بعد حمد الله تعالى والثناء عليه
«إنّ قريشاً طلبت السعادة فشقيت، وطلبت النجاة فهلكت، وطلبت الهدى فضلّت، ألم يسمعوا ـ ويحهم ـ قوله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ»؟ فأين المعدل والمفرّ عن ذريّة الرسول الذين شيّد الله بنيانهم فوق بنيانهم، وأعلى رؤسهم فوق رؤسهم، واختارهم عليهم، ألا إنّ الذرّيّة أفنان أنا شجرتها، ودوحة أنا ساقها، وإنّي من أحمد (صلى الله عليه وآله) بمنـزلة الضوء من الضوء، والذراع من العضد، كنّا ظِلالاً تحت العرش قبل خلق البشر وقبل خلق الطينة التي خُلق منها البشر أشباحاً عالية لا أجسام نامية، إنّ أمرنا صعب مستصعب لا يعرف كُنهه إلاّ ثلاثة: مَلَك مقرّب أو نبيّ مُرسَل أو عبد امتحن الله قلبه للايمان، فإذا انكشف لكم سرّ أو وضح لكم أمر فاقبلوه، وإلاّ فاسكتوا تسلموا، وردّوا علمنا إلى الله تعالى».
قوله صلوات الله عليه: «وإنّي من أحمد بمنـزلة الضوء من الضوء».
قال ابن أبي الحديد المعتزلي (مج ٤ ص ١٠٧ من الطبعة الاولى بمصر) عند شرح هذه الكلمة:
«ذلك لأنّ الضوء الأوّل يكون علّة في الضوء الثاني، ألا ترى أنّ الهواء المقابل للشمس يصير مضيئاً من الشمس، فهذا الضوء هو الضوء الأوّل، ثمّ إنّه يقابل وجه الأرض فيضيء وجه الأرض منه، فالضوء الذي على وجه الارض هو الضوء الثاني، وما دام الضوء الأوّل ضعيفاً فالضوء الثاني ضعيف، فإذا ازداد الجوّ إضاءة ازداد وجه الأرض إضاءة، لأنّ المعلول يتبع العلّة، فشبّه (عليه السلام) نفسه بالضوء الثاني، وشبّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالضوء الأوّل، وشبّه منبع الأضواء والأنوار سبحانه وجلّت أسماؤه بالشمس التي توجب الضوء الأول، ثمّ الضوء الأوّل يوجب الضوء الثاني، وههنا نكتة وهي أنّ الضوء الثاني يكون أيضاً علّة لضوء ثالث، وذلك أنّ الضوء الحاصل على وجه الأرض ـ وهو الضوء الثاني ـ إذا أشرق على جدار مقابل ذلك الجدار قريباً منه مكان مظلم، فإنّ ذلك المكان يصير مضيئاً بعد أن كان مظلماً، وإن كان لذلك المكان المظلم باب وكان داخل البيت مقابل ذلك الباب جدار، كان ذلك الجدار أشدّ إضاءة من باقي البيت، ثمّ ذلك الجدار إن كان فيه ثقب إلى موضع آخر كان ما يحاذي ذلك البيت أشدّ إضاءة ممّا حواليه، وهكذا لا يزال الضوء يوجب بعضه بعضاً على وجه الإنعكاس بطريق العلّيّة وبشرط المقابلة، ولا تزال تضعف درجة درجة إلى أن تضمحلّ ويعود الأمر الى الظلمة، وهكذا عالم العلوم والحكم المأخوذة من أمير المؤمنين (عليه السلام) لا تزال تضعف كلّما انتقلت من قوم إلى قوم إلى أن يعود الاسلام غريباً كما بدا بموجب الخبر النبوي الوارد في الصحاح «بدء الإسلام غريباً وسيعود غريباً»[١].
وأمّا قوله: وكالذراع من العضد، فلأنّ الذراع فرع على العضد، والعضد أصل، ألا ترى أنّه لا يمكن أن يكون ذراع إلاّ إذا كان عضد، ويمكن أن يكون عضد لا ذراع له، ولهذا قال الراجز لولده:
يا بكر بكرين ويا خلب الكبد أصبحت مني كذراع من عضد
فشبّه (عليه السلام) نفسه بالنسبة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالذراع الذي العضد أصله وأُسّه، والمراد من هذا التشبيه الإبانة عن شدّة الامتزاج والاتّحاد والقرب بينهما، فإنّ الضوء الثاني شبيه بالضوء الأول، والذراع متّصل بالعضد اتّصالاً بيّناً، وهذه المنـزلة فقد أعطاه إياها رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مقامات كثيرة، نحو قوله في قصّة براءة «قد أُمرت أن لا يؤدّي عني إلاّ أنا أو رجل مني»، وقوله: «لتنتهنّ يا بني وليعة أو لأبعثن إليكم رجلاً مني، أو قال عديل نفسي»، وقد سمّاه الكتاب العزيز نفسه فقال: «وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ»[٢] وقد قال له «لحمك مختلط بلحمي، ودمك منوط بدمي، وشبرك وشبري واحد»[٣].
[أهل البيت (عليهم السلام) أظلة العرش]:
قوله (عليه السلام): «كنّا ظِلالاً تحت العرش قبل خلق البشر وقبل خلق الطينة التي خلق منها البشر».
جاء في تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي من علماء القرن الثالث الهجري (مج١ ص ١٨ ط النجف) عن الإمام الرضا، عن آبائه، عن علي (عليه السلام) أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما خلق الله خلقاً أفضل منّي ولا أكرم عليه مني. فقلت: يا رسول الله فأنت أفضل أو جبرئيل؟ فقال (صلى الله عليه وآله): يا علي إنّ الله فضّل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقرّبين، وفضّلني على جميع النبيّين والمرسلين، والفضل بعدي لك يا علي وللأئمّة من بعدك، وإنّ الملائكة لخدّامنا وخدّام محبّينا، يا علي الذين يحملون العرش ومن حوله يسبّحون بحمد ربّهم ويستغفرون للذين آمنوا بولايتنا، يا علي لولا نحن ما خلق الله آدم ولا حوّاء ولا الجنّة ولا النار ولا السماء ولا الأرض، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة وقد سبقناهم إلى معرفة ربنا وتسبيحه وتقديسه، لأنّ أوّل ما خلق الله خلق أرواحنا، فأنطقنا بتوحيده وبتمجيده، ثمّ خلق الملائكة، فلمّا شاهدوا أرواحنا نوراً واحداً استعظموا أمرنا، فسبّحنا لتعلم الملائكة، فسبّحت الملائكة بتسبيحنا»[٤].
وفي كتاب الاختصاص تأليف الشيخ المفيد رضوان الله عليه عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «والله ما برء الله من بريّة أفضل من محمد ومنّي ومن أهل بيتي، وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطلبة العلم من شيعتنا»[٥].
وفي كتاب (بصائر الدرجات) في باب (أمير المؤمنين وأولو العزم أيّهم أفضل). وكذا جاء في بحار الأنوار، عن عبد الله بن الوليد قال: قال لي أبوعبد الله (عليه السلام): أيّ شيء يقول الشيعة في عيسى وموسى وأمير المؤمنين (عليهم السلام)؟ قلت: يقولون إنّ عيسى وموسى أفضل من أمير المؤمنين، قال: فقال: أيزعمون أمير المؤمنين (عليه السلام) قد علم ما علم رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قلت: نعم، ولكن لا يقدّمون على أُولي العزم من الرسل أحداً، قال أبو عبد الله (عليه السلام): فخاصِمهم بكتاب الله. قال: قلت: وفي أيّ موضع منه أخاصمهم؟ قال: قال الله تعالى لموسى: «وكَتَبْنا لَهُ فِي الأَْلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ»[٦] علمنا أنّه لم يكتب لموسى كلّ شيء، وقال الله تبارك وتعالى لعيسى: «وَلأُِبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ»،[٧] وقال الله تعالى لمحمد (صلى الله عليه وآله): «وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ»[٨].
وعن الحسين بن علوان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إنّ الله خلق أُولي العزم من الرسل وفضّلهم بالعلم وأورثنا علمهم وفضلهم، وفضّلنا عليهم في علمهم، وعلّم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما لم يعلموا، وعَلِمنا علمَ الرسول وعلمَهم»[٩].
وعن عبد الله بن الوليد السمان قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام): يا عبد الله ما تقول الشيعة في علي وموسى وعيسى (عليه السلام)؟ قال: قلت: جُعلت فداك، ومن أيّ حالات تسألني؟ قال: أسألك عن العلم، فأمّا الفضل فهم سواء. قال: قلت: جُعلت فداك فما عسى أقول فيهم؟ فقال: هو والله أعلم منهما، ثم قال: يا عبد الله أليس يقولون إنّ لعلي (عليه السلام) ما للرسول من العلم؟ قال: قلت بلى، قال: فخاصمهم فيه، قال إنّ الله تبارك وتعالى قال لموسى: «وكَتَبْنا لَهُ فِي الأَْلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ»[١٠] فأعلمنا أنّه لم يبيّن له الأمر كلّه، وقال الله تبارك وتعالى لمحمد:«وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ»[١١].
وعن علي بن إسماعيل عن بعض رجاله قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) لرجل: «تمصّون الثماد وتدعون النهر الأعظم؟ فقال له الرجل: ما تعني بهذا يا بن رسول الله؟ فقال: عِلم الأنبياء بأسره أوحاه الله إلى محمد (صلى الله عليه وآله)، فجعله محمّد عند علي (عليه السلام)، فقال له الرجل: فعلي أعلم أو بعض الأنبياء، فنظر أبو عبد الله (عليه السلام) إلى بعض أصحابه، فقال: «إنّ الله يفتح مسامع من يشاء، أقول له إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) جعل ذلك كلّه عند علي فيقول علي أعلم أو بعض الأنبياء»[١٢].
وفي المجلّد الاول من أصول الكافي تأليف محمد بن يعقوب الكليني ص ٢٢٢ ـ في باب (أنّ الأئمة ورثة العلم) عن علي بن النعمان، رفعه عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال أبو جعفر يمصّون الثماد القليل من الماء ويدعون النهر العظيم ! قيل له: وما النهر العظيم؟ قال: رسول الله والعلم الذي أعطاه الله، إنّ الله (عز وجل) جمع لمحمد (صلى الله عليه وآله) سنن النبيّين من آدم وهلمّ جرّاً إلى محمد (صلى الله عليه وآله)، قيل له: وما تلك السنن؟ قال: علم النبيّين بأسره، وإنّ رسول الله صيّر ذلك كلّه عند أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال له رجل: يا بن رسول الله فأمير المؤمنين أعلم أم بعض النبيّين؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): اسمعوا ما يقول، إنّ الله يفتح مسامع من يشآء، إنّي حدّثته أنّ الله جمع لمحمّد (صلى الله عليه وآله) علم النبيّين، وأنّه جمع ذلك كلّه عند أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهو يسألني أهو أعلم أم بعض النبيّين»[١٣].
وفيه أيضاً ص ٢٦٣ عن حمران بن أعين عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إنّ جبرئيل أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) برمّانتين، فأكل رسول الله إحداهما وكسر الأخرى بنصفين فأكل نصفاً وأطعم علياً نصفاً، ثمّ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا أخي هل تدري ما هاتان الرمّانتان؟ قال: لا. قال: أمّا الأولى فالنبوّة ليس لك فيها نصيب، وأمّا الأخرى فالعلم أنت شريكي فيه، فقلت: أصلحك الله، كيف كان يكون شريكه فيه؟ قال: «لم يعلّم الله محمداً (صلى الله عليه وآله) عِلماً إلاّ وأمره أن يعلّمه علياً (عليه السلام)»[١٤].
وفي المجلّد الحادي عشر من البحار ص ١١٤ ط الحديثة، بالإسناد عن الصدوق، عن أبيه، عن محمد العطّار، عن الفزاري، عن محمد بن عمران، عن اللؤلئي، عن ابن بزيع، عن ابن ظبيان، قال: «قال أبو عبد الله (عليه السلام): اجتمع ولد آدم في بيت فتشاجروا، فقال بعضهم: خير خلق الله أبونا آدم، وقال بعضهم: الملائكة المقرّبون، وقال بعضهم: حملة العرش، إذ دخل عليهم هبة الله، فقال بعضهم: لقد جاءكم من يفرّج عنكم. فسلّم ثم جلس فقال: في أيّ شيء كنتم؟ فقالوا: كنّا نفكّر في خير خلق الله فأخبروه، فقال: اصبروا لي قليلاً حتّى أرجع إليكم، فأتى أباه فقال: يا أبت إنّي دخلت على أخوتي وهم يتشاجرون في خير خلق الله فسألوني، فلم يكن عندي ما أخبرهم، فقلت: اصبروا حتّى أرجع اليكم، فقال آدم (عليه السلام): يا بُنيّ وقفت بين يدي الله (جل جلاله) فنظرت إلى سطر على وجه العرش مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم، محمّد وآل محمّد خير من برأ الله».
وفي تفسير النيسابوري المطبوع على هامش تفسير الطبري في سورة الزخرف آية ٤٥، في تفسير قوله تعالى: «وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ». عن ابن عباس وابن مسعود أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «أتاني ملك فقال: يا محمّد سَل من أرسلنا من قبلك من رُسلنا علام بُعثوا؟ قال: قلت: علام بُعثوا؟ قال: على ولايتك وولاية علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)». رواه الثعلبي[١٥].
في تفسير البرهان في سورة الزخرف آية ٤٥، في تفسير في قوله تعالى: «وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ» عن جابر بن عبد الله، قال: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا جابر أيّ الأخوة أفضل؟ قال: قلت: البنون من الأب والأم، فقال: إنّا معاشر الأنبياء أخوة وأنا أفضلهم، ولأحب الأخوة إليّ علي بن أبي طالب، فهو عندي أفضل من الأنبياء، فمن زعم أنّ الأنبياء أفضل منه فقد جعلني أقلّهم، ومن جعلني أقلّهم فقد كفر، لأنّي لم أتّخذ علياً أخاً إلاّ لما علمتُ من فضله[١٦].