هذا هو الفصل الثاني من الباب الثاني الذي يُعنى بتبيان غرابة الألفاظ معنىً، وتبيّن لنا ـ في التمهيد ـ أنّ هناك سببين دلاليين يهيمنان على أسباب غرابة اللفظة، ذكرهما الأقدمون؛ هما: بُعْد اللفظة، وغموضها. وقد رأى الباحث أسباباً أخرى جعلت الكلمة غريبةً، جرياً مع البحث اللغوي الحديث . فأمّا البُعد فإنّ من وجوه وقوع (الغرابة) في العصر الجاهلي، ما كان يحدث في أسواق العرب، ومنها سوق (عُكاظ)، إذ كان يختلف إليه وفود من العرب من قبائل شتّى، وهي متنافرة اللغات، و نتلمس ذلك في أشعار كثير من شعرائهم، أمثال (الأزد، وحِمير، وطيء، ومذحج)، وشعراء أهل الحجاز، وغيرهم[١]. فلأجل هذا كان الشعراء يوحّدون لغتهم حيث يشدون تلك المواسم، إذ إنّ اللغة التي كانت سائدة، هي: (لغة قريش).
وأرى أنّ هذا هو السبب الذي جعل نافع بن الأزرق، يسأل ابن عباس ٢ (ت/٦٨ هـ) مسائل عديدة[٢]. أجاب عنها ابن عباس بشعر العرب، وقد شُرحت هذه المسائل وعُلِّق عليها[٣]، ولهذا جاء بُعْد الكلمة عن المألوف أو شرودها، من أنّ العرب؛ كانت تتوافد آنذاك إلى هذه الأسواق ـ عُكاظ وذي المجنّة وذي المجاز ـ لتعرض ما ادّخرته من المفردات العربية الفصيحة التي تضمّنتها قصائدها الشعرية، أو نثرها في هذه المحافل السنوية، وطبيعي أن ينتج عن هذا؛ تبادل لغوي. فما كان شارداً في الألفاظ من قبيلةٍ معينة، أصبح غريباً على القبائل الباقيات.
وفي الآن نفسه تفد إلى تلك القبيلة ألفاظٌ من بقية القبائل، فتكون غريبةً، فهي بين مكتسبة ومعطية.
فمن رام الفصاحة شافه هذه القبائل ـ وهي تعرض نتاجها اللغوي ـ وأخذ عنها، وربّما جاوز بعضهم طلب الفصيح من لغات هؤلاء الأعراب إلى طلب الغريب وحفظه واستعماله. وما لفظة (النِضْنَاض)[٤] ولفظة (النَّجه)[٥]، ولفظتا (الهُبَعْ) و(الرُبَع)[٦] إلّا دليلاً على ذلك .
وأمّا غموض الكلمة، فقد عنى بها الأقدمون؛ خفاء معناها بحيث لا يدركه الذهن إلّا بعد كدٍ وإعمال فكر، أو أن يُنقـّر عنها في كتب اللغة.
ومن ذلك ما يوجب حيرة السامع في فهم دلالة المعنى للمفردة الغريبة؛ لتردّدها بين معنيين أو أكثر، وقـد أورد لنا ابن قتيبة، وأبو هلال العسكري لفظة (الهـِرْشَفَّهْ) في بيت شعري، رواه؛ عيسى بن عمر النحوي (ت/١٤٩هـ)، واضطرب عيسى نفسه في تفسير اللفظة المذكورة، فمرّة فسرها بـ( العجوز)[٧] وأخرى فسرها بـ (الخِرقة)[٨]، حتى جاء (المنتجع بن نبهان التميمي)، وحسم الأمر، على الرغم من أنّ عيسى بن عمر كان ميّالاً للإغراب[٩] حتى عُرف به[١٠]، وجاوز بعضهم الحدَّ قليلاً حين عدّه مطبوعاً على الغريب لامتصنّعاً له[١١].
والحق أقول؛ إنّ هذه المفردة ممّا لا تسهل دلالتها المعنوية إلّا لذوي الاختصاص من أهل اللغة.
فبُعْد الكلمة عن المألوف، وغموضها ـ في ما اعتقده ـ غير كافيين للحكم عليها بالغرابة، ولابدّ لنا من أن نستعين بما توصّل إليه البحث اللغوي الحديث والمعاصر من أسبابٍ عدّها، لِتُعرف بها غرابة اللفظة في (النهج)، ومن هذه الأسباب ما يأتي:
١ـ اختلاف البيئة والأسلوب الحضاري .
٢ـ التناظر والتشابه في الأصوات .
٣ـ تداول اللفظة في أكثر من مجال .
٤ـ استعمال اللفظة بين الحقيقة والمجاز .
٥ـ أتساع دلالة اللفظة .
وقد قسّمتُ الفصل بهذا المعيار إلى خمسة مباحث مستعملاً فيها ألفاظاً من (النهج) بوصفها تطبيقات عملية على ما جاء به الدرس اللغوي الحديث، على أنّي غير متجاوز حدود الغرابة عند اللغويين القدامى والمتأخرين منهم، فالألفاظ التي سأستعملها أوردها علماء (الغريب) في كتبهم .
وتمّت مفردات هذا الفصل عندي مئتين وثماني عشرة مفردة وزّعتها على هذه المباحث، وسأمثـِّل لكلّ مبحث منها بمثال توضيحي، وآخر تطبيقي، كسابقه مستعيناً بمعاجم الألفاظ، وكتب (غريب الحديث) القديمة والمتأخرة وغيرها لتوثيق النصِّ كما في الفصل السابق من هذا الباب.
المبحث الأول؛ اختلاف البيئة والأسلوب الحضاري:
لابدّ من أن يحصل تفاوت بين الحواضر والبدو، ممّا يجعل بعض ألفاظ البيئة الصحراوية غريباً،إذا سُمع في البيئة الحضرية. فلا شكّ في أنّ لفظة (يَمْري)، ولفظة (الرِّبَق)، ولفظة (الجَرْجرة)[١٢] ألفاظ غريبة على أهل الحواضر، وكذلك تكون ألفاظ الحواضر، غريبة عند أهل البادية، وأحياناً تكون غريبةً في مابين الحواضر أيضاً.
فقد غزرت في كلّ بيئة مفردات تدور حول مظاهر تلك البيئة، وما اختصت به طبيعة البلاد الجغرافية، ففي البيئة البحرية برزت مفردات تتصل بشؤون البحر، كما هي الحال عند الفينيقيين، فقد كثرتْ عندهم المفردات «المتصلة بشؤون الملاحة البحرية»[١٣]، وتكثر في البيئة الصحراوية؛ المفردات التي تتصل بها أيضاً.
فإذا ارتحلت هذه الأعراب إلى الحواضر، رَحّـلـَتْ معها مفرداتها إلى تلك الحاضرة، فينتج عن هذا ألفاظٌ غريبة بين الحواضر نفسها، فكان أهل مكة يستعملون (الكافور، و الإغْريض)، في حين يستعمل أهل البصرة (الطَّلْع)، من قوله تعالى: «وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ»[١٤]، وإلى هذا المعنى ذهب الجاحظ[١٥]، وأشار إليه الدكتور محمود فهمي حجازي[١٦].
فالكوفة أحد تلك الأمصار التي استقبلت ألفاظ الأعراب من مختلف القبائل العربية التي اجتمعت للإمام في، جند الكوفة في أثناء خلافته (عليه السلام) فيها، لكنّ الغلبة كانت للناطقين بلهجة تميم، لحروبهم الكثيرة. فمنهم من كان مع الإمام ومنهم من كان مع خصومه الأمويين[١٧]. فراح يخطب فيهم بألفاظ تلك القبائل التي يبدو قسم من مفرداتها غريباً عن القبائل الأخرى .
ولفظة (اللَّدم)، هي: احدى الألفاظ الصحراوية التي باتت غريبة وظلت كذلك، منذ أن أظهرها الإمام إلى القرن الثاني الهجري، حتى سجـّلها أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه؛ على أنّها من غريب حديث الإمام علي، وما انفكت غريبة حتى القرن السابع الهجري ـ في ما امتدت إليه يداي من المصادر ـ إذ دوّنها علماء (الغريب) في كتبهم موثـّقة للإمام[١٨].
جاءت هذه اللفظة في معرض كلامه لمّا أُشير عليه بألاّ يتبع طلحة والزبير ولا يرصد لهما القتال، فقال: «واللهِ لا أكَونُ كالضَّبُع تَنَامُ عَلى طُولِ اللَّدم؛ حَتى يَصِلَ إليْها طالِبُها، ويَخْتِلَها راصِدُها...»[١٩].
ومعنى هذا هو: لا أقعد عن الحرب والانتصار لنفسي وسلطاني، فيكون حالي مع القوم المشار إليهم، حال الضَّبع مع صائدها، والعرب تقول في رموزها وأمثالها «أحمقُ من الضَّبُعِ»[٢٠].
ويأتي حُمق الضَّبُع ـ كما يزعمون ـ من أنّهم إذا رموا في جحرها بحجرٍ، أو ضَربوا بأيديهم باب الجحر فتحسبه شيئاً تصيده، فتخرج لتأخذه فتُصاد عند ذلك، ويبلغ من حُمقها أنّ الصائد يدخل عليها وِجارَها، فيقول لها: أطرقي أم طُرَّيق، خامري أم عامر، أي طأ طئي رأسك[٢١]، قالوا فتلجأ إلى أقصى مغارها فيقول: أم عامر ليست في وِجارها أم عامر نائمة، فتمدّ يديها ورجليها وتستلقي، فيدخل عليها الصائد فيوثـّقها، فيقول الصائد: إبشري أم عامر، فتُشدُّ عراقيبها، فلا تتحرّك، ولو شاءت أن تقتله لأمكنها. ومن هذا المعنى، قال الشَّنْفرى:
«لا تَقْبرونِي إنَّ قَـبْري مُحَــــــرَّمٌ عَلَيْكُم ولكِنْ خامِري أَمَّ عامـرِ»[٢٢]
وذكر الجوهري أنّ معنى (اللَّدم) هو: صوت الحجر، يقع بالأرض، وليس بالصوت الشديد[٢٣]، يقال: (لدِمْتُ ألدم لَدْماً)، ومن هذا المعنى قال ابن مقبل:
«وَ لِلفُـؤادِ وَجِيـبٌ تَحــْتَ أبهَـره لَدْمَ الغُلامِ وَراءَ الغَيبِ بالحَجَرِ»[٢٤]
وتابع الجوهريَّ الرازي[٢٥]، وابنُ أبي الحديد[٢٦]، غير أنّ ابن سيدة، توسّع قليلاً في معنى هذه اللفظة، إذ قال: « لدمتْ المرأة صدرها؛ ضربته، ولدمتُ خبز الملة، ضربته»[٢٧]. لكنّ ابن منظور؛ زاد على سابقيه في دلالة (اللَّدم) المعنوية بقوله: «... وأنّ اللَّدم بمعنى اللّطم، والضرب بشيء ثقيل يُسمع وَقعُه»[٢٨].
فابن منظور فسّر دلالة (اللَّدم) (باللّطم) هذا من جهة، ومن جهة أخرى، أنّه يشترط في معنى اللفظة هذه؛ الضرب الشديد، على عكس الجوهري والرازي، وقد نقل هذا المعنى أيضاً الفيروز آبادي[٢٩]، بزيادة معنى واحد هو: (رقع الثوب)، ونقل صاحب(التاج) كلّ المعاني التي ذكرها المتقدمون من أصحاب المعاجم[٣٠] في دلالة (اللَّدم) المعنوية، ولم يورد لنا (المعجم الوسيط) معاني جديدة، بل اختصرها، واكتفى بذكر ما قاله الجوهري، بحذف شيءٍ منه فقال: «اللَّدم: صوت الحجر، أو الشيء يقع بالأرض وليس بالصوت الشديد ...»[٣١].
وإنْ دلّ هذا على شيء، فإنّما يدلُّ على غرابة هذه اللفظة، بحيث لا يتوسّع في معناها حتى المعجم الحديث، ولم يورد إلّا الدلالات المعجمية القديمة نفسها وذلك لعدم استعمال هذه اللفظة، فهي غريبة إلى الآن، ولاسيما أنّ الحاجة إلى معانٍ جديدة مع تطوّر الحياة حاجة ملحّة.
يستفاد ممّا ورد في (المعاجم)، أنّ (اللَّدم) مرادف ـ عند أصحابها ـ للّطم، وللضرب، والحقّ أنَّ هناك فرقاً دقيقاً بين (اللّطم واللَّدم). فاللّطم: هو ضرب الصدر، أو صفحة الجسد بكف مفتوحة[٣٢] وكذلك ضربك لخصمك.
أما اللَّدم: فلا يكون إلّا على الصدر؛ لأنّه يكون بكف مقبوضة مكتوم صوتها. وأغرب من هذا كلّه أنّ علماء (غريب الحديث)، قد أوردوا (اللَّدم) بمعنى المكيدة، والخديعة اللتين يستعملونها لصيد الضَّبُع[٣٣]. وغرابة هذه اللفظة إنّما جاءت من تعدّد دلالاتها مع وجود الجامع بين تلك الدلالات، وهو الضرب بكف اليد (أقصد الضرب واللَّدم، واللّطم[٣٤]، واللَّكم، والوَكز ).
الذي يقصد إليه الإمام معنى دقيق، بعيد عن الضرب؛ لأنّه مستعار، فهو يقول: لن أقعد عن طلب الحقّ، على الرغم من المكائد والدسائس وكثرة الحروب. وقد كنّى (باللَّدم) عن الخديعة، كما يخدع الضَّبُعَ صائدوها .
ومثل هذه اللفظة في (النهج) لفظة؛ (كشيش) من قول الإمام: «وَكَأنِّي أَنظُرُ إليْكُمْ تَكِشّونَ كَشِيشَ الضِّباب ...»[٣٥]. و(الكشيش) لفظ صحراوي، يعرفه البدوي، وهو: الصوت الذي يشوبه خور، و (كشيش الأفعى): صوتها من جلدها لا من فمها[٣٦]، وقد قال الراجز:
«كأنَ صوتَ سُخْبها المُرفضِّ
كشيشُ أفعى أجمعتْ بعضِّ
فـهـي تـحـكُّ بعضها ببعـض»[٣٧]
وشبيه بلفظ (كشيش)، و(اللَّدم)؛ لفظ: «العَمِدة»[٣٨]، ولفظ، «خَزائِم»[٣٩]، ولفظ «فِدامَ»[٤٠].
المبحث الثاني؛ التناظر والتشابه:
تكمن الغرابة في هذا المبحث بسبب أصوات الكلمات، أو بسبب رجوعها إلى جذر بنائي واحد، ولاسيما؛ « إنّ القدر المشترك بين الألفاظ التي ترجع إلى أصل واحد في اللغة العربية، ثلاثة أحرف، ويسمّى مادّة الكلمة وأصلها»[٤١]، أو وجود مفردة مشابه لمفردة أخرى في الأصوات، مختلفة، بعيدة عنها في الدلالة المعنوية، كما في كلمة (الغِبُّ) التي تعني عاقبة الشيء[٤٢]، وكلمة (الغَبُّ)؛ وهي: مصدر غَبَّت الماشية تَغِبُّ، إذا شربت غِبّاً، وكلمة (الغُبُّ)، وهي: الضارب في البحر حتى يمعن، أو الغامض من الأرض، و(أَغَبَّ) الزائرُ القومَ، إذا جاءهم يوماً، وترك آخراً، و(أغبَّ) اللّحمُ، إذا أنتن[٤٣].
وقد هجا جرير الأخطل بقوله:
«والتَّغلبيَّةُ حِيـنَ غَبَّ غَبِيـبـُـهَا تَهْوي مشافِرُها لِشَرِّ مَشَافِر..»[٤٤]
و(غَبَبَ) الذئب الشاة: إذا أخذ بحلقها، ومِن هذا المعنى قال الشاعر:
« ولَقَدْ غَنَيْتُ لَهم صَدِيقاً صالِحاً كالذّئبِ يَفْرِسُ تارةً ويُغَبِّبُ »[٤٥]
هذه المفردة من (غريب الحديث)[٤٦]. وهي من (الشوارد) أيضاً[٤٧]، وهي عندي من (غريب النهج)[٤٨].
و(الغُبَّة) أيضاً: البُلغة من العيش، و( التَّغبَّة): شهادة الزور[٤٩]. فهذا التشابه في أصوات هذه المفردة أدّى إلى غرابتها، إذ خرجت عن الدلالة العامة للجذر الذي اشتُقت منه أخواتها[٥٠]، وهو الانقطاع إلى معنيين آخرين هما (الفساد)، و(الختم)؛ لأنّ أصل اللّغة يدلـّنا على التداخل المعنوي للكلمة، عندما تُستمد من جذور دلالية واحدة[٥١]. ولهذا ذُكرت في كتب (الغريب).
وعلى نحو من هذا ورد في (النهج) لفظة (أعْذِبوا)، فهي غريبة لتشابهها وتناظرها مع لفظة(عَذَب) في قول الإمام: «أعْذِبوا عن النِّساءِ مَا استطَعْتُم»[٥٢]. وسأحيل إلى غير شرح (النهج) الذي اعتمدته، في هذه اللفظة فقط؛ لأنّ ابن أبي الحديد أورد (أعزبوا) بدلاً من (أعذبوا)[٥٣]. قال الإمام هذا الكلام، لمّا شيّع سريّة أو جيشاً يغزيه تناولتْ هذا الحديث (كتب الغريب) وقيّدته للإمام[٥٤] وأقدمهم أبوعبيد القاسم بن سلاّم، الذي قال:
«في حديثه (عليه السلام)، أنّه شيّع سريّة أو جيشاً، فقال: أعذبوا عن النساء ...»[٥٥]، وتابعه في إيراد هذا الحديث موثقاً إلى الإمام لا إلى غيره، أصحاب المعاجم[٥٦].
العَذْب؛ كلّ ما عَذُب وطاب من الأكل والشراب، فهو كلُّ مستساغ[٥٧]، وبهذا المعنى نزل قوله تعالى: «هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ»[٥٨].
وقولهُ تـعالى:«هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ»[٥٩].
وفي الحديث، أنَّ النبي (صلّی الله عليه وآله وسلّم): «كان يُستعذب لَه الماءُ من بيوت السّقيا»[٦٠] أي: يُحضر له منها الماء العَذِب، وهو الطَّيب الذي لا ملوحةَ فيه.
يُقال أعْذِبنا واستعْذَبنا، أي شربنا عَذْبـاً واستقينا عَذْباً، وفي كلام الإمام أيضاً، في المعنى نفسه، يذم الدنيا قال: (اعْذَوْذَب جانِبٌ مِنها واحْلَولَى) وهما (إفْعَوْعَل)[٦١] من العذوبة والحلاوة، وهما من أبنية المبالغة.
و(اعذبوا) امتنعوا، تقول: أعْذَبته: إعْذاباً، كقولك: فطمته عن هذا الأمر، وكلّ مَن منعته شيئاً فقد أعْذَبته ويَعْذِب الرجلُ، فهو عاذِبٌ عن الأكل، لا صائِمٌ ولا مُفْطِر، قال عَبيد بن الأبرص:
« وَتبدّلوا اليَعْبوبَ بَعْــدَ إلهِهِـمْ صَنَماً فَقِروا ياجَديلَ وأَعْذِبوا»[٦٢]
وقال حُميد:
«إلى شَجَــرٍ ألْـمــَى الظـلال كأنّهُ رَواهبُ أحـْْرَمْن الشراب عُذُبُ»[٦٣]
ومن هذا المعنى شرح الرضي غريب هذه اللفظة، في باب كلام الإمام، المتضمن ألفاظاً غريبة، فقال: «ومعناه: اصدفوا عن ذكر النساء وشغل القلوب بهن، وامتنعوا من المقاربة لهنّ؛ لأنّ ذلك يفتّ في عضد الحميّة ويقدح في معاقد العزيمة، ويكسر عن العدو، وتلفت عن الإبعاد في الغزو، فكلّ من امتنع من شيء فقد أعذب عنه، والعاذب والعذوب: الممتنِع من الأكل والشرب»[٦٤].
والعذْب والعُذُب: ترك الرجل والحمار والفرس الأكل من شدّة العطش، فهو: عاذب، والجمع عُذُبٌ، فالعاذِبُ؛ من جميع الحيوان؛ الذي لايُطعَم شيئاً، وقال ثعلب: « العَذوبُ من الدّواب وغيرها؛ القائم الذي يرفع رأسه، فلا يأكل ولا يشرب، وكذلك العاذِب، والجمع عُذُب »[٦٥].
وأعْذَبَه إعْذاباً، وعَذَّبه تعذيباً؛ منعه وفطمه عن الأمر، وكلُّ من منعته شيئاً فقد أعْذَبته، وأعْذبَ، وأسْتَعْذب كُلّه: كَفَّ وأضْرب[٦٦]« فأعْذِب نفسك؛ اظْلِفْهَـا عنـه؛ وفي حـديث علي كــرم الله وجهه أنَّه شيَّع سِريّة فقال: أعذبوا عن ذِكرِ النساء أنفُسَكم، فإنَّ ذلك يَكْسركم عن الغزو، أي امنعوها عن ذكر النساء، وشَغْل القلوب بهنّ، وكلَّ من منعته شيئاً فقد أعذبته، وأعذب لازم ومتعد»[٦٧].
وأما (العَذَبُ) فهو: القذى، يعلو الماءَ، وما يخرج في أثر الوَلد من الرّحم، ومآلي النوائح كالمعاذب، والخيط الذي يُرفع به الميزان، وَطَرَفُ كلّ شيء، ومن البعير: طرف قضيبه، والجلدة المعلـّقة خلف مؤخّرة الرَّحْل[٦٨].
وأمّا (العَذاب) فهو النكال، وقد قال ـ عز من قائل ـ «رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً»[٦٩]. وفي هذا المعنى جاء الحديث الشريف: «الميِّتُ يُعذّب بِبُكاءِ أهْله عليه»[٧٠]، يُشْبه أنْ يكون هذا من حيث إنّ العرب، كانوا يوصون أهلهم بالبكاء والنوح عليهم، وإشاعة النَّعي في الأحياء، وكان ذلك مشهوراً في مذاهبهم، فالميت تلزمه العقوبة في ذلك، ممّا تقدّم من أمره به .
والعَذِبة) و(العَذْبة): الطُّحْلُب[٧١]، وماء عَذِبٌ، ككتف، مُطَحْلَبٌ، وأعْذَبَه؛ نزع طُحْلبه، و(العَذُبة): الخيط المتدلّي من العمامة، والإعتذاب: أن تبسل للعمامة عذبتين من خلفها[٧٢].
وخلاصة القول، فإنّ (أعْذِبوا) في هذا الحديث: اتركوا، واصدفوا، أو دَعوا، فهو: يفيد المنْع والتّرْك هنا، على حين نجد أنَّ أصل المادة (ع/ذ /ب) يدل على الاستساغة والحلاوة، فهناك تناظر في الأصوات وتشابه، وقد خطَّأ (الزبيدي) قول أبي عبيد، لمّا قال: «وأمّا قول أبي عبيد: وجَمْعُ العَذُوب عُذُوبٌ فخطأ؛ لأنّ فعولاً لا يُكَسَّر على فُعُول. قلتُ هو من غرائب اللغة، وفوائد الأشباه و النظائر، ومن حفِظ حُجَّة على مَن لم يحفظ...»[٧٣].
فقد صرّح (الزبيدي): بهذا التناظر والتشابه في الأصوات، الذي سبّب غرابة في هذا اللفظ، وأدّى إلى بُعْد في المعنى، قد يصل إلى درجة (التضاد)، لأنّ المعروف المألوف أنّ المستساغ، لا يُترك، في حين، تدلّ لفظة (أعْذب) على التـَّرْك، وفي (المناظر) لهذه الكلمة أنَّك تقول: أعْذَبُ الرجلُ الماءَ، إذا أزالَ طُحْلُبَهُ، فيصبح عَذْباً، في حين يكون (عَذباً)، إذا كان فيه الطُحْلُب[٧٤]، وليس هذا من (المشترك) اللفظي كما يبدو أوّل مرّة، بل من التناظـر الصوتي، لأصول الكلمة واختلاف الصيغة، في حين يكون المشترك اللفظي؛ في لفظ واحد يفيد معاني متعدّدة، من نحو: (الخال) الذي من معانيه ـ بصيغته نفسها ـ أخو الأم، والشامة، والغيم الرقيق، ونوع من النسيج، والكذب ..[٧٥].
فإنّما قلنا: إنَّ (أعْذِبوا) و(أعْذَب) ليسا من قبيل (المشترك اللفظي)، بسبب اختلاف الصيغة، واتحاد المادّة اللغوية، فكلتا اللفظتين، مكوّنة من (العين) و(الذال) و( الباء)، غير أنّ (أعْذِبوا) من الفعل الثلاثي، و(عَذَبَ) و(أعْذَبَ) من الفعل الثلاثي المزيد بهمزة في أوّله، والذي يسمّيه كثير من اللغويين القدماء رباعياً[٧٦].
وقد يسأل سائل، ما وجه الغرابة هنا ؟ فنقول إنّ وجه الغرابة؛ هو الإبهام الحاصل في ذهن السامع بين(عَذَب) و( أعْذِب)، من حيث الصيغة، وبين السائغ، وبين معنى الممتنع في (عَذَب) من حيث الدلالة، هو السبب في كون لفظة (أعذبوا) غريبة .
وقد وجدتُ كثيراً من هذه الألفاظ التي كان سبب غرابتها؛ التناظر والتشابه في أصوات الكلمة، فـي (النهج)، من مثل لفظ «لُـمَـة»[٧٧]، ولفظ «قَرَن»[٧٨]، ولفظ «فَرَط»[٧٩].
المبحث الثالث؛ تداول اللفظة في أكثر من مجال:
لو نظرنا إلى ما يراه الأقدمون في المشترك اللفظي، فإننا نرى اللغويين والأصوليين إزاءه فريقين، فريق يقرُّ بوجوده[٨٠]، وفريق يردُّه[٨١]، ويلتمس لوقوعه في العربية تفسيراً[٨٢]، ولم نفصّل القول عن هذه الظاهرة بين مؤيديها ومعارضيها؛ لأنّ المهم لدينا ليس التاريخ لها، بل المهم؛ هو: ما نتج منها من غرابة قسم من الألفاظ، بسبب اشتراك المعاني في اللفظ الواحد، والذي يسبب إرباكاً للسامع، حتى يطمئن إلى المعنى المقصود في النصّ، الذي يسمعه أو يقرأه .
ولم ينصّ القدماء، على أنّ المشترك من خصائص العربيـة لأنّهم، لم يكونوا معنيين بهذا، بل اهتموا بأساسها، الذي يعتمد على لفظٍ واحد تتفرع منه معانٍ عدّة، آخذين في نظر الاعتبار أنّ المعاني الحسيّة أسبق في الوجود من المعاني المعنوية[٨٣].
والمشترك اللفظي: ظاهرة، قال عنها: كتّاب فقه اللغة المحدثون[٨٤]، إنَّها من خصائص العربية: وخلاصة هذه الظاهرة؛ أنّ للفظ الواحد؛ معانٍ متعدّدة[٨٥]، وذلك نحو (الأثال): كسحاب وغراب: المجد والشرف، وكغراب: جبل، وماء لعبس، أو حصن لهم و...[٨٦]، والأمثلة على المشترك، لا تكاد تُحصى. وأهمّ ما يميّز هذه الظاهرة هو: بُعد ما بين الدلالات، التي تتفرّع من أصل واحد هو (اللفظ). وأودّ أن أذكر هنا ما أملاه علينا أستاذنا الدكتور؛ صباح عباس السالم في (محاضراته)؛ أنّه لا يَرى المشترك اللفظي من خصائص العربية، وحجّته في ذلك؛ أنّ الخصيصة، هي: الصفة التي يتفرّد بها الشيء، ولا يشركه فيها سواه، على حين؛ تشارك لغات أُخر؛ العربية في خاصية المشترك اللفظي، فنجد فـي الإنجليزية مثلاً كلمة (spring) التي تعني: (الربيع)، و(النابض)، و(نبع الماء)، و(المنافق)... ومثل هذا كثير في بقية اللغات[٨٧].
فأستاذي ـ السالم سلّمه الله من كلّ داء ـ، يرفض المشترك اللفظي، إذا كنا بصدد عقد مقارنة بين لغات العالم، ولكن عندما ندرس اللغة الواحدة فيكون المشترك خصيصة لها في ذاتها وليس مع غيرها. فتكون غرابة هذا النوع من كون اللفظ لا تستبين دلالته إلّا من خلال القرائن المحيطة به، الدّالة على ميدان استعماله؛ لأنّ اللفظة (الأصل) تُستعمل في أكثر من مجال لغوي. وتشتدّ الغرابة؛ إذا غمض معنى اللفظ في المشترك، بحيث لا يتّضح بسهولة حتى من السياق، ومنه (متشابه القرآن الكريم)[٨٨].
ومن أمثلة (الغريب) من المشترك اللفظي الذي ورد في (النهج) لفظة (اللـّمظة) من قول الإمام: «إنَّ الإيمانَ يَبْدو لُمْظةً في القَلْبِ، كُلّمَا ازدادَ الإيمانُ، ازدادتْ اللُّمْظَةُ»[٨٩] ومعناه:أنّ الإيمان يبدأ بنقطة في القلب تكبر كلما ازداد الإيمان فهو لمعة بيضاء، فإذا عمل العبد الصالحات، نما وزاد حتى يبيضَّ قلبه كلّه، وإنّ النفاق ليبدو نكتة سوداء فإذا انتهكت الحرمات نمت وزادت حتى يسودّ القلب فيطبع بذلك الختم، «كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ»[٩٠].
وهذه اللفظة من (غريب الحديث)، أوردها علماؤه[٩١]، وقسم من أصحاب المعاجم[٩٢]. وغيرهم من مؤلفـي الكتب الأخرى، موثـّقةً إلى الإمام علي (عليه السلام) لا لغيره[٩٣]، وقد جعله الرضي من غريب حديث الإمام (عليه السلام) أيضاً[٩٤].
قال: أبو عبيد القاسم بن سلاّم «... وفي هذا الحديث حجةٌ على من أنكر أن يكون الإيمان يزيد أو ينقص ألا تراه يقول: كلـّما ازداد الإيمان، ازدادت تلك اللمظة...»[٩٥].
ومن نافلة القول إنّي، وجدتُ صاحب (شرح العقائد النسفية)، قد أورد ما معناه؛ أنّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ لأنّه التصديق القلبي الذي بلغ حدَّ الجزم والإذعان، وهذا لا يتصوّر فيه زيادةولا نقصـان فسواء أتى بالطاعات، أو أرتكب المعاصي، فتصديقه باقٍ على حاله، لا تغيير فيه أصلاً[٩٦].
قلتُ: إنّ الآيات الدالّة على زيادة الإيمان كثيرةٌ، وقد فُسِّرت بهذا المعنى، ومنها قوله ـ تعالى ـ «فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً»[٩٧]، وقولهُ: «وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً»[٩٨]، وقولهُ: «الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ»[٩٩].
فالزيادة حاصلة في (الإيمان) الذي مثـّله الإمام كالنكتة في القلب، فإنّ إدراك معنى هذه اللفظة في قول الإمام ليس بالا مر السّهل، وذلك بسبب دلالة هذه اللفظة على معانٍ كُثـُر، فإنّها تدلُّ في الأصل على القلـّة أو الأمر اليسير، تقول العرب: أخذ بيده لُمظةً من السّمن، أي: شيئاً يسيراً بإصبعه[١٠٠]. واللمظة أيضاً: بياض يسير في يد الفرس، أو رجله على الأشعر، وهو ـ الأشعر ـ نهاية الوظيـف من جهة الحافر، وهي أيضاً من معنى القلـّة، فاللـّمظة أيضاً: النقطة في شفة الداّبة السفلى، أو العليا[١٠١] واللـّمظة أيضاً: النقطة، أو النكتة في القلب، وهذا المعنى هو الذي استعمله الإمام في الحديث .
واللـّمظة هنا ـ من الأضداد ـ فهي النقطة البيضاء، وهي النقطة السوداء، في آن واحد، يوضِّح معناه السياق. واللـّمظة أيضاً: بقيّة الطعام في الفم، يحرك الرجل لسانه لِتَتَبُّعِها، وإخراجها فهو يتلمّظ ومنه قيل: تلمّظت الحية، إذا حرّكت لسانها[١٠٢].
هذه المعاني، تجعل هذه المفردة مما (اتفق لفظه، واختلف معناه)، أو ما نسميه بـ(المشترك اللفظي)، الذي يعبّر عنه الدلاليون المعاصرون، بأنّ الكلمة تُستعمل في أكثر من مجال دلالي. ومن هنا تأتي غرابة لفظة (اللـّمظة)؛ لأنّ كلّ معنى من معانيها مألوف في مجاله، غريب في المجالات الأُخر.
ومّما يضفي على (اللـّمظة) غرابة أكثر، هو أنّ الإمام؛ مزج في استعماله إيّاها بين دلالتين، الأولى هي: القلـّة، بقوله: (يبدو لمظة)، ومّما يؤيد معنى القلّة قوله: (كلما ازداد الإيمان ازدادت اللمظة)؛ لأنّ معنى هذا؛ أنّ (اللـّمظة) كانت نقطة صغيرة. والثانية هي: البياض؛ لأنّه استعار (اللمظة) للإيمان، وأنّ الإيمان، نور القلب، والنور أبيض عادةً، كومض البرق .
وهذه اللفظة تنضّم إلى مجموعة كبيرة من الألفاظ في (النهج) من مثل لفظ «القَزَع»[١٠٣]، ولفظ «أَرْبِعْ»[١٠٤]، ولفظ «قُلْعَة»[١٠٥].