِ اَلْعِيَانِ ولَكِنْ تُدرِكُهُ اَلْقُلُوب بِحَقَائِق اَلْإيمانِ قَريبُ مِنَ اَلْأَشيَاء غَيْر مَلاَمس بَعيدُ مِنْهَا غَيْرَ مُبَاينٍ مُتَكَلِّمُ لاَ بِروَيَّةٍ مُريِد لاَ بِهِمَّة صَانِعُ لاَ بِجَارحَةٍ لَطيفُ لاَ يُوصَفَ بِالرِّقَّةِ تعنْواَلْوُجُوهُ لِعَظَمَتهِ وتَجِبُ اَلْقُلُوب مِنْ مِخاَفَتِهِ)) [١٤] ، كان هذا السؤال من السائل من باب التعنّت والتقرير بقصد التعجيز عن الجواب لا الاستفهام الحقيقي الباحث عن الحقيقة. ((فقال عليه السّلام أفأعبد ما لا أرى ، إنكار لعبادة ما لا يدرك ، لأنّ العبادة متضمّنة للسؤال والمخاطبة والمكالمة وطلب الرحمة والمغفرة وغير ذلك من الخضوع والخشوع والتضرّع والتملّق والاستكانة وهذه كلّها تستدعى حضور المعبود وإدراكه ورؤيته.
ولما توهّم السائل من كلامه عليه السّلام أنّ مراده به رؤية البصر أعاد السؤال و(قال وكيف تراه) على سبيل الاستفهام التوبيخي يعني أنّ رؤيته غير ممكنة فكيف ادّعيتها.
فأجابه عليه السّلام لا تدركه العيون بمشاهدة العيان يعنى أنّ رؤيته ليست بالعين وبمشاهدة القوّة البصرية الجسمانية، فانّ هذه غير جايزة، ولكن (تدركه القلوب بحقايق الإيمان) أي تدركه العقول الصافية عن ملابسة الأبدان وغواشي الطبايع والأجرام بحقايق الإيمان أي بأنوار العقليّة الناشئة من الإيمان والذعان الخالص)) [١٥] ، وهذا فيه إفصاح جلي على إرادة الإمام (عليه السلام) في بيان أهم الموارد الإشكالية المتعلقة بالخالق جل وعلا ، وإن وردت على لسان من يبحث عن الجدل والمماراة في ذلك.
فالمسائل العقائدية آنذاك لم تكن بالطارئة عليهم ، منشأ الشرك والوثنية في البدايات ، والتحول إلى عبادة آلها واحد إبان نزول القرآن * لذلك نرى المحاجج تقصد الإثارة والإلحاح على الرؤية الآلهية، فما كان من الإمام (عليه السلام) إلا أن يبين حقيقة تلك الرؤيا بإسلوب يعمل على ترسيخ الإيمان وتثبيته في الذهن بشكل يتفاعل بعضه مع بعض داخل النسيج العقلي المؤمن بتلك الصفات الآلهية؛ لأن وظيفة الحجاج هنا لم تقف عند حدود المحاجج بل تتعداه إلى المتلقي المطلق الذي لا يحصر في مدى المخاطب وقت إذ.
وفي نص آخر يقول (عليه السلام): حينَ قالَ لهُ: ((بَعضُ اَلْيُهود مَا دَفَنْتُم نَبِيَّكُم حتَّى اِختَلَفْتُم فيهِ فَقَالَ (عليه السلام) لَهُ إِنَّمَا اِختَلَفْنَا عَنْهُ لاَ فيهِ و لَكنِّكُمْ مَا جَفَّت أَرجُلُكمْ مِنَ اَلْبحْرِ قُلْتُمْ لِنَبيِّكُمْ اِدجعَل لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهِةُ قالَ إِنَّكُمْ قَومٌ تجْهَلُونُ)) [١٦] ، أجاب (عليه السلام) اليهود بأنّ اختلافنا بعد نبيّنا فيما صدر عنه صلوات الله عليه في أمر الوصاية ولا اختلاف بيننا في ما جاء به من التوحيد، ولا في نبوّته، وأما أنتم اليهود فقد اختلفتم في حياة موسى (عليه السلام) في أصل دعوته وهوالتوحيد ومعرفة الله تعالى فقلتم له: اجعل لنا صنما إلها نراه ونعبده فما أسوأ حاكم [١٧] ، إذِن فالدعوى الحجاجية المضادة لم تكن مسوغة القبول وغير هادفة في الوصول إلى الحقيقة، بل كانت منطوية على منابع السجال والانتقاص من المسلمين ، استطاع الإمام (عليه السلام) تفكيك منظومة السؤال ورده بسياق توضيحي يقوم على النقض والرد المؤكد الثابت في معتقدهم حينما طلبوا من نبيهم أن يجعل لهم إلها.
فضلا عن ذلك أن طريقة الحجاج عند الإمام تشربت بدعوة عقلية تحرك المخاطب صوب حقيقة التوحيد وماهم عليه من وهم في تلك العقيدة، ودعوة وجدانية تتطلق إلى دواخل النفس وتثيرها إلى مراجعة الجهل الذي لا يليق بما أراده الله لتلك النفس البشرية، وهي طريقة لا تخرج عن (( حجة الاستشهاد الذي غايته توضيح القاعدة وتكثيف حضور الأفكار في الذهن)) [١٨] .
ومن كلام له (عليه السلام): للسائل الشَّامي لمَّا سأله: أكان مسيرنا إلى الشام بقضاء من الله وقدر؟: قال الإمام (عليه السلام): ((ويحك لعلك ظننت قضاء لازما، وقدرا حاتما ، ولوكان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب، سقط الوعد والوعيد، إنّ الله سبحانه أمر عباده تخييرا، ونهاهم تحذيرا ، وكلّف يسيرا، ولم يكلّف عسيرا، وأعطى على القليل كثيرا، ولم يعص مغلوبا، ولم يطع مكرها ، ولم يرسل الأنبياء لعبا، ولم ينزل الكتب للعباد عبثا، ولا خلق السّموات والأرض وما بينهما باطلا (ذَلِكَ ظَنُّ الَّذيِنَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) [ سورة ص: من الآية ٢٧])) [١٩] .
فالسؤال هنا لم يخل من الجدل في ملحظ عقائدي آخر يتعل بقضاء الله وقدره ، فقد روى إبن أبي الحديد القصة كاملة قال: (( قام شيخ إلى علي (عليه السلام) فقال : أخبرنا عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء الله وقدره فقال: والذي فقل الحبة وبرأ النسمة ما وطئنا موطئا ولا هبطنا واديا إلا بقضاء الله وقدره فقال الشيخ فعند الله أحتسب عنائي ما أرى لي من الأجر شيئا فقال مه أيها الشيخ لقد عظم الله أجركم في مسيركم وأنتم سائرون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليها مضطرين فقال الشيخ وكيف القضاء والقدر ساقانا فقال: يحك لعللك ظننت قضاء لازما وقدرا حتما لوكان ذلك كذلك لبطل القواب والعقاب والوعد والوعيد والأمر والنهي ولم تأت لائمة من الله لمذنب ولا محمدة لمحسن ولم يكن المحسن أولى بالمدح من الميء أولى بالذم من المحسن تلك مقالة عباد الأوثان وجنود الشيطان وشهود الزور وأهل العمى عن الصواب وهم قدرية هذه الأمة ومجوسها إن الله سبحانه أمر تخييرا ونهى تحذيرا وكلف يسيرا ولم يعص مغلوبا ولم يطع مكرها ولم يرسل الرسل إلى خلقه عبثا ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار فقال الشيخ فما القضاء والقدر اللذان ما سرنا إلا بهما فقال هوالأمر من الله والحكم ثم تلا قوله سبحانه (وَقَضَى ربُكَ أَلا تَعبُدُوا إِلا إيَاهُ) [سورة الإسراء من الآية ٢٣])) [٢٠] .
فالرد الذي أفصح به الإمام (عليه السلام) يقوم بوظيفة التبصرة لما أشكل فهمه وتداخل على السائل ، بمسلك انتقل فيه الإمام من الإنكار إلى الإستدلال مصعدا نبرته الإقناعية بالاقتباس القرآني المنسجم مع واقع النص، لإحزار أكبر أثر في المخاطب الذي ألبس عليه الفهم والتدبر.
وتارة يأخذ الحجاج عند الإمام (عليه السلام) صورة أخرى قوامها التهذيب الأخلاقي ، يقول (عليه السلام) مخاطبا الزبير: (( يَزْعُمُ أَنَّه قدْ بَايَعَ بِيَدهِ ولَم يُبِايعْ بِقَلْبِهِ فَقَدْ أَقَرَّ بِالْبَيْعة واِدَّعَى اَلْوَليِجَةَ فَلْيَاتِ عَلَيْهَا بِأَمرٍ يُعْرَفُ وإِلاَّ فَلْيَدخُلْ فيمَا خَرَجَ منِهُ)) [٢١] ، فالزّبير بعد نكثه بيعته (عليه السلام) كان يعتذر عن ذلك ، فيدّعي تارة أنّه اكره على البيعة و(يزعم) أخرى أنّه ورّى في ذلك تورية ونوى دخيلة و(أنّه قد بايع بيده ولم يبايع بقلبه) فأجاب (عليه السلام) عنه وردّ ادّعائه بأنّه (قد أقرّ بالبيعة) بتسليمه البعة بيده ظاهرا و(ادّعى) أنّه أضمر في باطنه ما يفسد بيعته من (الوليجة) والبطانة وهذه دعوى لا تسمع منه ولا تقبل شرعا ما لم ينصل عليها دليلا ولم يقم عليها برهانا (فليأت) على إثباتها (بأمر يعرف) صحّته ودليل يتّضح دلالته (وإلاّ) أي إن لم يقم عليها برهانا كما أنّ الشّأن ذلك (فليدخل فيما خرج منه) من طاعته عليه السّلام وانقياد حكمه وليمض على بيعته [٢٢]، فالمخالفة بين الظاهر والباطن أملت على الإمام (عليه السلام) التوحيه والتقويم ، لما في ذلك من تبعات جرَّت ويلاتها على الأمة، وأحدثت شرخا في صفوف المسلمين فالمنطق إذن في الوظيفة الحجاجية هنا هوإعلاء القيم الرفيعة في النفس بعيدا عن تضاد العقيدة والتصور ، وإغلاق التمويهات والأباطيل الملتوية في النفوس بعيدا عن تضاد العقيدة والتصور، وإغلاق التمويهات والأباطيل الملتوية في النفوس المريضة المرتبطة بمنطلقات سلوكية دافعها الحسد والغيرة وإيثار المصالح على المبدأ الحق .
ولا يبتعد أن يكون التقريع والتوبيخ وظيفة لازمة للحجاج ، لما في ذلك من إنزال للمعاند عن غيه وتسفيه لرأيه.
يقول (عليه السلام) لمعاوية: ((ومَتَى كُنتُم يَا؟ مُعَاويَةُ؟ سَاسَةَ الرَّعيَّةِ وُلاةَ أمْرِ اَلْأُمَّة بِغَيْرِ قَدَم سَابِق ولا شَرَف بَاسِقِ ونَعُوذُ بِاللهِ مِنْ لُزومِ سَوَابِق الشَّاء وأُحَذِّرُكَ أَن تَكُون مُتَمَادِياً فِي غِرَّة الْأّمْنيِّةِ واَلسَّريرةِ وقَدِ دَعَوت إِلَى اَلْحربِ فَدَ اَلنَّاس جَانِباً واُخْرجْ إِلَيَّ وأَعفِ اَلْفَرِيقَيْنِ مِنَ اَلقِتَالِ ليُعلَمَ أَيُّنَا اَلْمَرِينُ عَلَى قَلْبِهِ واَلْمُغَطَّى عَلَى بَصَرهِ فَأَنَا؟ أَبوحَسَنٍ؟ قَاتِلُ جَدِّكَ وأَخيكَ وخَالِكَ شَدْخاً؟ يَوْمَ بَدْرٍ؟ وذَلِكَ اَلسَّيْفُ مَعِي وبِذَلِكَ اَلْقلْبِ أَلْقَى عَدُوِّي مَا اِسْتَبْدَلْتُ دِيناً ولاَ اِسْتَحْدَثْتُ نَبِيّاً وإِنِّي لَعَلَى اَلّمِنْهَاجِ اَلَّذِي تَرَكْمُوُهُ طَائِعِينَ ودَخَلْتُمْ فِيهِ مُكْرَهِينَ)) [٢٣] ، فالمنوالفكري القائم على رؤية واقعية ذلك حيز واضح تجلت بشكل لايمكن إنكاره يوم بدر وبأدوات تستبطن الاستفهام التوبيخي لما يدّعيه المخاطب في حركة التاريخ من جهة، والتأكيد المثير للكوامن الساكنة والمضلة برجاحة المعتقد الذي أدلى به الإمام (عليه السلام) من جهة أخرى ويبدوإن تكثيف الخطاب الحجاجي عند الإمام (عليه السلام) مع معاوية، كان يستهدف بالأساس كشف البواعث النفسية الموغلة في الحقد عند معاوية وأتباعه على ماجاء به الإسلام وما أقره من تعاليم ، وما كان يضمره من كيد وتمويه للمبادئ الإنسانية ، لذا نجد الإمام (عليه السلام) يركز على رفض هذا المبدأ ونسف أصوله ومرتكزاته بالدليل العقلي والنقلي الصارخين.
من ذلك قوله (عليه السلام):((فَأَمَّا طَلَبُكَ إِلَيَّ اَلشَّامَ؟ فَإِنِّي لَمْ أَكُنْ لأُعْطِيَكَ اَلْيَوْمَ مَا مَنَعْتُكَ أَمْسِ وأَمَّا قَوْلُكَ إِنَّ اَلْحربَ قَدْ أَكَلَتِ اَلْعَرَبَ إِلاَّ حُشَاشَاتِ أَنْفُسٍ بَقيِتْ أَلاَ ومَنْ أَكلَهُ اَلْحَقُّ فَإلَى اَلْجَنَّةِ ومَنْ أَكَلَهُ اَلْحثقُّ فَإِلَى اَلنَّارِ وأَمَّا اِستِوَاؤنا فِي اَلْحَرْبِ واَلرِّجَالِ فَلَسْتَ بِأَمْضَى عَلَى اَلشَّكِّ مِنِّي عَلَى الْيَقِينِ ولَيْسَ أَهلُ؟ اَلشَّامِ؟ بِأَحرَصَ عَلَى اَلدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ ؟ اَلْعراقِ ؟ عَلى اَلْآخرة وأَمَّا قَولُكَ إِناَ؟ بَنُوعَبدِ مَنَافٍ؟ فَكَذَلِكَ نَحْنُ ولَكِنْ لَيْسَ ؟ أُمَيَّةُ ؟ كَهَاشِمٍ ؟ ولاَ ؟ حَرْبٌ ؟ كَعَبْدِ اَلْمطَّلبِ ؟ وَلاَ أَبوسُفْيَانَ ؟ كَأَبِي طَالِيٍ ؟ ولاَ اَلْمُهَاجِرُ كَلطَّليق ولاَ اَلصَّريحُ كَاللَّصِيق ولاَ اَلْمُحِقُّ كَالْمُطِلِ ولاَ اَلْمُؤمِنُ كَالْمُدْغِلِ ولَبِئْسَ اَلْخَلْفُ خلْفٌ يَتْبَعُ سَلَفاً هَوَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ وفِي أَيْدِينَا بَعْدُ فَصْلُ اَلنُّبُوَّةِ اَلَّتِي أَذْلَلنَا بِهَأ اَلْعَزِيزَ ونَعَشْنَا بِهَا اَلذَّلِيلَ ولَمَّا أَدْخَلَ اَللهُ اَلْعَرَبَ فِي دِينِهِ أَفْوَاجاً وأَسلَمَتْ لَهُ هَذِهِ اَلْأُمَّةُ طَوْعاً وَكرْهاً كُنتُمْ مِمَّنْ دَخَلَ فِي اَلدِّينِ إِمَّا رَغْبَةً وإِمَّا رَهْبَةَ عَلَى حِينَ فَازَ أَهّلُ اَلسَّبْق بِسَبْقِهمِ وذَهَبَ اَلْمُهَاجِرُونَ اَلْأَوَّلُونَ بِفَضْلِهِمْ فَلاَ تَجْعَلَنَّ للِشَّيْطَانِ فِيكَ نَصيِباً وَلاَ عَلَى نَفْسِكَ سَبيِلاً)) [٢٤] .
فالوظيفة الحجاجية في رد الإمام (عليه السلام) ، عالجت مطالب متنوعة منها الثبات على الموقف والإصرار عليه ، والإيمان بالعقيدة ومارسم فيها من حياة أخروية منوطة بعمل الحياة الدنيا ، وإيضاح منطلق الواثق من إيمانه قبال المتذبذب في الؤية والموقف، وغير ذلك من المواطن التي أراد منها الإمام (ع) تحريك السلوك الأخلاقي والعقائدي والنفسي عند المخاطب المتجاهل لتلك الحقائق، عسى أن يكون ذلك التذكير محفزا ومنبها للغشاوة المنطلية على الأبصار، بعد أن تجاوز أسلوب الإقناع إلى أسلوب التهديد والتحذير .
ومن وظائف الحجاج الأخرى عند الإمام (عليه السلام) السعي إلى تغيير حالة الإعتقاد السائدة، من خلال التذكير والإستدلال بآيات الله ، قال (عليه السلام): لمنجّم قال له : يا أمير المؤمنين لا تسر في هذه الساعة وسر في ثلاث ساعات مضين من النهار ، فقال أمير المؤمنين: ولم ذلك؟ قال : لأنك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصاب أصابك أذى وضرّ شديد وإن سرت في الساعة التي أمرتك ظفرت وظهرت وأصبت كما طلبت فقال (عليه السلام):(( أتَزْعَمُ أَنَّكَ تَهْدِي إِلى السَّاعَةِ الَّتِي مَنْ سَارَ فِيهاَ صُرِفَ عَنْهُ السُّوءُ؟ وتُخَوِّفُ مِنَ السَّاعَةِ التِي مَنْ سَارَ فِيها حَاقَ بِهِ الضُّرُّ؟ فَمَنْ صَدَّقَكَ بهذاَ فَقَد كّذّبَ الْقرآنَ، واسْتَغْنَى عَنِ الإِستِعَانَةِ بِاللهِ فِي نيْلِ الْمحبُوبِ ودَفْعِ الْمَكْرُوهِ ؛ وتَبْتغِي فِي قَوْلِكَ للعَامِلِ بأَمْرِكَ أَن،ْ يُوليَكَ الْحَمدَ دُونَ رَبِّهِ، لأنك - بِزَعْمِكَ – أَنْتَ هَدَيْتَهُ إِلَى السَّاعَةِ الَّتِي نَالَ فِيهَا النَّفْعَ ، وأَمنَ الضُّرَّ)) [٢٥] .
والواقع أن هذا المنطق مرفوض فالإسلام إيمان بالله وبالعلم والعمل لحياة أفضل، وبالقيم التي لا ينكر شيئا منها عاقل على وجه الأرض من حيث هي قيم ومثل عليا، ومن البداهة وهذه هي حقيقة الإسلام أن يرفض الكهانة ولا يقبلها بحال ، كيف والإسلام يدعوإلى تحرير الإنسان من الأغلال والعقل من الأوهام ، ويأمر بإتباع العقل والعلم ولو أقر الإسلام الكهانة والخرافة لم يكن له تاريخ ولا حضارة [٢٦]، فالمعارضة والتحول إلى مبدأ العقل عند الإمام ضرورة لا يمكن تجاهلها في منطق الإسلام الواقعي ، وإن كان التقليد الاجتماعي لما هو أسطوري مهيمن على العقل آنذاك، لذا فتغيير النمط التفكيري بتلك الإجرائية الحجاجية عند الإمام (عليه السلام) ، من شأنه إعادة المنهج السليم في التفكير إلى نصابه بعيدا عن هيمنة ما وجدنا عليه آباءنا.
ومن كلام له (عليه السلام) وقد قام إليه رجل من أصحابه ، فقال نهيتنا عن الحكومة ثمّ أمرتنا بها ، فلم ندر أيّ الأمرين أرشد ؟ فصقق عليه السّلام إحدى يديه على الأخرى، ثم قال :(( هَذّا جَزَاءُ مَنْ تَرَك اَلعُقدَةَ أَمَا واَللهِ فِيهِ خَيْراً فإِنِ اِسْتَقَمْتُمْ هَدَيْتُكُمْ وإِنِ اِعْوجَجْتُكُمْ وإِنْ أَبَيْتُمْ تَدَاركتُكُمْ لَكَانتِ اَلْوثْقَى ولَكِنْ بِمَن وإِلَى مَنْ أُريدُ أَنْ أُدَاوِيَ بِكُمْ وأَنْتُمْ دَائِي كَنَاقِش اَلشوكَةِ بِالشَّوكَةِ وهُويَعْلَمُ أَنَّ ضَلْعَهَا مَعَهَا)) [٢٧] ، فالإمام (عليه السلام) يقدم احتجاجه بطريقة وعظية وجدانية ، لها آثارها في الإصلاح المستقبلي ، وإن كان فيها مالا تطيقه نفوسهم ، أو تذعن له أهواؤهم ، بطريقة تنتظم التنويع في الإحتجاج من إشعارهم بخطأ مارتكبوه من ترك الرأي والحزم على الموقف المقتضي للثبات على الحرب والبقاء على القتال، وإصرارهم على إجابة أصحاب معاوية إلى معاوية إلى المحاكمة ، وإفهامهم بمنهجه الذي يشخص الأحداث ومراحل سيرها وما تؤول إليه ، بتلك العملية التبادلية القائمة على الحوار الحجاجي كون ((عملية الفهم والتفسير من خلال الحوار لا يمكن أن تحدث في إتجاه واحد يسير من الأنا إلى الآخر فهذه العملية ينبغي أن تسير أيضا من الآخر إلى الأنا)) [٢٨] ، لأن هذه الوسيلة من التقابل الحجاجي (الأنا والآخر) تدفع بالمتلقي إلى تقبل هذه الهزة المباغتة للأشياء المضادة في تفكيره الراسخة في قناعاته .
ويلحظ في نص آخر عند الإمام (عليه السلام) وظيفة حجاجية جديدة تفضي إلى التمهيد بقبول رأي المحاجج لأول وهلة ثم المبادرة بتفنيد ما يذهب، بما يسمى بالحجاج النقضي، من ذلك قوله (ع) للخوارج لما سمع قولهم لا حكم إلا لله قَالَ:(( كَلمَةُ حَقَّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلُ نَعَمْ إِنَّهُ لاَ حُكْمَ إِلاَّ للهِ ولَكِنَّ هَؤُلاَءِ يَقُولُونَ لاَ إِمْرَةَ إِلاَّ للهِ و إِنَّه لاَ بُدَّ للنَّاسِ مِنْ أَمِيرْ بَرٍّ أَوفَاجِرٍ يَعْمَلُ فِي إِمرتِهِ الْمُؤمِنُ ويَستَمتِعُ فِيهَا اَلأَجَلَ ويُجمَعُ بِهِ اَلْفَيْ ويُقَأتَلُ بِهِ اَلْعدووتَأْمَنُ بِهِ اَلسُّبُلُ ويُؤخَذُ بِهِ لِلضَّعيفِ مِنَ اَلْقَوِيِّ حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرُّ ويُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِرٍ)) [٢٩] ، إذ يمهد الإمام (عليه السلام) في رده قبولا مفاجئا بإعتراضهم في قوله (كلمة حق) ولكن ليست المنطلقة على ألسنتهم ، بل هي الحقيقة القرآنية الساطعة المقومة للسلوك البشري ، ثم أردفها بالحجاج الكاشف لزيغ قصدهم ومآربهم في ذلك الإعراض والتجني ، حيث حاول الإمام (عليه السلام) إظهار الخلجات النفسية وما يعتمل فيها من حقد وإكراه ضد ما أراده (عليه السلام) من جانب، وكشف الموقف الشرعي المطلوب حتى لا تلتبس الأمور وتنقلب المقاييس وتختلط المفاهيم من جانب آخر.
فضلا عن ذلك يمثل هذا النص الحجاجي عمق المسافة الحوارية التي أبداها الإمام (عليه السلام) بنقله لرؤاهم وطموحاتهم التي أرادوا تحقيقها ، دون أن يسلبهم حرية التعبير عن مبتغاهم ، مصححاً الوهم الذي وقعوا فيه من خلال التشخيص لمكامن الضعف في ذلك المطلب.
ولعل مدارسة السياقات الواردة في كلام الإمام (عليه السلام) ، ويوقفنا على أنماط حجاجية أخرى تضاف إلى ما ذكر ، من ذلك قوله (عليه السلام) للبرج بن مسهر الطائيّ وقد قال له بحيث يسمعه: لا حكم إلاّ لله وكان من الخوارج :(( اُسْكُتْ قَبَحَكَ اَلله يَا أَثرمُ فَواللهِ لَقَدْ ظَهَرَ اَلْحَقُّ فَكُنْتَ فِيهِ ضَئيِلاً شَخصُكَ خَفِيّاً صَوْتُكَ حَتَّى إِذَا نَعَرَ اَلْبَاطِلُ نَجَمْتَ نُجُومَ قَرْنِ اَلْمَاعِزِ)) [٣٠] .
لذا عمد الإمام (عليه السلام) إلى إسكاته ففي نطقه ظهور للباطل وإيقاد للفتن ، وليس من شك أن هذا الأسلوب من الحجاج ليس قمعا لفكر الآخر بقدر ماهوإخماد للتصورات الساذجة الخالية من أي مضمون سوى إثارة الإحتراب والإقتتال بين المعسكر الواحد [٣١].
ولا يبتعد الحجاج عند الإمام (عليه السلام)، عن المقومات الثقافية الراسخة في ذهن المتلقي ، إذ يعمد الإمام (عليه السلام) إلى إنتزاع ذلك السلوك بالتنبيه على شناعته، أو بإجراء الأصلح وترسيخه في النفس من ذلك كلام له (عليه السلام) قاله للأشعت بن قيس وهوعلى منبرالكوفة يخطب فمضى في بعض كلامه شيء اعترضه الأشعث فيه فقال يا أمير المؤمنين هذه عليك لا لك فخفض إليه بصره (عليه السلام) ثم قال : (( ومَا يُدْرِيكَ مَا عَلَيَّ مِمَّا لِي عَلَيْكَ لَعَنَةُ اَللاَّعِنيِنَ حَائكٌ اِبْنُ حَائِكٍ مُنافِقٌ اِبْن كَافِرٍ واللهِ لَقَدْ أَسَرَكَ اَلْكُفْرُ مَرَةً واَلْإِسْلَامُ أُخرَى مَرَّةً فَمَا فَدَاكَ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَالُكَ ولاَ حَسَبُكَ وإِنَّ اِمْرَأً دَلَّ عَلَى قَوْمِهِ اَلسَّيفَ وسَاقَ إِلَيْهِمُ اَلْحَتْفَ لَحَرِيٌ أَنْ يَمْقُتَهُ اَلأَقرَبٌ ولَا يَأْمَنَهُ اَلأَبْعَدُ)) [٣٢] ، قال الرضي رحمه الله يريد (عليه السلام) أنه أسر في الكفر مرة وفي الإسلام مرة.
وأما قوله (عليه السلام) دل على قومه ومكر بهم حتى أوقع بهم خالد وكان قومه بعد ذلك يسمونه عرف النار وهواسم للغادر عندهم [٣٣] ، أما وصفه بالحائك فلأن ((الحائكين أنقص الناس عقلا ، وأهل اليمن يعيرون بالحياكة، والأشعث يمني من كندة ، وقال عارف بأهل اليمن: ما فيهم إلا حائك برد ، أو دابغ جلد، أوسائس قرد، ملكتهم امرأة وأغرقتهم فأرة ، ودل عليهم هدهد)) [٣٤] ، ولا أعتقد أن علياً (عليه السلام) أراد هذا المقصد فمبدأه مبدأ القرآن حيث التقوى هي المقياس، فلعله أريد حياكة الكلام من الكذب والخيانة حيث تأليب الناس ودفعهم في الفتن.
وعلى هذا فالحجاج ورد في سياق تشنيع تلك الثقافة البعيدة أما أراده علي (عليه السلام) للناس.
المبحث الثاني : دلالات الحجاج في نهج البلاغة
لا شك أن الدلالة هي محصلة ناتجة عن طريق التعالق المفرداتي في أنساق معينة، ترتبط هذه المفردات ضمن ضوابط خاصة من النسبة والإسناد في النظام النحوي، وتختلف شكلا من حيث النوع والأسلوب، اللذين ينتجان إختلافا في الدلالة في نهاية الأمر.
وقد أولى البلاغيون إهتماما كبيرا بحال المتكلم والمخاطب، وما يترتب على ذلك من مردودات دلالية تسهم في توجيه المعنى فذكروا: ((إن الكلام إماخبر أوإنشاء، لأنه إما أن يكون لنسبته خارج تطابقه أولا تطابقه أولايكون لها خارج، الأول الخبر والثاني الإنشاء، ثم أن الخبر لابد له من إسناد ومسند ومسند إليه)) [٣٥] ، والحجاج بوصفه حيثية من حيثيات الكلام فمن البجيهي أنه لا يخرج عن هذين المسلكين (الخبر والإنشاء)، بفارق الدلالة بين إستعمال هذا الأسلوب أوذاك ، إذ عمد الإمام (عليه السلام) إلى الإخبار في قوله للمغيرة بن الأخنس : ((يَابْنَ اللَّعِينِ الاْبتَرِ، والشَّجرةِ الَّتي لَا أَصْلَ لَهَا وَلاَ فَرْعَ أَنتَ تَكفِينِي؟ فَوالله مَا أَعَزَّ اللهُ مَنْ أَنتَ نَاصِرُهُ، وَلاَ قَامَ مَنْ أَنْتَ مُنهِضُهُ. اخرُجْ عَنَّا أَبعَدَ الله نوَاكَ ، ثمَّ ابْلُغْ جَهْدَكَ، فلاَ أَبقَى اللهُ عَلَيْكَ إنْ أَبقَيْتَ!)) [٣٦] ، لتقرير ذلك الوصف وتثبيته في ذهن السامع، تحقيرا وتقريعا لما صدر عنه، فقوله عليه السّلام: (يابن اللعين الأبتر) لأجل أنّ أباه وهوالأخنس بن شريق كان من أكابر المنافقين ... وابنه أبوالحكم بن الأخنس قتله أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم احد كافرا في الحرب ، وهوأخوالمغيرة والحقد الذي كان في قلب المغيرة إنّما كان من هذه الجهة، وأمّا وصفه بالأبتر..، فلا نقطاعه عن الخير كلّه فيكون إطلاقه عليه على سبيل الاستعارة، وكذلك قوله: (( والشجرة التي لا أصل لها ولا فرع)) استعار له لفظ الشجرة المصوصفة بما ذكر إشارة إلى حقارته ودناءته، لأنّ الشّجرة التي ليس لها فرع ولا قرار ساقطة عن درجة الاعتبار حقيرة في الأنظار ويحتمل أن يكون المراد بالوصفين نفى صفة الكمال ، بمعنى أنّها ليس لها أصل ثابت ولا فرع مثمر [٣٧] .
وتبقى دواعي المتكلم وظروف النص خاضرة في توجيه الخطاب وتحديده ، إذ قد يكون من المناسب التعبير الإنشائي في الخطاب الحجاجي ، لما في ذلك التعبير من معان تكون : ((أقوى تجديدا لنشاط السامعين وأشد تنبيها وأكثر إيقاظا وأدعى إلى المطالبة بالمشاركة في القول وفي الحكم وهي في الوقت نفسه أدق في تصوير مشاعر الخطيب وأفكاره ، لأن أفكاره ومشاعره المتنوعة في حاجة إلى أساليب تقصح عنها)) [٣٨] ، من ذلك ما قاله (عليه السلام) لأبن عباس في إحتجاجه مع الخوارج: ((لَا تُخَاصمِهْمْ بِالْقُرآنِ حَمَّالٌ ذُووُجُوهٍ تَقُولُ وَيَقُولُونَ، وَلَكِنْ حَاجِجْهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنَّهُمْ عَنْهَا مَحِيصاً)) [٣٩] ، فالنهي وسيلة حجاجية أراد منها الإمام (عليه السلام) صورة تعليمية يقاد منها في ذلك الشأن، فالألفاظ في سياقها تحمل معان مختلفة ووجوه عديدة فإذا تمسّك أحد بمعنى وفسّره بما يوافق مقصوده تمسّك الخصم بوجه آخر وتفسير يخالفه لا يخصم [٤٠] ، وبذلك يكون الحجاج في كل من الأسلوبين له دلالاته المقصودة ، قال بعض الباحثين مفرقا بينهما ((أنك لوتأملت لوجدت الحقيقة المعنوية والنفسية المعبر عنها بلفظ الإنشاء غير الحقيقة المعنوية والنفسية المعبر عنها بلفظ الخبر)) [٤١] .
أما الوصف فيعد من السمات الحاضرة في الخطاب الحجاجي عند الإمام (عليه السلام)، إذ استعمله لإستمالة المخاطب وإثارته ، بلغة تقوم على التصعيد والتقابل وبصورة متساوية المقاطع تهز أحوال النفس ومشاعرها لما هو موصوف، يقول (عليه السلام) :(( فقُبْحاً لَكُمْ وتَرَحاً حِينَ صِرْثمْ غَرَصاً يُرمَى يُغَارُ عَليْكُمْ ولاَ تغِيروُنَ وتُغزَون ولاَ تغزُونَ ويُعْصَى اللهُ وتَرضَوْنَ فإذا أمَرْتُكمْ بالسَّيْر إليْهمْ فِي الشِّتَاءِ فلتُمْ هَذِهِ حَمَارَّةُ القَيْظِ أمْهلنَا يُسَبَّخْ عَنَّا الحَرُّ وإذا أمَرتُكمْ بالسيَّرِ إليْهمْ فِي الشَّتَاء فلتُم هَذِهِ صَبَارَّةُ القرِّ أمْهلنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا البَرْدُ كلُّ هَذا فِرَراُ مِنَ الحَرِّ والقرِّ فَأنتُم واللهِ مِنَ اَلسيَّف أفرُّ)) [٤٢].
فالغرض هنا (( الهدف الذي يرمى إليه بنبل أونحوه)) [٤٣] ، وصفهم الإمام (عليه السلام) بذلك لتخاذلهم وخنوعهم في الذب عن أنسهم ودينهم ، وهي صورة حية يمكن حدوثها في كل زمان ومكان ، مادامت أحوال النفس متغيرة وغير ثابتة على مبدأ ما، أما الجمالية اللغوية في التقابل فتتضح هنا في قوله (عليه السلام) (فقبحا لكم وترحا) و(يغار عليكم ولا تغيرون) و(تغزون ولا تغزون) و(يعصى الله وترضون) و(حمارة القيظ وصبارة القر) ، حيث تفرض هذه الأوصاف المتقابلة بوقعها الإيقاعي والمعنوي تحريكا إنفعاليا وجدانيا على المخاطب يوقظ ضميره ويشعره بفداحة عظيم جنايته.
ويأتي الإطناب مكملا لنسيج النص مانحا إياه نمطا فنيا مثيرا يدركه المتلقي ويذعن لتفصيلاته في باب الحجاج، ليس من باب ((ما يزاد الكلام فيه لشرح ما هومعروف فيظن السامع أنه زيادة لا حاجة إليه، بل لأن ما زيد في هذا الصدد يقال في كل شيء يعظم مناله، ويعز الوصول إليه ، فيؤكد الأمر فيه على هذا الوجه)) [٤٤] .
يقول (عليه السلام) في وصف رؤية الله محاججا من سأله: ((لَاتُدْرِكُهُ اَلعُيُونُ بِمشَاهَدَة اَلْعِيَأنِ ولَكِنْ تُدْرِكُهُ اَلْقُلُوبُ بِحَقَائِق اَلْإِيمَانِ قَرِيبٌ مِنَ اَلأَشيَاءِ غَيْرَ مُلامِس بَعِيدٌ مِنْهَا غَيْرَ مٌبَاينٍ مُتَكَلَّمٌ لَا بِرَويَّة مُريدٌ لاَ بِهِمَّةٍ صَانِعٌ لاَ بِجَارِحَةٍ لَطِيفٌ لاَ يُوصَفُ بِالرّقَّةِ تَعْنُواَلْوُجوهُ لِعَظَمَتِهِ وتَجِبُ اَلْقُلُوبُ مِنْ مَخَافَتهِ)) [٤٥] ، فالأطناب بذكر هذه الصفات لايخلومن دلالة تقصدها الإمام (عليه السلام)، فالمقام كما هوواضح مقام تشريف يتعلق بالذات الآلهية ، وعلي (عليه السلام) من العارفين بتلك الحقيقة المقدسة ، لذلك أطال الحديث إظهارا لتلك الصفات الشريفة وتنبيها للعقول على كمال قدرته وجلال عظمته، ومن جانب أخر إذعان السائل بتلك الحجج التي لا تنالها العقول أو تتصورها ممن هو في شأنه ومنزلته.
أما الحذف فهو كذلك لم يبتعد عن الحجاج في خطاب الإمام (عليه السلام) لدلالات ذات علاقة بالنص والمخاطب والمتكلم ، يقول عبد القاهر فيه ((باب دقيق المسلك ، لطيف المأخذ ، عجيب الأمر شبيه بالسحر، فإنك ترى به ترك الذكر، أفصح من الذكر ، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة ، تجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق ، وأتم ما تكون بياناً إذا لم تبن )) [٤٦] .
وظفه الإمام (عليه السلام) في قوله: ((عَجَبَاً لابْنِ النَّابِغَةِ ؟ يَزعُمُ لأَهْلِ؟ اَلشَّامِ؟ أَنَّ فِيَ دُعَابَةً وأَنَّي اِمْرُؤْ تِلْعقابة أعافِسُ وأُمَارِسُ لَقَدْ قَالَ بَأطِلاً ونَطَقَ آثِماً أَمَا وشَرُّ اَلْقَوْلِ اَلْكَذِبُ إِنَّه لَيقُولُ فَيَكْذِبُ ويَعِدُ فَيُخْلِفُ ويَسْأَلُ فَيُلْحِفُ ويُسأَلُ فَيَبْخَلُ ويَخُونُ اَلْعَهْدَ ويَقْطَعُ اَلْلإِلَّ)) [٤٧] ، مستغنيا عن الفعل بذكر المصدر النائب عنه وحذف وموصوف ابن لغرض الإطلاق في دلالة التعجب، والتحقير لما بدر منه في ذلك الفتراء مؤكدا ذلك (عليه السلام) من خلال التعبير بالمصجر فهوأثبت وألزم للمعنى المراد تحقيقه في ذلك الحجاج.
ويتجلى في نظم آخر إبداع فريد يقوم على المزاوجة بين الجمل الاسمية الفعلية ، حيث التعبير بأحداهما في سياق لاتنفع فيه الأخرى ، فالاسم يدل على الحدث أوالحقيقة غير مقرون بزمان، أما الفعل فيدل على الحدث والحقيقة مقرونا بزمان ،وكل ماكان زمانيا فهومتغير، والتغير يشعر بالتجدد والحدوث ، لذلك كانت الجملة الفعلية تدل على التجدد والحدوث والاسمية تدل على الدوام والثبوت [٤٨] ، قال ( عليه السلام) رادا على معاوية: ((أَمَّا بَعْدُ فإِنَّا كُنَّا نَحْنُ وأَنتُمْ عَلَى مَا ذَكَرْتَ مِنَ اَلأُلفةِ واَلجَمَاعَةِ فَفَرقَ بَيْنَنَا وبَيْنَكُمْ أَمْسِ أَنَّا آمَنَّا وكَفَرتُم واليَومَ أَنَّ إستَقَمنَا وفتنِتُتمْ)) [٤٩] ، في نسق دقيق تتقابل فيه الجملة الاسمية مع الفعلية (انا آمنا وكفرتم) و(انا استقمنا وفتنتم) بمرجعية لغوية تحدد عودة، الجملة الاسمية إلى المتكلم ، والفعلية إلى المخاطب ، إشعارا بثبوت آل النبي على الحق الراسخ ، لذا أستعمل (عليه السلام) ما يؤكد تلك الحقيقة معبرا عنها بالجملة الاسمية (انا آمنا)، قابلها التوظيف الفعلي للمخاطب (وكفرتم) دلالة على حدوث الكفر وتجدده منهم في زمن الرسول (عليه السلام) وزمنه (عليه السلام) ،ولعل في ذلك العدول ((ضرب من التأكيد والمبالغة)) [٥٠] ، لإحداث حالة فكرية ذات تصعيد لغوي ملفت لخصائص الحجاج عند الأمام (عليه السلام) ، فضلا عن أن هذا الضرب من التعبير يعد من أهم الوظائف الحجاجية، فالتمثيل بالجملة الإسمية هو محاولة لجعل مانقوله يقع خارج دورة الزمان فلا تلابسه ذاتية ولا يداخله إنحياز فتكون أقوالنا بمنزلة الحقائق والمسلمات [٥١] ، وهذا ما أراده (عليه السلام) من خلال ذلك التوصيف.
أما التضمين فيمكن عده من خصائص الحجاج عند الإمام (عليه السلام)، فتراه مضمنا بعض الأمثال لإلزام خصمه ما يمكن أن يحط من شأنه، ويفت من حجته وبرهانه، يقول (عليه السلام) لمعاوية : ((أَمَا بَعْدُ فَقَدْ أَتَانِي كَتابُكَ تَذكُرُ فِيهِ اِصطِفَاءَ اللهِ؟
مُحمَّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) لدينِهِ وتَأْييدَهُ إِيَّاهُ لِمَنْ أيَّدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ فَلَقَدْ خَبَّأَ لَنَا اَلدَّهْرُ مِنكَ عَجَباً إِذْ طَفِقْتَ تُخْبِرنَا بِبَلاَء اللهِ تَعَالَى عندَنَا ونِعْمَتِهِ عَلَيْنَا فَكُنْتَ فِي ذَلِكَ كَنَاقِلِ اَلتَّمْرِ إِلَى هَجَرَ؟ أَودَاعِي مُسَدِّدِهِ إِلَى اَلنِّضَالِ وزَعَمَتَ أَنَّ أَفضَلَ اَلنَّاسِ فِي اَلاْسْلاَمِ فُلاَنٌ وفُلاَنٌ فَذَكّرْتَ أَمْراً إِنْ تَمَّ اِعْتَزلَكَ كُلُّهُ وإِنْ نَقَصَ لَمْ يَلْحَقْكَ ثَلْمُهُ ومَا أَنْتَ واَلْفَاضِلَ اَلْمَفضُولَ واَلسَّائِسَ واَلْمَسُوسَ ومالِلطٌّلَقَاءِ وأَبْنَاءِ اَلطُّلَقَاءِ واَلتَّمْييزَ بَيْنَ اَلْمُهَاجِرينَ اَلْأَوَّلِينَ وترتِيبَ دَرَجَاتِهِمْ وتَعرِيفَ طَبَقَاتِهِمْ هَيْهَاتَ لَقَدْ حَنَّ قِدْحٌ لَيْسَ مِنْهَا وطَفِقَ فِيهَا مَنْ عَلَيْهِ اَلْحُكْمُ لَهَا)) [٥٢] .
فقوله (عليه السلام) كناقل التمر إلى هجر مثل قديم، يقول العرب: ((كمُستَبْضِعِ الثَمْر إلى هَجَرَ قَال أبوعبيد: هذا من الأمثال المبتذلة ومن قديمها وذلك أن هَجَرَ معدنُ التمر والمستبضع إليه مخطئ ويقَال أيضاً : كميستضع التمر إلى خبير)) [٥٣].
ساقه الإمام (عليه السلام) في معرض الإستهجان والتوبيخ لما أخبر به المخاطب، كونه يصدر من حقيقة ليست بصالحة فهي عليه لا له، متوجا ذلك الإستغراب بما تناقله العرب في ذلك المضمار وهونقل التمر إلى هجر، وهجر لا تحتاج إلى تمر ، فكذلك المخبر لم يغن بما جاء به من الإخبار شيئاً.
وعليه فالتضمين هنا أبرز دورا مكثفا في تفعيل الحجاج وحضوره في ذهن المخاطب المقصود وغير المقصود ، لشهرة المثل تداوليا في المخيال العربي ، مع إبراز حقيقة ثقافية تخص المخاطب (معاوية) أنه لم يحسن الخطاب الحجاجي المسند بالحقائق المتيقنة.
وفي نص آخر تتحقق جمالية أسلوبية في تنويع رفيع ، تسهم في تصعيد الخطاب الحجاجي وتفعيله في النفس ، قال (عليه السلام): حينما جمع الناس وحضّهم على الجهاد فسكتوا مليّا: ((أَمٌخْرسُونَ أَنْتُمْ فَقَالَ قَومٌ مِنْهُمْ يَا؟ أَمِيرَ اَلْمُؤمِنينَ ؟ إِنْ سِرْتَ سِرْنَا مَعَكَ فَقَالَ (عليه السلام): مَا بَالُكُمْ لاَ سُدِّدْتُمْ لِرُشدٍ ولاَ هُدِيتُمْ لِقَصْدٍ أَفِي مِثْلِ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ أَخْرُجَ وإِنَّمَا يَخْرُجُ فِي مِثْلِ هَذَا رَجُلٌ مِمَّنْ أَرضَاهٌ مِنْ شُجْعَانِكُمْ وذّوِي بَأْسِكِمْ ولاَ يَنْبَغِي ليِ أَنْ أَدَعَ اَلْمِصْرَ واَلجُنْدَ وبَيْتَ اَلْمَالِ وجِبَايَةَ اَلْأَرْضِ واَلْقَضَاءَ بَيْنَ اَلْمُسْلِمينَ واَلنَّظَرَ فِي حُقُوق اَلْمُطَالبِيِنَ ثُمَّ أَخرُجَ فِي كَتِيبَةٍ أَتبَعُ أُخْرَى أَتَقَلْقَلُ تقَلْقُلَ اَلْقِدْحِ فِي اَلْجَفيرِ اَلْفَارِغِ)) [٥٤].
إذ حثهم (عليه السلام) على الجهاد في بعض المواقف، فلم يجيبوه بشيء كأن في آذانهم وقرا، فقال : (أمخرسون أنتم؟) فأجابه واحد منهم بقوله: (إن سرت سرنا معك).
فقال الإمام (عليه السلام): (لا سددتم لرشد، ولا هديتم لقصد) والرشد الهداية والاستقامة، والقصد الاعتدال ، وليس هذا دعاء كما توهم البعض، بل بيانا لواقع الحال في صيغة الدعاء ، والقصد منه اللوم والتوبيخ [٥٥] ، فالملاحظ تكرار (سرت،سرنا) و(لاسددتم ولا هديتم) و(أخرج ويخرج)، وهي بواعث نفسية أنطلقت من الإمام (عليه السلام)، لترسم بأيحاءها حالات التردد والاضطراب في نفوس أصحابه من جانب وماكان يعتلج الإمام (عليه السلام) من أذى في رؤية ذلك المشهد المرئي، إذ كرر الأفعال بنسق متقابل للإشارة إلى الحدث المحاجج فيه وهوطلب السير والخروج منه بشكل مستمر لم يتغير ولم يتبدل فناسبه حينئذ التعبير بالفعل لما يدل عليه من ((حدث مقرون بزمان)) [٥٦] فضلا عن النفي المتكرر (بلا) ، وهو نفي((يمتد ليشمل الحاضر والمستقبل)) [٥٧] ، فيدخل فيه من لم يعرف الحق وأهله في حركة الزمن.
خاتمة البحث ونتائجه
*لم يخل الحجاج عند الإمام (عليه السلام) من وظائف قصدية ساقها الموقف والظرف المضطرب نفسيا واجتماعيا وسياسيا آنذاك، فترجمت بلغة أختزنت ذلك الواقع من فضول ملح واحتجاجات غير عقلائية ورغبات جامحة ساعية لمآربها على حساب المعتقد ومصالح الناس.
*خروج الحجاج في نهج البلاغة عن محيط العرف اللغوي المتمثل بالخصام والمغابلة إلى دائرة التوجيه والتنبيه في شتى المقتربات التي وقع فيها هذا الملحظ الخطابي، وبأدوات إستدلالية تقوم على الإقناع والتشويق في معرفة المضمر من الحجج.
* تنوع الخطاب الحجاجي عند الإمام علي (عليه السلام) من عقدي إلى أخلاقي إلى إنساني إلى تشريعي إلى إجتماعي ، يفصح عن سعة المساحة التي أحتلها هذا الأسلوب في زمنه (عليه السلام) ، أي كثرة المعارضين والمراوغين في السجال اللاواعي وغير المدرك لما يحاجج فيه.
* لم يكن الحجاج ذا فضاء محدود عند الإمام ، بل الإطلاق في أفق المعالجة والتقويم ، أساسه وكينونته، فقد صحح الإمام (عليه السلام) من خلال الحجاج الإستدلالي المسارات الخاطئة في التفكير العقدي إزاء الخالق أومسائل تخص القضاء والقدر ، أوما يتعلق بالبناء الثّقافي بشكل عام ، لاسيما كشف التلفيق الإعلامي المضلل بأساليبه وتمويهاته.
*تكامل الخطاب الحجاجي بممارسة لغوية جمالية تكتز الدلالة المؤثرة في السامع ، حيث الإشباع بخصائص لها حضورها في تفجير دلالة الحجاج وإبراز جمالياته، كالتنوع في الأسلوب من الخبر إلى الإنشاء على وفق ما يقتضيه المقام وحال المخاطب.
*إنفتاح خارطة الحجاج على أساليب أخرى كالإطناب والوصف والحذف والعدول من الاسمية إلى الفعلية والتضمين والتكرار يشير إلى نزعة ملحة تبغي التأثير والضرب على الذات البشرية كي تفهم الطاقة الكامنة في ذلك الحجاج المتشعب القدرات المؤسس لمراحل متحركة تخرج عن زمنه (عليه السلام).
-------------------------------------------------------------------
[١] . الآخر في القرآن :٥
[٢] . علم اللغة الاجتماعي : ٢٣٧
[٣] . العين: ١/١٦٣، وينظر : تهذيب اللغة : ١/٤٢١ ، وينظر :مجمل اللغة: ١/٣٧٢
[٤] . لسان العرب : ٢٢٨
[٥] . التحرير والتنوير: ٣/٣١ ، ٣٢ *ينظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم : ٢٤٦.
[٦] . الحجاج في القرآن: ١١.
[٧] . الفروق اللغوية : ١/١٢٢ ، وينظر: الحِجاج بين النظرية والأسلوب: ١٦ ، عندما نتواصل نغير (مقاربة تداولية معرفية لآيات التواصل والحجاج): ١٢، التداولية والحجاج (مداخل ونصوص ) : ٢١، استراتيجيات الخطاب (مقاربة لغوية تداولية): ٤٥٦.
[٨] . شرح نهج البلاغة : ٥/٢٠٠.
[٩] . م.ن: ١٤/٢٢
[١٠] . م.ن: ١/٣٧
[١١] . منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: ١/٥٢
[١٢] . سلطة الحق : ٤٣٨، وينظر: الراعي والرعية : ٢٦١ ، وينظر : الإسلام والرأي الآخر:١١٣ .
[١٣] . مهزلة العقل البشري: ٨٣، التخلف الاجتماعي مدخل إىل سيكولوجية الإنسان المقهور: ١٠٣.
[١٤] . شرح نهج البلاغة: ١/١٦٨
[١٥] . منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: ١/٦١ * يكفي في ذلك مراجعة: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: ٦/٢٢٧.
[١٦] . شرح نهج البلاغة: ١/١٦٨
[١٧] . منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: ٤/١١
[١٨] . محاولات في تحليل الخطاب: ١٢٢
[١٩] . شرح نهج البلاغة: ٢/٧٦
[٢٠] . م.ن: ٢/٧٩
[٢١] . م.ن: ٢/١٧٠
[٢٢] . منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: ١/٣٥
[٢٣] . شرح نهج البلاغة: ٨/٢٥٤
[٢٤] . م.ن: ١٧/١١
[٢٥] . م،ن: ٢/٨٨
[٢٦] . في ظلال نهج البلاغة: ١/١٥٤
[٢٧] . شرح نهج البلاغة: ٢/٥٣
[٢٨] . في ماهية اللغة وفلسفة التأويل: ١٥٥
[٢٩] . شرح نهج البلاغة: ١/١١١
[٣٠] . شرح نهج البلاغة: ١/١١٨
[٣١] . في ظلال نهج البلاغة: ٣/٥٨
[٣٢] . شرح نهج البلاغة: ٢/٥٢
[٣٣] . م.ن: ٢/٥٣
[٣٤] . في ظلال نهج البلاغة: ١/١٧٦
[٣٥] . الإيضاح في علوم البلاغة: ١٧
[٣٦] . شرح نهج البلاغة: ١/٨٠
[٣٧] . منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: ٢/٧٨
[٣٨] . جواهر البلاغة: ٧٦، وينظر سلطة الحق: ٢٩٥
[٣٩] . شرح نهج البلاغة: ١/٧٧
[٤٠] . منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: ٢/٢٣
[٤١] . دلالات التراكيب: ٢٨٤
[٤٢] . شرح نهج البلاغة: ٢/٨١
[٤٣] . لسان العرب: ٧/١٩٤
[٤٤] . المثل السائر: ٢/٣٤٦.
[٤٥] . شرح نهج البلاغة: ١/١٦٨
[٤٦] . دلائل الإعجاز: ٤٢
[٤٧] . شرح نهج البلاغة: ١/٧٤
[٤٨] . الفعل زمانه وأبنيته ٢٠٣، ٢٠٤، وينظر: معاني الأبنية في العربية: ٩، وينظر: نظرات لغوية في القرآن الكريم: ٦٣
[٤٩] . شرح نهج البلاغة: ١٤/٤٣
[٥٠] . المثل السائر: ٢/٥١
[٥١] . الحجاج في القرآن: ٤٤٠
[٥٢] . شرح نهج البلاغة: ١/٥١
[٥٣] . مجمع الأمثال: ٢/١٥٢
[٥٤] . شرح نهج البلاغة: ١/٥١
[٥٥] . في ظلال نهج البلاغة: ١/١٠١
[٥٦] . اللغة العربية معناها ومبناها: ١٠٤، وينظر: الفعل زمانه وأبنيته: ٢٠٣.
[٥٧] . التراكيب اللغوية في العربية دراسة وصفية: ٣٠٧
مصادر البحث
*القرآن الكريم
*الآخر في القرآن ، غالب حسن الشابندر مركز دراسات فلسفة الدين ، بغداد، ٢٠٠٥م.
*استراتيجيات الخطاب (مقاربة لغوية تداولية)، عبد الهادي بن ظافر الشهري ، دار الكتاب الجديد المتحدة، ليبيا، ط ١، ٢٠٠٤م.
*الإسلام والرأي الآخر (تجربة الأمام علي أنموذجا)، حسن السعيد ، دار الهادي ، بيروت ، ط١، ٢٠٠٣م.
*الإيضاح في علوم البلاغة، الخطيب القزويني (٧٣٩هـ)، عبد المنعم الخفاجي، دار الكتاب ، بيروت ، ط٥ ، ١٩٨٠م.
*التحرير والتنوير، الطاهر أبن عاشور، الدار التونسية للنشر ، تونس ، ١٩٨٤م.
*التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، د. مصطفى حجازي ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء المغرب ، ط٩ ،٢٠٠٥م.
*التداولية والحجاج (مداخل ونصوص)، صابر الحباشة، دار صفحات للدراسات والنشر ، دمشق ، ط١ ، ٢٠٠٨م.
*التراكيب اللغوية في العربية دراسة وصفية تطبيقية ، د. هادي نهر ، مطبعة الإرشاد، بغداد ، ١٩٨٧م.
*تهذيب اللغة، أبومنصور مُحمّد بن أحمد الأزهري (ت:٣٧٠ هـ)، علق عليه: عمر: السلامي ، وعبد الكريم حامد، دار إحياء التراث ، بيروت ط١ ، ١٤٢١ هـ.
*جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع ، أحمد الهامشي ، مطبعة الاعتماد مصر ، ط١٠، ١٩٤٠م.
*الحِجَاج بين النظرية والأسلوب عن كتاب نحوالمعنى والمبنى ، باتريك شارودو، ترجمة : الدكتور أحمد الودرني ، دار الكتاب الجديد المتحدة، ليبيا ، ط١ ، ٢٠٠٩م.
*الحجاج في القرآن (من خلال أهم خصائصه الأسلوبية)، عبد الله صولة ، دار الفارابي ، بيروت ، لبنان ، ١٩٨٧م.
*دلالات التراكيب دراسة بلاغية ، محمد حسنيين أبوموسى مكتبة وهبة ، القاهرة ، ط١، ١٩٩٧م.
*الراعي والرعية ، توفيق الفكيكي ، دار الغدير ، إيران ط ١ ، ١٤٢٩ هـ.
*علي سلطة الحق ، عزيز سيد جاسم ، تحقيق وتعليق: صادق جعفر الروازق، منشورات الإجتهاد، ط١ ، ٢٠٠٠م.
*عندما نتواصل نغير (مقاربة تداولية معرفية لآليات التواصل والحجاج)، الدكتور عبد السلام عشير ، مطابع أفريقا الشرق ، الدار البيضاء ٢٠٠٦م.
*شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد (٦٥٦ هـ)، تحقيق: محمد أبوالفضل إبراهيم ، دار إحياء التراث العربي، ط١ ، ١٤٢٦ هـ.
*علم اللغة الاجتماعي، كمال بشر ، دار غريب للطباعة ، القاهرة ، (د.ت).
*العين ، الخليل بن احمد (ت: ١٧٥ هـ)، مهدي المخزومي ، وإبراهيم السامرائي ، مؤسسة الميلاد، قم ط١ ، ١٤١٤ هـ.
*الفروق اللغوية ، أبوهلال العسكري (ت:٣٩٥ هـ)، دار الآفاق الجديدة ، بيروت ، ط١ ، ١٩٧٣م.
*في ظلال نهج البلاغة ، محاولة لفهم جديد ، محمد جواد مغنية، مؤسسة الكتاب الإسلامي، ط٢، ١٤٢٦ هـ.
*الفعل زمانه وأبنيته ، إبراهيم السامرائي ، مطبعة العاني ، بغداد، ١٩٦٦م.
*في ماهية اللغة وفلسفة التأويل ،د. سعيد توفيق ، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر ، بيروت ، ط١، ٢٠٠٢م.
*لسان العرب ، الإمام أبوالفضل جمال الدين محمَّد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري (ت: ٧١١ هـ)، دار صادر، بيروت، ط١، ٢٠٠٧م.
اللغة العربية معناها ومبناها : د . تمام حسان ، الهيأة المصرية العامة للكتاب ، ١٩٧٣م.
*المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر ، ضياء الدين نصر الله بن أبي الكرم مُحمَّد بن عبد الكريم ابن الأثير الجزري (ت:٦٣٧هـ)، تحقيق: أحمد الحوفي وبدوي طبانة ، منشورات دار الرفاعي الرياض، ط٢، ١٩٨٣م.
*مجمع الأمثال أبوالفضل أحمد بن محمد النيسابوري الميداني، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد ، دار الفكر، (د،ت).
*مجمل اللغة، أحمد بن فارس (ت: ٣٩٥ هـ) ، تحقيق: الشيخ هادي حسن حمودي ، منشورات معهد المخطوطات العربية ، الكويت ، ١٩٨٥م.
*محاولات في تحليل الخطاب ، صابر الحباشة ، بيروت ، ط١ ، ٢٠٠٩م.
**معاني الأبنية في العربية ، فاضل السامرائي ، الكويت ،ط١، ١٤٠١هـ.
*المعجم المفهرس لألفاظ القرآن ، محمد فؤاد عبد الباقي ، منشورات ذوي القربى ، إيران ط٣، ١٣٨٤ هـ.
*المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ، د. جواد علي ، دار العلم للملايين ، بيروت ومكتبة النهضة ، بغداد ، وشركة ومكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده ، مصر، (د،ت).
*مهزلة العقل البشري ،د. علي الوردي ، دار الحياة ، (د،ت)
*منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب الله الهاشمي الخوئي ، طهران ، ط٤ ، ١٤٠٥ هـ.
*نظرات لغوية في القرآن الكريم، د. صالح بن حسين العايد، دار إشبيليا ، الرياض ، ط٢٠٠٢، ٢م.
منقول من مجلة كلية الاداب العدد -٩٧