وقال (عليه السلام): الرِّزْقُ رِزْقَانِ: طَالِبٌ، وَمَطْلُوبٌ، فَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا طَلَبَهُ الْمَوْتُ حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنْهَا،مَنْ طَلَبَ الاْخِرَةَ طَلَبَتْهُ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رِزْقَهُ مِنْهَا.                
وقال (عليه السلام): اذْكُرُوا انْقِطَاعَ الَّلذَّاتِ، وَبَقَاءَ التَّبِعَاتِ.                
وقال (عليه السلام): زُهْدُكَ فِي رَاغِب فِيكَ نُقْصَانُ حَظّ، وَرَغْبَتُكَ فِي زَاهِد فِيكَ ذُلُّ نَفْس.                
وقال (عليه السلام):مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا.                
وقال (عليه السلام): إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .                
وقال (عليه السلام): الْغِيبَةُ جُهْدُ الْعَاجزِ.                
وقال (عليه السلام): اذْكُرُوا انْقِطَاعَ الَّلذَّاتِ، وَبَقَاءَ التَّبِعَاتِ.                

Search form

إرسال الی صدیق
شكوك بعض الكتّاب على نهج البلاغة

وجاء المتأخرون فسار «بعضهم» على طريق ذلك «البعض» السالف الذكر فردّدوا تلك الشبهات وكرروا تلك الشكوك، وكان من جملتهم جورجي زيدان الذي يقول: «وإن كنا نرى انّ كثيراً من تلك الخطب ليست لعلي بدليل اختلاف الأسلوب ومخالفة ما فيها من المعاني لعصره!» [١] .
وكذلك المسيو ديمومبين الذي أراد ـ كما يروي الدكتور زكي مبارك ـ «انّ يغض من قيمة ما نسب إلى علي بن أبي طالب من خطب ورسائل، استناداً إلى ما شاع منذ أزمان من أن الشريف الرضي هو واضع نهج البلاغة» [٢] .
ثم سار على طريقهما الاستاذ محمود محمد شاكر الذي ساءه إعجاب الدكتور زكي نجيب محمود بشخصية علي بن أبي طالب اعتماداً على أقواله المودعة في نهج البلاغة وحزّ في نفسه قول الدكتور زكي نجيب: «لننظر كم اجتمع في هذا الرجل من أدب وحكمة وفروسية وسياسة»، فثار ثائرته واندفع يعلّق على ذلك تعليقاً مفصلاً مشحوناً بالجعجعة والطنين قائلاً: «ألم يكن أسلم له في طريقه أن يسأل وأن يحاول أن يفكر على الأقل حتى يتثبت من صحة ما نسبة ما في هذا الكتاب من الأقوال إلى علي رضي الله عنه؟ انه إذا بطل أن يكون هذا الكلام صحيح النسبة إلى علي، كان استخراج صورة علي منه ضرباً من العبث» [٣] .
وأردف قائلاً وهو يعلن فتواه العجيبة الغريبة:
«انّ النظرة الأولى إلى جملة ما في الكتاب من الكلام، تقطع بأنّ كثرته الكاثرة لم تجر على لسان علي رضي الله عنه قط، وانّه بعد الفحص الأول المدقق لا يكاد يسلم منه لعلي رضي الله عنه إلا أقل من العشر، فإذا كانت النسخة التي طبعها الشيخ محمد عبده، تقع في نحو ٤٠٠ صفحة، فلا يكاد يصحّ منها إلا أقل من أربعين صفحة» [٤] .
ثم لا يورد دليلاً على ذلك سوى اعتقاده بأنّ في النهج أقوالاً لا يليق صدورها عن رجل مثل علي وأنّ أبا عبيد القاسم بن سلام لم يشرح في كتابه غريب ما في النهج بأجمعه، بل «ان حديث علي فيه ربع حديث عمر».
ثم أراد أن يزيد القارئ ثقة بما يقول فأضاف:
«وهناك أدلة أخرى على بطلان نسبة ما في هذا الكتاب إلى أميرالمؤمنين» [٥] .
ولكنه لم يذكرها أبداً أبداً !!
ومع ذلك فقد تفضل فزادنا علماً فقال:
«فكتاب كهذا الكتاب، يدلّ صريح العقل والنظر وصريح النقل والتثبت على أنه كتاب قريب النسب كان غير لائق بالدكتور زكي أن يتسرّع إلى التقاطه دون أن يفحصه ويتحرى عنه فيجعل ما فيه من كلام كثير الغثاثة ـ وقد كتب أكثر بعد دهور متطاولة ـ ممثلاً لعلي بن أبي طالب وممثلاً أيضاً للقرن الأول من الهجرة» [٦] .
وهكذا تعاون هؤلاء جميعاً ـ بلا سابق معرفة بينهم ـ في محاولة هدم هذا الصرح الفكري العظيم الذي يمثله «النهج» أبلغ تمثيل.
وتصدّى عدد من الكتّاب والأدباء والباحثين إلى ردّ هذه الفرية وإقامة البرهان على زيف هذه المزاعم وكذب هذه الادعاءات.

رد ابن أبي الحديد على مجمل الشكوك
وكان في طليعة من تصدّى لتفنيد هذه الشبهات أديب عصره عزالدين بن أبي الحديد في شرحه للنهج، ونروي في أدناه فقرات مما كتبه هذا الأديب:
«انّ كثيراً من أرباب الهوى يقولون: انّ كثيراً من نهج البلاغة كلام محدث، صنعه قوم من فصحاء الشيعة، وربّما عزوا بعضه إلى الرضي أبي الحسن وغيره، وهؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم، فضلوا عن النهج الواضح... وأنا أوضح لك بكلامٍ مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط .
فأقول: لا يخلو إمّا أن يكون كل نهج البلاغة مصنوعاً منحولاً، أو بعضه.
والأول باطل بالضرورة، لأنا نعلم بالتواتر صحة إسناد بعضه إلى أميرالمؤمنين عليه السلام، وقد نقل المحدّثون كلهم أو جلّهم والمؤرخون كثيراً منه، وليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك.
والثاني يدلّ على ما قلناه، لأنّ من قد أنس بالكلام والخطابة، وشدا طرفاً من علم البيان وصار له ذوق في هذا الباب، لابدّ أن يفرّق بين الكلام الركيك والفصيح، وبين الفصيح والأفصح، وبين الأصيل والمولد، وإذا وقف على كراس واحد يتضمّن كلاماً لجماعة من الخطباء، أو لاثنين منهم فقط، فلابدّ أن يفرّق بين الكلامين ويميّز بين الطريقتين. ألا ترى انّا مع معرفتنا بالشعر ونقده، لو تصفحنا ديوان أبي تمام، فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمام ونفسه وطريقته ومذهبه في القريض... وأنت إذا تأملت نهج البلاغة وجدته كله ماءاً واحداً ونفساً واحداً وأسلوباً واحداً كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية، وكالقرآن العزيز، أوّله كأوسطه، وأوسطه كآخره... فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلال من زعم انّ هذا الكتاب أو بعضه منحول إلى أميرالمؤمنين عليه السلام» [٧] .
ولما كان بعض الكتّاب المعاصرين ـ وإن امتهنوا أستاذية الأدب ـ يجهلون هذا الأسلوب النقدي الفاحص في دراسة النصوص الأدبية لم يجد أحدهم مانعاً من أن يقول ما نصّه:
انّ «نسبة الشريف الرضي ـ جامع الكتاب ـ إلى البيت العلوي... يمكن أن تكون مدعاة للشك ودافعاً إلى الاتهام بالتحيّز والتعصب... وقد قال عنه بعض واصفيه: كان شاعراً مفلقاً فصيح النظم ضخم الألفاظ.. وكان مع هذا مترسلاً كاتباً بليغاً متين العبارات، فمن اليسير على مثله إذن أن يؤلف من الكلام ما يشاكل كلام علي رضي الله عنه في جزالة الألفاظ ومتانة السبك» [٨] .
ويروي ابن أبي الحديد عن شيخه أبي الخير الواسطي: انّ أبا الخير سأل يوماً أستاذه ابن الخشاب بعد انتهائهما من قراءة خطبة علي المعروفة بالشقشقية: «أتقول أنها منحولة! فقال: لا والله وإني لأعلم انّها كلامه كما أعلم انك مصدق. قال: فقلت له: انّ كثيراً من الناس يقولون انها من كلام الرضي رحمه الله تعالى.
فقال أنّى للرضي ولغير الرضي هذا النفس وهذا الأسلوب! وقد وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنّه في الكلام المنثور...
ثم قال: والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنّفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها وأعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي» [٩] .
ويعلّق ابن أبي الحديد على هذه الخطبة نفسها فيقول:
«وقد وجدت أنا كثيراً من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي إمام البغداديين من المعتزلة، وكان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدّة طويلة. ووجدت أيضاً كثيراً منها في كتاب أبي جعفر ابن قبة... وكان... من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي رحمه الله تعالى ومات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضي رحمه الله تعالى موجوداً» [١٠].
وعندما ترجم الإمام الزيدي يحيى بن حمزة العلوي المتوفى سنة ٧٤٥هـ لعلي عليه السلام قال: «وأعظم كلامه ما حواه كتاب نهج البلاغة وقد تواتر نقله عنه واتفق الكل على صحته» [١١] .
ويقول الكاتب المصري المعاصر محمد عبدالغني حسن:
«ولن نعيد هنا القول فيما لوى به بعض المتعنتين أشداقهم من انّ نهج البلاغة هو من كلام الشريف الرضي نفسه وانّه ليس للإمام علي كرم الله وجهه. فتلك قضية أحسن الدفاع فيها ابن أبي الحديد في القديم كما أحسن الدفاع عنها في زماننا هذا الشيخ محمد محي الدين عبدالحميد» [١٢] .
كما يقول الدكتور زكي مبارك تعليقاً على شكوك المسيو ديمومبين:
«أمّا نحن فنتحفظ في هذه المسألة كلّ التحفظ لأنّ الجاحظ يحدّثنا انّ خطب علي وعمر وعثمان كانت محفوظة في مجموعات. ومعنى هذا انّ خطب علي كانت معروفة قبل الشريف الرضي. والذين نسبوا نهج البلاغة إلى الرضي يحتجّون بأنّه وضعها لأغراض شيعية، فلم لا نقول من جانبنا بأنّ تهمة الوضع جاءت لتأييد خصوم الحملات الشيعية»  [١٣].
ومهما يكن من أمر:
وعلى الرغم من ضيق هذه الصفحات وعدم اتساعها لبحث هذا الموضوع كما يستحقّه من إطناب وتفصيل، فإننا سنستعرض المسألة بالقدر المناسب لهذا المجال وحجمه، فنوجز ـ بأمانة ـ عرض الشبهات التي يردّدها الشكاك في هذا الصدد، كما نوجز عرض الأجوبة والردود على كل ذلك، ليحصحص الحق وينكشف الزيف ويتجلّى الصبح لكل ذي عينين.
وتناقض الدكتور شوقي ضيف تناقضاً عجيباً في هذا الموضوع وفي صفحة واحدة من كتابه ص١٢٨، فذهب أولاً إلى أنّ علياً قد خلف

خطباً كثيرة، ثم ذهب ثانياً إلى انّ النهج من وضع الشريف الرضي، ثم رجح ـ وفي ثالثة الاثافي ـ انّ الوضع على علي أقدم من عصر الشريف بل من عصر المسعودي!!! فانظر وتأمل..

-----------------------------------------------------

[١] . تاريخ آداب اللغة العربية: ٢/٢٨٨.

[٢] . النثر الفني في القرن الرابع الهجري: ١/٦٩.

[٣] . مجلة الكاتب: ص٣٠، العدد ١٧٠، السنة ١٥، مايو ١٩٧٥م.

[٤] . مجلة الكاتب، المصدر السابق، ص٣٠.

[٥] . المصدر نفسه، ص٣١.

[٦] . المصدر نفسه أيضاً، ٢١.

[٧] . شرح نهج البلاغة: ١٠/١٢٧ ـ ١٢٩.

[٨] . الدكتور شفيع السيد، مجلة الهلال المصرية، العدد١٢ السنة ٨٣، ص٩٥ ـ ٩٦.

[٩] . شرح نهج البلاغة: ١/٢٠٥.

[١٠] . شرح نهج البلاغة: ١/٢٠٥ ـ ٢٠٦. ومن التأمل في حديث ابن أبي الحديد عن نسب نهج البلاغة ونسبته نجد انه لم يكن «مغفلاً» عندما اعتقد «ان ما يشرحه خطب للإمام علي» كما وصفه الدكتور طه حسين على رواية الدكتور محمد الدسوقي عنه (مجلة العربي، العدد ٢٠٧) شباط ١٩٧٦م، ص١٤٨. وإنما كان باحثاً متعمّقاً وناقداً متأملاً؛ وإن تميز بعيب كبير هو التجرد من الهوى والعصبية!

[١١] . مشكاة الأنوار: ١٧٥.

[١٢] . تلخيص البيان ـ المقدمة: ٩٦.

[١٣] . النثر الفني: ١/٦٩.

****************************